تأثرات واسعة بالوسط والغرب، وأطراف من لهجات الفضاء العربي
بأي لهجة يتكلم السعوديون؟
تقرير: يحيى الأمير
لا يستطيع طلاب الثانوية العامة أن يستدلوا على المناطق الأصلية التي يعود إليها كل منهم عن طريق اللهجات، وطبيعة الصوت الذي يتحدثون به، بل يحتاجون ربما إلى السؤال صراحة عن المنطقة أو الأصل، ومع أن هذا السؤال جزء من التركيبة التقليدية التي تقوم عليها العلاقات وأشكال التعارف في مجتمعات لم يتمكن منها المدني إلى الآن بسبب سطوة العائلي والقبلي، ومع أنه سؤال لا زال حياً وقائماً لكنه بات العامل الوحيد القادر عن الإجابة إلى أي منطقة يعود هذا الفرد، لا يمكن بالطبع تجاوز ما تمثله أواخر الأسماء ذلك إما بسبب امتداد رقعة هذا الاسم أو بسبب غياب الشكل المباشر لتلك الإحالة، فلم تعد اللهجة عاملاً تصنيفياً، ولماذا هي متراجعة أمام أنماط تصنيفية أخرى؟
تجنح اللهجات غالباً إلى حالة من التبادل الصوتي والتناغم الباحث عن المشترك اللفظي، وحالة التعدد القائمة في الجزيرة العربية في تاريخ ما قبل الدولة كان حافلاً بتنوع وغنى واسع وتعدد كبير في اللهجات التي تنشأ وتتسع غالباً نتيجة اختلاف الشكل العام للحياة مناخياً وجغرافياً واقتصادياً، إذ تفرز الأنماط المعيشية والجغرافية والمناخية حالات متعددة من النبر الصوتي والألفاظ والمشاهدات، وسكان الصحراء أو الجبال لا يمكن أن تتماثل لهجتهم مع سكان السواحل مثلاً، ولكن حالة التواصل البشري هي التي تفتح المجال لتلاقيات وتواصل بين تلك اللهجات، وفي التاريخ العربي تمثل تجربة اللهجة القرشية نموذجاً لمصدرية التشريع اللساني لكثير من العرب المحيطين بمكة قديماً، ويشير الدكتور عبدالهادي محمد دحاني في بحث له بعنوان: (مكة مهد اللسان العربي.. توحيد اللهجات) إلى أن الثقل الذي عاشته مكة المكرمة وموقعها التجاري والاقتصادي والديني بعد ذلك هو الذي ساهم في تسويق لهجتها أكثر من غيرها، فلهجة كلهجة تميم مثلاً لم يكتب لها الانتشار والاتساع الذي شهدته اللغة القرشية.
لكن الوحدة التي حدثت في الجزيرة العربية مع قيام الدولة السعودية جاءت في أرض يمثل تعددها اللهجي والثقافي أبرز سماتها، ويمثل الغنى الثقافي والفلكلوري شكلاً من أشكال فرادتها، وغالباً ما تشعر المجتمعات التقليدية بالخوف من أي توسع على حساب لسانها أو ثقافتها، لكن الذي وقف سعودياً ضد عامل الخوف هو حالة الشمول العامة التي مثلها ذلك التلاقي والتواصل بين الشمال والوسط والجنوب والغرب، وأخذ التعليم يمثل حالة الاتصال المتحدة على ذات المعارف وذات الأفكار، وبدأت المدارس في إشاعة ثقافة وُلدت من خلال جيل واحد حالة تقابر قصوى على مستوى التفكير العام، وأوجدت حالات من التشابه الثقافي بين مختلف المناطق، ومن تقارب الهيئة العامة للحياة في مختلف مناطق المملكة، وقد توقف تأثير التعليم عند هذا الحد غالباً، بسبب التراجعات وحالات التردي التي شهدتها العملية التعليمية في السعودية، وتحركها ضمن المنهجي والتقليدي وعدم ولوجها إلى الثقافي والاجتماعي، وإذا كان الشكل العام لحياة السعوديين قد أخذ في التشابه إلى حد كبير في الملبس والوظيفة والشكل العام ليوم الناس وحركاتهم، فإن تأثرات اللهجة ظلت بعيدة إلى حد ما، ولولا أن حالة من الطبقية الشعبية ظهرت لتقيم صوتاً يمايز بين الجهويات على أساس مناطقي وقبلي لكانت الصورة أكثر اتحاداً.
خلاف العامل التعليمي، كان العامل الإعلامي المؤثر في هذا المشهد هو التلفزيون ولكن تأثريه لم يكن واسعاً، لكن الخطاب الفقهي والملتزم استطاع أن يوجد حالة من التقارب بين شرائح مجتمعية متباعدة جغرافياً ولكنها متقاربة صوتاً، فصوت ولهجة ونبرة الخطيب والواعظ في الوسط لا تختلف عن زميله في الجنوب أو في الغرب بسبب أن هناك سياقاً صوتياً وتنغيمياً واحداً تقوم عليه الجملة الوعظية، وخلاف هذا بقيت مناطق التأثير متروكة لحالات من التشبث التقليدي باللهجة المحلية لكل منطقة.
ظهر العامل الاقتصادي وعامل انتقال الأفراد من الأطراف إلى المدن الكبرى ليمثل التأثير الأكبر في نشوء لغة وسيطة غابت معها التفصيلات والسمات اللغوية شديدة الخصوصية لتحل محلها لغة عامة، وظهر هذا الزحف في أكثر أشكاله تأثيره حينما فقدت المدن الكبرى شكلها العائلي وغابت الجماعة الحاضرة على أساس أنها جماعة مقابل حضور طاغ له مبرراته المدنية الجديدة كالعمل والدراسة، إن مدناً كجدة والرياض مثلاً لم يعد يشكل أهلها الأصليون إلا نسباً يسيرة جداً، وأصبح الجميع في هذه المدن يجتمعون على العامل العام الذي يضمهم كونهم سعوديون فقط، وهذه المدن للسعوديين لا لعائلة أو لجماعة، والذي ينظر إلى المشهد في جدة مثلاً سيجد كيف أن لغة الجنوبي الذي يقطن جدة باتت صوتاً وسيطاً بين لهجته الأصلية وبين رتم الصوت العام الذي تتحدث به المدن وكذلك الحال في الرياض وغيرها من المدن الكبرى، ولعل الأبرز في الحديث العام السعودي يقوم على مشتركات بين صوت الحجاز وصوت الوسط باعتبارهما الأكثر جذباً وتأثيراً، فيسهمان في صُنع لغة وسيطة تقوم على خطوط عامة لهاتين اللهجتين.
فيما مضى كان الجنوبي العائد إلى (ديرته) يتعرض لكثير من السخرية مقابل كل كلمة تكون منتمية للمنطقة القادم منها، ويعير بأنه يفتعل هذا التغير، وبأن لهجته لا يجب أن تتأثر بغيابه أو بسفره، لأن هذا من نواقض الأصالة، لكن تلك المواقف توشك أن تغيب الآن ذلك أن اللهجة القحة لم تعد قائمة كما كانت، والجيل الجديد من الشباب والطلاب لا يتحدثون قطعاً كما كان يتحدث آباؤهم وأجدادهم، ولا تمثل اللهجات الأخرى بالنسبة إليهم عامل استغراب أو توقف أو سؤال.
لكن ما لا يمكن إغفاله أن مفردات وتراكيب لا علاقة لها بالصوت السعودي أخذت في الانتشار في اللغة السعودية اليومية، وبدأت مفردات عربية تشيع في الحديث اليومي للسعوديين وتحديداً داخل الجيل الشاب، ويعود هذا غالباً إلى ما مثلته قنوات عربية ناطقة بلهجات أهلها من انتشار وجذب للمشاهد السعودي المستهدف الأبرز لدى كثير من وسائل الإعلام، وبات هذا التأثر ملحوظاً أثناء الاستفهامات أو الجمل والعبارات الهازلة، أو التعبير عن المواقف الطريفة، وبعض الجادة، والمبرر المنطقي لهذا التأثر هو السياق الذي وصلت فيه تلك اللهجات وسياق استقبالها أيضاً، ومع أن التأثير هو السياق الذي وصلت فيه تلك اللهجات وسياق استقبالها أيضاً، ومع أن التأثر باللغة التي نتجت جراء العمالة وطريقة التفاهم معها كانت هي الأسبق لكن اختلاف سياق الاستقبال بين لغة العمالة ولغة الفضائيات أسهم في تكثيف التأثر بما هو فضائي.
الآن لا يمكن الحديث عن لغة حجازية أو نجدية أو جنوبية أو شرقية صرفة، والآن أيضاً تتراجع حالات طلب الإعادة والإيضاح التي يمكن سماعها بين متحاورين من منطقتين مختلفتين، ولو أن هناك أداءً ثقافياً ومؤسساتياً كان واعياً بأهمية السعي نحو توسيع المشترك الثقافي والاجتماعي، ولولا أن حركات تقليدية توطدت في فترات سابقة جلبت معها تراجعاً في صوت التشكيل السعودي للفرد والجماعة باتجاه المشترك، لكانت العوائق التي جاءت على شكل تمايزات وطبقيات قد انتهت، لكن ما لا تجيده المؤسسة ولا يجيده العمل المقنن، سيحدث نتيجة الحركة الطبيعية للناس والحياة، ونتيجة التواصل الذي بات ضرورة لقضاء الحاجات والمصالح اليومية، ونتيجة اتساع المؤثر وتحكمه في من هم قائمون بدور الاستقبال فقط.
الآن تحوي اللهجة السعودية خيطاً مشتركاً لا تتوقف حدود الاشتراكات فيه عند اللهجات السعودية بل تتخطى ذلك إلى مشترك عربي وفضائي، سوف يجعل من الشباب الذين يذرعون شارع التحلية شرقاً وغرباً أفراداً لا تشير لغاتهم إلا إلى حركتهم اليومية أكثر من إشارتها إلى مناطقهم.
المصدر: صحيفة الرياض
تعليق