النقل من علوم ومعارف الآخرين .. د. سليمان إبراهيم العسكري
الترجمة والنقل من علوم الحضارات الأجنبية المختلفة إلى اللغة العربية, عبر إنشاء مؤسسات حكومية، أو خاصة، مختصة بالترجمة، وإصدار العديد من الكتب المترجمة في مجال الفكر والسياسة والعلوم الحديثة والآداب، هي ظاهرة تستحق الإشادة والرعاية والدعم، وتعكس نوعا من الوعي بضرورة اللحاق بما ينتج في العالم من أفكار وإبداع وعلوم، وغير ذلك، لكن الظاهرة، أيضاً، وعبر ما أنتج أخيراً من ترجمات تحتاج إلى التأمل، لرصد العديد من المعوقات والسلبيات التي قد تعطل نتائجها بشكل أو بآخر، أو تؤخر أهدافها على أقل تقدير.
مازالت هناك ملاحظة عامة تتعلق بمستوى الترجمة، والمترجمين، بسبب نقص الوعي في العالم العربي، لسنوات طويلة، بأهمية الترجمة كوسيلة من أهم وسائل التعرف على الثقافات الأخرى واللحاق بالإنتاج المعرفي للعالم.
الدولة الإسلامية في بداية عصر الترجمة ركزت عبر أقطاب العلم على ترجمة الفكر ممثلا في المنجز الإغريقي في الفكر والفلسفة وعلى العلوم والطب والزراعة والهندسة والمعمار لتحقق نهضتها واليوم نمر بالمرحلة نفسها تقريباً
إن الجهات الثقافية العربية الحكومية والمؤسسية مطالبة بتنسيق جهودها تلافياً لهدر المال أو الكفاءات وتلافي الازدواجية وإعادة ترجمة كتاب واحد من أكثر من جهة وهو ما يتطلب شبكة اتصال واسعة بين تلك الجهات
بداية ينبغي التنويه إلى بعض نماذج أبرز المؤسسات العربية المهتمة بالترجمة في العالم العربي، وبينها - على سبيل المثال - مشروع كلمة في دبي التابع لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، ومركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، والمركز القومي للترجمة، في مصر ومشروعه الكبير «سلسلة المشروع القومي للترجمة» والذي أقام في الشهر الماضي أوسع مؤتمر عالمي للترجمة يقام في القاهرة، حشد له أهم المترجمين والمفكرين من العالم العربي، ونخبة ممتازة من المستشرقين المختصين بالآداب والفنون العربية، ومركز مؤسسة الوحدة العربية في بيروت، وغيرها.
وهنا في الكويت سنجد أن مؤسسة البابطين قد أسست مشروعا للترجمة، بالإضافة إلى السلاسل والدوريات التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مثل عالم المعرفة، وإبداعات عالمية، ومجلة الثقافة العالمية.
بالإضافة إلى إصدارات دور النشر العربية وعدد من مراكز ومؤسسات الترجمة إلى العربية في الدول العربية والمهجر.
إن هذا النشاط الذي بدأ يتكثف يوما بعد آخر هو جهد ممتاز، لابد من تشجيعه والتنويه إليه، بما يؤديه من دور مهم في الدلالة إلى رغبة الدول والمؤسسات الثقافية العربية المختلفة في استعادة المنطقة العربية لنهضتها واللحاق بركب الحضارة البشرية المعاصرة التي انقطعنا عن مواكبتها منذ مئات السنين، إلا أن هذا الجهد يواجه الكثير من المشكلات والعقبات والمقاومة، بعضها فكري وآخر تمويلي، وبعضها بشري، والبعض منها إداري وتسويقي.
عقبات ومشكلات
فبالرغم من نشاط الترجمة الكبير الذي نستطيع جميعاً أن نشعر بحيويته، لكن هذا الجهد، مقارنة لما ينبغي أن يكون عليه، يؤكد أن المؤسسات الثقافية العربية لاتزال تحتاج إلى الكثير من مصادر التمويل، وإلى المزيد من المخصصات المالية، لأن مشروعات الترجمة تتطلب تكاليف عدة، تبدأ من حقوق النشر لدور النشر الأجنبية التي سوف يتم ترجمة كتبها في عصر حقوق الملكية الفكرية، كما تتطلب ميزانيات خاصة بالمترجمين ثم الطباعة والنشر والتسويق.
لذلك فإن السلطات العربية الرسمية عليها أن تأخذ بعين الاعتبار وضع ميزانيات تختص فقط بأعمال الترجمة، بالإضافة إلى جهات الدعم وصناديق التنمية والاستثمار الثقافي التي يمكن أن تمنح جزءا من ميزانياتها لمشروعات الترجمة المؤسسية والجادة.
من جهة أخرى، مازالت هناك ملاحظة عامة تتعلق بمستوى الترجمة، والمترجمين، بسبب نقص الوعي في العالم العربي، لسنوات طويلة، بأهمية الترجمة كوسيلة من أهم وسائل التعرف على الثقافات الأخرى واللحاق بالإنتاج المعرفي للعالم.
لذا يجب على المؤسسات الثقافية المختلفة أن ترصد جزءا من ميزانياتها لتدريب المترجمين، الجيدين، على أن يتم نوع من التعاون بين وزارات الثقافة ووزارات التعليم لرفع مستوى تعليم اللغات الأجنبية في كليات الآداب والتربية والترجمة، وتشجيع الدارسين على تعلم اللغات المختلفة وبحث سبل التعاون المشترك بين تلك الجهات التعليمية ومؤسسات التعليم الأكاديمية في الدول التي يتم تعلم لغاتها للارتقاء بالمستوى العلمي للدارسين وتحقيق طفرة نوعية في مستوى المترجمين من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، مع ضرورة الاهتمام بالتمكن من زمام اللغة العربية وإتقان أسرارها لمن يدخل في هذا الحقل الذي يتطلب الكثير من المعرفة في فنون اللغات والمعارف في كل الفروع.
فمن الأخطاء الشائعة اليوم ممن يقبلون على التعلم في المدارس والجامعات الأجنبية أن ينتمي الفرد منهم بشكل كامل للغة والثقافة التي يتعلمها على حساب لغتهم الأم، دون أن يعوا أنهم بذلك يفقدون العلاقة بثقافتهم ولغتهم التي هي جزء أساسي من هويتهم، وهو ما ينعكس على مستوى تعلم اللغة العربية في العالم العربي بشكل عام.
كما يجب على الكليات المتخصصة في تعليم اللغات أن تنشئ أقساما خاصة بالترجمة وفق أحدث برامج تعليم الترجمة في العالم، وأن تخصص لها الكفاءات الأكاديمية الخاصة لتعليم الترجمة والتدريب في هذا المجال.
تغيير نوعي للمترجم
إن التغيير النوعي لمستوى الترجمة يجب أن يستعيد ما ألفناه لدى رواد الترجمة العرب المعاصرين، من أمثال سامي الدروبي، منير البعلبكي، دريني خشبة، عبد الغفار مكاوي، عبد الرحمن بدوي، عفيف دمشقية وفؤاد زكريا، وغيرهم من المترجمين أصحاب الثقافة الرفيعة، والذين قدموا نماذج رفيعة المستوى للترجمة من لغات كانت حصيلة معرفة ومعايشة كاملة للثقافات التي يتم النقل عن لغاتها وليس مجرد معرفة نظرية بالمرادفات، إضافة للمعرفة الكاملة باللغة العربية وبالأساليب اللغوية التي تمكن المترجم من نقل الروح الأصلية للنص المترجم بأعلى درجة من الأمانة والكفاءة، فضلاً عن مستوى الثقافة الرفيع الذي كان سمة من سمات أي مترجم بارز.
ومن الملاحظات المهمة فيما يتعلق بمشروعات الترجمة التي تنجز اليوم على المستوى العربي عدم وجود أي إستراتيجية تتم بمقتضاها عملية الترجمة، لا من حيث النوع المعرفي الذي تتم الترجمة فيه ولا من حيث اللغات والثقافات المختلفة، أي أنه لا يتم تحديد أية أولويات بالنسبة لعملية الترجمة والموضوعات التي يتم اختيارها مما يؤدي إلى نوع من أنواع الترجمة التي تتسم بالعشوائية وليس بالتخطيط المسبق على المستوى الإستراتيجي.
ومن البديهي، في مثل هذه الظروف، أن تغيب جهود المتابعة الدقيقة، اللازمة لأي مشروع ترجمة مؤسسي، لكل ما يصدر في اللغات الأخرى، وتحديد أولوية ما يهمنا منها، مع العلم أننا، على سبيل المثال، في حاجة شديدة إلى ترجمة العلوم بالدرجة الأولى، وفي مقدمتها التكنولوجيا الحديثة وكل ما يتعلق بها بالإضافة إلى فروع العلوم والصحة والطب والزراعة، باعتبارها المعارف اللازمة لأي مجتمع يسعى للنهضة والتحديث ومواكبة العصر علميا.
ولنا في ذلك مثال ساطع مما أنجزته الدولة الإسلامية في بداية عصر الترجمة حين ركزت، عبر أقطاب العلم، على ترجمة الفكر ممثلا في المنجز الإغريقي في الفكر والفلسفة، وعلى العلوم والطب والزراعة والهندسة والمعمار، بوصفها الفروع الرئيسية التي احتاجت إليها الدولة الإسلامية في تلك المرحلة لتحقق نهضتها.
واليوم نحن نمر بنفس المرحلة، تقريبا، وبالتالي نحتاج إلى أن نتابع بدقة ما يصدر في العالم من معرفة في فروع العلوم المختلفة إذا أردنا أن نضع أنفسنا في موضع الراغبين في تحقيق النهضة.
شبكة اتصال
لذلك فإن الجهات الثقافية العربية الحكومية والمؤسسية مطالبة بتنسيق جهدها في أرجاء العالم العربي تلافياً لهدر المال أو الكفاءات، وحتى تؤدي هذه المؤسسات عملها على أكمل وجه، وتتلافى الازدواجية بإعادة ترجمة عمل واحد من أكثر من جهة بسبب عدم التنسيق. وهو ما يقتضي إيجاد شبكة اتصال عبر هذه المراكز تقوم بنوع من الاتصال والتنسيق اليومي فيما بينها، بحيث تحقق معاً منجزاً يمكن للشعوب العربية جميعاً أن تفخر به في وقت قياسي.
ولا شك أن القضية المتعلقة بتوفير كفاءات في الترجمة ترتبط على نحو كبير بقضية التمويل، لأن مثل هذه المؤسسات لكي تتمكن من توفير درجة رفيعة من الترجمة عبر اختيار الكفاءات وأصحاب المهارات المميّزة، يجب أن توفر لهم دخلا يناسب جهدهم الذي يقدر بالشكل اللائق في كل المجتمعات، التي تعي أهمية عمل الترجمة، وبحيث تضمن عدم تشتت جهدهم وتفرغهم الكامل لمشروعات الترجمة التي يعكفون عليها، دون أن يضطروا لتشتيت جهودهم بين أكثر من جهة توفيرا للدخل المناسب.
فمن الملاحظات المهمة هنا أن الكتاب الذي تتم ترجمته بشكل سيئ، يسيء للمؤلف وللمؤسسة التي تقوم بالترجمة، ويسيء إلى سمعة المشروع كاملا، بما يعني أن عدم نشر ترجمة سيئة أفضل كثيرا من أن تنشر بمساوئها وعيوبها.
إن الترجمات السيئة تسببت في الكثير من السلبيات الثقافية وبينها نفور القراء من كاتب بعينه أو علم من العلوم أو المعارف، بينما المشكلة كانت تتمثل في أزمة وسوء مستوى الترجمة لا النص الأصلي.
وفيما يتعلق بالترجمة العلمية، على نحو خاص، فهذه تحتاج إلى تأهيل كفاءات يمكنها أن تحصل على برامج تعليمية وأكاديمية إضافية متخصصة في المجالات العلمية المختلفة، وأن تحصل على نوع من الدراسة المعرفية بنوع التخصص المبتغى الترجمة فيه ضمانا لتحقيق أعلى درجة من الكفاءة، خصوصا أننا نعاني من ندرة ومحدودية أسماء المترجمين العرب القادرين على نقل العلوم، وبحيث نتمكن من إيجاد جيل جديد من المترجمين العلميين الأكفاء الذين يمكنهم مواصلة مشروعات المترجمين الرواد من المهتمين بالعلوم.
وهذه مشكلة لا تتعلق بالعلوم البحتة فقط بل تمتد للعديد من الفروع العلمية والفكرية الأخرى مثل الفلسفة وعلم النفس وغيرها، وهي واحدة من الإشكالات البارزة في مجال الترجمة إلى العربية من اللغات الأجنبية الأخرى.
أخيرا فإن واحدة من أبرز المشكلات التي تواجه مشروعات الترجمة الراهنة أنها في أغلبيتها لا تتمتع بالقدرات التسويقية التي تمنح ما تنتجه من كتب مترجمة إلى القراء في أرجاء العالم العربي المستهدف الرئيسي لمثل هذه المشروعات المعرفية. فلا بد من تمكين القاريء العربي، أينما كان، من هذه الكتب المترجمة، والأمر لا يتعلق فقط بسوء توزيع الكتب وعدم وجود شبكة توزيع ترتبط بمنافذ تسويق الكتاب في العالم العربي، بل تتعدى ذلك لقلة عدد المطبوع من تلك الكتب، وهو ما يجعل جهد تلك المؤسسات في الحقيقة قاصرا بشكل كبير. إذاً ما جدوى تحقيق كل شروط إنتاج كتاب مترجم جيد، إذا لم يتمكن من الوصول إلى القاريء في النهاية لمحدودية النسخ أو لسوء التوزيع. وهناك بالفعل مشروعات عريقة للترجمة في أقطار عربية عدة لم تحقق الهدف من المشروع بالرغم من أهمية ما أصدرته بسبب مشكلات التسويق والتوزيع.
إن المشروعات الثقافية اليوم تحتاج إلى أفكار جديدة في إدارات التسويق والترويج تتناسب مع الزيادة المطردة لعدد السكان العرب، وعدد الشباب الذين ينبغي استدراجهم للمعرفة والقراءة بكل السبل الممكنة، والكتاب المترجم واحد من الكتب ذات الأولوية في هذا المضمار، لذلك فإنه من الأهمية بمكان إيجاد لون من ألوان التنسيق بين تلك المراكز والمؤسسات المختلفة القائمة على مشروعات الترجمة، بحيث يمكنها أن تقيم شبكة توزيع بين كافة الأقطار العربية، وبحيث تتضافر الإمكانات المالية والكوادر البشرية المختصة في التسويق مع منافذ بيع الكتاب في العالم العربي لتحقيق شبكة توزيع تضمن استمرار نشاط الترجمة على الوجه المأمول منها.
إن مشروعات الترجمة، تعني في جوهرها، مساهمة في نقل المجتمعات العربية من عالم التخلف والخرافة وضيق الأفق والجهل إلى عوالم أرحب تتسع على آفاق المعارف الإنسانية الأخرى، ترى وتتطلع على ما ينتجه العالم من أفكار ومعارف، بحيث تتخلص من عزلتها الفكرية، ويمكنها أن تشعر بأنها جزء من عالم أكبر وأكثر رحابة هو المجتمع الإنساني العالمي، خاصة ونحن اليوم نشهد ثورة هائلة في مجال الاتصال، عبر شبكات الاتصال الافتراضية والقنوات المرئية الفضائية التي تراهن يوما بعد آخر على أن تجعل من العالم قرية صغيرة تحاول أن تقرب بين أفكارها وقيمها ومعارفها.
كما أنها تذكرنا بأن كل المراحل التاريخية التي شهدت تفوقا حضاريا من قبل أحد المجتمعات، وبينها فترات صعود الدولة الإسلامية، كانت قد اعتمدت في صناعة تلك الحضارة على المعرفة سواء بإنتاجها أو بنقلها عن الآخرين للاستفادة من منجزها وتطويره لما يناسب طموحاتها النهضوية.
وهكذا ليست الترجمة مجرد عملية مجردة معزولة عن عوامل أخرى بقدر ما أنها تمثل عملا دءوبا لتحقيق العديد من شروط نهضة المجتمعات العربية، التي يمكن لها أن تتحقق على المدى البعيد، من خلال انتشار المعارف والأفكار العلمية والفلسفية والمنجزات الأدبية التي تنجزها الحضارات الأخرى المعاصرة يوما بعد آخر، مما يجعل منها قضية بالغة الأهمية لما لها من تأثير في فهم الكثير مما يحتاج إليه الوعي العربي اليوم عن المفاهيم الحقيقية لفكرة الديمقراطية، وحقوق الإنسان وحقوق المعرفة والتعبير عن الرأي، وغير ذلك من عناصر تعد أحد أبرز ما يمكن أن يحظى به مجتمع يسعى للنهضة التي لا خيار آخر نمتلكه كعرب إذا لم نتمكن من تحقيقها.
ونأمل أن نصل إلى تحقيق تلك النهضة بشروطها العصرية الحقيقية والجوهرية، لابمجرد استعارة منتجاتها المادية وأشكالها الخارجية وممارستها داخليا على نحو يتناقض مع فكرة النهضة وينفيها، بل ويضربها في العمق أحيانا.
سليمان إبراهيم العسكري
الترجمة والنقل من علوم الحضارات الأجنبية المختلفة إلى اللغة العربية, عبر إنشاء مؤسسات حكومية، أو خاصة، مختصة بالترجمة، وإصدار العديد من الكتب المترجمة في مجال الفكر والسياسة والعلوم الحديثة والآداب، هي ظاهرة تستحق الإشادة والرعاية والدعم، وتعكس نوعا من الوعي بضرورة اللحاق بما ينتج في العالم من أفكار وإبداع وعلوم، وغير ذلك، لكن الظاهرة، أيضاً، وعبر ما أنتج أخيراً من ترجمات تحتاج إلى التأمل، لرصد العديد من المعوقات والسلبيات التي قد تعطل نتائجها بشكل أو بآخر، أو تؤخر أهدافها على أقل تقدير.
مازالت هناك ملاحظة عامة تتعلق بمستوى الترجمة، والمترجمين، بسبب نقص الوعي في العالم العربي، لسنوات طويلة، بأهمية الترجمة كوسيلة من أهم وسائل التعرف على الثقافات الأخرى واللحاق بالإنتاج المعرفي للعالم.
الدولة الإسلامية في بداية عصر الترجمة ركزت عبر أقطاب العلم على ترجمة الفكر ممثلا في المنجز الإغريقي في الفكر والفلسفة وعلى العلوم والطب والزراعة والهندسة والمعمار لتحقق نهضتها واليوم نمر بالمرحلة نفسها تقريباً
إن الجهات الثقافية العربية الحكومية والمؤسسية مطالبة بتنسيق جهودها تلافياً لهدر المال أو الكفاءات وتلافي الازدواجية وإعادة ترجمة كتاب واحد من أكثر من جهة وهو ما يتطلب شبكة اتصال واسعة بين تلك الجهات
بداية ينبغي التنويه إلى بعض نماذج أبرز المؤسسات العربية المهتمة بالترجمة في العالم العربي، وبينها - على سبيل المثال - مشروع كلمة في دبي التابع لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، ومركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، والمركز القومي للترجمة، في مصر ومشروعه الكبير «سلسلة المشروع القومي للترجمة» والذي أقام في الشهر الماضي أوسع مؤتمر عالمي للترجمة يقام في القاهرة، حشد له أهم المترجمين والمفكرين من العالم العربي، ونخبة ممتازة من المستشرقين المختصين بالآداب والفنون العربية، ومركز مؤسسة الوحدة العربية في بيروت، وغيرها.
وهنا في الكويت سنجد أن مؤسسة البابطين قد أسست مشروعا للترجمة، بالإضافة إلى السلاسل والدوريات التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مثل عالم المعرفة، وإبداعات عالمية، ومجلة الثقافة العالمية.
بالإضافة إلى إصدارات دور النشر العربية وعدد من مراكز ومؤسسات الترجمة إلى العربية في الدول العربية والمهجر.
إن هذا النشاط الذي بدأ يتكثف يوما بعد آخر هو جهد ممتاز، لابد من تشجيعه والتنويه إليه، بما يؤديه من دور مهم في الدلالة إلى رغبة الدول والمؤسسات الثقافية العربية المختلفة في استعادة المنطقة العربية لنهضتها واللحاق بركب الحضارة البشرية المعاصرة التي انقطعنا عن مواكبتها منذ مئات السنين، إلا أن هذا الجهد يواجه الكثير من المشكلات والعقبات والمقاومة، بعضها فكري وآخر تمويلي، وبعضها بشري، والبعض منها إداري وتسويقي.
عقبات ومشكلات
فبالرغم من نشاط الترجمة الكبير الذي نستطيع جميعاً أن نشعر بحيويته، لكن هذا الجهد، مقارنة لما ينبغي أن يكون عليه، يؤكد أن المؤسسات الثقافية العربية لاتزال تحتاج إلى الكثير من مصادر التمويل، وإلى المزيد من المخصصات المالية، لأن مشروعات الترجمة تتطلب تكاليف عدة، تبدأ من حقوق النشر لدور النشر الأجنبية التي سوف يتم ترجمة كتبها في عصر حقوق الملكية الفكرية، كما تتطلب ميزانيات خاصة بالمترجمين ثم الطباعة والنشر والتسويق.
لذلك فإن السلطات العربية الرسمية عليها أن تأخذ بعين الاعتبار وضع ميزانيات تختص فقط بأعمال الترجمة، بالإضافة إلى جهات الدعم وصناديق التنمية والاستثمار الثقافي التي يمكن أن تمنح جزءا من ميزانياتها لمشروعات الترجمة المؤسسية والجادة.
من جهة أخرى، مازالت هناك ملاحظة عامة تتعلق بمستوى الترجمة، والمترجمين، بسبب نقص الوعي في العالم العربي، لسنوات طويلة، بأهمية الترجمة كوسيلة من أهم وسائل التعرف على الثقافات الأخرى واللحاق بالإنتاج المعرفي للعالم.
لذا يجب على المؤسسات الثقافية المختلفة أن ترصد جزءا من ميزانياتها لتدريب المترجمين، الجيدين، على أن يتم نوع من التعاون بين وزارات الثقافة ووزارات التعليم لرفع مستوى تعليم اللغات الأجنبية في كليات الآداب والتربية والترجمة، وتشجيع الدارسين على تعلم اللغات المختلفة وبحث سبل التعاون المشترك بين تلك الجهات التعليمية ومؤسسات التعليم الأكاديمية في الدول التي يتم تعلم لغاتها للارتقاء بالمستوى العلمي للدارسين وتحقيق طفرة نوعية في مستوى المترجمين من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، مع ضرورة الاهتمام بالتمكن من زمام اللغة العربية وإتقان أسرارها لمن يدخل في هذا الحقل الذي يتطلب الكثير من المعرفة في فنون اللغات والمعارف في كل الفروع.
فمن الأخطاء الشائعة اليوم ممن يقبلون على التعلم في المدارس والجامعات الأجنبية أن ينتمي الفرد منهم بشكل كامل للغة والثقافة التي يتعلمها على حساب لغتهم الأم، دون أن يعوا أنهم بذلك يفقدون العلاقة بثقافتهم ولغتهم التي هي جزء أساسي من هويتهم، وهو ما ينعكس على مستوى تعلم اللغة العربية في العالم العربي بشكل عام.
كما يجب على الكليات المتخصصة في تعليم اللغات أن تنشئ أقساما خاصة بالترجمة وفق أحدث برامج تعليم الترجمة في العالم، وأن تخصص لها الكفاءات الأكاديمية الخاصة لتعليم الترجمة والتدريب في هذا المجال.
تغيير نوعي للمترجم
إن التغيير النوعي لمستوى الترجمة يجب أن يستعيد ما ألفناه لدى رواد الترجمة العرب المعاصرين، من أمثال سامي الدروبي، منير البعلبكي، دريني خشبة، عبد الغفار مكاوي، عبد الرحمن بدوي، عفيف دمشقية وفؤاد زكريا، وغيرهم من المترجمين أصحاب الثقافة الرفيعة، والذين قدموا نماذج رفيعة المستوى للترجمة من لغات كانت حصيلة معرفة ومعايشة كاملة للثقافات التي يتم النقل عن لغاتها وليس مجرد معرفة نظرية بالمرادفات، إضافة للمعرفة الكاملة باللغة العربية وبالأساليب اللغوية التي تمكن المترجم من نقل الروح الأصلية للنص المترجم بأعلى درجة من الأمانة والكفاءة، فضلاً عن مستوى الثقافة الرفيع الذي كان سمة من سمات أي مترجم بارز.
ومن الملاحظات المهمة فيما يتعلق بمشروعات الترجمة التي تنجز اليوم على المستوى العربي عدم وجود أي إستراتيجية تتم بمقتضاها عملية الترجمة، لا من حيث النوع المعرفي الذي تتم الترجمة فيه ولا من حيث اللغات والثقافات المختلفة، أي أنه لا يتم تحديد أية أولويات بالنسبة لعملية الترجمة والموضوعات التي يتم اختيارها مما يؤدي إلى نوع من أنواع الترجمة التي تتسم بالعشوائية وليس بالتخطيط المسبق على المستوى الإستراتيجي.
ومن البديهي، في مثل هذه الظروف، أن تغيب جهود المتابعة الدقيقة، اللازمة لأي مشروع ترجمة مؤسسي، لكل ما يصدر في اللغات الأخرى، وتحديد أولوية ما يهمنا منها، مع العلم أننا، على سبيل المثال، في حاجة شديدة إلى ترجمة العلوم بالدرجة الأولى، وفي مقدمتها التكنولوجيا الحديثة وكل ما يتعلق بها بالإضافة إلى فروع العلوم والصحة والطب والزراعة، باعتبارها المعارف اللازمة لأي مجتمع يسعى للنهضة والتحديث ومواكبة العصر علميا.
ولنا في ذلك مثال ساطع مما أنجزته الدولة الإسلامية في بداية عصر الترجمة حين ركزت، عبر أقطاب العلم، على ترجمة الفكر ممثلا في المنجز الإغريقي في الفكر والفلسفة، وعلى العلوم والطب والزراعة والهندسة والمعمار، بوصفها الفروع الرئيسية التي احتاجت إليها الدولة الإسلامية في تلك المرحلة لتحقق نهضتها.
واليوم نحن نمر بنفس المرحلة، تقريبا، وبالتالي نحتاج إلى أن نتابع بدقة ما يصدر في العالم من معرفة في فروع العلوم المختلفة إذا أردنا أن نضع أنفسنا في موضع الراغبين في تحقيق النهضة.
شبكة اتصال
لذلك فإن الجهات الثقافية العربية الحكومية والمؤسسية مطالبة بتنسيق جهدها في أرجاء العالم العربي تلافياً لهدر المال أو الكفاءات، وحتى تؤدي هذه المؤسسات عملها على أكمل وجه، وتتلافى الازدواجية بإعادة ترجمة عمل واحد من أكثر من جهة بسبب عدم التنسيق. وهو ما يقتضي إيجاد شبكة اتصال عبر هذه المراكز تقوم بنوع من الاتصال والتنسيق اليومي فيما بينها، بحيث تحقق معاً منجزاً يمكن للشعوب العربية جميعاً أن تفخر به في وقت قياسي.
ولا شك أن القضية المتعلقة بتوفير كفاءات في الترجمة ترتبط على نحو كبير بقضية التمويل، لأن مثل هذه المؤسسات لكي تتمكن من توفير درجة رفيعة من الترجمة عبر اختيار الكفاءات وأصحاب المهارات المميّزة، يجب أن توفر لهم دخلا يناسب جهدهم الذي يقدر بالشكل اللائق في كل المجتمعات، التي تعي أهمية عمل الترجمة، وبحيث تضمن عدم تشتت جهدهم وتفرغهم الكامل لمشروعات الترجمة التي يعكفون عليها، دون أن يضطروا لتشتيت جهودهم بين أكثر من جهة توفيرا للدخل المناسب.
فمن الملاحظات المهمة هنا أن الكتاب الذي تتم ترجمته بشكل سيئ، يسيء للمؤلف وللمؤسسة التي تقوم بالترجمة، ويسيء إلى سمعة المشروع كاملا، بما يعني أن عدم نشر ترجمة سيئة أفضل كثيرا من أن تنشر بمساوئها وعيوبها.
إن الترجمات السيئة تسببت في الكثير من السلبيات الثقافية وبينها نفور القراء من كاتب بعينه أو علم من العلوم أو المعارف، بينما المشكلة كانت تتمثل في أزمة وسوء مستوى الترجمة لا النص الأصلي.
وفيما يتعلق بالترجمة العلمية، على نحو خاص، فهذه تحتاج إلى تأهيل كفاءات يمكنها أن تحصل على برامج تعليمية وأكاديمية إضافية متخصصة في المجالات العلمية المختلفة، وأن تحصل على نوع من الدراسة المعرفية بنوع التخصص المبتغى الترجمة فيه ضمانا لتحقيق أعلى درجة من الكفاءة، خصوصا أننا نعاني من ندرة ومحدودية أسماء المترجمين العرب القادرين على نقل العلوم، وبحيث نتمكن من إيجاد جيل جديد من المترجمين العلميين الأكفاء الذين يمكنهم مواصلة مشروعات المترجمين الرواد من المهتمين بالعلوم.
وهذه مشكلة لا تتعلق بالعلوم البحتة فقط بل تمتد للعديد من الفروع العلمية والفكرية الأخرى مثل الفلسفة وعلم النفس وغيرها، وهي واحدة من الإشكالات البارزة في مجال الترجمة إلى العربية من اللغات الأجنبية الأخرى.
أخيرا فإن واحدة من أبرز المشكلات التي تواجه مشروعات الترجمة الراهنة أنها في أغلبيتها لا تتمتع بالقدرات التسويقية التي تمنح ما تنتجه من كتب مترجمة إلى القراء في أرجاء العالم العربي المستهدف الرئيسي لمثل هذه المشروعات المعرفية. فلا بد من تمكين القاريء العربي، أينما كان، من هذه الكتب المترجمة، والأمر لا يتعلق فقط بسوء توزيع الكتب وعدم وجود شبكة توزيع ترتبط بمنافذ تسويق الكتاب في العالم العربي، بل تتعدى ذلك لقلة عدد المطبوع من تلك الكتب، وهو ما يجعل جهد تلك المؤسسات في الحقيقة قاصرا بشكل كبير. إذاً ما جدوى تحقيق كل شروط إنتاج كتاب مترجم جيد، إذا لم يتمكن من الوصول إلى القاريء في النهاية لمحدودية النسخ أو لسوء التوزيع. وهناك بالفعل مشروعات عريقة للترجمة في أقطار عربية عدة لم تحقق الهدف من المشروع بالرغم من أهمية ما أصدرته بسبب مشكلات التسويق والتوزيع.
إن المشروعات الثقافية اليوم تحتاج إلى أفكار جديدة في إدارات التسويق والترويج تتناسب مع الزيادة المطردة لعدد السكان العرب، وعدد الشباب الذين ينبغي استدراجهم للمعرفة والقراءة بكل السبل الممكنة، والكتاب المترجم واحد من الكتب ذات الأولوية في هذا المضمار، لذلك فإنه من الأهمية بمكان إيجاد لون من ألوان التنسيق بين تلك المراكز والمؤسسات المختلفة القائمة على مشروعات الترجمة، بحيث يمكنها أن تقيم شبكة توزيع بين كافة الأقطار العربية، وبحيث تتضافر الإمكانات المالية والكوادر البشرية المختصة في التسويق مع منافذ بيع الكتاب في العالم العربي لتحقيق شبكة توزيع تضمن استمرار نشاط الترجمة على الوجه المأمول منها.
إن مشروعات الترجمة، تعني في جوهرها، مساهمة في نقل المجتمعات العربية من عالم التخلف والخرافة وضيق الأفق والجهل إلى عوالم أرحب تتسع على آفاق المعارف الإنسانية الأخرى، ترى وتتطلع على ما ينتجه العالم من أفكار ومعارف، بحيث تتخلص من عزلتها الفكرية، ويمكنها أن تشعر بأنها جزء من عالم أكبر وأكثر رحابة هو المجتمع الإنساني العالمي، خاصة ونحن اليوم نشهد ثورة هائلة في مجال الاتصال، عبر شبكات الاتصال الافتراضية والقنوات المرئية الفضائية التي تراهن يوما بعد آخر على أن تجعل من العالم قرية صغيرة تحاول أن تقرب بين أفكارها وقيمها ومعارفها.
كما أنها تذكرنا بأن كل المراحل التاريخية التي شهدت تفوقا حضاريا من قبل أحد المجتمعات، وبينها فترات صعود الدولة الإسلامية، كانت قد اعتمدت في صناعة تلك الحضارة على المعرفة سواء بإنتاجها أو بنقلها عن الآخرين للاستفادة من منجزها وتطويره لما يناسب طموحاتها النهضوية.
وهكذا ليست الترجمة مجرد عملية مجردة معزولة عن عوامل أخرى بقدر ما أنها تمثل عملا دءوبا لتحقيق العديد من شروط نهضة المجتمعات العربية، التي يمكن لها أن تتحقق على المدى البعيد، من خلال انتشار المعارف والأفكار العلمية والفلسفية والمنجزات الأدبية التي تنجزها الحضارات الأخرى المعاصرة يوما بعد آخر، مما يجعل منها قضية بالغة الأهمية لما لها من تأثير في فهم الكثير مما يحتاج إليه الوعي العربي اليوم عن المفاهيم الحقيقية لفكرة الديمقراطية، وحقوق الإنسان وحقوق المعرفة والتعبير عن الرأي، وغير ذلك من عناصر تعد أحد أبرز ما يمكن أن يحظى به مجتمع يسعى للنهضة التي لا خيار آخر نمتلكه كعرب إذا لم نتمكن من تحقيقها.
ونأمل أن نصل إلى تحقيق تلك النهضة بشروطها العصرية الحقيقية والجوهرية، لابمجرد استعارة منتجاتها المادية وأشكالها الخارجية وممارستها داخليا على نحو يتناقض مع فكرة النهضة وينفيها، بل ويضربها في العمق أحيانا.
سليمان إبراهيم العسكري
تعليق