هل كانت قواعد التجويد تطبق على النصوص العربية قبل نزول القرآن الكريم ؟
نعم كانت قواعد التجويد تطبق على النصوص العربية قبل نزول القرآن الكريم ، وجوابي هذا يستند إلى دليلين رئيسين : نظري (عقلي) ، وعملي (تطبيقي) ، وإليك توضيح ذلك.
الجواب النظري (العقلي) : إن علم التجويد يستمد قواعده من النظام الصوتي للغة العربية ، ولعلك تعرف أن اللغة ، أية لغة كانت ، تُدْرَسُ قواعدها من خلال مستويات أربعة :
المستوى الصوتي (ويدرس أصوات اللغة مفردة ، وما يعتريها في التركيب من تغيير).
المستوى الصرفي (ويدرس أبينة الكلمات وأحوالها).
المستوى النحوي (ويدرس التركيب أو الجملة).
المستوى الدلالي (ويدرس المعنى المعجمي والسياقي).
وحين دَوَّنَ علماء اللغة العربية الأوائل قواعد اللغة العربية بمستوياتها الأربعة استندوا إلى كلام العرب في استخلاص تلك القواعد ، واستشهدوا بكلام العرب (شعره ونثره) عليها ، ومن ضمن تلك القواعد ما يتعلق بالنظام الصوتي للغة العربية ، فهم لم يأتوا بما يتعلق بالنظام الصوتي للغة العربية من عندهم ، فكما أنهم استندوا في تدوين قواعد النحو والصرف إلى كلام العرب ، فإنهم استندوا إلى كلام العرب في تدوين قواعد الصوت.
والجواب العملي (التطبيقي) : وأعني به بيان وجود قواعد التجويد في كلام العرب ، ويحتاج ذلك إلى تتبع كلام العرب قبل الإسلام شعره ونثره ، والوقوف على القواعد التي تحكم ذلك الكلام ، وإذا كان ذلك غير متيسر لنا في هذه العجالة ، فإن علماء العربية الأوائل قد كفونا مؤونة ذلك ، وقد يقول قائل : أَنَّى لنا معرفة كيف كان ينطق العرب في ذك التاريخ الموغل في القدم (قبل 1500سنة تقريباً) ، والجواب أننا لدينا كتابات قديمة تُبَيِّنُ لنا كيف كان العرب ينطقون ، وتوضح الظواهر الصوتية التي كانت في كلامهم.
وفي مقدمة تلك الكتابات : كتاب (العين) للخليل (ت 170هـ) ، وكتاب (الكتاب) لسيبويه (ت 180هـ) ، وإذا كانت هناك شكوك في صحة نسبة كتاب العين كاملاً للخليل ، فإنه لا شك في صحة نسبة الكتاب لسيبويه ، وسوف أعتمد عليه في تلخيص ما يدل على تطبيق قواعد التجويد في كلام العرب قبل الإسلام وبعده.
وتشمل موضوعات التجويد ثلاثة أمور رئيسة ، هي:
الأول : دراسة المخارج.
الثاني : دراسة الصفات.
الثالث : دراسة الأحكام (أو الظواهر الصوتية) الناشئة عن التركيب.
وسوف أتتبع دراسة الأحكام أو الظواهر الصوتية في كتاب سيبويه ، والوقوف عند تأكيده على أنها كانت معروفة في كلام العرب ، وأنه استند إلى كلامهم في الحديث عنها ، وأهم تلك الظواهر :
1. الهمز والتسهيل : عقد سيبويه باباً للهمزة ، ذَكَرَ مذاهب العرب في نطقها (التحقيق ، والتخفيف ، والبدل) ، والهمز والتسهيل ظاهرتان من ظواهر القراءات القرآنية ، وقد نص سيبويه على أن تسهيل الهمزة من خصائص لغة أهل الحجاز (غربي الجزيرة العربية) ، وأن تحقيق الهمزة من خصائص لغة أهل نجد(شرقي الجزيرة) ، (ينظر : الكتاب ج3 ص 541- 556 ، تحقيق عبد السلام هارون).
2. الإمالة والفتح : الإمالة أن تَنْحُوَ بالفتحة نحو الكسرة ، وبالألف نحو الياء ، والإمالة من خصائص لغة قبائل شرقي الجزيرة العربية (نجد) ، والفتح من خصائص لغة غربي الجزيرة العربية (الحجاز) ، والفتح والإمالة من ظواهر القراءات القرآنية ، وقد عقد سيبويه في الكتاب باباً لظاهرة الإمالة ، ذكر فيه ما تميله العرب من الكلمات ، وذكر أهل الإمالة ، وأهل الفتح ، وهو ما يؤكد أن وجود هذه الظاهرة في القراءات القرآنية هو امتداد لوجودها في كلام العرب. (ينظر : كتاب سيبويه ج4 ص 117- 135).
3. الإدغام : وهو أن تنطق بحرفين متجاورين ، الأول ساكن والثاني متحرك ، نطقاً واحداً ، والإدغام والإظهار من ظواهر القراءات القرآنية ، وعلم التجويد ، وعقد سيبويه للإدغام باباً طويلاً ختم به الكتاب (ج4 ص 431- 485) ، بَيَّنَ فيه مذاهب العرب في الإظهار والإدغام ، يمكنك مراجعة الباب والوقوف على تفاصليه ، وملاحظة أن ظواهر الإدغام في كلام العرب وفي القراءات القرآنية والتجويد تَحْكُمُهَا قواعد واحدة ، ويمكننا من خلال ذلك القول إن قواعد التجويد تنطبق على كلام العرب قبل الإسلام.
4. الإخفاء : وهو أحد أحكام النون الساكنة والتنوين ، وعَرَّفَهُ بعض العلماء بأنه حالة بين الإظهار والإدغام ، خالٍ من التشديد ، مع بقاء الغنة في الحرف الأول ، وقد ذكره سيبويه في الكتاب في باب الإدغام على نحو واضح ، في قوله (ج4 ص 454) : ” وتكون النون مع سائر حروف الفم حرفاً خفياً ، مخرجه من الخياشيم … وذلك قولك : مَنْ كان ، ومَنْ قال ، ومَنْ جاء”.
5. المدود : ذكر سيبويه حروف المد وأحوالها ، لكنه لم يُصَرِّحْ بمواضع المد الزائد ، وقد صَرَّحَ ابن جني بذلك في كتابه الخصائص بقوله في (باب مطل الحروف) :
” والحروف الممطولة هي الحروف الثلاثة اللينة المصوتة ، وهي الألف والياء والواو.
اعلم أن هذه الحروف أين وقعت وكيف وُجِدَتْ ، بعد أن تكون سواكن يتبعن بعضهن غير مدغمات ، ففيها امتداد ولين ، نحو : قام وسِيرَ به وحُوتٍ وكُوز وكتاب وسعيد وعجوز.
إلا أن الأماكن التي يطول فيها صوتها وتتمكن مدتها ثلاثة ، وهي : أن تقع بعدها – وهي سواكن توابع لما هو منهن وهو الحركات من جنسهن – الهمزةُ ، أو الحرفُ المشدد ، أو أن يوقف عليها عند التذكر...”. (راجع النص بطوله في كتاب الخصائص ج3 ص124-129 ، تحقيق محمد علي النجار).
* * * * *
وختاماً ، أخي الباحث ، ما تقدم مفاتيح لجواب سؤالك ، يمكن أن تبني عليها ، وإذا أردت مزيداً من المصادر التي تعزز ما تقدم من أفكار ، وتؤصل لظواهر التجويد والقراءات القرآنية في كلام العرب ، فيمكن الرجوع إلى طائفة واسعة من المصادر ، منها :
1. كتب النحو والصرف ، وفي مقدمتها : كتاب سيبويه ، والمقتضب للمبرد ، والأصول لابن السراج ، وسر صناعة الإعراب لابن جني ، وكتاب الخصائص له ، وشروح كتاب المفصل ، وشروح كتاب سيبويه ، وغيرها من كتب علماء العربية التي بحثت في الظواهر الصوتية.
2. المعجمات اللغوية ، مثل كتاب العين للخليل ، وتهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري ، ولسان العرب لابن منظور ، وغيرها.
3. الدراسات اللغوية التي قامت لدراسة اللهجات العربية القديمة ، والدراسات المتعلقة بالشعر الجاهلي.
4. مجموعة دراسات حديثة عن الظواهر الصوتية ، فهناك كتب خاصة بكل ظاهرة ، مثل : الهمز ، والإدغام ، والإمالة.
قد تكون الإشارة إلى هذه الكتب متعبة لك ، وقد لا تجد فيها إلا القليل الذي يتعلق بالإجابة على سؤالك ، لكن الموضوع يستحق بذل الجهد في الوصول إلى نتيجة مرضية حوله ، وإن كنت أتوقع ألا تجيب المصادر عن جميع التساؤلات المتعلقة بالموضوع على وجه التفصيل ، والله أعلم.
الدكتور غانم قدوري الحمد
نعم كانت قواعد التجويد تطبق على النصوص العربية قبل نزول القرآن الكريم ، وجوابي هذا يستند إلى دليلين رئيسين : نظري (عقلي) ، وعملي (تطبيقي) ، وإليك توضيح ذلك.
الجواب النظري (العقلي) : إن علم التجويد يستمد قواعده من النظام الصوتي للغة العربية ، ولعلك تعرف أن اللغة ، أية لغة كانت ، تُدْرَسُ قواعدها من خلال مستويات أربعة :
المستوى الصوتي (ويدرس أصوات اللغة مفردة ، وما يعتريها في التركيب من تغيير).
المستوى الصرفي (ويدرس أبينة الكلمات وأحوالها).
المستوى النحوي (ويدرس التركيب أو الجملة).
المستوى الدلالي (ويدرس المعنى المعجمي والسياقي).
وحين دَوَّنَ علماء اللغة العربية الأوائل قواعد اللغة العربية بمستوياتها الأربعة استندوا إلى كلام العرب في استخلاص تلك القواعد ، واستشهدوا بكلام العرب (شعره ونثره) عليها ، ومن ضمن تلك القواعد ما يتعلق بالنظام الصوتي للغة العربية ، فهم لم يأتوا بما يتعلق بالنظام الصوتي للغة العربية من عندهم ، فكما أنهم استندوا في تدوين قواعد النحو والصرف إلى كلام العرب ، فإنهم استندوا إلى كلام العرب في تدوين قواعد الصوت.
والجواب العملي (التطبيقي) : وأعني به بيان وجود قواعد التجويد في كلام العرب ، ويحتاج ذلك إلى تتبع كلام العرب قبل الإسلام شعره ونثره ، والوقوف على القواعد التي تحكم ذلك الكلام ، وإذا كان ذلك غير متيسر لنا في هذه العجالة ، فإن علماء العربية الأوائل قد كفونا مؤونة ذلك ، وقد يقول قائل : أَنَّى لنا معرفة كيف كان ينطق العرب في ذك التاريخ الموغل في القدم (قبل 1500سنة تقريباً) ، والجواب أننا لدينا كتابات قديمة تُبَيِّنُ لنا كيف كان العرب ينطقون ، وتوضح الظواهر الصوتية التي كانت في كلامهم.
وفي مقدمة تلك الكتابات : كتاب (العين) للخليل (ت 170هـ) ، وكتاب (الكتاب) لسيبويه (ت 180هـ) ، وإذا كانت هناك شكوك في صحة نسبة كتاب العين كاملاً للخليل ، فإنه لا شك في صحة نسبة الكتاب لسيبويه ، وسوف أعتمد عليه في تلخيص ما يدل على تطبيق قواعد التجويد في كلام العرب قبل الإسلام وبعده.
وتشمل موضوعات التجويد ثلاثة أمور رئيسة ، هي:
الأول : دراسة المخارج.
الثاني : دراسة الصفات.
الثالث : دراسة الأحكام (أو الظواهر الصوتية) الناشئة عن التركيب.
وسوف أتتبع دراسة الأحكام أو الظواهر الصوتية في كتاب سيبويه ، والوقوف عند تأكيده على أنها كانت معروفة في كلام العرب ، وأنه استند إلى كلامهم في الحديث عنها ، وأهم تلك الظواهر :
1. الهمز والتسهيل : عقد سيبويه باباً للهمزة ، ذَكَرَ مذاهب العرب في نطقها (التحقيق ، والتخفيف ، والبدل) ، والهمز والتسهيل ظاهرتان من ظواهر القراءات القرآنية ، وقد نص سيبويه على أن تسهيل الهمزة من خصائص لغة أهل الحجاز (غربي الجزيرة العربية) ، وأن تحقيق الهمزة من خصائص لغة أهل نجد(شرقي الجزيرة) ، (ينظر : الكتاب ج3 ص 541- 556 ، تحقيق عبد السلام هارون).
2. الإمالة والفتح : الإمالة أن تَنْحُوَ بالفتحة نحو الكسرة ، وبالألف نحو الياء ، والإمالة من خصائص لغة قبائل شرقي الجزيرة العربية (نجد) ، والفتح من خصائص لغة غربي الجزيرة العربية (الحجاز) ، والفتح والإمالة من ظواهر القراءات القرآنية ، وقد عقد سيبويه في الكتاب باباً لظاهرة الإمالة ، ذكر فيه ما تميله العرب من الكلمات ، وذكر أهل الإمالة ، وأهل الفتح ، وهو ما يؤكد أن وجود هذه الظاهرة في القراءات القرآنية هو امتداد لوجودها في كلام العرب. (ينظر : كتاب سيبويه ج4 ص 117- 135).
3. الإدغام : وهو أن تنطق بحرفين متجاورين ، الأول ساكن والثاني متحرك ، نطقاً واحداً ، والإدغام والإظهار من ظواهر القراءات القرآنية ، وعلم التجويد ، وعقد سيبويه للإدغام باباً طويلاً ختم به الكتاب (ج4 ص 431- 485) ، بَيَّنَ فيه مذاهب العرب في الإظهار والإدغام ، يمكنك مراجعة الباب والوقوف على تفاصليه ، وملاحظة أن ظواهر الإدغام في كلام العرب وفي القراءات القرآنية والتجويد تَحْكُمُهَا قواعد واحدة ، ويمكننا من خلال ذلك القول إن قواعد التجويد تنطبق على كلام العرب قبل الإسلام.
4. الإخفاء : وهو أحد أحكام النون الساكنة والتنوين ، وعَرَّفَهُ بعض العلماء بأنه حالة بين الإظهار والإدغام ، خالٍ من التشديد ، مع بقاء الغنة في الحرف الأول ، وقد ذكره سيبويه في الكتاب في باب الإدغام على نحو واضح ، في قوله (ج4 ص 454) : ” وتكون النون مع سائر حروف الفم حرفاً خفياً ، مخرجه من الخياشيم … وذلك قولك : مَنْ كان ، ومَنْ قال ، ومَنْ جاء”.
5. المدود : ذكر سيبويه حروف المد وأحوالها ، لكنه لم يُصَرِّحْ بمواضع المد الزائد ، وقد صَرَّحَ ابن جني بذلك في كتابه الخصائص بقوله في (باب مطل الحروف) :
” والحروف الممطولة هي الحروف الثلاثة اللينة المصوتة ، وهي الألف والياء والواو.
اعلم أن هذه الحروف أين وقعت وكيف وُجِدَتْ ، بعد أن تكون سواكن يتبعن بعضهن غير مدغمات ، ففيها امتداد ولين ، نحو : قام وسِيرَ به وحُوتٍ وكُوز وكتاب وسعيد وعجوز.
إلا أن الأماكن التي يطول فيها صوتها وتتمكن مدتها ثلاثة ، وهي : أن تقع بعدها – وهي سواكن توابع لما هو منهن وهو الحركات من جنسهن – الهمزةُ ، أو الحرفُ المشدد ، أو أن يوقف عليها عند التذكر...”. (راجع النص بطوله في كتاب الخصائص ج3 ص124-129 ، تحقيق محمد علي النجار).
* * * * *
وختاماً ، أخي الباحث ، ما تقدم مفاتيح لجواب سؤالك ، يمكن أن تبني عليها ، وإذا أردت مزيداً من المصادر التي تعزز ما تقدم من أفكار ، وتؤصل لظواهر التجويد والقراءات القرآنية في كلام العرب ، فيمكن الرجوع إلى طائفة واسعة من المصادر ، منها :
1. كتب النحو والصرف ، وفي مقدمتها : كتاب سيبويه ، والمقتضب للمبرد ، والأصول لابن السراج ، وسر صناعة الإعراب لابن جني ، وكتاب الخصائص له ، وشروح كتاب المفصل ، وشروح كتاب سيبويه ، وغيرها من كتب علماء العربية التي بحثت في الظواهر الصوتية.
2. المعجمات اللغوية ، مثل كتاب العين للخليل ، وتهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري ، ولسان العرب لابن منظور ، وغيرها.
3. الدراسات اللغوية التي قامت لدراسة اللهجات العربية القديمة ، والدراسات المتعلقة بالشعر الجاهلي.
4. مجموعة دراسات حديثة عن الظواهر الصوتية ، فهناك كتب خاصة بكل ظاهرة ، مثل : الهمز ، والإدغام ، والإمالة.
قد تكون الإشارة إلى هذه الكتب متعبة لك ، وقد لا تجد فيها إلا القليل الذي يتعلق بالإجابة على سؤالك ، لكن الموضوع يستحق بذل الجهد في الوصول إلى نتيجة مرضية حوله ، وإن كنت أتوقع ألا تجيب المصادر عن جميع التساؤلات المتعلقة بالموضوع على وجه التفصيل ، والله أعلم.
الدكتور غانم قدوري الحمد
تعليق