إن المغرب بلد تتعايش على أرضه لغات متعددة تستعمل لأغراض تواصلية ووظائف سوسيولسانية مختلفة، وهذه اللغات منها الوطنية؛ وتتمثل في العربية الفصحى بوصفها اللغة الرسمية للدولة، والدارجة المغربية بتقسيماتها اللهجية المختلفة، والأمازيغية بتشكيلاتها الثلاثة (تاريفيت، تامازيغت، تاشلحيت) ومنها الأجنبية، وخاصة الفرنسية، التي أصبحت حاضرة في المشهد اللغوي المغربي منذ الحماية.وهذا التعدد اللساني يدفعنا إلى التساؤل عن طبيعة تعايش هذه اللغات واللهجات، أهو تعايش صراعي تنافسي؟ أم هو تعايش تكاملي، وما هي تجلياته في المجتمع المغربي؟ قد تختلف الأجوبة عن هذه الأسئلة باختلاف نوعية العلاقات الموجودة بين هذه اللغات وباختلاف المقاربات المستعملة لتحليلها. ولعل أهم وأحدث هذه المقاربات هي مقاربة كالفي L.J.CALVET في كتابه حرب اللغات (1)والذي يراجع فيه تعريف فرغوسون Ferguson للازدواجية اللسانية في مقالة مشهورة (2) نشرت سنة 1959. إن فرغوسون يحدد مفهوم الازدواجية اللغوية انطلاقا من مجموعة من المقاييس، أهمها الانتماء الجينيتيكي للغتين والتوزيع التكاملي لوظائفهما، بحيث تكون إحداهما في وضعية رفيعة high والأخرى في وضعية وضيعة Low. أما مراجعة كالفي، فتكمن في الكشف عن الأسباب التي تجعل لغة ما تكتسب وضعية معينة، والتي يوجزها في السلطة والنفوذ اللذين ينتج عنهما تداخل ازدواجي لمجموعة من اللغات التي تدخل في صراع تنافسي وهيمني.
إن هذه الورقة تحاول أن تتبنى نفس الأطروحة لتجيب عن نوعية العلاقات الموجودة بين اللغات في المغرب، انطلاقا من ثلاثة أنواع من الازدواجيات اللغوية.
الازدواجية اللسانية الأولى
العربية الفصحى والدارجة المغربية
تعتبر الازدواجية اللغوية التي تربط بين اللغة العربية الفصحى والدارجة المغربية من الازدواجيات المعروفة في الأدبيات السويولسانية، حيث أشار إليها فرغوسون منذ سنة 1959، في تعريفه لمفهوم الازدواجية اللغوية Diglossia (3). إذ يلاحظ أن هذا التعريف ينسحب بامتياز على اللغتين المذكورتين. فهما ينتميان إلى أصل جينيتيكي واحد، أي إلى نفس السلالة اللغوية، وهي سلالة السامية الحامية، ويتوزعان حسب وظائف سوسيولسانية متسمة بالتكامل والإقصاء. فاللغة العربية الفصحى تستحوذ على المجالات التواصلية الرسمية كالمجال الديني والمؤسسات التربوية والإدارية، كما تستعمل كأداة تعبيرية في الثقافة العالمة والآداب المكتوبة، ومن هنا فهي تكتسب طابع اللغة الرفيعة High.
أما الدارجة المغربية فهي لغة الاستعمال اليومي في المجالات المتسمة بالحميمية، خاصة في الوسط الأسري وبين الأصدقاء كما تستعمل في مجال الآداب الشفوية الشعبية؛ من زجل وأمثال وألغاز وحكايات... من خلال هذه الاستعمالات تكتسب طابع اللغة الوضيعة Low.
بالإضافة إلى اللغتين المذكورتين، لابد من الإشارة إلى بروز لغة عربية ثالثة وهي العربية المغربية الوسطى، وهي باختزال شديد لغة تمتاح خصائصها المعجمية من الفصحى، وخصائصها الصوتية والمورفوتركيبية من الدارجة المغربية (4). كما تمتاز بكونها لا تظهر المميزات اللسانية الجهوية والاثنية التي تبرز في الدارجة المغربية. وتستعمل أساسا من طرف طبقة لها مستوى دراسي معين، وخاصة منهم "المختصين في الكلام،من أساتذة ومحاضرين ومسؤولين إداريين وسياسيين..." (5) وذلك في المجالات شبه الرسمية (خطب سياسية ونقابية، بين الزملاء داخل الإدارات، مناقشات عامة، استجوابات تلفزية...).
فمن خلال الوظائف السوسيولسانية التي تقوم بها اللغات الثلاث المذكورة ومن خلال الوضعية السوسيو ثقافية لمستعملها يمكن أن نقول بأن العلاقات الموجودة بينها علاقات تنافسية وهيمنية، فالفصحى لغة مهيمنة على الدارجة المغربية والعربية الوسطى وهذه الأخيرة مهيمنة على الدارجة المغربية.
الازدواجية اللسانية الثانية
الدارجة المغربية والأمازيغية
إن الدارجة المغربية والأمازيغية لا تربطهما علاقات جينيتيكية مباشرة، إذ لم تنحدر إحداهما من الأخرى، وذلك رغم انتمائهما إلى عائلة لغوية واحدة.
وبالنظر إلى الوظائف السوسيو لسانية فليس هناك التوزيع التكاملي بينهما، فهما معا يستعملان لأدوار تواصلية حميمة (الأسرة، الأصدقاء، في الأسواق...) وكلاهما مغيبتان من المؤسسات الرمزية للدولة (المدرسة، الإدارات العمومية، الجامعات...) ويستغلان كوسيلة تعبيرية في مجال الآداب الشعبية.
انطلاقا من هذه المعطيات، يصعب أن نميز بين اللغة الرفيعة والوضيعة، ومن هنا وجب النظر إلى وظيفتيهما التواصلية على نطاق أوسع، فالأمازيعية بتشكيلاتها الثلاثة (تاريفيت، تامازيغت، تاشلحيت) منوعات محليةVariétés Veruaculaires ينحصر التواصل بها في فضاءات جغرافية معينة (تاريفيت في الريف الغربي وتامازيغت بمنطقة الأطلس المتوسط والأطلس الكبير، وتاشلحيت بالأطلس الغربي الكبير والأطلس الصغير وسهل سوس). فالناطق بتاريفيت غالبا ما يهجر لغته الأم عندما يتواصل مع ناطق بمنوعة أمازيغية أخرى أو بالدارجة المغربية، ويلجأ إلى هذه الأخيرة التي تلعب هنا دور اللغة المشتركة السيارة Langue véhiculaire .
فالدارجة المغربية إذن، هي لغة التوحيد على المستوى الوطني، ووسيلة هامة للاندماج الاجتماعي للأمازيغوفونيين الذين يهاجرون مناطقهم وعشائرهم الأصلية نحو المدن، حيث تنتفي، حسب الباحث الفرنسي كالفي، الاختلافات اللسانية(6). إن الدارجة المغربية "تكتسي هنا وضعا خاصا من خلال وظيفتها كمنوعة حضرية سيارة ariété Urbaine Véhiculaire، أما الأمازيغية فينظر إليها كمنوعة آثنية وهوياتية(7).
إن الطابع المحلي للأمازيغية وانحصارها في مناطق معينة. والطابع التوحيدي للدارجة المغربية كوسيلة تواصلية لجل المغاربة يضفي على هذه الأخيرة طابع اللغة الرفيعة وعلى الأولى طابع اللغة الوضيعة.
الازدواجية اللسانية الثالثة
اللغة العربية الفصحى واللغة الفرنسية
هذه الازدواجية تختلف عن الازدواجيتين المذكورتين سالفا، بحيث أن الفرنسية والفصحى لا تجمعهما أية آصرة جينيتيكية، فالأولى تنتمي إلى عائلة اللغات الهندوأروبية والثانية إلى عائلة اللغات السامية الحامية، كما لا يمكن أن ينسحب عليهما مبدئيا-التمييز الذي أقامه فرغوسون بين اللغات الرفيعة واللغات الوضيعة (8).
أما عندما ننظر إلى وضعية اللغتين من الناحية القانونية فإننا نجد أن أمرهما أمر خاص جدا. فمن الناحية النظرية يمكن لكل اللغات في المجتمعات متعددة اللغات أن تكتسي طابعا دستوريا, ولكن الدستور المغربي لم يخص بالذكر في ديباجته إلا "العربية"، دون الإشارة إلى صفتها، ولكن ذكرها مقرونة في نفس الديباجة بالإسلام، يوحي بما لا يدعو للشك بأن اللغة المقصودة هي اللغة العربية الفصحى، إذ نلاحظ بأن جميع دساتير المملـكة (1960-1972-1996) نصت بأن الإسلام هو دين المملكة المغربية والعربية هي لغتها الرسمية.
وبالإضافة إلى هذه الوضعية القانونية الوطنية للغة العربية، فهي أيضا لغة قومية رسمية توحد-على الأقل على المستوى النظري- 22 دولة عربية منتمية لجامعة الدول العربية ولدول المغرب العربي الكبير، كما أنها لغة مستعملة رسميا في منظمة المؤتمر الإسلامي الذي يوحد مجموعة الدول الإسلامية (حوالي ملياري مسلم)(9).
فالفصحى هي اللغة الرسمية الوحيدة إذن، حسب الدستور المغربي، ومن هنا يجب أن تكون حاضرة-بتعبير آلتوسير- في جميع الأجهزة الإيديولوجية للدولة المغربية. وهي تلعب كذلك دورا مهما في التعبير عن الانتماء العربي الإسلامي للدولة المغربية. ومن هنا تستمد مجموعة من الامتيازات:
رمز للوحدة الوطنية.
رمز للانتماء القومي العربي.
رمز لوحدة الأمة الإسلامية.
أما من ناحية الاستعمال، فهي غالبا ما ينظر إليها، كوسيلة تعبير، خاصة بالنخبة المغربية، ومرتبطة بالثقافة العربية التقليدية. وتتيح للمكونين بها منافذ في مجموعة من المهن المحترمة في المجتمع المغربي (عادل-خطيب وإمام مسجد، قاض، محام، أستاذ...).
بناء على هذه المعطيات الخاصة باللغة العربية، لا يمكن أن نصنفها مع اللغات الوضيعة. ولكن وضعها هذا –ربما- سيراجع إذا عرفنا بأنها تتعرض لمنافسة قوية من طرف اللغة الفرنسية. وضعية اللغة الفرنسية في المغرب وضعية خاصة، إذ من الناحية القانونية ليس لها أي وضع رسمي في البلاد، إذ لم يخصها الدستور المغربي بأية كلمة، ولكنها عمليا تحتل مكانة هامة في السوق اللسانية الوطنية.
فاللغة الفرنسية بتعبير أحمد معتصم هي لغة الانتقاء الاجتماعي في المغرب(10). وبها تكون مجموعة من الأطر ذات الحظوة والامتياز، من أطباء ومهندسين وإعلاميين ومدراء شركات ومسيري أبناك ومؤسسات مالية وسياسيين وموظفين سامين... فهي إذن لغة التكوين العصري، في مقابل العربية التي تكونت بها أساسا أطر متوسطة تقليدية(11).
فاللغة الفرنسية اكتسبت مكانتها في السوق اللسانية المغربية بفضل السياسات اللغوية التي انتهجتها الحكومات التي تعاقبت على السلطة منذ الاستقلال. ويظهر هذا أساسا في المجال التربوي، فهي حاضرة في المؤسسات التربية ابتداء من المدرسة الأولية، مرورا بالابتدائي والثانوي، وانتهاء بالتعليم الجامعي. إذ يلاحظ بأنها حاضرة كمادة في كل شعب كليات الآداب والتي تختص فيها بشعبة اللغة الفرنسية وآدابها. وفي كليات الحقوق تدرس بها مواد الشعب الاقتصادية وشعبة بالقانون الفرنسي، كما تدرس بها جميع الشعب العلمية في كليات العلوم والطب والأسنان والصيدلة ومعاهد الهندسة والإعلام والتجارة والتسيير ... فهي إذن، حاضرة كلغة للتكوين في جميع المجالات ذات الحظوة والامتياز في المجتمع المغربي، ومن هنا، فهي لغة النخبة المسيرة للبلاد وأداة للارتقاء الاجتماعي والتي تخول الحصول على أسمى وأهم الوظائف في الوطن. وقبل إنهاء الحديث عن الفرنسية، لابد من الإشارة إلى مكانتها العالمية، فهي إحدى اللغات الست القوية في العالم، والتي تكتسب هذه القوة من القوة السياسية والصناعية للدولة الفرنسية(12).
فبالنظر، إذن، إلى هذه المكانة التي تحتلها اللغة الفرنسية عالميا ووطنيا، وباعتبارها في "المغرب لغة مؤسساتية دون أن تكون رسمية"(13)، وبالنظر إلى كونها لغة الاقتصاد والهندسة والطب والعلوم ووسائط الاتصال الحديثة... وبالنظر أيضا إلى المكانة السوسيواقتصادية للمتكلمين بها، يمكن أن نقول بأنها لغة رفيعة مقارنة بالفصحى والتي أريد لها أن تكون لغة الأصالة والتقليد والأطر المتوسطة، أي لغة وضيعة أمام الفرنسية.
خـــاتمة
يتبين إذن أن وضعية اللغة ووظائفها السوسيولسانية هي التي تحدد قيمتها في السوق اللسانية وحظها من الاستفادة من السلطة المادية والرمزية. فهي تكتسب هذه القيمة من خلال دورها كأداة للانتقاء الاجتماعي وتستمد قوتها من المكانة السوسيوثقافية للناطقين بها، والذين يعملون على تكريسها وتخصيصها بوظائف معينة تستجيب لمصالحهم الاجتماعية من نفوذ وسلطة وامتياز. وهذا يدفعنا للحديث عن مكانة كل لغة في المغرب وعلاقاتها بالتشكيلات اللغوية الأخرى. إن الوضعية الازدواجية للغات السائدة في المغرب لا تختلف عن مثيلاتها في مجموعة من الدول الإفريقية الحديثة الاستقلال، حيث لعب المستعمر دورا مهما في تثبيت نوع خاص من الازدواجيات اللغوية، سماها الباحث الفرنسي كالفي Calvet بالازدواجيات المتداخلة Diglossies enchassées، حيث تتداخل مجموعة من اللغات في علاقات ازدواجية(14). ففي طنزانيا –مثلا- هناك ازدواجية لغوية أولى بين الإنجليزية اللغة الرفيعة variété haute والسواحلية التي تصبح لغة وضيعة variété basse وازدواجية ثانية بين هذه اللغة التي تتحول إلى لغة رفيعة لأنها لغة أقلية حاكمة وبين باقي لغات الإثنيات الأخرى.
وفي المغرب نلاحظ –على الأقل- تداخل ثلاث أنواع من الازدواجيات اللسانية، الازدواجية الأولى بين الفرنسية (اللغة الرفيعة) والعربية الفصحى (اللغة الوضيعة)، والازدواجية الثانية بين هذه اللغة الأخيرة التي تتحول إلى لغة رفيعة وبين الدارجة المغربية (اللغة الوضيعة). والازدواجية الثالثة بين الدارجة المغربية (والتي تصبح بدورها لغة رفيعة) والأمازيغية التي تحتل موقع اللغة الوضيعة .
فالعلاقات بين هذه اللغات علاقات هيمنية بدءا بالفرنسية ثم العربية الفصحى والدارجة المغربية وأخيرا الأمازيغة.
http://es.geocities.com/cuadernosdelnorte/estudioamehref.htm
إن هذه الورقة تحاول أن تتبنى نفس الأطروحة لتجيب عن نوعية العلاقات الموجودة بين اللغات في المغرب، انطلاقا من ثلاثة أنواع من الازدواجيات اللغوية.
الازدواجية اللسانية الأولى
العربية الفصحى والدارجة المغربية
تعتبر الازدواجية اللغوية التي تربط بين اللغة العربية الفصحى والدارجة المغربية من الازدواجيات المعروفة في الأدبيات السويولسانية، حيث أشار إليها فرغوسون منذ سنة 1959، في تعريفه لمفهوم الازدواجية اللغوية Diglossia (3). إذ يلاحظ أن هذا التعريف ينسحب بامتياز على اللغتين المذكورتين. فهما ينتميان إلى أصل جينيتيكي واحد، أي إلى نفس السلالة اللغوية، وهي سلالة السامية الحامية، ويتوزعان حسب وظائف سوسيولسانية متسمة بالتكامل والإقصاء. فاللغة العربية الفصحى تستحوذ على المجالات التواصلية الرسمية كالمجال الديني والمؤسسات التربوية والإدارية، كما تستعمل كأداة تعبيرية في الثقافة العالمة والآداب المكتوبة، ومن هنا فهي تكتسب طابع اللغة الرفيعة High.
أما الدارجة المغربية فهي لغة الاستعمال اليومي في المجالات المتسمة بالحميمية، خاصة في الوسط الأسري وبين الأصدقاء كما تستعمل في مجال الآداب الشفوية الشعبية؛ من زجل وأمثال وألغاز وحكايات... من خلال هذه الاستعمالات تكتسب طابع اللغة الوضيعة Low.
بالإضافة إلى اللغتين المذكورتين، لابد من الإشارة إلى بروز لغة عربية ثالثة وهي العربية المغربية الوسطى، وهي باختزال شديد لغة تمتاح خصائصها المعجمية من الفصحى، وخصائصها الصوتية والمورفوتركيبية من الدارجة المغربية (4). كما تمتاز بكونها لا تظهر المميزات اللسانية الجهوية والاثنية التي تبرز في الدارجة المغربية. وتستعمل أساسا من طرف طبقة لها مستوى دراسي معين، وخاصة منهم "المختصين في الكلام،من أساتذة ومحاضرين ومسؤولين إداريين وسياسيين..." (5) وذلك في المجالات شبه الرسمية (خطب سياسية ونقابية، بين الزملاء داخل الإدارات، مناقشات عامة، استجوابات تلفزية...).
فمن خلال الوظائف السوسيولسانية التي تقوم بها اللغات الثلاث المذكورة ومن خلال الوضعية السوسيو ثقافية لمستعملها يمكن أن نقول بأن العلاقات الموجودة بينها علاقات تنافسية وهيمنية، فالفصحى لغة مهيمنة على الدارجة المغربية والعربية الوسطى وهذه الأخيرة مهيمنة على الدارجة المغربية.
الازدواجية اللسانية الثانية
الدارجة المغربية والأمازيغية
إن الدارجة المغربية والأمازيغية لا تربطهما علاقات جينيتيكية مباشرة، إذ لم تنحدر إحداهما من الأخرى، وذلك رغم انتمائهما إلى عائلة لغوية واحدة.
وبالنظر إلى الوظائف السوسيو لسانية فليس هناك التوزيع التكاملي بينهما، فهما معا يستعملان لأدوار تواصلية حميمة (الأسرة، الأصدقاء، في الأسواق...) وكلاهما مغيبتان من المؤسسات الرمزية للدولة (المدرسة، الإدارات العمومية، الجامعات...) ويستغلان كوسيلة تعبيرية في مجال الآداب الشعبية.
انطلاقا من هذه المعطيات، يصعب أن نميز بين اللغة الرفيعة والوضيعة، ومن هنا وجب النظر إلى وظيفتيهما التواصلية على نطاق أوسع، فالأمازيعية بتشكيلاتها الثلاثة (تاريفيت، تامازيغت، تاشلحيت) منوعات محليةVariétés Veruaculaires ينحصر التواصل بها في فضاءات جغرافية معينة (تاريفيت في الريف الغربي وتامازيغت بمنطقة الأطلس المتوسط والأطلس الكبير، وتاشلحيت بالأطلس الغربي الكبير والأطلس الصغير وسهل سوس). فالناطق بتاريفيت غالبا ما يهجر لغته الأم عندما يتواصل مع ناطق بمنوعة أمازيغية أخرى أو بالدارجة المغربية، ويلجأ إلى هذه الأخيرة التي تلعب هنا دور اللغة المشتركة السيارة Langue véhiculaire .
فالدارجة المغربية إذن، هي لغة التوحيد على المستوى الوطني، ووسيلة هامة للاندماج الاجتماعي للأمازيغوفونيين الذين يهاجرون مناطقهم وعشائرهم الأصلية نحو المدن، حيث تنتفي، حسب الباحث الفرنسي كالفي، الاختلافات اللسانية(6). إن الدارجة المغربية "تكتسي هنا وضعا خاصا من خلال وظيفتها كمنوعة حضرية سيارة ariété Urbaine Véhiculaire، أما الأمازيغية فينظر إليها كمنوعة آثنية وهوياتية(7).
إن الطابع المحلي للأمازيغية وانحصارها في مناطق معينة. والطابع التوحيدي للدارجة المغربية كوسيلة تواصلية لجل المغاربة يضفي على هذه الأخيرة طابع اللغة الرفيعة وعلى الأولى طابع اللغة الوضيعة.
الازدواجية اللسانية الثالثة
اللغة العربية الفصحى واللغة الفرنسية
هذه الازدواجية تختلف عن الازدواجيتين المذكورتين سالفا، بحيث أن الفرنسية والفصحى لا تجمعهما أية آصرة جينيتيكية، فالأولى تنتمي إلى عائلة اللغات الهندوأروبية والثانية إلى عائلة اللغات السامية الحامية، كما لا يمكن أن ينسحب عليهما مبدئيا-التمييز الذي أقامه فرغوسون بين اللغات الرفيعة واللغات الوضيعة (8).
أما عندما ننظر إلى وضعية اللغتين من الناحية القانونية فإننا نجد أن أمرهما أمر خاص جدا. فمن الناحية النظرية يمكن لكل اللغات في المجتمعات متعددة اللغات أن تكتسي طابعا دستوريا, ولكن الدستور المغربي لم يخص بالذكر في ديباجته إلا "العربية"، دون الإشارة إلى صفتها، ولكن ذكرها مقرونة في نفس الديباجة بالإسلام، يوحي بما لا يدعو للشك بأن اللغة المقصودة هي اللغة العربية الفصحى، إذ نلاحظ بأن جميع دساتير المملـكة (1960-1972-1996) نصت بأن الإسلام هو دين المملكة المغربية والعربية هي لغتها الرسمية.
وبالإضافة إلى هذه الوضعية القانونية الوطنية للغة العربية، فهي أيضا لغة قومية رسمية توحد-على الأقل على المستوى النظري- 22 دولة عربية منتمية لجامعة الدول العربية ولدول المغرب العربي الكبير، كما أنها لغة مستعملة رسميا في منظمة المؤتمر الإسلامي الذي يوحد مجموعة الدول الإسلامية (حوالي ملياري مسلم)(9).
فالفصحى هي اللغة الرسمية الوحيدة إذن، حسب الدستور المغربي، ومن هنا يجب أن تكون حاضرة-بتعبير آلتوسير- في جميع الأجهزة الإيديولوجية للدولة المغربية. وهي تلعب كذلك دورا مهما في التعبير عن الانتماء العربي الإسلامي للدولة المغربية. ومن هنا تستمد مجموعة من الامتيازات:
رمز للوحدة الوطنية.
رمز للانتماء القومي العربي.
رمز لوحدة الأمة الإسلامية.
أما من ناحية الاستعمال، فهي غالبا ما ينظر إليها، كوسيلة تعبير، خاصة بالنخبة المغربية، ومرتبطة بالثقافة العربية التقليدية. وتتيح للمكونين بها منافذ في مجموعة من المهن المحترمة في المجتمع المغربي (عادل-خطيب وإمام مسجد، قاض، محام، أستاذ...).
بناء على هذه المعطيات الخاصة باللغة العربية، لا يمكن أن نصنفها مع اللغات الوضيعة. ولكن وضعها هذا –ربما- سيراجع إذا عرفنا بأنها تتعرض لمنافسة قوية من طرف اللغة الفرنسية. وضعية اللغة الفرنسية في المغرب وضعية خاصة، إذ من الناحية القانونية ليس لها أي وضع رسمي في البلاد، إذ لم يخصها الدستور المغربي بأية كلمة، ولكنها عمليا تحتل مكانة هامة في السوق اللسانية الوطنية.
فاللغة الفرنسية بتعبير أحمد معتصم هي لغة الانتقاء الاجتماعي في المغرب(10). وبها تكون مجموعة من الأطر ذات الحظوة والامتياز، من أطباء ومهندسين وإعلاميين ومدراء شركات ومسيري أبناك ومؤسسات مالية وسياسيين وموظفين سامين... فهي إذن لغة التكوين العصري، في مقابل العربية التي تكونت بها أساسا أطر متوسطة تقليدية(11).
فاللغة الفرنسية اكتسبت مكانتها في السوق اللسانية المغربية بفضل السياسات اللغوية التي انتهجتها الحكومات التي تعاقبت على السلطة منذ الاستقلال. ويظهر هذا أساسا في المجال التربوي، فهي حاضرة في المؤسسات التربية ابتداء من المدرسة الأولية، مرورا بالابتدائي والثانوي، وانتهاء بالتعليم الجامعي. إذ يلاحظ بأنها حاضرة كمادة في كل شعب كليات الآداب والتي تختص فيها بشعبة اللغة الفرنسية وآدابها. وفي كليات الحقوق تدرس بها مواد الشعب الاقتصادية وشعبة بالقانون الفرنسي، كما تدرس بها جميع الشعب العلمية في كليات العلوم والطب والأسنان والصيدلة ومعاهد الهندسة والإعلام والتجارة والتسيير ... فهي إذن، حاضرة كلغة للتكوين في جميع المجالات ذات الحظوة والامتياز في المجتمع المغربي، ومن هنا، فهي لغة النخبة المسيرة للبلاد وأداة للارتقاء الاجتماعي والتي تخول الحصول على أسمى وأهم الوظائف في الوطن. وقبل إنهاء الحديث عن الفرنسية، لابد من الإشارة إلى مكانتها العالمية، فهي إحدى اللغات الست القوية في العالم، والتي تكتسب هذه القوة من القوة السياسية والصناعية للدولة الفرنسية(12).
فبالنظر، إذن، إلى هذه المكانة التي تحتلها اللغة الفرنسية عالميا ووطنيا، وباعتبارها في "المغرب لغة مؤسساتية دون أن تكون رسمية"(13)، وبالنظر إلى كونها لغة الاقتصاد والهندسة والطب والعلوم ووسائط الاتصال الحديثة... وبالنظر أيضا إلى المكانة السوسيواقتصادية للمتكلمين بها، يمكن أن نقول بأنها لغة رفيعة مقارنة بالفصحى والتي أريد لها أن تكون لغة الأصالة والتقليد والأطر المتوسطة، أي لغة وضيعة أمام الفرنسية.
خـــاتمة
يتبين إذن أن وضعية اللغة ووظائفها السوسيولسانية هي التي تحدد قيمتها في السوق اللسانية وحظها من الاستفادة من السلطة المادية والرمزية. فهي تكتسب هذه القيمة من خلال دورها كأداة للانتقاء الاجتماعي وتستمد قوتها من المكانة السوسيوثقافية للناطقين بها، والذين يعملون على تكريسها وتخصيصها بوظائف معينة تستجيب لمصالحهم الاجتماعية من نفوذ وسلطة وامتياز. وهذا يدفعنا للحديث عن مكانة كل لغة في المغرب وعلاقاتها بالتشكيلات اللغوية الأخرى. إن الوضعية الازدواجية للغات السائدة في المغرب لا تختلف عن مثيلاتها في مجموعة من الدول الإفريقية الحديثة الاستقلال، حيث لعب المستعمر دورا مهما في تثبيت نوع خاص من الازدواجيات اللغوية، سماها الباحث الفرنسي كالفي Calvet بالازدواجيات المتداخلة Diglossies enchassées، حيث تتداخل مجموعة من اللغات في علاقات ازدواجية(14). ففي طنزانيا –مثلا- هناك ازدواجية لغوية أولى بين الإنجليزية اللغة الرفيعة variété haute والسواحلية التي تصبح لغة وضيعة variété basse وازدواجية ثانية بين هذه اللغة التي تتحول إلى لغة رفيعة لأنها لغة أقلية حاكمة وبين باقي لغات الإثنيات الأخرى.
وفي المغرب نلاحظ –على الأقل- تداخل ثلاث أنواع من الازدواجيات اللسانية، الازدواجية الأولى بين الفرنسية (اللغة الرفيعة) والعربية الفصحى (اللغة الوضيعة)، والازدواجية الثانية بين هذه اللغة الأخيرة التي تتحول إلى لغة رفيعة وبين الدارجة المغربية (اللغة الوضيعة). والازدواجية الثالثة بين الدارجة المغربية (والتي تصبح بدورها لغة رفيعة) والأمازيغية التي تحتل موقع اللغة الوضيعة .
فالعلاقات بين هذه اللغات علاقات هيمنية بدءا بالفرنسية ثم العربية الفصحى والدارجة المغربية وأخيرا الأمازيغة.
http://es.geocities.com/cuadernosdelnorte/estudioamehref.htm
تعليق