بدأت مع بيان مؤتمر الحروفيين في بغداد الحروفيّة العربيّة: انسداد أم انفتاح الرّؤية الجماليّة؟

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • s___s

    بدأت مع بيان مؤتمر الحروفيين في بغداد الحروفيّة العربيّة: انسداد أم انفتاح الرّؤية الجماليّة؟

    مقالة من جريدة القدس العربي مع التعليق عليها جذبت انتباهي لجوانب يجب الانتباه لها



    بدأت مع بيان مؤتمر الحروفيين في بغداد الحروفيّة العربيّة: انسداد أم انفتاح الرّؤية الجماليّة؟
    yesterday's story
    هل ولّي زمن الحروفيّة العربيّة، وانتهت تجربة استلهام الحرف العربي إلي منطقة مسدودة في البحث التّشكيلي؟ أم أنّ الحرف كمفردة تشكيليّة فقد مدلوله الحضاري، فانتكست التّجربة الحروفيّة، لانتكاسة هويّة الحرف ومرجعيّته؟ وهل تعدّ أيّ تجربة بحثيّة عربيّة تتخيّر المواصلة الإراديّة في توظيف الحرف داخل اللّوحة، مجرّد استمرار في إنتاج المآزق الفنّيّة ذاتها أم ثمّة إمكانات جدّيّة لفسحة جماليّة جديدة ، هي وليدة التّراكم التّجريبي والمراجعة الفكريّة؟
    إذا كانت التّجربة الحروفيّة العربيّة التي تشكّلت بصيغة إجرائيّة ونظريّة في اتّجاه البعد الواحد وفي بيان مؤتمر الحروفيّين العرب، قد ارتبطت بسؤال هويّة الفنّ العربي ، حتّي عدّ استلهام الحرف نوعا من تأصيل الفنّ العربي في مناخيّته المعرفيّة، فإنّ هذه التّجربة بإرهاصاتها المختلفة واتّجاهاتها التّقنية والصّوفيّة أيضا، اكتفت في نظر اغلب النّقّاد بالانكماش علي هاجس تعريب اللّوحة الغربيّة ورفعها كتميمة في وجه مواجهة الإرث الجمالي الغربي القديم والحديث بالعودة إلي الطّروحات الفنّيّة في خمسينات القرن العشرين حيث تمّت المناداة إلي تأصيل الفنّ والبحث عن حداثة بدمج الموروث العربي في الحلية الجماليّة الغربيّة. وتواصل هذا الهاجس في المشهد التّشكيلي العربي إلي سبعينات القرن العشرين مؤكّدا حضور الرّهانات ذاتها. لقد نادت مدرسة بغداد للفنّ الحديث إبّان انبثاقها سنتي 1950 ـ 1951 بالتّعبير عن الطّابع المحلّي في الفنّ مع استخدام الأساليب والتّقنيات الحديثة أي بالتّشديد علي شعارين أساسيّين لم يغيبا قطّ عن العقل العربي طيلة السّنوات اللاّحقة علي تصوّرات هذه المدرسة، فقد نادي مؤتمر الفنون التّشكيليّة في الوطن العربي برفع الشّعارين ذاتهما. إذ ورد في كلمة افتتاح المؤتمر تأكيد انتباه الفنّانين العرب إلي حقيقتين أساسيّتين: الحقيقة الأولي: هي أنّ الفنّ التّشكيلي العربي ينبغي أن يكون عربيّا، محافظا علي أصالته فما من فنّ يستحقّ هذا الاسم إلاّ إذا كان تعبيرا أصيلا وصادقا عن شخصيّة الأمّة التي ينتمي إليها. والحقيقة الثّانية: هي أنّ الفنّان التّشكيلي العربي مدعوّ إلي التّفاعل مع التّيّارات الفنّيّة المعاصرة، وإلي معرفتها وتمثّلها وإقامة حوار معها 1. وإذا ما نزّلنا بشكل آلي هذا الهاجس في التّربة الجغراثقافيّة فسنقف علي تماهيه مع الموقف العروبي السّوري أو العراقي في تلك الحقبة. إلاّ أنّ إقرارا من هذا النّوع وبهذا الشّكل قد لا ينصف التّيّار الحروفي العربي ويحكم عليه بالسّلب وبفائض تسلّل الإيديولوجي إلي العمليّة الفنّيّة ، ولكن لا نستطيع دحض ما لهذا العامل من أثر في توجيه بعض التّجارب العربيّة إلي أن تحوّلت الحروفيّة كما بيّن فاروق يوسف صنما لحداثة الر ّسم.
    وإذا كان الهاجس اللاّواعي والواعي في آن لبعض التّجارب الحروفيّة العربيّة يتلخّص في مفارقة الرّسم التّشخيصي، كإشارة مواجهة للفنّ الغربي ، فهل استطاعت اللّوحة الحروفيّة فعلا تحقيق هذا الشّعار؟ يعتبر شربل داغر أنّ الفنّان الحروفي لم يستطع أن يتحرّر نهائيّا من الرّؤية البصريّة رغم انقطاعه عن رسم الهيئات البشريّة ، فمجرّد القول بأنّ فعل الرّسم ينطلق لديهم من العالم المحيط ومن الوصف الشّهودي للعالم، فإنّ ذلك يضع بعض التّجارب الحروفيّة موضع التّعبير عن أشكال ألفتها العين في الواقع وهو ما يؤدّي إلي ردّ أعمال حروفيّة إلي الفنّ التّشبيهي بتنسيبيّة كبيرة. أمام لوحة حروفيّة لشاكر حسن آل سعيد لا نواجه غير لقيات لونيّة وتعرّجات لخطوط و لوضعيّات جداريّة تقوّض فيها الحرف إلي أن أصبح غائما وغير مقروء، وفي أعمال بمثل هذه التّعبيريّة، لا ينفي عنها داغر الصّفة الصّوريّة . يقول: الصّورة ليست معدومة في هذه التّجارب، إذن وإن كانت لا تحيل علي أصل طبيعي أو واقعي، كما أنّ هذه التّجارب لا تعدم التّشكيل، وإن كانت تحدّه بنطاق دون آخر، بمساع دون غيرها . 2 و لكنّ هذا المسعي في تنزيل العمل الحروفي ضمن المدار الواسع للتّشكيل يجعل من كلّ عمل تجريدي أيضا حاملا لـ صوريّة ما، وتكون الرّؤية البصريّة قائمة ما دمنا نعتبر الرّؤية قادرة علي بلوغ اللاّمرئي من خلال هذا المرئي الذي لا يبدو لنا غير خطوط منسابة أو ألوان مسطّحة، وهو في أصل نشأته استعادة لصور ما أي بالتّعبير السّعيدي (نسبة إلي آل سعيد) الوجود الجنيني للأشياء فهو كما يصرّح تلوح اللّوحة بلا شكل ومضمون ولكنّها من ناحية أخري شكل ومضمون. ذلك أنّها في موقف اللاّشيء. فهي لوحة تامّة 3 و يعني ذلك أنّ عدم اللّوحة (اعتبارها صفحة بيضاء) هو وجود أيضا. إنّ هذا الإقرار بوجود ما للّوحة ، حتّي وإن كان لا يري بالعين المجرّدة هو نوع من الإشارة إلي ضرورة تبدّل الإدراك التّشكيلي إزاء لوحات حروفيّة ولهذا اقترح آل سعيد تصوّره إلي ما وراء الرّؤية التي تنطوي علي الرّؤية ذاتها.
    إنّ تحليلا بهذا الشّكل لعمليّة تشكّل اللّوحة الحروفيّة ولعمليّة إدراكها يتطلّب إعادة نظر إلي العمليّة الإبداعيّة وإلي عمليّة التّلقّي باعتبارها إبداعا أيضا وقد يسعفنا الطّرح الفينومينولوجي في هذا الصّدد.

    تجربة تواشجات واستعادة دفق الحروفيّة:

    دون إيغال في طبيعة درجة صوريّة اللّوحة الحروفيّة يتبيّن لنا أنّ الوضع التّشكيلي الرّاهن يقرّ بعودة ما إلي النّسغ الحروفي سواء في تجارب متفرّقة أو جماعيّة، ومنها تجربة معرض تواشجات بين شاعر وفنّانين الذي أقيم في أكثر من قطر عربي وضمّ ما يزيد علي الـ 70 عملا فنّيّا مستوحي من أشعار الشّاعر شربل داغر. وقد بيّن هذا المعرض /التّظاهرة مدي انشداد اللّوحة الحروفيّة إلي الشّعر كمنبع تحريضي للّوحة الحروفيّة وهو ما يجعلنا نقرّ بأنّ الشّعر العربي الرّيادي منبت ممكن للتّجربة التّشكـيليّة العربيّة، إن كان ذلك في مسـتوي تكوينه لأفق تخييلي مثمر وخصب أو في مستوي اعتماد جـملته سردا ممكنا لتكوينيّة التّوجّه الخطّي/الحروفي لدي بعض الفنّانين. و ليس من الغريب أن تستلهم الأعمال الحـروفيّة الجديدة من شعر شربل داغر الذي يهيم بدوره بالحـروف و يجعلها بوّابة لغتين، يقول في قصيدته حاطب ليل :
    يعيدني والدي إلي المدرسة التي خرج منها
    من دون أن يتخرّج منها،
    ويعيدني المعلّم إلي حروف
    خلّفها أخوتي لي
    أو لغيري،

    إلي حروف نافرة وممحوة،
    لها أكثر من قراءة،
    بل هي لغتان،
    مثل الكرشوني :

    نقرأها في لغة
    وتفيد في لغة أخري.4

    إذن، لم تدفن الحروفيّة، في نهاية القرن العشرين، بل استعاد بعض الفنّانين العرب صلتهم بها دون أن تصدر بيانات جديدة ودون مراجعة نظريّة لإرث الحروفيّة العربي، بل إنّ انطباعا عامّا يسري في المشهد الفنّي يلوّح بأنّ الحرف كما يستثمر اليوم لا صلة له بحروفيّة الرّوّاد الأوائل. هذا هو ظاهر الوضع علي الأقلّ، وهو ما دفع بشربل داغر إلي القول بمجازفة كبيرة: لقد عنت الحروفيّة في تجاربها السّابقة نوعا من تبنّي الهويّة، لا من التّعبير علي الذّات، وغلب بالتّالي عليها الشّاغل الحضاري ، لا الفردي الخالص 5 . ولكن هل تجاوزت التّجارب العربيّة فعلا مدار الهويّة، وأصبحت مجرّد أبحاث فرديّة جماليّة وهل خلت التّجربة الحروفيّة الأولي من هاجس جماليّة اللوحة؟
    إنّ النّظر في المنجز الفنّي في مطلع الألفيّة الثّانية، يلاحظ توزّعه علي فريقين، أحدهما عاد إلي الحرف العربي ليحتفي بانتمائه المعلن إلي الهويّة العربيّة بينما ذهب الفريق الثّاني إلي اعتماد الحرف كوسيلة استعاديّة لسؤال تحديث الفنّ العربي. ولذلك كاد الحرف يختفي في هذه الأعمال، بل كان ذاكرة مرجعيّة/بصريّة ومظلّلا أكثر من كونه حاضرا بصرامة.
    و تكاد تكون مقاربة هذا المنجز من أوكد المهمّات، نظرا لما يشيع راهنا في مشهد النّقد الفنّي من آراء مطلقة حول هذه الظّاهرة المستجدّة، إذ ذهب فتحي العريبي إلي انّ الحروفيّة تبقي الصّيغة الأكثر تداولا الآن من أجل تطهير النّفس العربيّة من إثم تخلّيها عن فنونها القديمة واعتمادها للتّقنية الغربيّة في الرّسم والتّصوير في بداية القرن العشرين 6 ويحمل هذا الرّأي علي أساس تجريمي للذّات العربيّة التي اتّجهت إلي المخزون البصري الغربي لتستفيد منه، وهو موقف متطرّف قد يدفع إلي تبخيس الذّات أيضا ونكوصها، في حين أنّ العودة إلي الحروفيّة ـ حتّي في أكثر أشكالها إعلانا للهويّة ـ لا تحمل هذه الخلفيّة المخيفة. ويدعو رأي بمثل هذا الوضوح إلي تبيّن فعلي للمنتج الحروفي الجديد درءا لهذا الفهم بتنزيل الحروفيّة لدي الفريقين، باعتبارها ممكنا فنّيّا ما يزال ثراؤه مولّدا للإبداع لدي الفنّان العربي.
    غير أنّ هذا الرّأي له ما يبرّره حين ننظر في بعض تجارب فنّانين عائدين إلي القاع الحروفي مثل تجربة الفنّانة وجدان علي التي سعت إلي الانشغال بالحرف العربي.
    تقول وجدان علي: تنعكس الأزمة في نفسي بأن أصبحت عاجزة عن تصوير المنظر، حتّي في لوحات التّجريد، لأنّني أشعر بأنّ الكلمات هي الوحيدة التي أستطيع أن أعبّر من خلالها عمّا يجول في نفسي، فتقتصر رسوماتي علي الخطّ والكتابة فقط، وربّما يعود ذلك إلي أنّ الأزمات تعيدني إلي جذوري العربيّة وقوّة اللّغة كوسيلة للتّعبير عمّا يجول في نفسي .7
    ولكن بمعزل عن توجيهات الموقف والاستراتيجيّة الخطابيّة للفنّان، كيف تشكّل التّوجّه الحروفي في أعمال الفنّانة، خارج الاستعمال الظّاهر للحرف وتعييناته؟
    لقد انطلقت وجدان علي من القضايا العربيّة مثل القضيّة الفلسطينيّة، ومن التّراث العربي الإسلامي فاستحضرت بالحرف الواحد رموزا عربيّة واستغلّت الحرف (ع) للإشارة إلي علي بن أبي طالب وحرف (ح) للإشارة إلي الحسين بن علي كما انطلقت من حوارها مع أشعار الشّاعر شربل داغر.
    أمّا إيتيل عدنان، فقد خبرت الحرف لفترة طويلة من خلال تجاربها المتعدّدة في استجلابه واستجلائه علي السّواء، وما من شكّ في أنّ خلفيّتها الأدبيّة والفكريّة قد دفعتاها لمساءلة الحرف في لوحتها. لقد سبق لإيتيل أن استخدمت الحرف في تجربة الدّفاتر حين قامت بإنجاز مجموعة دفاتر تفتح وتغلق علي شاكلة الأكورديون في أحجام مختلفة، ويحتوي الدّفتر الواحد علي مجموعة من الأوراق، ويخصّص لقصيدة شعريّة لأحد الشّعراء العرب مثل محمود درويش، أدونيس، بدر شاكر السّيّاب، عبد الوهاب البيّاتي أو ابن الفارض، والمتفحّص في هذا الاختيار يلاحظ أنّ حروفيّة إيتيل قامت علي أساس مرجعي شعري في الغالب رغم ما اعتمدته في بعض من أعمالها علي كلمات مفردة أو جمل صادمة، كما تدلّ الدّفاتر علي فكرة المدوّنة الشّعريّة. إنّ إيتيل تجمع مختاراتها الشّعريّة العربيّة وتلقي بها في فضاء اللّوحة الفنّيّة.
    أمّا الفنّانة هناء مال اللّه، فقد عادت بدورها إلي القاع الحروفي، وهي التي واكبت مفهوم البعد الواحد كنظريّة وإجراء، وجعلت من فضاء قماشتها مساحة استيعاب سيلان لوني يجتاح كامل اللّوحة، مع تقشّف كبير في الألوان ذاتها كما الحرف الواحد الذي يقوم علي حركات قليلة، فقد استخدمت الأصفر والأسود وقليلا من البنفسجي في نوع من التّواشج بين الألوان، ودون أن تحدّ حيّزات مخصوصة للّون الواحد، بينما كانت الحروف لا تكاد تميّز مع الخطوط السّميكة وهو ما يعكس ضرباتها العنيفة علي القماشة باحثة بذلك عن تمثيل إضافي للمادّة، فتقوي الشّحنة التّعبيريّة للّوحة، وهذا لا يحدث إلاّ إذا توفّرت مقصديّة فنّيّة لتحويل سطح اللّوحة إلي معترك اللّون الخامّ الذي يمنح اللّوحة مزيدا من التّأويل، فابتعدت هناء مال اللّه عن تشخيص الحرف وجرّته إلي تشكّلات مختلفة وهي في صلتها بشعر داغر، استبطنت عمق النّصّ وحفيف كلماته بدل أن تكون معبّرة عن دلالاته، وهو شكل آخر في التّعامل مع النّصّ الشّعري: أي الاتّجاه نحو اختبار ينابيع الكلام والتّعبير عنها في اللّوحة ، وبما أنّ هذه الينابيع لا تنقال، وبالتّالي تخونها اللّغة في تشكّلها، فإنّ المدار الحروفي الذي تجنح إليه مال اللّه ينعطف بها نحو صوفيّة مدهشة تتمازج فيها الرّؤية بالرّؤيا. تقول الفنّانة عن تعاملها مع المادّة: إنّ سطح اللّوحة المحسوس هو مأزق الفنّان الذي يحاول دائما أن يحاوره ويتجاوزه، وهو مأزق المشاهد أيضا لأنّه أولي نقاط التقائه باللّوحة 8
    أمّا الفنّان محمود أبو النّجا، فقد استرسل في الاشتغال علي فكرة الكتاب المغلق الذي ينضّده بواسطة ألياف قماشيّة ويغلقة بواسطة حبل، في إشارة مستمرّة إلي كتم صوت الكتاب المطارد في التّاريخ العربي. وقد انفتح علي نصّ داغر بمباشرة تامّة حيث يستعيد بعض الجمل الشّعريّة ويكتبها فتأتي واضحة و مقروءة، ويكون سطح عمله ناتئا بأصباغ مشبعة وفاتحة. ولا نكاد نعثر علي تفعيل فنّي بين الحرف وبين الاختيارات اللّونيّة أو الشّكليّة، ممّا يدعونا إلي القول بمحدوديّة الجانب الإيحائي في عمله.

    انفتاح الحرف علي مدارات أخري:

    في اتّجاه آخر استطاع الفنّان محمود عبد العاطي أن ينطلق من الموروث التّشكيلي العربي والفرعوني، وأن يستكنه الحرف العربي بالتّخصيص في أعماله الأخيرة، فتداخلت الحروف بالكتل اللّونيّة، وانشطرت بين الوضوح والإلغاز، خالقا منها إيقاعيّة متوازيات إلي درجة يستحيل فيها الحرف إلي مجرّد خطّ غليظ أو تكوينات لونيّة تخفي الحروف أكثر ممّا تظهرها.
    وإذا كانت بعض هذه التّجارب تستمدّ بنائيّتها من الشّعر أو من الكتابات العربيّة فإنّها ولّدت في المشهد التّشكيلي، من جديد، أسئلة اللّوحة العربيّة، التي جابه فيها الحرف مغامرته، منفتحا بذلك علي تحويل وجهة الخطّ العربي أو مراودته من خلال بعض الممارسات الفنّيّة.
    هناك ممارسات لفنّ الخطّ تقع في الاتّجاه الحروفي دون أن تعلن عن ذلك أو تتبنّي مقولات الحروفيّين، بل إنّ الرّغبة الدّائمة في تجديد سنن الخطّ العربي أدّت ببعض التّجارب الفنّيّة إلي اختبار ممكنات الحرف. ومن بين هذه التّجارب، الأعمال الفنّيّة لمنير الشّعراني الذي زوّد خطّيّاته بممارسة غرافيكيّة تتجاوز المألوف في فنّ الخطّ العربي، فعمد إلي استخدام تكوينات مستحدثة علي نصوص شعريّة وتراثيّة، تحوّلت فيها القطعة الخطّيّة إلي لوحة، من ذلك عمله علي رباعيّات الخيّام وأبي الطّيّب المتنبّي و أسطورة جلجامش، هذه الأعمال التي خرج فيها الشّعراني من دائرة الخطّ العربي إلي المسلك الحروفي. يقول يوسف عبد لكي: ففي أعماله لا نجد التّصميمات التّقليديّة للخطّ ، بل تكوينات جديدة متراكبة، متناغمة، متعاكسة، تحاور فيها الكتل الصّغيرة الكتل الكـبيرة، والامتشاقات العموديّة، السّـيلانات الأفقيّة، والأقواس المتلاحقة، المتوازيات الهندسيّة، وحصر التّصميم في دائـرة أو مربّـع أو معيّن ثمّ كسر ذلك بالرّبط بين الكتلة ومحيطها الواسع، كلّ ذلك يعطينا متعة جديدة، ويطرح أسئلة بصريّة قلّما رأيناها في أعمال التّقليديّين 9
    ويعدّ هذا التّحوّل هاجسا إضافيّا لحركيّة الحروفيّة التي لن تظلّ أسيرة اللّوحة المسنديّة أو اللّوحة الخطّيّة بل ستلامس ممارسات أخري ، ناهيك عن أنّ تجربة الفنّان علي الطّرابلسي تؤكّد هذا المنحي في خروجه من الورقي والقماشي إلي الفضاء الطّلق بإثارة أعمال حروفيّة بموادّ صلبة أشبه بنحتيّات أو مسلاّت حديثة.
    لقد بيّنت بعض التّجارب الفنّيّة بحثها عن إمكانات جديدة لاستلهام الحرف العربي وتطويعه، ولكنّها لم تستطع أن تخرج بشكل نهائي عن أطروحات السّلف الحروفي، فهل تعدّ هذه العودة، حنينا باطنيّا مستديما، إلي لحظة وجوديّة أولي هي جماع قوّة الحرف بوصفه كائنا.

    ? شاعر وجامعي من تونس
    الهوامش:
    1 ـ فوزي الكيّالي: في حفل افتتاح مؤتمر الفنون التّشكيليّة في الوطن العربي ـ مجلّة المعرفة، سورية ـ العدد161 تمّوز 1975 ـ ص .8.
    2 ـ شربل داغر: الرّؤية والصّورة في التّشكيل ـ ضمن كتاب جماعي: مرايا الرّؤي ـ دائرة الشّارقة للثّقافة والإعلام ـ 1997 ـ ص 113ـ 114.
    3 ـ شاكر حسن آل سعيد: الحرّيّة في الفنّ ـ المؤسّسة العربيّة للنّشر ـ الطّبعة الثّانية 1994 ـ ص.108.
    4 ـ شربل داغر: غيري بصفة كوني ـ دار شرقيّات للنّشر والتّوزيع ـ الطّبعة الأولي 2003 ـ ص. 65.
    5 ـ ورد في حوار مع شربل داغر ـ عمران القيسي ـ مجلّة جريدة الفنون ـ الكويت ـ العدد 41 ـ السّنة 2004 ـ ص.11.
    6 ـ فتحي العريبي: أسئلة الحروفيّة العربيّة ـ www.jeel.libya.com
    7 ـ ورد الشّاهد في مقال: جعفر العقيلي: الفنّانة وجدان علي ، ثلاث مراحل في أربعة عقود ـ مجلّة جريدة الفنون ـ الكويت ـ العدد 52 ـ السّنة 2005 ـ ص.9.
    8 ـ هناء مال اللّه: المادّة الخامّ: سطح اللّوحة المحسوس والمتخيّل ـ مجلّة الفنون ـ الأردن ـ العدد 24 ـ السّنة1996 ـ ص.50.
    9 ـ يوسف عبد لكي: عكس التّيّار الذّهاب إلي المنبع ـ من كاتالوغ منير الشّعراني ـ نشر غاليري غرين آرت ـ 2004 ـ ص.10.





    التعليق على المقالة

    المهندس يوسف أبوسالم- الأردن - مؤتمر الحروفيين العرب
    من الطرافة بمكان ...ولعله مما يثير الحنق والأسى أن ينعقد مؤتمر الحروفيين العرب في بغداد ... ولمن لايعرق فإن هذا المؤتمر يبحث في مسارين ... الأول :- (هو أنّ الفنّ التّشكيلي العربي ينبغي أن يكون عربيّا، محافظا علي أصالته فما من فنّ يستحقّ هذا الاسم إلاّ إذا كان تعبيرا أصيلا وصادقا عن شخصيّة الأمّة التي ينتمي إليها) والثاني :- (أنّ الفنّان التّشكيلي العربي مدعوّ إلي التّفاعل مع التّيّارات الفنّيّة المعاصرة، وإلي معرفتها وتمثّلها وإقامة حوار معها) هكذا إذن فلا بد للفن التشكيلي العربي أن يحافظ على الهوية العربية والتراث في بلد منتهك ومسلوبة هويته ..بالكامل ..وتم سرقة تراثه الفني والتشكيلي والتاريخي ..على رؤوس الإشهاد في بلد ..يتعامل فيه مرتزقة القوات الأمريكية ..مع الشعب العراقي وكأنهم خراف تذبح يوميا ..وبالطبع ليس على الطريقة الإسلامية ... في بلد هجره أكثر من ربع سكانه حتى الآن والحبل على الجرار ويتعامل معه ( أشقاؤه ) العرب وكأنه تحصيل حاصل ..بل ويباركون بشكل أو بآخر كل ما تقوم به أمريكا وعملائها من تفتيل وعنف وإرهاب دموي يومي ومن أجل أن يخرج مؤتمر الحروفيين العرب بتوصيات واقعية يحافظ فيها الفن التشكيلي العربي على هويته ..سأدلهم على طريقة ..شديدة الوضوح..وهي أن تنسحب القوات الأمريكية وكل قوات الحلفاء هناك ..ويعود العراق لأهله دون تدخلات غربية أو أجنبية أعتقد أن هذه أكثر الطرق واقعية للحفاظ على الهوية والتراث ..!!
    التعديل الأخير تم بواسطة Moderator-1; الساعة 07-21-2009, 09:28 AM.
يعمل...