محاربة العربية الفصحى
سعد ناصر الدين
سعد ناصر الدين
http://www.4uarab.com/vb/showthread.php?t=24121
وجد الغزاة في اللغة العربية سداً عظيماً يحول دون وصولهم إلى اهدافهم العدوانية، فقرروا ان يحطموا ذلك السد شيئاً فشيئاً فوجدوا في «العامية» السلاح الذي يمكن ان يحقق لهم ما يصبون إلى تحقيقه. فظهرت الدعوة إلى العامة اولاً في كتابات عدد من المستشرقين. وكانت بادىء ذي بدء دعوات هادئة ومغلفة بالنصح والارشاد والحرص على العرب ومستقبلهم وتطورهم. ويقف في طليعة من حرّض على الاعراض عن الفصحى والاخذ بالعامية كتابة وتكلماً هو المستشرق الالماني الدكتور «ولهلم سبيتا» وكان مديراً لدار الكتب المصرية في اواخر القرن التاسع عشر. فقد اصدر كتاباً عام 1880م اسمه «قواعد اللغة العربية العامية في مصر» ركّز فيه على اثارة روح العنصرية ضد العربية. وتباكى على المصريين بسبب تشبثهم بالعربية الفصحى: «واخيراً سأجازف بالتصريح عن الامل الذي روادني على الدوام طوال مدة جمع هذا الكتاب وهو امل يتعلق بمصر نفسها، ويمس امراً هو بالنسبة اليها والى شعبها يكاد يكون مسألة حياة أو موت. فكل من عاش فترة طويلة في بلاد تتكلم بالعربية يعرف إلى اي احد كبير تتأثر كل نواحي النشاط فيها بسبب الاختلاف بين لغة الحديث ولغة الكتابة.. وبالتزام الكتابة بالعربية الكلاسيكية القديمة لا يمكن ان ينمو ادب حقيقي ويتطور، لان الطبقة المتعلمة القليلة العدد هي وحدها التي يمكن ان يكون الكتاب في متناول يدها».(كتاب أجنحة المكر صفحة 299)
وفي محاولة منه لتهدئة الاعتراضات المحتملة على هذه الافكار لجأ إلى طرح السؤال التالي بمكر: «فلماذا لا يمكن تغيير هذه الحالة المؤسفة إلى ما هو أحسن؟ ببساطة لان هناك خوفاً من تهمة التعدي على حرمة الدين إذا تركنا لغة القرآن تركاً كلياً». ثم يضيف: «ان لغة الصلاة والطقوس الدينية الاخرى ستظل كما هي في كل مكان».
وهو في هذا الجواب الذي تصور انّه سيخدع به الشعور الاسلامي اراد للعربية ان تظل لغة طقوس وصلاة بعيدة عن مسرح الحياة، وبالتالي كي يحصر القرآن والإسلام في زاوية المسجد لا غير، وهو الهدف الذي يسعى إليه المستعمرون، ومهّد له التبشير والاستشراق ومشاريع التغريب.. أو بعبادة اخرى اراد للغة القرآن ان تكون كاللاتينية واليونانية والسريانية لا تردد إلاّ على السن الكهنة والقساوسة في المناسبات الدينية ولا يفهم الناس منها شيئاً، كما تنبأ «سبيتا» في كتابه بموت العربية الفصحى كما ماتت اللاتينية، غائباً عن باله ان العربية غير اللاتينية، وان العربية لها قرآن يحفظها وتراث حضاري هائل يذبّ عنها ويضخ فيها روح القوة والصمود والشموخ.
ودعا إلى هذه الفكرة أيضاً المستشرق الالماني الدكتور كارل فولرس الذي تولى ا دارة الكتب المصرية خلفاً لولهلم سبيتا، وطالب بنبذ العربية الفصحى وضرورة الكتابة بالعامية، ووضع كتاباً اسماه «اللهجة العربية الحديثة» طالب فيه ليس باحلال العامية محل الفصحى فحسب بل باستعمال الحروف اللاتينية لدى كتابة العامية أيضاً!
كما حمل لواء الدعوة إلى العامية أيضاً المستشرق الانجليزي «سلون ولمور» الذي تولى القضاء بالمحاكم الاهلية بالقاهرة ابان الاحتلال البريطاني لمصر، واصدر في 1901 كتاباً يدعى «العربية المحلية في مصر» طالب فيه باتخاذ العامية المصرية لغة ادبية بدلاً من الفصحى ووضع قواعد لها. ونادى ـ شأنه شأن ولمور ـ إلى كتابتها بالاحرف اللاتينية.
واخطر الدعوات الموجهة ضد الفصحى والمطالبة باقصائها عن ميدان الكتابة والادب دعوة المستشرق الانجليزي وليم ولكوكس الذي كان يشرف في عام 1893 على تحرير مجلة الازهر. فقد نشر في تلك المجلة مقالاً عنوان «لِمَ لم توجد قوّة الاختراع لدى المصريين إلى الآن؟» دعا فيه إلى إقصاء الفصحى والكتابة بالعامية، وربط بين الخطاط قوّة الاختراع والابتكار عند العرب وتقيدهم بالفصحى لدى الكتابة والتأليف. واكد انهم متى ما كتبوا بالعامية نمت عندهم قوّة الاختراع والابداع! ولم يوضح العلاقة بين الفصحى والتخلف في مضمار الاختراعات، أو بين العامية والرقي والاختراعي» وهل في العامية ذلك الاكسير الذي يدفع بالعرب نحو الاختراع والاكتشاف ويقدح في ذهنه القابلية على الاختراع؟!
وفي عام 1925 ترجم ولكوكس الانجيل إلى العامية، ثم نشر بالانجليزية رسالة بعنوان «سوريا ومصر وشمال افريقيا ومالطا تتكلم البونية لا العربية» زعم فيها ان اللغات العامية في الشام ومصر وبلدان المغرب العربي ومالطا هي نفسها الغة الكنعانية أو الفينقية أو البونية التي سبقت الفتح الاسلامي ولما تمت بصلة إلى العربية الفصحى. وتحامل كثيراً على الفصحى واعتبرها لغة جوفاء لا تحمل اي معنى من المعاني لسامعيها. فهو يقول: «من السهل جداً ان نرى في هذه البلاد ذلك التأثير المخدر الذي تحدثه الالفاظ الرنانة التي لا تفهم منها لفظة واحدة في نفس السامع. ان سماع مثل هذه الالفاظ يقتل في الذهن كل ابتكار بين اولئك الذين لا يقرأون كما تقتله أيضاً في نفس الطالب تلك الدروس التي تلقى عليه باللغة الفصحى المصطنعة التي تبلغ الرأس دون القلب، فتمنع من يتسمون بالعلماء في هذه البلاد من التفكير البكر»!.
وألهبت دعوة المستشرقين إلى العامية حماس المنخدعين والمستغربين العرب فدعوا إلى نبذ الفصحى والركون إلى العامية مقدمين التبريرات غير المنطقية. بل انجرف في تيار تلك الدعوة الشرسة عدد من رجال الادب العربي الذين لم يعرفهم العرب إلاّ من خلال اللغة العربية الفصحى. وكان جزاء هذه اللغة ان يقابلوا احسانها بالدعوة الى الاجهاز عليها ومحو آثارها!
وكان «لطفي السيد» من اوائل المصريين الذين حملوا لواء الدعوة إلى قبر الفصحى واحلال العامية محلها. كما قدمت في مصر أيضاً عشرات المشاريع في اطار التزام العامية واصلاح الكتابة العربية كان أخطرها مشروع «عبدالعزيز فهمي» الذي اثار موجة اعتراض شديد من قبل حماة العربية.
وانتقلت الدعوة إلى العامية من مصر إلى لبنان فتحمس لهذه الفكرة كثير من النصارى اللبنانيين مثل سعيد عقل وانيس فريحة ولويس عوض وغيرهم. وفي حزيران من عام 1973 عقد في «برمانا» بلبنان مؤتمر هيأت له بعض الجهات الاجنبية. وحضره كثير من الاجانب جلهم من الرهبان اليسوعيين، وكان الغرض منه هدم معالم اللغة العربية والاهتمام بالعامية. وقد استنكره الشيخ عبدالحليم شيخ الجامع الازهر.
وكانت هناك دعوات مصرية طالبت بلغة متوسطة بين العامية والفصحى، ويقف على رأس هذه الدعوات فريد ابو حيدر، وتوفيق الحكيم، وامين الخولي.
ودعا طه حسين إلى شيء اسماه «تطوير اللغة!» بتبديل الخط العربي أو اصلاحه وتهذيب قواعد النحو والصرف. . . . التي ضبط بها القرآن الكريم والسنة النبوية. ولا يستبعد ان يكون طه حسين قد اراد التدرج في عملية الغاء العربية، لان الدعوة المباشرة قضية محفوفة بالمخاطر وقد لا يحالفها الحظ. وهناك من نادى بالغاء صورة الاعراب في الكلام العربي واللجوء إلى تسكين اواخر الكلمات.
الدعوة إلى اللاتينية
اول من تزعم الدعوة إلى الكتابة بالحروف اللاتينية هو المبشر «ماسينيون» الموظف في قسم الشؤون الشرقية في وزارة الخارجية الفرنسية. وقد بثت دعوته هذه في المغرب ومصر وسوريا ولبنان. وتابعه كولان وغيره، ثم شاعت هذه الدعوة بين خريجي معاهد الارساليات فحملوا لواءها في بيروت. اما في مصر فقد جرت محاولت كثيرة ابرزها تلك التي دعا إليها لطفي السيد وقاسم امين وسلامة موسى وعبدالعزيز فهمي. وحينما دعا الاخير إلى العدول عن الحرف العربي إلى اللاتيني، تلقف سلامة موسى دعوته بالتشجيع وراح ينفخ في الداعين اليها: «قلما نجد الشجاعة للدعوة إلى الاصلاح الجريء إلاّ في رجال نابهين لا يبالون الجهلة والحمقى، مثل قاسم امين أو احمد امين في الدعوة إلى الغاء الاعراب، أو مثل عبدالعزيز فهمي حين يدعو إلى الخط اللاتيني. والواقع ان اقتراح الخط اللاتيني هو وثبة المستقبل. ولو اننا عملنا به لاستطنعا ان ننقل مصر إلى مقام تركيا(!) التي اغلق عليها هذا الخط ابواب ماضيها وفتح لها ابواب مستقبلها»!
ثم ينتهي سلامة موسى إلى تقرير رأي فارغ: «وبالجملة نستطيع ان نقول ان الخط اللاتيني هو وثبة في الفور نحو المستقبل. ولكن هل العناصر التي تنتفع ببقاء الخط العربي والتقاليد ترضى بهذه الوثبة؟».
وكان انيس فريحة استاذ التاريخ واللغات السامية بالجامعة الاميركية ببيروت، في مقدمة دعاة اللاتينية بلبنان بذريعة تسهيل القراءة. ويعترض فريحة على اعتماد اللغة العربية لغة للجيل الحاضر لان قواعدها مستنبطة من القرآن الكريم والشعر العربي القديم: «ولكن لا يصح اعتماد اللغة ـ كما تحدرت الينا مدونة ـ مصدراً لدراسة اللغة في عهودها السابقة، وذلك لان الذين استنبطوا قواعدها وضبطوا احكامها اعتمدوا الشعر الجاهلي اولاً ثم القرآن الكريم مادة لغوية. ومتى كانت لغة الشعر ولغة الادب والدين مرآة تعكس لغة الناس في معاشهم ومكاسبهم».؟!
ويسخر قريحة من اللغة العربية والدين الاسلامي معاً حينما يقول: «.. فان علينا في مواقفنا الرسمية ان نتكلم بلغة الاجيال الغابرة، علينا ان نعبر عن احاسيسنا ودواخلنا بلغة وقفت في مجراها عند نقطة معينة من الزمان والمكان عندما احيطت بهالة من التقديس وعندها سُيّج حولها بسياج من الاحكام فوقفت في تطورها عند هذه النقطة من الزمان والمكان». "كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية، سلامة موسى، ص 109."
وأدرك فريحة خطورة دعوته وعنف حملته على العربية والإسلام المرتبط بها والمرتبطة به فحاول ان يخفف من تأثير وطأة تلك الدعوة بطرح السؤال التالي:
«ولكن لناس ان يسألوا ماذا سيحل بالقرآن الكريم؟».
ثم يجيب بنفسه على سؤاله: «ان القرآن الكريم سيخلد على ما هو عليه كما بقيت كتب دينية عديدة، فبرغم انحراف لغة الناس عن لغة هذه الكتب فان لغة هذه الكتب قد حافظت على روعتها وجلالها ومقامها الديني. هناك لغة التوراة الانجليزية المعروفة بترجمة الملك جايمس، فانها مع قدمها تعتبر في الانجليزية ـ إلى جانب مقامها الديني ـ قطعة ادبية رائعة.. وقل مثل هذا في لغة شكسبير فانها حافظت على كيانها ومقامها. وفي لندن اليوم مسرح مشهور يعرف بـ Ole vic لا يمثل فيه إلاّ روايات شكسبير بلغتها القديمة وبشعرها القديم وتعابيرها القديمة.. وها هي الكنيسة الكاثولكية فانها تعتبر الترجمة اللاتينية للتوراة لغة الكنيسة الرسمية، ولا يكون القداس إلاّ باللغة اللاتينية. وقل مثل هذا في الكنيسة الارثوذكسية التي حافظت على اللغة اليونانية التقليدية، والكنيسة المارونية التي احتفظت باللغة السريانية والكنيسة المسيحية الحبشية التي احتفظت باللغة السامية القديمة المعروفة بلغة الجعز».
وهكذا يبدو وبكل وضوح انّه يريد ان يقصر العربية على المسجد والقداس لا غير ويقتطعها والدين الذي تعبر عنه وتتحدث باسمه عن الحياة في جميع شؤونها، وهو الهدف الذي يسعى إليه الاتجاه للاسلام وللعالم الاسلامي.
الدعوة إلى لغة علمية
لعل الكاتب سلامة موسى يقف في طليعة خصوم اللغة العربية في الربع الثاني من القرن العشرين، ولعل اللغة العربية لم تجد اشرس منه من بين جميع خصومها خلال هذه الفترة أيضاً. كيف لا وقد تحدث عنها قائلاً: «ورثناها من بدو الجاهلية في عصر الناقة ويراد لنا ان نتعامل بها في عصر الطائرة».
واتهم سلامة موسى لغة القرآن بفقدانها لكلمات الثقافة العصرية، ثم يبني النتيجة التالية على ذلك الاتهام الذي تعامل معه وكأنه حقيقة قائمة: «وحين تحرم لغتنا من كلمات الثقافة العصرية، تحرم الاُمّة أيضاً المعيشة العصرية. فنحن ما زلنا نعيش بكلمات الزراعة ولسنا نعرف كلمات الصناعة. ولذلك فان عقليتنا عقلية جامدة متبلدة تنظر إلى الماضي، حتى اننا نؤلف في ترجمة (معاوية بن أبي سفيان) في الوقت الذي يجب ان نؤلف في ترجمة (هنري فورد) عبر الصناعة في عصرنا»!
وبعد هذا الكلام يربط بين تطور المجتمع والصناعة قائلاً: «المجتمع الصناعي كان جديراً بأن يحدث مجتمعاً مستقبلياً: يكتب مؤلفوه بلغة الشعب، وتنتقل اهتماماتهم الذهنية من التأليف عن قدماء العرب إلى التأليف عن مشكلاتنا العصرية».
ومن الامثلة التي ساقها على بدائية العربية وارتباك الذهن العربي هو استعمال الفاظ قديمة لدلالات جديدة: «اننا نستعمل الفعل «احصى» بمعنى عدّ، فانه مشتق من الحصا، اي صغار الحجر، وذلك لان الإنسان البدائي كان يجعل العد بالارقام فكان إذا شاء مثلاً ان يعرف ما عنده من خراف، وضع في جعبته عن كل خروف حصاة».
وفاته ان الامر لا يختلف في الفعل الانجليزي Calculate (بمعنى يحسب)، فهو مأخوذ من الكلمة الرومانية القديمة Culculus بمعنى الحصاة أو الحجر. وكان الرومان يستعملون الحصاة أيضاً في العد والحساب منذ آلاف السنين.
ويبرر سلامة دعوته إلى نبذ الفصحى بقوله: «يجب ألاّ يكون للمجتمع لغتان، احداهما كلامية اي عامية والاخرى مكتوبة اي فصحى، كما هي حالنا في مصر وسائر الاقطار العربية، لان نتيجة هذه الحال ان اللغة المكتوبة تنفصل عن المجتمع فتصبح كأنها لغة الكهان التي لا تتلى إلاّ في المعابد، وينقطع الاتصال الفسيولوجي بينها وبين المجتمع فلا تتطور».
وهو هنا يقر بحقيقة تغافل عنها انيس فريحة، وهي ان اللغة متى ما اصبحت لغة كهان ومعابد انقطع الاتصال العضوي بينها وبين المجتمع. لكنه وبدلاً من ان ينحى باللائمة على العامية نراه يوجه اصابع اتهامه إلى الفصحى ويطالبها بلملمة اذيالها وفسح المجال للعامية التي تختلف من اقليم لآخر، بل ومن منطقة لأخرى داخل الاقليم الواحد.
ولم يكتف سلامة موسى بهذا بل رد كل مظهر من مظاهر التخلف في مجتمعنا إلى العربية التي وصفها بالخرساء، كما ان العربية نفسها مسؤولة ـ من وجهة نظره ـ عما يعوز المجتمع العربي والاسلامي من عدالة اجتماعية! كما ان جرائم الدفاع عن العرض هي جرائم لغوية لا اكثر وحوادث الجنون ناجمة عن اللغة العربية.
ويتمارى سلامة موسى في استهجانه للعربية فيتحدث عن الانجليز فيقول: «انهم يفرقون بين نوعين من الحب باستعمالهم كلمتي Loveو Like، على حين لا نجد في لغتنا غير كلمة «احب» نطلقها على الحب البيولوجي وحـب الملوخية.. نطلقها عليها جميعاً لاننا كالمتوحش حين يسمي ما زاد على العشـرة: كثير».
ولا ادري ما العلاقة بين قلة المفردات المعبرة عن الحب ـحسب زعمه ـ والمتوحش الذي يرى ما يزيد على العشرة كثيرا؟ ثم من قال ان اللغة العربية لا تميز بين نوعين من الحب؟ انها تفرق بين كافة انواع الحب، بل ان فيها مفردات تعبر عن درجات الحب الواحد: فأين هو عن الهوى، والعلاقة، والكَلْف، والعشق، والشعف، واللوعة، والشغف، والجوى والتيم، والتبل، والتدلية، والهيوم؟! ((وقد جاء ذلك في كتاب: فقه اللغة وسر العربية، للثعالبي النيسابوري، ص 171)).
ولم ينته عند هذا الحد بل يمضي قائلاً: «ان هذه اللغة لا ترضي مثقفاً في العصر الحاضر، اذ هي لا تخدم الاُمّة ولا ترقيها، لانها تعجز عن نقل مائة من العلوم التي تصوغ المستقبل».
ولم يقدم دليلاً علمياً واحداً على عجز العربية عن نقل العلوم التي تصوغ المستقبل، عدا ذلك الكلام البعيد كل البعد عن الدراسة المنطقية والتحقيق العلمي.
ويحاول أيضاً ان يعرّف الرقي الذي يجب ان تصل إليه الاُمّة فيقول «ان هذا الرقي يعني اننا نعيش المعيشة حيث تستند الحقائق إلى البينات لا إلى العقائد (!!!).. فيجب لهذا السبب ان تكون لغتنا علمية وثقافتنا كوكبية وكتابتنا لاتينية». وهو بهذه العبارة يكون قد عزف على الوتر الحساس الذي طالما حاول تحاشيه.. فهو لا يريد للغة ان تكون مستندة إلى العقيدة ولا مرتبطة بها! ولا يكتفي بهذا فكسب بل يطالب بأن تكون اللغة علمية، والكتابة بالرسم اللاتيني.
وقد اضطرب سلامة موسى بين الدعوة إلى العامية ودعوته إلى لغة علمية لا صلة لها بالقرآن ولا علاقة لها بالتراث اللغوي والحضاري مع الاصرار على استخدام الحروف اللاتينية بدلاً من الحروف العربية.
وفي اطار دعوته إلى اللغة العلمية، ناشد أيضاً الكف عن الاساليب الادبية، وأكد على الكتابة بلغة الارقام!
وفيما يلي نماذج من لغته العلمية التي دعا اليهاكما جاء في كتابه"سلامة موسى": لغتنا صفحة 147)
خوف الغارت قد نفذ إلى جميع مسامع المجتمع.
يمشي في تثاقل روماتزي.
الوقوف كالخثرة في الدورة الاقتصادية المصرية.
يعاني تخمة ذهنية.
كان مذهب التطور من اعظم الخمائر الاجتماعية.
الاستقلال هو بؤرة الاشتعال الوطني.
من الحركات المغنطيسية التي تجذب الشبان.
الحرب هي قاطرة التاريخ لانها تجعل التطور.
تجرثمت الفكرة عندي.
وهكذا بادخال الفاظ الغارات والروماتيزم والخثرة والتخمة والخمائر والبؤر والمغناطيسية والقاطرة والجراثيم إلى العبارات العربية، تغدو تلك اللغة علمية وعصرية حسب رأي سلامة موسى.
وقذف «امين شميل» بنفسه في اتون المعركة أيضاً حيث نادى كذلك بالتخلي عن العربية بشقيها الفصيح والعامي واستعارة لغة اجنبية لتدريس العلوم الحديثة والتأليف فيها. لكي تحيينا علمياً وثقافياً واقتصادياً، كما اكد على عقم كل محاولة تبذل لاحياء اللغة العربية التي وفها بالمحتضرة!
الدعوات العنصرية
وفي سبيل توجيه ضربة قاصمة إلى العربية والدين الاسلامي وتقويض اي اساس عربي اسلامي يقف عليه المسلمون، ارتفعت الاصوات منادية بالاعراق الميتة المندثرة. وجاءت تلك الدعوات كما هو معروف على لسان الاجانب أيضاً. فقد حاول غوستاف لوبون ان يدق اجراس المصرية بين المصريين من اجل ان يقدح في نفوسهم شرارة التمرد على العربية ويهيأهم لقبول فكرة اقصائها عن الحياة. فقد قال: «وسوف ترى المصريين الذين تمردوا على حضارة الفرس والاغريق والرومان ولغاتهم، انتحلوا لغة العرب ودينهم وتمدنهم. وان مصر غدت بذلك اشد البلاد التي دخلت في دين محمد عروبة، وانّه مع كثرة توالد المصريين والعرب الفاتحين وظهور مثال جديد اختلف عن الاصل بعد جيلين أو ثلاثة، ادى تفوق نسبة المصريين العددية من حيث النتيجة إلى تقلص اثر الدم العربي في المصريين. وان الفلاح المصري العتيد العربي بدينه ولغته، رجع ابناً لقدماء المصريين وصورة حية لهم».
وتأثراً بتلك الدعوات التي انطلقت من الافواه المعادية، انبرى مفكرون وكتّاب عرب للدعوة إلى الفرعونية واعادتها إلى مصر كما تعالت الصيحات في لبنان داعية إلى الفينيقية، وارتكزت هذه الدعوة على ان اللبنانيين هم احفاد الفينقيين القدماء الذين كانوا سكان الساحل اللبناني قبل العرب. وادعت بأن اللبنانيين تاريخياً ليسوا عرباً وانما هم خليط من ابناء الفينقيين واحفاد الامارات الصليبية.
وفي العراق انطلقت بعض الحناجر في الدعوة إلى البابلية والسومرية والحمورابية والنبوخذية، والادعاء بأن العراقيين الحاليين انما هم ابناء لتلك الاقوام التي انشأت الحضارات في العراق قبل الميلاد. وان عليهم الاعتزاز بهم واحياء تراثهم، واستمداد العون والعزيمة من ارواحهم!
وقد فشلت هذه الدعوات فشلاً ذريعاً أيضاً. وآية هذا الفشل ما يعترف به اكبر دعاة الفرعونية الدكتور محمد حسنين هيكل: «وانقلبت الشمس في تاريخنا البعيد في عهد الفراعنة مؤللاً لوحي هذا العصر ينشأ فيه نشأة جديدة. فاذا الزمن وإذا الركود العقلي قد قطع ما بيننا وبين ذلك العهد من سبب قد يصلح لنهضة جديدة. وروّأت ان تاريخنا الاسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويثمر، ففيه حياة تحرك النفوس وتجعلها تهتز وتربو».
وما اروع ما خاطب به الاستاذ احمد حسن الزيات دعاة العصرية القديمة والفرعونية: «هذه مصر الحاضرة تقوم على ثلاثة عشر قرناً وثلثاً من التاريخ العربي نسخت ما قبلها كما تنسخ الشمس الضاحية سوابغ الظلال. ارهقوا ان استطعتم هذه الروح، وامحوا ولو بالفرض هذا الماضي، ثم انظروا ماذا يبقى في يد الزمان في مصر؟ وهل يبقى إلاّ اشلاء من بقايا السوط، وانضاء من ضحايا الجور واشباح طائفة ترتل كتاب الاموات، وجباه ضارعة تسجد للصخور، وفنون خرافية شغلها الموت حتى اغفلت الدنيا وانكرت الحياة.
لا تستطيع مصر الإسلامية إلاّ ان تكون فصلاً من كتاب المجد العربي «الاسلامي» لانها لا تجد مبررا لحيويتها ولا سنداً لقوتها، ولا اساساً لثقافتها إلاّ في رسالة العرب. انشروا ما ضمت القبور من رفات الفراعين، واستقطروا من الصخور الصلاب اخبار الهالكين، وغالبوا البلى على ما بقي في يديه من اكفان الماضي الرميم، ثم تحدثوا واطيلوا الحديث عن ضخامة الآثار وعظمة النيل، ولكن اذكروا دائما ان الروح التي تنفخونها في مومياء، فرعون هي روح «عمرو» وان اللسان الذي تنشرون به مجد مصر هو لسان «مضر» وان القيثار الذي توقعون عليه الحان النيل هو قيثار «امرىء القيس». (كما جاء في كتاب: الإسلام والدعوات الهدامة صفحة 228).
الهدف من محاربة العربية
لا ريب ان الهدف هو تحويل التراث الضخم للامة الإسلامية وفي مقدمته القرآن والسنة والشريعة الإسلامية الي شيء تاريخي صرف لا يمكن معرفته إلاّ بواسطة المعاجم اللغوية وذلك لان الاُمّة العربية إذا تنازلت عن لغتها الفصحى ولجأت إلى العامية وكتبت باللاتينية، فانها ستكون عاجزة عن فهم القرآن والوقوف على مضامينه، وبعبارة اخرى ان العامية لو انتشرت وحلّت محل الفصحى، ستصبح لغة القرآن بمرور الزمن غريبة على المسلمين العرب، وبالتالي سينزوي القرآن وينحسر الإسلام تدريجياً وهو ما يهدف إليه الاستعمار الفكري والسياسي. فالهدف النهائي اذاً تغريب المسلمين، اي حملهم على قبول الذهنية الغربية وتبلور الفكر الاسلامي وتطبع المجتمع العربي بالطابع الاسلامي المميز. فالتغريب يرى في بقاء اللغة العربية بقاء للاسلام وترسيخاً للمبادىء الالهية المناهضة لكل لون من الوان الاستبداد والاحتواء والمصادرة، ودعماً لوحدة الاُمّة هذه الوحدة التي تتحطم على صخرتها كافة المؤتمرات الفكرية والحضارية والسياسية.
ان الهدف من تلك الدعوات التي آزر الغرب الصليبي فيها اعداء الإسلام من داخل البلاد الإسلامية هو كسر شوكة الإسلام وضرب طوق حول القرآن وتحويله في احسن الاحوال إلى مجرد آيات تتلى في زوايا المسجد والمناسبات الدينية شأنه شأن الكتب السماوية الاخرى، والقضاء على خاصية كونه دستوراً للحياة ونهجا للبشرية ونظاماً عالمياً حياً لا تغير منه الايام والظروف والحوادث، ومن اجل ذلك تكاتف اعداء الإسلام ـ كما اشرنا ـ لصد الاُمّة الإسلامية عن العربية وصرف العرب عن الفصحى، وتغذية اللهجات المحلية وتشجيعها وتضخيمها، والدعوة لأن تكون لغات للعمل والادب والحياة اليومية، والكتابة بالحروف اللاتينية أو بأي حروف جديدة اخرى لا تشابه الحروف العربية.
ولو استطاع الاعداء ان يحملوا المسلمين عن التخلي عن الاحرف العربية أيضاً واحلال الحروف اللاتينية محلها ـ كما فعلوا بتركيا ـ فهو سيعني بالنهاية قطع صلة العرب والمسلمين بالقرآن والمؤلفات الدينية والادبية واللغوية والتاريخية، وحينئذ يصبحون «وحدات» لغوية وفكرية وثقافية غريبة عن بعضها البعض مما يسهل عملية ابتلاعها، وتنفيذ كافة المخططات التي يراد تطبيقها على هذه البقعة المهمة من العالم.
جزالة اللغة العربية وقوتها
عاشت اللهجات المحلية العربية ـ كما في باقي لغات العالم ـ إلى جانب العربية الفصحى على مدى الزمن لغة تعامل شعبي وتفاهم محلي، لم تصل في أي يوم ما إلى مستوى الفصحى، وليس في مقدورها ان تتحداها على اي صعيد، وبقيت الفصحى بما تمتلك من عوامل القوة والحيوية لغة الاُمّة، لغة الدين والسياسة والادب والتعليم والتأليف والثقافة والحضارة، لغة الوجدان والذوق والمشاعر.
ومهما يكن من تفاوت اللهجات المحلية وحريتها في الخروج على قيود الفصحى وقواعد اللغويين والنحاة، فانها لم تعد ان تكون لهجات شعبية للعربية، وليس من المتصور ان تحتمل اي لهجة منها على انها لغة قديمة قبل العربية. فحين نقول العامية المصرية أو الشامية والعراقية فليست إلاّ العربية على ألسنة أهل هذه الاقطار.
فالعامية عاجزة ان تكون لغة كاملة معبرة كل التعبير عن الافكار والخلجات لانها بدائية وغير ناضجة ولا تتمتع بأية خلفية حضارية ولا حصيلة علمية. فيما حملت الفصحى مشعل الدين والادب والفنون المختلفة طيلة قرون من الزمن. كما ان العامية غير قادرة على تحقيق التفاهم بين كافة الاقاليم العربية والإسلامية بل انها لا تحقق التفاهم حتى بين ابناء الاقليم الواحد. وهي بهذا ستعمل على تمزيق وشائج التلاحم بين ابناء الاُمّة الإسلامية وتحطيم عرى الدين والفكر والعاطفة.
كما ان الحروف اللاتينية التي اريد لها ان تحل محل العربية هي الاخرى قاصرة عن التعبير عن العربية ورسم الاصوات العربية التي تنفرد بها لغة القرآن، ثم لماذا اللجوء إلى الحروف اللاتينية، والحروف العربية اقدر من غيرها وأجدر في التعبير عن لغتها؟ فهل هو التقليد الاصم ام شيء آخر؟ وقد اعترف بهذه الحقيقة المستشرق الايطالي «نالينو» رغم عدائه للاسلام حيث قال: «ان الخط العربي مواقف لطبيعة اللغة العربية، ولو أردنا استبدال الحروف العربية باللاتينية لتحتم علينا ايجاد حروف جديدة نضيفها إلى الابجدية اللاتينية الحالية لكي نعبر عن الاصوات العربية التي تمثلها حروف: ج ـ ح ـ خ ـ ش ـ ط ـ ظ ـ ص ـ ض ـ ع ـ غ، ولاحتجنا كذلك إلى التمييز بين الحروف المتحركة الممدودة وبين الحروف المقصورة».
ان متعلم الانجليزية نفسه يعاني من عيوب الكتابة باللاتينية ما لا يعانيه متعلم الكتابة العربية. ففي الكثير من كلماتها حروف صامتة لا يحق للمتكلم النطق بها، ويجب على المتعلم ان يكتب تلك الحروف التي لا معنى لاضافتها وليس لها قاعدة ثابتة، وان يحفظ تلك الكلمات الكثيرة التي تحتوي على تلك الزوائد!
لقد بقيت العربية الفصحى اللغة العالمية المشتركة، وكانت هناك رقابة شديدة وصارمة لحمايتها، لكنها لم تتوقف لحظة عن الحركة والنمو في عصور نهضتها، ولم تجمد عند قديمها معاندة للتطور، بل استجابة لدواعي الحياة، فكانت لسان الاُمّة في الدول الإسلامية الكبرى من اقصى المشرق إلى اقصى المغرب، ولغة فكرها الحي الناضج، وكتاب علومها الاصيلة والمستحدثة، واداة اتصالها بقديم التراث الإنساني كما كانت اداة اتصال العرب بالحضارة الإسلامية التي استوعبت ثمار العلوم والمعارف من اقدم العصور إلى فجر عصر النهضة والاحياء، ولو صح ما يقال عن جمودها لاضمحلت وماتت بحكم قوانين الحياة وسنن الاجتماع اللغوي.
ان العربية قد صمدت في وجه كافة الغزوات الموجهة اليها، والسر في صمودها هو القرآن الكريم الذي التحمت به التحاماً وثيقاً منذ نزوله بها. وقد احدث القرآن معجزة اخرى تضاف لسلسلة معاجزه وهي ان العربي يستطيع ان يقرأ تراث القرون الماضية كله دون حاجة إلى قاموس، وان واحداً من هؤلاء القدامى لو انّه بعث حياً اليوم لاستطاع ان يتحدث مع الناس دون صعوبة. واشار الباحثون إلى ما تتميز به اللغة العربية من ثبات عجيب لا مثيل له، إلى درجة ان احد المستشرقين الالمان دعا الغرب إلى استخدام اللغة العربية لتدوين الآثار الفكرية التي تبنى عليها الحضارة وتستحق الخلود. ذلك ان المواطنين في أية لغة من اللغات الحاضرة لا يتجاوز فهمهم اكثر من انتاج مائتي عام من التراث، اما ما عدا ذلك فانهم لا يستطيعون دراسته إلاّ بواسطة قواميس، وان اقل مقارنة بين شكسبير مثلاً في الادب الاوروبي وبين المتنبي في الادب العربي تكشف عن هذا الفرق البعيد، حيث ان العربي يقرأ المتنبي اليوم ويفهمه، بينما الانجليزي لا يقرأ شكسبير إلاّ من خلال دراسات تنقل افكاره إلى لغة القرنين الاخيرين.
واذا كان القرآن ـ كما اسلفت سابقا ـ هو الذي قوّى عناصر الصمود في العربية وحفظها من الموت والاندثار، إلاّ ان هذا لا يعني انها لم تكن في ذاتها صالحة للبقاء، بل ان تحمل أيضاً عناصر القوة والديمومة والرقي، ولم تجد طوال حياتها ادنى صعوبة في اكتساب اللغات الاجنبية التي فرضت على المجال الرسمي. وفي مصر حيث استغرقت عهود السيطرة الاجنبية اكثر من الف ومائة عام قبل الفتح الاسلامي، لم تجد الجهود التي بذلها الغزاة على ذلك المدى الطويل لفرض لغاتهم وثقافاتهم عليها. ولم تصمد اليونانية التي كانت قد استأثرت بالمجال الثقافي والرسمي لثلاثة قرون قبل الميلاد(333: 30 ق. م) وثلاثة اخرى بعده(284: 616م) امام اللغة العربية.
ان العربية الفصحى تحتل بحسب صفاتها الذاتية واستناداً إلى المقارنات الموضوعية بينها وبين سائر اللغات ارقى درجة من درجات الكمال التي تحتلها اللغات المنتشرة في العالم، وتحتل المرتبة الاولى بلا منازع بين اللغات الاشتقاقية التي تمثل ارقى مجموعة لغوية في عالم اليوم. ان العربية تتميز بسعتها وكثرة مفرداتها، فبينما نجد عدد كلمات اللغة الفرنسية حوالي 25 الف، وعدد كلمات الانجليزية حوالي 100 الف نجد عدد مواد العربية الفصحى نحوا من 400 الف مادة. ويضم لسان العرب 80 الف مادة لا كلمة. ويشير الخليل بن احمد إلى ان عدد ابنية كلام العرب يبلغ 12 مليون و305 الف و412 كلمة. وفيها ثراء في الاسماء المضاعفة، فهناك 170 اسماء للماء و70 اسماء للمطر. وللمادة الواحدة في العربية مصدر للدلالة على المعنى مجرداً من الزمن ولها صيغ تدل على الفاعل والمفعول به، والزمان، والمكان، والتفضيل، والتعجب والتمييز والتصغير وهكذا. وليس في اية لغة من لغات العالم هذا الانطلاق اللغوي المترابط في ميدان الاشتقاق اللفظي المناسب لترابط المعاني فكرياً، كما ان معظم مشتقاتهم تقبل الصرف إلاّ فيما ندر منها. وهذا يجعلها في طرح اهلها اكثر من غيرها، ويجعلها أيضاً اكثر تلبية لحاجة المتكلمين.
وهذّبت العربية صيغها بالاعلال والابدال والاقلاب والادغام والحذف، واستقرت على ضوابط للتأنيث والتذكير وللافراد والتثنية والجمع. وميزت المعلوم من المجهول، والمعرفة من النكرة. وتصرّفت في المادة اللغوية بصيغ مطردة لكل منها دلالتها المحددة، وتصرفت في الفعل لضبط الزمن تحديداً للماضي المطلق والقريب والحاضر والمستقبل القريب والبعيد والمطلق. واستخدمت الضمائر واسماء الاشارة والاسماء الموصولة بدقة واحكام للمتكلم والمخاطب والغائب مفرداً ومثنى وجمعاً. وتوسعت في الدلالات المجازية لكي تنمو وتبلي حاجـات الحياة فنقلت الالفاظ من الاستعمال الحسي إلى الاستعمال المجازي والاصطـلاحي.
ان العربية لا ترقى اليها اي لغة في ثرائها وكثرة مفرداتها المترادفة. فأية لغة في العالم تتحدث عن السحاب بهذا الشكل.
«اول ما ينشأ السحاب فهو النش، فاذا انسحب في الهواء فهو السحاب فاذا تغيرت له السماء فهو الغمام، فاذا كان غيم ينشأ في عرض السماء لا تبصره ولكن تسمع رعده من بعد فهو العقر، فاذا اظلّ فهو العارض، فاذا كان ذا رعد وبرق فهو القرّاض، فاذا كان..».
وأين انت عن اللغة التي تسمى جمال الوجه «صباحة» وجمال البشرة «وضاءة» وجمال العينين «حلاوة» وجمال الفم «ملاحة»، وجمال اللسان «ظرف» وجمال القد «رشاقة» وجمال الشمائل «لباقة»؟
وأية لغة عظيمة هذه التي تميّز بين الالوان المتقاربة:
الصُّهبة: حُمرة تضرب إلى البياض.
الكُهبة: صُفرة تضرب إلى حُمرة.
القُهبة: سواد يضرب إلى خُضرة.
الدُّكنة: بين الحمرة والسواد.
الكُمدة: لون يبقى اثره ويزول صفاؤه.
الشُربة: بياض مُشرب بحُمرة.
الشُهبة: بياض مشرب بأدنى سواد.
العُفرة: بياض تعلوه حُمرة.
الصُّحرة: غُبرة فيها حُمرة.
الدُّبسة: بين السواد والحُمرة.
القُمرة: بين البياض والغُبرة.
الطُّلسة: بين السواد والغُبرة. ( أخذت من كتاب فقه اللغة صفحة 276)
وما يزال الكثير من اسرار اللغة العربية خافياً حتى على المتبحرين بها. وستظل العربية دائماً وابداً قوية صامدة وتلبي الحاجة، وتنشر رسالة القرآن في ربوع الارض، فالقرآن هو الضامن لخلود العربية ووحدة وثقافة الاُمّة الإسلامية وفكرها.
وجد الغزاة في اللغة العربية سداً عظيماً يحول دون وصولهم إلى اهدافهم العدوانية، فقرروا ان يحطموا ذلك السد شيئاً فشيئاً فوجدوا في «العامية» السلاح الذي يمكن ان يحقق لهم ما يصبون إلى تحقيقه. فظهرت الدعوة إلى العامة اولاً في كتابات عدد من المستشرقين. وكانت بادىء ذي بدء دعوات هادئة ومغلفة بالنصح والارشاد والحرص على العرب ومستقبلهم وتطورهم. ويقف في طليعة من حرّض على الاعراض عن الفصحى والاخذ بالعامية كتابة وتكلماً هو المستشرق الالماني الدكتور «ولهلم سبيتا» وكان مديراً لدار الكتب المصرية في اواخر القرن التاسع عشر. فقد اصدر كتاباً عام 1880م اسمه «قواعد اللغة العربية العامية في مصر» ركّز فيه على اثارة روح العنصرية ضد العربية. وتباكى على المصريين بسبب تشبثهم بالعربية الفصحى: «واخيراً سأجازف بالتصريح عن الامل الذي روادني على الدوام طوال مدة جمع هذا الكتاب وهو امل يتعلق بمصر نفسها، ويمس امراً هو بالنسبة اليها والى شعبها يكاد يكون مسألة حياة أو موت. فكل من عاش فترة طويلة في بلاد تتكلم بالعربية يعرف إلى اي احد كبير تتأثر كل نواحي النشاط فيها بسبب الاختلاف بين لغة الحديث ولغة الكتابة.. وبالتزام الكتابة بالعربية الكلاسيكية القديمة لا يمكن ان ينمو ادب حقيقي ويتطور، لان الطبقة المتعلمة القليلة العدد هي وحدها التي يمكن ان يكون الكتاب في متناول يدها».(كتاب أجنحة المكر صفحة 299)
وفي محاولة منه لتهدئة الاعتراضات المحتملة على هذه الافكار لجأ إلى طرح السؤال التالي بمكر: «فلماذا لا يمكن تغيير هذه الحالة المؤسفة إلى ما هو أحسن؟ ببساطة لان هناك خوفاً من تهمة التعدي على حرمة الدين إذا تركنا لغة القرآن تركاً كلياً». ثم يضيف: «ان لغة الصلاة والطقوس الدينية الاخرى ستظل كما هي في كل مكان».
وهو في هذا الجواب الذي تصور انّه سيخدع به الشعور الاسلامي اراد للعربية ان تظل لغة طقوس وصلاة بعيدة عن مسرح الحياة، وبالتالي كي يحصر القرآن والإسلام في زاوية المسجد لا غير، وهو الهدف الذي يسعى إليه المستعمرون، ومهّد له التبشير والاستشراق ومشاريع التغريب.. أو بعبادة اخرى اراد للغة القرآن ان تكون كاللاتينية واليونانية والسريانية لا تردد إلاّ على السن الكهنة والقساوسة في المناسبات الدينية ولا يفهم الناس منها شيئاً، كما تنبأ «سبيتا» في كتابه بموت العربية الفصحى كما ماتت اللاتينية، غائباً عن باله ان العربية غير اللاتينية، وان العربية لها قرآن يحفظها وتراث حضاري هائل يذبّ عنها ويضخ فيها روح القوة والصمود والشموخ.
ودعا إلى هذه الفكرة أيضاً المستشرق الالماني الدكتور كارل فولرس الذي تولى ا دارة الكتب المصرية خلفاً لولهلم سبيتا، وطالب بنبذ العربية الفصحى وضرورة الكتابة بالعامية، ووضع كتاباً اسماه «اللهجة العربية الحديثة» طالب فيه ليس باحلال العامية محل الفصحى فحسب بل باستعمال الحروف اللاتينية لدى كتابة العامية أيضاً!
كما حمل لواء الدعوة إلى العامية أيضاً المستشرق الانجليزي «سلون ولمور» الذي تولى القضاء بالمحاكم الاهلية بالقاهرة ابان الاحتلال البريطاني لمصر، واصدر في 1901 كتاباً يدعى «العربية المحلية في مصر» طالب فيه باتخاذ العامية المصرية لغة ادبية بدلاً من الفصحى ووضع قواعد لها. ونادى ـ شأنه شأن ولمور ـ إلى كتابتها بالاحرف اللاتينية.
واخطر الدعوات الموجهة ضد الفصحى والمطالبة باقصائها عن ميدان الكتابة والادب دعوة المستشرق الانجليزي وليم ولكوكس الذي كان يشرف في عام 1893 على تحرير مجلة الازهر. فقد نشر في تلك المجلة مقالاً عنوان «لِمَ لم توجد قوّة الاختراع لدى المصريين إلى الآن؟» دعا فيه إلى إقصاء الفصحى والكتابة بالعامية، وربط بين الخطاط قوّة الاختراع والابتكار عند العرب وتقيدهم بالفصحى لدى الكتابة والتأليف. واكد انهم متى ما كتبوا بالعامية نمت عندهم قوّة الاختراع والابداع! ولم يوضح العلاقة بين الفصحى والتخلف في مضمار الاختراعات، أو بين العامية والرقي والاختراعي» وهل في العامية ذلك الاكسير الذي يدفع بالعرب نحو الاختراع والاكتشاف ويقدح في ذهنه القابلية على الاختراع؟!
وفي عام 1925 ترجم ولكوكس الانجيل إلى العامية، ثم نشر بالانجليزية رسالة بعنوان «سوريا ومصر وشمال افريقيا ومالطا تتكلم البونية لا العربية» زعم فيها ان اللغات العامية في الشام ومصر وبلدان المغرب العربي ومالطا هي نفسها الغة الكنعانية أو الفينقية أو البونية التي سبقت الفتح الاسلامي ولما تمت بصلة إلى العربية الفصحى. وتحامل كثيراً على الفصحى واعتبرها لغة جوفاء لا تحمل اي معنى من المعاني لسامعيها. فهو يقول: «من السهل جداً ان نرى في هذه البلاد ذلك التأثير المخدر الذي تحدثه الالفاظ الرنانة التي لا تفهم منها لفظة واحدة في نفس السامع. ان سماع مثل هذه الالفاظ يقتل في الذهن كل ابتكار بين اولئك الذين لا يقرأون كما تقتله أيضاً في نفس الطالب تلك الدروس التي تلقى عليه باللغة الفصحى المصطنعة التي تبلغ الرأس دون القلب، فتمنع من يتسمون بالعلماء في هذه البلاد من التفكير البكر»!.
وألهبت دعوة المستشرقين إلى العامية حماس المنخدعين والمستغربين العرب فدعوا إلى نبذ الفصحى والركون إلى العامية مقدمين التبريرات غير المنطقية. بل انجرف في تيار تلك الدعوة الشرسة عدد من رجال الادب العربي الذين لم يعرفهم العرب إلاّ من خلال اللغة العربية الفصحى. وكان جزاء هذه اللغة ان يقابلوا احسانها بالدعوة الى الاجهاز عليها ومحو آثارها!
وكان «لطفي السيد» من اوائل المصريين الذين حملوا لواء الدعوة إلى قبر الفصحى واحلال العامية محلها. كما قدمت في مصر أيضاً عشرات المشاريع في اطار التزام العامية واصلاح الكتابة العربية كان أخطرها مشروع «عبدالعزيز فهمي» الذي اثار موجة اعتراض شديد من قبل حماة العربية.
وانتقلت الدعوة إلى العامية من مصر إلى لبنان فتحمس لهذه الفكرة كثير من النصارى اللبنانيين مثل سعيد عقل وانيس فريحة ولويس عوض وغيرهم. وفي حزيران من عام 1973 عقد في «برمانا» بلبنان مؤتمر هيأت له بعض الجهات الاجنبية. وحضره كثير من الاجانب جلهم من الرهبان اليسوعيين، وكان الغرض منه هدم معالم اللغة العربية والاهتمام بالعامية. وقد استنكره الشيخ عبدالحليم شيخ الجامع الازهر.
وكانت هناك دعوات مصرية طالبت بلغة متوسطة بين العامية والفصحى، ويقف على رأس هذه الدعوات فريد ابو حيدر، وتوفيق الحكيم، وامين الخولي.
ودعا طه حسين إلى شيء اسماه «تطوير اللغة!» بتبديل الخط العربي أو اصلاحه وتهذيب قواعد النحو والصرف. . . . التي ضبط بها القرآن الكريم والسنة النبوية. ولا يستبعد ان يكون طه حسين قد اراد التدرج في عملية الغاء العربية، لان الدعوة المباشرة قضية محفوفة بالمخاطر وقد لا يحالفها الحظ. وهناك من نادى بالغاء صورة الاعراب في الكلام العربي واللجوء إلى تسكين اواخر الكلمات.
الدعوة إلى اللاتينية
اول من تزعم الدعوة إلى الكتابة بالحروف اللاتينية هو المبشر «ماسينيون» الموظف في قسم الشؤون الشرقية في وزارة الخارجية الفرنسية. وقد بثت دعوته هذه في المغرب ومصر وسوريا ولبنان. وتابعه كولان وغيره، ثم شاعت هذه الدعوة بين خريجي معاهد الارساليات فحملوا لواءها في بيروت. اما في مصر فقد جرت محاولت كثيرة ابرزها تلك التي دعا إليها لطفي السيد وقاسم امين وسلامة موسى وعبدالعزيز فهمي. وحينما دعا الاخير إلى العدول عن الحرف العربي إلى اللاتيني، تلقف سلامة موسى دعوته بالتشجيع وراح ينفخ في الداعين اليها: «قلما نجد الشجاعة للدعوة إلى الاصلاح الجريء إلاّ في رجال نابهين لا يبالون الجهلة والحمقى، مثل قاسم امين أو احمد امين في الدعوة إلى الغاء الاعراب، أو مثل عبدالعزيز فهمي حين يدعو إلى الخط اللاتيني. والواقع ان اقتراح الخط اللاتيني هو وثبة المستقبل. ولو اننا عملنا به لاستطنعا ان ننقل مصر إلى مقام تركيا(!) التي اغلق عليها هذا الخط ابواب ماضيها وفتح لها ابواب مستقبلها»!
ثم ينتهي سلامة موسى إلى تقرير رأي فارغ: «وبالجملة نستطيع ان نقول ان الخط اللاتيني هو وثبة في الفور نحو المستقبل. ولكن هل العناصر التي تنتفع ببقاء الخط العربي والتقاليد ترضى بهذه الوثبة؟».
وكان انيس فريحة استاذ التاريخ واللغات السامية بالجامعة الاميركية ببيروت، في مقدمة دعاة اللاتينية بلبنان بذريعة تسهيل القراءة. ويعترض فريحة على اعتماد اللغة العربية لغة للجيل الحاضر لان قواعدها مستنبطة من القرآن الكريم والشعر العربي القديم: «ولكن لا يصح اعتماد اللغة ـ كما تحدرت الينا مدونة ـ مصدراً لدراسة اللغة في عهودها السابقة، وذلك لان الذين استنبطوا قواعدها وضبطوا احكامها اعتمدوا الشعر الجاهلي اولاً ثم القرآن الكريم مادة لغوية. ومتى كانت لغة الشعر ولغة الادب والدين مرآة تعكس لغة الناس في معاشهم ومكاسبهم».؟!
ويسخر قريحة من اللغة العربية والدين الاسلامي معاً حينما يقول: «.. فان علينا في مواقفنا الرسمية ان نتكلم بلغة الاجيال الغابرة، علينا ان نعبر عن احاسيسنا ودواخلنا بلغة وقفت في مجراها عند نقطة معينة من الزمان والمكان عندما احيطت بهالة من التقديس وعندها سُيّج حولها بسياج من الاحكام فوقفت في تطورها عند هذه النقطة من الزمان والمكان». "كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية، سلامة موسى، ص 109."
وأدرك فريحة خطورة دعوته وعنف حملته على العربية والإسلام المرتبط بها والمرتبطة به فحاول ان يخفف من تأثير وطأة تلك الدعوة بطرح السؤال التالي:
«ولكن لناس ان يسألوا ماذا سيحل بالقرآن الكريم؟».
ثم يجيب بنفسه على سؤاله: «ان القرآن الكريم سيخلد على ما هو عليه كما بقيت كتب دينية عديدة، فبرغم انحراف لغة الناس عن لغة هذه الكتب فان لغة هذه الكتب قد حافظت على روعتها وجلالها ومقامها الديني. هناك لغة التوراة الانجليزية المعروفة بترجمة الملك جايمس، فانها مع قدمها تعتبر في الانجليزية ـ إلى جانب مقامها الديني ـ قطعة ادبية رائعة.. وقل مثل هذا في لغة شكسبير فانها حافظت على كيانها ومقامها. وفي لندن اليوم مسرح مشهور يعرف بـ Ole vic لا يمثل فيه إلاّ روايات شكسبير بلغتها القديمة وبشعرها القديم وتعابيرها القديمة.. وها هي الكنيسة الكاثولكية فانها تعتبر الترجمة اللاتينية للتوراة لغة الكنيسة الرسمية، ولا يكون القداس إلاّ باللغة اللاتينية. وقل مثل هذا في الكنيسة الارثوذكسية التي حافظت على اللغة اليونانية التقليدية، والكنيسة المارونية التي احتفظت باللغة السريانية والكنيسة المسيحية الحبشية التي احتفظت باللغة السامية القديمة المعروفة بلغة الجعز».
وهكذا يبدو وبكل وضوح انّه يريد ان يقصر العربية على المسجد والقداس لا غير ويقتطعها والدين الذي تعبر عنه وتتحدث باسمه عن الحياة في جميع شؤونها، وهو الهدف الذي يسعى إليه الاتجاه للاسلام وللعالم الاسلامي.
الدعوة إلى لغة علمية
لعل الكاتب سلامة موسى يقف في طليعة خصوم اللغة العربية في الربع الثاني من القرن العشرين، ولعل اللغة العربية لم تجد اشرس منه من بين جميع خصومها خلال هذه الفترة أيضاً. كيف لا وقد تحدث عنها قائلاً: «ورثناها من بدو الجاهلية في عصر الناقة ويراد لنا ان نتعامل بها في عصر الطائرة».
واتهم سلامة موسى لغة القرآن بفقدانها لكلمات الثقافة العصرية، ثم يبني النتيجة التالية على ذلك الاتهام الذي تعامل معه وكأنه حقيقة قائمة: «وحين تحرم لغتنا من كلمات الثقافة العصرية، تحرم الاُمّة أيضاً المعيشة العصرية. فنحن ما زلنا نعيش بكلمات الزراعة ولسنا نعرف كلمات الصناعة. ولذلك فان عقليتنا عقلية جامدة متبلدة تنظر إلى الماضي، حتى اننا نؤلف في ترجمة (معاوية بن أبي سفيان) في الوقت الذي يجب ان نؤلف في ترجمة (هنري فورد) عبر الصناعة في عصرنا»!
وبعد هذا الكلام يربط بين تطور المجتمع والصناعة قائلاً: «المجتمع الصناعي كان جديراً بأن يحدث مجتمعاً مستقبلياً: يكتب مؤلفوه بلغة الشعب، وتنتقل اهتماماتهم الذهنية من التأليف عن قدماء العرب إلى التأليف عن مشكلاتنا العصرية».
ومن الامثلة التي ساقها على بدائية العربية وارتباك الذهن العربي هو استعمال الفاظ قديمة لدلالات جديدة: «اننا نستعمل الفعل «احصى» بمعنى عدّ، فانه مشتق من الحصا، اي صغار الحجر، وذلك لان الإنسان البدائي كان يجعل العد بالارقام فكان إذا شاء مثلاً ان يعرف ما عنده من خراف، وضع في جعبته عن كل خروف حصاة».
وفاته ان الامر لا يختلف في الفعل الانجليزي Calculate (بمعنى يحسب)، فهو مأخوذ من الكلمة الرومانية القديمة Culculus بمعنى الحصاة أو الحجر. وكان الرومان يستعملون الحصاة أيضاً في العد والحساب منذ آلاف السنين.
ويبرر سلامة دعوته إلى نبذ الفصحى بقوله: «يجب ألاّ يكون للمجتمع لغتان، احداهما كلامية اي عامية والاخرى مكتوبة اي فصحى، كما هي حالنا في مصر وسائر الاقطار العربية، لان نتيجة هذه الحال ان اللغة المكتوبة تنفصل عن المجتمع فتصبح كأنها لغة الكهان التي لا تتلى إلاّ في المعابد، وينقطع الاتصال الفسيولوجي بينها وبين المجتمع فلا تتطور».
وهو هنا يقر بحقيقة تغافل عنها انيس فريحة، وهي ان اللغة متى ما اصبحت لغة كهان ومعابد انقطع الاتصال العضوي بينها وبين المجتمع. لكنه وبدلاً من ان ينحى باللائمة على العامية نراه يوجه اصابع اتهامه إلى الفصحى ويطالبها بلملمة اذيالها وفسح المجال للعامية التي تختلف من اقليم لآخر، بل ومن منطقة لأخرى داخل الاقليم الواحد.
ولم يكتف سلامة موسى بهذا بل رد كل مظهر من مظاهر التخلف في مجتمعنا إلى العربية التي وصفها بالخرساء، كما ان العربية نفسها مسؤولة ـ من وجهة نظره ـ عما يعوز المجتمع العربي والاسلامي من عدالة اجتماعية! كما ان جرائم الدفاع عن العرض هي جرائم لغوية لا اكثر وحوادث الجنون ناجمة عن اللغة العربية.
ويتمارى سلامة موسى في استهجانه للعربية فيتحدث عن الانجليز فيقول: «انهم يفرقون بين نوعين من الحب باستعمالهم كلمتي Loveو Like، على حين لا نجد في لغتنا غير كلمة «احب» نطلقها على الحب البيولوجي وحـب الملوخية.. نطلقها عليها جميعاً لاننا كالمتوحش حين يسمي ما زاد على العشـرة: كثير».
ولا ادري ما العلاقة بين قلة المفردات المعبرة عن الحب ـحسب زعمه ـ والمتوحش الذي يرى ما يزيد على العشرة كثيرا؟ ثم من قال ان اللغة العربية لا تميز بين نوعين من الحب؟ انها تفرق بين كافة انواع الحب، بل ان فيها مفردات تعبر عن درجات الحب الواحد: فأين هو عن الهوى، والعلاقة، والكَلْف، والعشق، والشعف، واللوعة، والشغف، والجوى والتيم، والتبل، والتدلية، والهيوم؟! ((وقد جاء ذلك في كتاب: فقه اللغة وسر العربية، للثعالبي النيسابوري، ص 171)).
ولم ينته عند هذا الحد بل يمضي قائلاً: «ان هذه اللغة لا ترضي مثقفاً في العصر الحاضر، اذ هي لا تخدم الاُمّة ولا ترقيها، لانها تعجز عن نقل مائة من العلوم التي تصوغ المستقبل».
ولم يقدم دليلاً علمياً واحداً على عجز العربية عن نقل العلوم التي تصوغ المستقبل، عدا ذلك الكلام البعيد كل البعد عن الدراسة المنطقية والتحقيق العلمي.
ويحاول أيضاً ان يعرّف الرقي الذي يجب ان تصل إليه الاُمّة فيقول «ان هذا الرقي يعني اننا نعيش المعيشة حيث تستند الحقائق إلى البينات لا إلى العقائد (!!!).. فيجب لهذا السبب ان تكون لغتنا علمية وثقافتنا كوكبية وكتابتنا لاتينية». وهو بهذه العبارة يكون قد عزف على الوتر الحساس الذي طالما حاول تحاشيه.. فهو لا يريد للغة ان تكون مستندة إلى العقيدة ولا مرتبطة بها! ولا يكتفي بهذا فكسب بل يطالب بأن تكون اللغة علمية، والكتابة بالرسم اللاتيني.
وقد اضطرب سلامة موسى بين الدعوة إلى العامية ودعوته إلى لغة علمية لا صلة لها بالقرآن ولا علاقة لها بالتراث اللغوي والحضاري مع الاصرار على استخدام الحروف اللاتينية بدلاً من الحروف العربية.
وفي اطار دعوته إلى اللغة العلمية، ناشد أيضاً الكف عن الاساليب الادبية، وأكد على الكتابة بلغة الارقام!
وفيما يلي نماذج من لغته العلمية التي دعا اليهاكما جاء في كتابه"سلامة موسى": لغتنا صفحة 147)
خوف الغارت قد نفذ إلى جميع مسامع المجتمع.
يمشي في تثاقل روماتزي.
الوقوف كالخثرة في الدورة الاقتصادية المصرية.
يعاني تخمة ذهنية.
كان مذهب التطور من اعظم الخمائر الاجتماعية.
الاستقلال هو بؤرة الاشتعال الوطني.
من الحركات المغنطيسية التي تجذب الشبان.
الحرب هي قاطرة التاريخ لانها تجعل التطور.
تجرثمت الفكرة عندي.
وهكذا بادخال الفاظ الغارات والروماتيزم والخثرة والتخمة والخمائر والبؤر والمغناطيسية والقاطرة والجراثيم إلى العبارات العربية، تغدو تلك اللغة علمية وعصرية حسب رأي سلامة موسى.
وقذف «امين شميل» بنفسه في اتون المعركة أيضاً حيث نادى كذلك بالتخلي عن العربية بشقيها الفصيح والعامي واستعارة لغة اجنبية لتدريس العلوم الحديثة والتأليف فيها. لكي تحيينا علمياً وثقافياً واقتصادياً، كما اكد على عقم كل محاولة تبذل لاحياء اللغة العربية التي وفها بالمحتضرة!
الدعوات العنصرية
وفي سبيل توجيه ضربة قاصمة إلى العربية والدين الاسلامي وتقويض اي اساس عربي اسلامي يقف عليه المسلمون، ارتفعت الاصوات منادية بالاعراق الميتة المندثرة. وجاءت تلك الدعوات كما هو معروف على لسان الاجانب أيضاً. فقد حاول غوستاف لوبون ان يدق اجراس المصرية بين المصريين من اجل ان يقدح في نفوسهم شرارة التمرد على العربية ويهيأهم لقبول فكرة اقصائها عن الحياة. فقد قال: «وسوف ترى المصريين الذين تمردوا على حضارة الفرس والاغريق والرومان ولغاتهم، انتحلوا لغة العرب ودينهم وتمدنهم. وان مصر غدت بذلك اشد البلاد التي دخلت في دين محمد عروبة، وانّه مع كثرة توالد المصريين والعرب الفاتحين وظهور مثال جديد اختلف عن الاصل بعد جيلين أو ثلاثة، ادى تفوق نسبة المصريين العددية من حيث النتيجة إلى تقلص اثر الدم العربي في المصريين. وان الفلاح المصري العتيد العربي بدينه ولغته، رجع ابناً لقدماء المصريين وصورة حية لهم».
وتأثراً بتلك الدعوات التي انطلقت من الافواه المعادية، انبرى مفكرون وكتّاب عرب للدعوة إلى الفرعونية واعادتها إلى مصر كما تعالت الصيحات في لبنان داعية إلى الفينيقية، وارتكزت هذه الدعوة على ان اللبنانيين هم احفاد الفينقيين القدماء الذين كانوا سكان الساحل اللبناني قبل العرب. وادعت بأن اللبنانيين تاريخياً ليسوا عرباً وانما هم خليط من ابناء الفينقيين واحفاد الامارات الصليبية.
وفي العراق انطلقت بعض الحناجر في الدعوة إلى البابلية والسومرية والحمورابية والنبوخذية، والادعاء بأن العراقيين الحاليين انما هم ابناء لتلك الاقوام التي انشأت الحضارات في العراق قبل الميلاد. وان عليهم الاعتزاز بهم واحياء تراثهم، واستمداد العون والعزيمة من ارواحهم!
وقد فشلت هذه الدعوات فشلاً ذريعاً أيضاً. وآية هذا الفشل ما يعترف به اكبر دعاة الفرعونية الدكتور محمد حسنين هيكل: «وانقلبت الشمس في تاريخنا البعيد في عهد الفراعنة مؤللاً لوحي هذا العصر ينشأ فيه نشأة جديدة. فاذا الزمن وإذا الركود العقلي قد قطع ما بيننا وبين ذلك العهد من سبب قد يصلح لنهضة جديدة. وروّأت ان تاريخنا الاسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويثمر، ففيه حياة تحرك النفوس وتجعلها تهتز وتربو».
وما اروع ما خاطب به الاستاذ احمد حسن الزيات دعاة العصرية القديمة والفرعونية: «هذه مصر الحاضرة تقوم على ثلاثة عشر قرناً وثلثاً من التاريخ العربي نسخت ما قبلها كما تنسخ الشمس الضاحية سوابغ الظلال. ارهقوا ان استطعتم هذه الروح، وامحوا ولو بالفرض هذا الماضي، ثم انظروا ماذا يبقى في يد الزمان في مصر؟ وهل يبقى إلاّ اشلاء من بقايا السوط، وانضاء من ضحايا الجور واشباح طائفة ترتل كتاب الاموات، وجباه ضارعة تسجد للصخور، وفنون خرافية شغلها الموت حتى اغفلت الدنيا وانكرت الحياة.
لا تستطيع مصر الإسلامية إلاّ ان تكون فصلاً من كتاب المجد العربي «الاسلامي» لانها لا تجد مبررا لحيويتها ولا سنداً لقوتها، ولا اساساً لثقافتها إلاّ في رسالة العرب. انشروا ما ضمت القبور من رفات الفراعين، واستقطروا من الصخور الصلاب اخبار الهالكين، وغالبوا البلى على ما بقي في يديه من اكفان الماضي الرميم، ثم تحدثوا واطيلوا الحديث عن ضخامة الآثار وعظمة النيل، ولكن اذكروا دائما ان الروح التي تنفخونها في مومياء، فرعون هي روح «عمرو» وان اللسان الذي تنشرون به مجد مصر هو لسان «مضر» وان القيثار الذي توقعون عليه الحان النيل هو قيثار «امرىء القيس». (كما جاء في كتاب: الإسلام والدعوات الهدامة صفحة 228).
الهدف من محاربة العربية
لا ريب ان الهدف هو تحويل التراث الضخم للامة الإسلامية وفي مقدمته القرآن والسنة والشريعة الإسلامية الي شيء تاريخي صرف لا يمكن معرفته إلاّ بواسطة المعاجم اللغوية وذلك لان الاُمّة العربية إذا تنازلت عن لغتها الفصحى ولجأت إلى العامية وكتبت باللاتينية، فانها ستكون عاجزة عن فهم القرآن والوقوف على مضامينه، وبعبارة اخرى ان العامية لو انتشرت وحلّت محل الفصحى، ستصبح لغة القرآن بمرور الزمن غريبة على المسلمين العرب، وبالتالي سينزوي القرآن وينحسر الإسلام تدريجياً وهو ما يهدف إليه الاستعمار الفكري والسياسي. فالهدف النهائي اذاً تغريب المسلمين، اي حملهم على قبول الذهنية الغربية وتبلور الفكر الاسلامي وتطبع المجتمع العربي بالطابع الاسلامي المميز. فالتغريب يرى في بقاء اللغة العربية بقاء للاسلام وترسيخاً للمبادىء الالهية المناهضة لكل لون من الوان الاستبداد والاحتواء والمصادرة، ودعماً لوحدة الاُمّة هذه الوحدة التي تتحطم على صخرتها كافة المؤتمرات الفكرية والحضارية والسياسية.
ان الهدف من تلك الدعوات التي آزر الغرب الصليبي فيها اعداء الإسلام من داخل البلاد الإسلامية هو كسر شوكة الإسلام وضرب طوق حول القرآن وتحويله في احسن الاحوال إلى مجرد آيات تتلى في زوايا المسجد والمناسبات الدينية شأنه شأن الكتب السماوية الاخرى، والقضاء على خاصية كونه دستوراً للحياة ونهجا للبشرية ونظاماً عالمياً حياً لا تغير منه الايام والظروف والحوادث، ومن اجل ذلك تكاتف اعداء الإسلام ـ كما اشرنا ـ لصد الاُمّة الإسلامية عن العربية وصرف العرب عن الفصحى، وتغذية اللهجات المحلية وتشجيعها وتضخيمها، والدعوة لأن تكون لغات للعمل والادب والحياة اليومية، والكتابة بالحروف اللاتينية أو بأي حروف جديدة اخرى لا تشابه الحروف العربية.
ولو استطاع الاعداء ان يحملوا المسلمين عن التخلي عن الاحرف العربية أيضاً واحلال الحروف اللاتينية محلها ـ كما فعلوا بتركيا ـ فهو سيعني بالنهاية قطع صلة العرب والمسلمين بالقرآن والمؤلفات الدينية والادبية واللغوية والتاريخية، وحينئذ يصبحون «وحدات» لغوية وفكرية وثقافية غريبة عن بعضها البعض مما يسهل عملية ابتلاعها، وتنفيذ كافة المخططات التي يراد تطبيقها على هذه البقعة المهمة من العالم.
جزالة اللغة العربية وقوتها
عاشت اللهجات المحلية العربية ـ كما في باقي لغات العالم ـ إلى جانب العربية الفصحى على مدى الزمن لغة تعامل شعبي وتفاهم محلي، لم تصل في أي يوم ما إلى مستوى الفصحى، وليس في مقدورها ان تتحداها على اي صعيد، وبقيت الفصحى بما تمتلك من عوامل القوة والحيوية لغة الاُمّة، لغة الدين والسياسة والادب والتعليم والتأليف والثقافة والحضارة، لغة الوجدان والذوق والمشاعر.
ومهما يكن من تفاوت اللهجات المحلية وحريتها في الخروج على قيود الفصحى وقواعد اللغويين والنحاة، فانها لم تعد ان تكون لهجات شعبية للعربية، وليس من المتصور ان تحتمل اي لهجة منها على انها لغة قديمة قبل العربية. فحين نقول العامية المصرية أو الشامية والعراقية فليست إلاّ العربية على ألسنة أهل هذه الاقطار.
فالعامية عاجزة ان تكون لغة كاملة معبرة كل التعبير عن الافكار والخلجات لانها بدائية وغير ناضجة ولا تتمتع بأية خلفية حضارية ولا حصيلة علمية. فيما حملت الفصحى مشعل الدين والادب والفنون المختلفة طيلة قرون من الزمن. كما ان العامية غير قادرة على تحقيق التفاهم بين كافة الاقاليم العربية والإسلامية بل انها لا تحقق التفاهم حتى بين ابناء الاقليم الواحد. وهي بهذا ستعمل على تمزيق وشائج التلاحم بين ابناء الاُمّة الإسلامية وتحطيم عرى الدين والفكر والعاطفة.
كما ان الحروف اللاتينية التي اريد لها ان تحل محل العربية هي الاخرى قاصرة عن التعبير عن العربية ورسم الاصوات العربية التي تنفرد بها لغة القرآن، ثم لماذا اللجوء إلى الحروف اللاتينية، والحروف العربية اقدر من غيرها وأجدر في التعبير عن لغتها؟ فهل هو التقليد الاصم ام شيء آخر؟ وقد اعترف بهذه الحقيقة المستشرق الايطالي «نالينو» رغم عدائه للاسلام حيث قال: «ان الخط العربي مواقف لطبيعة اللغة العربية، ولو أردنا استبدال الحروف العربية باللاتينية لتحتم علينا ايجاد حروف جديدة نضيفها إلى الابجدية اللاتينية الحالية لكي نعبر عن الاصوات العربية التي تمثلها حروف: ج ـ ح ـ خ ـ ش ـ ط ـ ظ ـ ص ـ ض ـ ع ـ غ، ولاحتجنا كذلك إلى التمييز بين الحروف المتحركة الممدودة وبين الحروف المقصورة».
ان متعلم الانجليزية نفسه يعاني من عيوب الكتابة باللاتينية ما لا يعانيه متعلم الكتابة العربية. ففي الكثير من كلماتها حروف صامتة لا يحق للمتكلم النطق بها، ويجب على المتعلم ان يكتب تلك الحروف التي لا معنى لاضافتها وليس لها قاعدة ثابتة، وان يحفظ تلك الكلمات الكثيرة التي تحتوي على تلك الزوائد!
لقد بقيت العربية الفصحى اللغة العالمية المشتركة، وكانت هناك رقابة شديدة وصارمة لحمايتها، لكنها لم تتوقف لحظة عن الحركة والنمو في عصور نهضتها، ولم تجمد عند قديمها معاندة للتطور، بل استجابة لدواعي الحياة، فكانت لسان الاُمّة في الدول الإسلامية الكبرى من اقصى المشرق إلى اقصى المغرب، ولغة فكرها الحي الناضج، وكتاب علومها الاصيلة والمستحدثة، واداة اتصالها بقديم التراث الإنساني كما كانت اداة اتصال العرب بالحضارة الإسلامية التي استوعبت ثمار العلوم والمعارف من اقدم العصور إلى فجر عصر النهضة والاحياء، ولو صح ما يقال عن جمودها لاضمحلت وماتت بحكم قوانين الحياة وسنن الاجتماع اللغوي.
ان العربية قد صمدت في وجه كافة الغزوات الموجهة اليها، والسر في صمودها هو القرآن الكريم الذي التحمت به التحاماً وثيقاً منذ نزوله بها. وقد احدث القرآن معجزة اخرى تضاف لسلسلة معاجزه وهي ان العربي يستطيع ان يقرأ تراث القرون الماضية كله دون حاجة إلى قاموس، وان واحداً من هؤلاء القدامى لو انّه بعث حياً اليوم لاستطاع ان يتحدث مع الناس دون صعوبة. واشار الباحثون إلى ما تتميز به اللغة العربية من ثبات عجيب لا مثيل له، إلى درجة ان احد المستشرقين الالمان دعا الغرب إلى استخدام اللغة العربية لتدوين الآثار الفكرية التي تبنى عليها الحضارة وتستحق الخلود. ذلك ان المواطنين في أية لغة من اللغات الحاضرة لا يتجاوز فهمهم اكثر من انتاج مائتي عام من التراث، اما ما عدا ذلك فانهم لا يستطيعون دراسته إلاّ بواسطة قواميس، وان اقل مقارنة بين شكسبير مثلاً في الادب الاوروبي وبين المتنبي في الادب العربي تكشف عن هذا الفرق البعيد، حيث ان العربي يقرأ المتنبي اليوم ويفهمه، بينما الانجليزي لا يقرأ شكسبير إلاّ من خلال دراسات تنقل افكاره إلى لغة القرنين الاخيرين.
واذا كان القرآن ـ كما اسلفت سابقا ـ هو الذي قوّى عناصر الصمود في العربية وحفظها من الموت والاندثار، إلاّ ان هذا لا يعني انها لم تكن في ذاتها صالحة للبقاء، بل ان تحمل أيضاً عناصر القوة والديمومة والرقي، ولم تجد طوال حياتها ادنى صعوبة في اكتساب اللغات الاجنبية التي فرضت على المجال الرسمي. وفي مصر حيث استغرقت عهود السيطرة الاجنبية اكثر من الف ومائة عام قبل الفتح الاسلامي، لم تجد الجهود التي بذلها الغزاة على ذلك المدى الطويل لفرض لغاتهم وثقافاتهم عليها. ولم تصمد اليونانية التي كانت قد استأثرت بالمجال الثقافي والرسمي لثلاثة قرون قبل الميلاد(333: 30 ق. م) وثلاثة اخرى بعده(284: 616م) امام اللغة العربية.
ان العربية الفصحى تحتل بحسب صفاتها الذاتية واستناداً إلى المقارنات الموضوعية بينها وبين سائر اللغات ارقى درجة من درجات الكمال التي تحتلها اللغات المنتشرة في العالم، وتحتل المرتبة الاولى بلا منازع بين اللغات الاشتقاقية التي تمثل ارقى مجموعة لغوية في عالم اليوم. ان العربية تتميز بسعتها وكثرة مفرداتها، فبينما نجد عدد كلمات اللغة الفرنسية حوالي 25 الف، وعدد كلمات الانجليزية حوالي 100 الف نجد عدد مواد العربية الفصحى نحوا من 400 الف مادة. ويضم لسان العرب 80 الف مادة لا كلمة. ويشير الخليل بن احمد إلى ان عدد ابنية كلام العرب يبلغ 12 مليون و305 الف و412 كلمة. وفيها ثراء في الاسماء المضاعفة، فهناك 170 اسماء للماء و70 اسماء للمطر. وللمادة الواحدة في العربية مصدر للدلالة على المعنى مجرداً من الزمن ولها صيغ تدل على الفاعل والمفعول به، والزمان، والمكان، والتفضيل، والتعجب والتمييز والتصغير وهكذا. وليس في اية لغة من لغات العالم هذا الانطلاق اللغوي المترابط في ميدان الاشتقاق اللفظي المناسب لترابط المعاني فكرياً، كما ان معظم مشتقاتهم تقبل الصرف إلاّ فيما ندر منها. وهذا يجعلها في طرح اهلها اكثر من غيرها، ويجعلها أيضاً اكثر تلبية لحاجة المتكلمين.
وهذّبت العربية صيغها بالاعلال والابدال والاقلاب والادغام والحذف، واستقرت على ضوابط للتأنيث والتذكير وللافراد والتثنية والجمع. وميزت المعلوم من المجهول، والمعرفة من النكرة. وتصرّفت في المادة اللغوية بصيغ مطردة لكل منها دلالتها المحددة، وتصرفت في الفعل لضبط الزمن تحديداً للماضي المطلق والقريب والحاضر والمستقبل القريب والبعيد والمطلق. واستخدمت الضمائر واسماء الاشارة والاسماء الموصولة بدقة واحكام للمتكلم والمخاطب والغائب مفرداً ومثنى وجمعاً. وتوسعت في الدلالات المجازية لكي تنمو وتبلي حاجـات الحياة فنقلت الالفاظ من الاستعمال الحسي إلى الاستعمال المجازي والاصطـلاحي.
ان العربية لا ترقى اليها اي لغة في ثرائها وكثرة مفرداتها المترادفة. فأية لغة في العالم تتحدث عن السحاب بهذا الشكل.
«اول ما ينشأ السحاب فهو النش، فاذا انسحب في الهواء فهو السحاب فاذا تغيرت له السماء فهو الغمام، فاذا كان غيم ينشأ في عرض السماء لا تبصره ولكن تسمع رعده من بعد فهو العقر، فاذا اظلّ فهو العارض، فاذا كان ذا رعد وبرق فهو القرّاض، فاذا كان..».
وأين انت عن اللغة التي تسمى جمال الوجه «صباحة» وجمال البشرة «وضاءة» وجمال العينين «حلاوة» وجمال الفم «ملاحة»، وجمال اللسان «ظرف» وجمال القد «رشاقة» وجمال الشمائل «لباقة»؟
وأية لغة عظيمة هذه التي تميّز بين الالوان المتقاربة:
الصُّهبة: حُمرة تضرب إلى البياض.
الكُهبة: صُفرة تضرب إلى حُمرة.
القُهبة: سواد يضرب إلى خُضرة.
الدُّكنة: بين الحمرة والسواد.
الكُمدة: لون يبقى اثره ويزول صفاؤه.
الشُربة: بياض مُشرب بحُمرة.
الشُهبة: بياض مشرب بأدنى سواد.
العُفرة: بياض تعلوه حُمرة.
الصُّحرة: غُبرة فيها حُمرة.
الدُّبسة: بين السواد والحُمرة.
القُمرة: بين البياض والغُبرة.
الطُّلسة: بين السواد والغُبرة. ( أخذت من كتاب فقه اللغة صفحة 276)
وما يزال الكثير من اسرار اللغة العربية خافياً حتى على المتبحرين بها. وستظل العربية دائماً وابداً قوية صامدة وتلبي الحاجة، وتنشر رسالة القرآن في ربوع الارض، فالقرآن هو الضامن لخلود العربية ووحدة وثقافة الاُمّة الإسلامية وفكرها.
تعليق