الشاعر رضا عطية يطوي المدى ويمتشق صهوة الجوع!
قراءة ديوان ( انطوى في حجرها المدى )
بقلم / مجدي جعفر
...........
أما قبل :
( 1 )
منذ أكثر من ربع القرن، تعرفت ببيت ثقافة ديرب نجم على شاعر شاب، في منتصف العقد الثالث تقريبا، يميل جسده إلى النحافة، وأقرب إلى الطول منه إلى القصر، نزير الشعر، مليح الوجه، يطل بعينيه الملونتين من خلف نظارة طبية، لا تخفي وميض الحزن الشفيف الذي يطل منهما، وصوته أقرب إلى الهمس منه إلى الزعيق، وبصوته بحة محببة، تجعل حروفه وكلماته كأنها نغمات موسيقية، إنه الشاعر رضا عطية عبدالمطلب، الفصيح بطبعه، ابن قرية ( قرموط صهبرة ) التي يمت معظم أهلها بصلة إلى القبائل العربية، وهي قرية الشاعرين الكبيرين : بدر بدير حسن رحمه الله ومحمد سليم الدسوقي أطال الله لنا في عمره، وعلى دربهما سار شاعرنا الشاب، وتتلمذ عليهما، وزادت دراسته للغة العربية وآدابها من فصاحته، وأثرت موهبته الشعرية، وأصقلتها، عشق القرية، وطبيعتها البكر، وتناثرت مفرداتها في أشعاره الأولى، تماهى مع الطبيعة حتى تخاله وكأنه أصبح مفردة من مفرداتها، وجرت بنا الأيام، وجاوز رضا الخمسين عاما، وظل كما هو محافظا على نقاء سريرته، وصفاء نفسه، وأخلاق ابن القرية، وبمناسبة احتفاء نادي أدب ديرب نجم به وبأعماله، يسعدني أن أشارك في هذا الحفل بإطلالة في ديوانه الأخير " انطوى في حجرها المدى " ..
....
( 2 )
يقولون : الجوع أفعى!، ويقولون : الجوع كافر!، ويقولون : " جوّع " كلبك يتبعك ؟! .. وكنا نعتقد أن القول الأخير حكمة يعمل بها أولي الأمر في بلاد واق الواق، فولي الأمر هو ولي النعم، وهو الآمر والناهي، وهو المعز والمذل، وهو الباسط والقابض، هو .. وهو .. هو من نازع الخالق صفاته، وخلعها حاشيته عليه، فهل يمكن أن يتحول الجوع إلى حصان؟، وهل يتحول الجائع إلى فارس؟ .. وهل يا ترى سيفه من فولاذ أم من حديد أم من خشب؟ ..
( على صهوة الجوع
نط الفؤاد الأسد
فاحتراق المهانة أشعل ...
غيظ الجسد
وذوّب ثلج الطواغيت ...
زلزل عرش الخيانة
فقيظ التمرد يفري
غرور الطغاة
لصوص الرغيف
لصوص الوطن )
والفقر هو وقود الثورات، كما يذهب الشاعر، فيقول في رسالته إلى الرئيس المخلوع، أوفي محاكمته إن شئنا الدقة في قصيدته " بُح أيها الأسد العجوز " :
( لم تدر أنّ الظلم شاع
لم تدر أنّ الحق ضاع؟!
لم تدر أن الفقر ...
سوف يُعدُّ ثورات الجياع )
إذن الفقر والظلم وغياب العدالة وحاشية السوء كلها من أسباب قيام الثورات، وما ثورة يناير منا ببعيدة :
( كيف ارتضيت بأن يسوق أعنة الإعلام
عربيد وراقص؟
أرهفت سمعك للعتاة وللطغاة وللنواقص
ورفعت قزما – كان طبال الهوى –
فوق الرءُوس كأنه للعصر فارس
وجعلت طاغوت التغطرس في ربوع .. النيل حارس
وتغيرت لغةُ المفاهيم القميئة عندكم
فالظلم عدل والمعرةُ عزة
هذا غراب البين يستبق النوارس
فترى لصوص المال مصاصي دماء ..
الخلق في صدر المجالس )
......
( 3 )
الشاعر رضا عطية ينحاز إلى الجوعى والفقراء والبسطاء والمهمشين، وانحيازه غير " مأدلج "، ولا يعد نفسه محسوبا على التيار اليساري أو الناصري مثلا، حتى لو تصادف أن تلاقى في كثير من أفكاره وميوله مع الأيدولوجية الناصرية في سموها وغايتها النبيلة، فهو لا ينضوي تحت عباة أفكار بعينها، ولكنه مثل الطائر المحلق، من شجرة إلى شجرة، ومن غصن إلى غصن، فهو شاعر حر طليق، يرفض اليسار، ويرفض اليمين، ويرفض الذين يتخذون الدين شعارا، ويرفعون رايته ويرتدون عباءته، ويفصح عن كل ذلك في قصيدته " زهرة البعث ".
فعن الجماعات الدينية التي ابتلينا بها، ويسمي الجماعة الأم منها، بخوارج عصرنا، يقول :
( أم من خوارج هذا العصر كم صغُرت / في فكرهم حُرمات الأرض والجار؟
هم يفخرون بسفك الدم منهمرا / يرددون نشيد الأخذ بالثار )
ويرفض رفضا تاما كل الأفكار الواردة، شيوعية كانت أو رأسمالية، فأصحابها يرفضون قيام هذه البلاد، ويرفضون نهضتها، فيقول :
( ما بين يمنة أفكار ويسرتها / هويت يا مصرنا في غيّ أفكار
فلا الدماء يصُون الغرُّ حرمتها / ولا الآذان نجى من بغي فُجّار )
وتأخر البلاد في رأيه، بسبب هذه الأفكار الواردة من العلوج، وكلمة العلوج شاعت على لسان محمد سعيد الصحاف إبان غزو أمريكا للعراق، وراجت هذه الكلمة وانتشرت خلال هذه الفترة، والشاعر يعيد هنا توظيفها، ويستفيد من دلالتها، ووقعها ..
( وما استفزت ضمير العلج واأسفي! / فهل ترى جنة في هُوة النار؟! )
" والعلوج جمع علج، والعلج يطلق في اللغة على الرجل الشديد الغليظ، وقد تطلق على الرجل من كفار العجم، كما قال الجوهري في الصحاح، وابن منظور في اللسان، وابن الأثير في النهاية.
ولعل أصل اشتقاقها من الصلابة والشدة، لأن العرب تطلق على كل صلب شديد علج، كما قال صاحب اللسان.
فهذه الأفكار التي يسوقونها لنا على أنها الجنة، هي الناربعينها في رأي شاعرنا، فيرفضها جملة وتفصيلا، ويتمنى لمصرنا بعثا جديدا، ويدعونا إلى رفض هذه الأفكار الدخيلة، والتخلص منها، ويبدو أن الشاعر يحس بالغربة والحزن والألم في وطنه، بسبب هذه الأفكار، ولا تسلم قيثارته ونايه ومزماره وأشعاره من خوارج عصرنا، الذين يلصقون به تهمة الكفر، لأنه يرفض أن يغرد معهم، كما يرفض الشيوعية والرأسمالية الوافدة إلينا من العلوج.
.......
( 4 )
= ولا ينسى الشاعر سيناء، ولا أرضها المباركة، ولا الدماء الذكية التي تُبذل في سبيلها، فتأتي قصيدته " سيناء رائحة الخلود " معزوفة حُب خالدة.
= وفي قصيدته " طعم الوجيعة " ينتقد بعض أخلاقنا، وأمراضنا ، فعن الحبيب والصديق في زمننا يقول :
( فلا الحبيب الذي كنت آملُه / آسا فؤادي من علات أشواقي
ولا الصديق الذي مازلت أذكره / بكل خير رثى دمعا بآماقي )
ويقول أيضا :
( أحين يقسو علىّ الدهر في عرض / تروم كلُّ أفاعي الشر إخفاقي
وحين أستنقذ الأحباب مرتجيا / أرى بأعينهم حكما بإغراق
فهل سراب عطاءُ العمر يا زمني / أحسنت للخل لكن ود خُناقي
فهل مصير أيادي الخير يحرقها؟ / سهم اللئام فعكر صفو أعراقي )
ويذكر بعض مآثره :
( أنا الذي والتي والكل قاطبة / تقرّ أعينهم من فيض إغداقي
فما برمتُ وما طافت بخاطري / روح التشفي وما لاحت بآفاقي )
ولا ملجأ له في النهاية إلا الله :
( فليس لي غيرُه حصن ومرحمة / وليس لي بدل من ربنا الباقي )
= ويقترب في قصيدة ( تأملات ) من الإنسان الذي يعيد التأمل في بعض من مشاهد رحلته، ويستعيد نتفا من حياته التي مرت، ويتوقف عندها، وينظر إليها من كل الزوايا، ويكاد يقبض في النهاية على لب الحقيقة، الحقيقة التي تومض في قصيدة في لحظة برق خاطف، في لحظة، تصفو فيها النفس، وتتألق الروح، فيكون الكشف والتجلي والفيض الإلهي.
....
( 5 )
ويتألق الرمز المراوغ في قصيدته ( انطوى في حجرها المدى )
.....
( 6 )
للآخر حضوره في هذا الديوان :
1 – في قصيدته " في رثاء البدر "، يستعيد لنا شاعرنا الكبير بدر بدير، الذي رحل عن دنيانا، مذكرا بفضله، وبآياديه البيضاء، وبأهم ما يميزه، وهو الحب، حب الله والكون والإنسان والوطن.
ومن أجواء القصيدة :
( أي مرء يعشق الحُب منى / فهو درب وإمام ومصير
هو ذا البدر فلا تعجب أخي / جسم إنسان وروح عبير )
2 – ويهدي قصيدته " تبحر في المدى " إلى صديقه الشاعر محمود الديداموني، وكأنه يؤكد من خلال قصيدته على أهمية الصداقة والصديق الصدوق الذي نفتقده في هذا الزمن النكد الضنين، ويؤكد فيها ايضا على قيمة الحب، فالديداموني له نفس طباع وأخلاق الشاعر، وتجمع بينهما البراءة والنقاء، وأخلاق أبناء القرية، ومن أجواء القصيدة :
( وأنت بقلبك الطفليّ / قد أكملت عنوانك
تحملت الأسى طوعا / وما أشقيت خلاّنك )
ويقول أيضا :
( أخي من وقت صحبتنا / وعهد الحب ما خانك
وفيّ – قل كما تهوى - / كتوم السر قد صانك )
ومن أجواء القصيدة أيضا :
( ويبقى طبعك الريفي / فوق الرأس تيجانك
قليل هم رفاق الدّرب / من تُفضي له شانك
ومن – إن جاء نائبة - / تراه يريح وجدانك
وإن حملته أمرا / تجده يطيع سلطانك
فليس بطبعه الخذلان / ليس يملُ ألحانك
.....
.....
صديق العمر طب نفسا / فما غيرت ألوانك )
3 – الغرام بالزوجة :
ويسير شاعرنا على درب أستاذه بدر بدير في عشق الزوجة، ورضا يمطر زوجته بقصائد الغزل وعبارات العشق والهيام، وقصائده في زوجته تفيض رقة وعذوبة، ومن الإهداء إلى قصيدة " بدونك " مرورا بالعديد من القصائد التي كتبها في الزوجة، نستشف فيها أثر استاذه ومدى تأثره به، وهذا ملمح مهم في تجربة رضا الشعرية والإنسانية، ويحتاج إلى مبحث خاص، والموازنة والمقاربة فيه بينه وبين أستاذه والغزل بالزوجة.
4 – وفي قصيدة " توضأ من دمي ) يرثي شهداء مسجد الروضة ببئر العبد
5 - ويهدي قصيدة " معك " إلى مؤتمر ديرب نجم، وهو من المؤتمرات الذي كان له السبق والريادة، ويبدو أن هناك من كان يتربص بالمؤتمر وبالمؤتمرين، ولا يريد له الانعقاد في موعده، فتمت إقامته بالقاهرة، وينحاز الشاعر في قصيدته إلى المؤتمر الذي نما وترعرع على أرض ديرب الطيبة.
ومن أجواء القصيدة :
( هو الحُلم يبعث فينا الحياة / ويقذف وجه البلى بالحسك
" ديرب " التي أنجبت عاشقيها / تموت؟! وكيف يموت الفلك؟
محبوه كثر وإنا حماة / نصارع بالحب المعترك )
6 – قصيدة " نبض ثائر " ومُهداه إلى الدكتور صابر عبدالدايم، وهي من القصائد القصار، مكثفة ومكتنزة، وعبرت بصدق وبحب عن شاعرنا وأستاذنا ومولانا وعالمنا الجليل خير تعبير، راصدة بعض من صفاته وشمائله وخصاله :
( أنت الهدوء أم أنت موج هادر / الصبر فيك وفيك عز نادر
الصدق في فيك المطّهر آية / والشعر في الأعماق نبض ثائر
لغة الشعور لديك أنغام الهوى / ومع الأئمة في الأثير مناظرُ
وأراك في زمن الرخاء مسبحا / ولأنت في هول الشدائد صابرُ )
7 – قصيدة " قلب طفل " ومُهداه إلى الأستاذ جمال النصيري، مشرف النادي الأدبي بديرب نجم، وجمال النصيري مثقف نبيل، أحب العمل الثقافي، والأدباء، وربطته الصداقة والمحبة بكل أدباء النادي، وما زالت ممتدة حتى بعد بلوغه سن التقاعد.
......
( 7 )
قد تدهش بعض العناوين التي اختارها الشاعر المتلقي، ومنها عنوان الديوان " انطوى في حجرها المدى "، وهو عنوان إحدى قصائد الديوان، وتأمل بعض عناوين قصائد الديوان : على صهوة الجوع، تبحر في المدى، توضأ من دمي، زهرة البعث، طعم الوجيعة، ...إلخ.
ومعظم العناوين جاءت كصور شعرية جديدة ومُبهرة ومبتكرة، وصور الشاعر الشعرية اعتمدت في معظمها في هذا الديوان على حاسة البصر التي تلعب دورا رئيسيا في الفنون عامة، فالعين اللاقطة للشاعر نقلت لنا من العالم الخارجي الأشياء بأشكالها وألوانها وأحجامها، والديوان عبارة عن صور بصرية تترى، وتتوالى، ولكن ثمة بعض الصور الشعرية الأخرى جاءت بالديوان واعتمد فيها الشاعر على الحواس الأخرى، وخاصة الحواس الثانوية، فحاستي البصر والسمع من الحواس الرئيسة، ولا غنى للشاعر عنهما، فالشاعر الموهوب يتمتع بعين لاقطة وبأذن واعية رهيفة وإحساساته الصوتية عالية بحيث يسمع وطء النملة على العشب المبتل، مثل الموسيقي، وشاعرنا مشبع بهاتين الحاستين، وصوره البصرية والسمعية، وموسيقاه، تؤكد ذلك، ولكن اللافت في هذا الديوان هو وجود الكثير من الصور التي اعتمد فيها الشاعر على الحواس الثانوية، والتي غالبا ما تكون مهملة، ونغبط الشاعر عليها، وعلى سلامة حواسه، ويمكن للقارئ أن يرصد ويحصي ويتتبع تلك الصور التي تؤكد سلامة حواس الشاعر كلها.
......
أما بعد :
أعتقد أنه من الصعب مقاربة كل قصائد الديوان، في هذه العجالة، ورضا عطية يستحق كل الحفاوة التي تليق به وبإبداعه، وأرجو أن أكون قد نثرت في هذه العجالة بعض قطرات الضوء حول الشاعر وديوانه " انطوى في حجرها المدى "، وأرجو أن نتوقف في مقالة أخرى، على الجوانب الفنية وجماليات النص الشعري عند شاعرنا.
قراءة ديوان ( انطوى في حجرها المدى )
بقلم / مجدي جعفر
...........
أما قبل :
( 1 )
منذ أكثر من ربع القرن، تعرفت ببيت ثقافة ديرب نجم على شاعر شاب، في منتصف العقد الثالث تقريبا، يميل جسده إلى النحافة، وأقرب إلى الطول منه إلى القصر، نزير الشعر، مليح الوجه، يطل بعينيه الملونتين من خلف نظارة طبية، لا تخفي وميض الحزن الشفيف الذي يطل منهما، وصوته أقرب إلى الهمس منه إلى الزعيق، وبصوته بحة محببة، تجعل حروفه وكلماته كأنها نغمات موسيقية، إنه الشاعر رضا عطية عبدالمطلب، الفصيح بطبعه، ابن قرية ( قرموط صهبرة ) التي يمت معظم أهلها بصلة إلى القبائل العربية، وهي قرية الشاعرين الكبيرين : بدر بدير حسن رحمه الله ومحمد سليم الدسوقي أطال الله لنا في عمره، وعلى دربهما سار شاعرنا الشاب، وتتلمذ عليهما، وزادت دراسته للغة العربية وآدابها من فصاحته، وأثرت موهبته الشعرية، وأصقلتها، عشق القرية، وطبيعتها البكر، وتناثرت مفرداتها في أشعاره الأولى، تماهى مع الطبيعة حتى تخاله وكأنه أصبح مفردة من مفرداتها، وجرت بنا الأيام، وجاوز رضا الخمسين عاما، وظل كما هو محافظا على نقاء سريرته، وصفاء نفسه، وأخلاق ابن القرية، وبمناسبة احتفاء نادي أدب ديرب نجم به وبأعماله، يسعدني أن أشارك في هذا الحفل بإطلالة في ديوانه الأخير " انطوى في حجرها المدى " ..
....
( 2 )
يقولون : الجوع أفعى!، ويقولون : الجوع كافر!، ويقولون : " جوّع " كلبك يتبعك ؟! .. وكنا نعتقد أن القول الأخير حكمة يعمل بها أولي الأمر في بلاد واق الواق، فولي الأمر هو ولي النعم، وهو الآمر والناهي، وهو المعز والمذل، وهو الباسط والقابض، هو .. وهو .. هو من نازع الخالق صفاته، وخلعها حاشيته عليه، فهل يمكن أن يتحول الجوع إلى حصان؟، وهل يتحول الجائع إلى فارس؟ .. وهل يا ترى سيفه من فولاذ أم من حديد أم من خشب؟ ..
( على صهوة الجوع
نط الفؤاد الأسد
فاحتراق المهانة أشعل ...
غيظ الجسد
وذوّب ثلج الطواغيت ...
زلزل عرش الخيانة
فقيظ التمرد يفري
غرور الطغاة
لصوص الرغيف
لصوص الوطن )
والفقر هو وقود الثورات، كما يذهب الشاعر، فيقول في رسالته إلى الرئيس المخلوع، أوفي محاكمته إن شئنا الدقة في قصيدته " بُح أيها الأسد العجوز " :
( لم تدر أنّ الظلم شاع
لم تدر أنّ الحق ضاع؟!
لم تدر أن الفقر ...
سوف يُعدُّ ثورات الجياع )
إذن الفقر والظلم وغياب العدالة وحاشية السوء كلها من أسباب قيام الثورات، وما ثورة يناير منا ببعيدة :
( كيف ارتضيت بأن يسوق أعنة الإعلام
عربيد وراقص؟
أرهفت سمعك للعتاة وللطغاة وللنواقص
ورفعت قزما – كان طبال الهوى –
فوق الرءُوس كأنه للعصر فارس
وجعلت طاغوت التغطرس في ربوع .. النيل حارس
وتغيرت لغةُ المفاهيم القميئة عندكم
فالظلم عدل والمعرةُ عزة
هذا غراب البين يستبق النوارس
فترى لصوص المال مصاصي دماء ..
الخلق في صدر المجالس )
......
( 3 )
الشاعر رضا عطية ينحاز إلى الجوعى والفقراء والبسطاء والمهمشين، وانحيازه غير " مأدلج "، ولا يعد نفسه محسوبا على التيار اليساري أو الناصري مثلا، حتى لو تصادف أن تلاقى في كثير من أفكاره وميوله مع الأيدولوجية الناصرية في سموها وغايتها النبيلة، فهو لا ينضوي تحت عباة أفكار بعينها، ولكنه مثل الطائر المحلق، من شجرة إلى شجرة، ومن غصن إلى غصن، فهو شاعر حر طليق، يرفض اليسار، ويرفض اليمين، ويرفض الذين يتخذون الدين شعارا، ويرفعون رايته ويرتدون عباءته، ويفصح عن كل ذلك في قصيدته " زهرة البعث ".
فعن الجماعات الدينية التي ابتلينا بها، ويسمي الجماعة الأم منها، بخوارج عصرنا، يقول :
( أم من خوارج هذا العصر كم صغُرت / في فكرهم حُرمات الأرض والجار؟
هم يفخرون بسفك الدم منهمرا / يرددون نشيد الأخذ بالثار )
ويرفض رفضا تاما كل الأفكار الواردة، شيوعية كانت أو رأسمالية، فأصحابها يرفضون قيام هذه البلاد، ويرفضون نهضتها، فيقول :
( ما بين يمنة أفكار ويسرتها / هويت يا مصرنا في غيّ أفكار
فلا الدماء يصُون الغرُّ حرمتها / ولا الآذان نجى من بغي فُجّار )
وتأخر البلاد في رأيه، بسبب هذه الأفكار الواردة من العلوج، وكلمة العلوج شاعت على لسان محمد سعيد الصحاف إبان غزو أمريكا للعراق، وراجت هذه الكلمة وانتشرت خلال هذه الفترة، والشاعر يعيد هنا توظيفها، ويستفيد من دلالتها، ووقعها ..
( وما استفزت ضمير العلج واأسفي! / فهل ترى جنة في هُوة النار؟! )
" والعلوج جمع علج، والعلج يطلق في اللغة على الرجل الشديد الغليظ، وقد تطلق على الرجل من كفار العجم، كما قال الجوهري في الصحاح، وابن منظور في اللسان، وابن الأثير في النهاية.
ولعل أصل اشتقاقها من الصلابة والشدة، لأن العرب تطلق على كل صلب شديد علج، كما قال صاحب اللسان.
فهذه الأفكار التي يسوقونها لنا على أنها الجنة، هي الناربعينها في رأي شاعرنا، فيرفضها جملة وتفصيلا، ويتمنى لمصرنا بعثا جديدا، ويدعونا إلى رفض هذه الأفكار الدخيلة، والتخلص منها، ويبدو أن الشاعر يحس بالغربة والحزن والألم في وطنه، بسبب هذه الأفكار، ولا تسلم قيثارته ونايه ومزماره وأشعاره من خوارج عصرنا، الذين يلصقون به تهمة الكفر، لأنه يرفض أن يغرد معهم، كما يرفض الشيوعية والرأسمالية الوافدة إلينا من العلوج.
.......
( 4 )
= ولا ينسى الشاعر سيناء، ولا أرضها المباركة، ولا الدماء الذكية التي تُبذل في سبيلها، فتأتي قصيدته " سيناء رائحة الخلود " معزوفة حُب خالدة.
= وفي قصيدته " طعم الوجيعة " ينتقد بعض أخلاقنا، وأمراضنا ، فعن الحبيب والصديق في زمننا يقول :
( فلا الحبيب الذي كنت آملُه / آسا فؤادي من علات أشواقي
ولا الصديق الذي مازلت أذكره / بكل خير رثى دمعا بآماقي )
ويقول أيضا :
( أحين يقسو علىّ الدهر في عرض / تروم كلُّ أفاعي الشر إخفاقي
وحين أستنقذ الأحباب مرتجيا / أرى بأعينهم حكما بإغراق
فهل سراب عطاءُ العمر يا زمني / أحسنت للخل لكن ود خُناقي
فهل مصير أيادي الخير يحرقها؟ / سهم اللئام فعكر صفو أعراقي )
ويذكر بعض مآثره :
( أنا الذي والتي والكل قاطبة / تقرّ أعينهم من فيض إغداقي
فما برمتُ وما طافت بخاطري / روح التشفي وما لاحت بآفاقي )
ولا ملجأ له في النهاية إلا الله :
( فليس لي غيرُه حصن ومرحمة / وليس لي بدل من ربنا الباقي )
= ويقترب في قصيدة ( تأملات ) من الإنسان الذي يعيد التأمل في بعض من مشاهد رحلته، ويستعيد نتفا من حياته التي مرت، ويتوقف عندها، وينظر إليها من كل الزوايا، ويكاد يقبض في النهاية على لب الحقيقة، الحقيقة التي تومض في قصيدة في لحظة برق خاطف، في لحظة، تصفو فيها النفس، وتتألق الروح، فيكون الكشف والتجلي والفيض الإلهي.
....
( 5 )
ويتألق الرمز المراوغ في قصيدته ( انطوى في حجرها المدى )
.....
( 6 )
للآخر حضوره في هذا الديوان :
1 – في قصيدته " في رثاء البدر "، يستعيد لنا شاعرنا الكبير بدر بدير، الذي رحل عن دنيانا، مذكرا بفضله، وبآياديه البيضاء، وبأهم ما يميزه، وهو الحب، حب الله والكون والإنسان والوطن.
ومن أجواء القصيدة :
( أي مرء يعشق الحُب منى / فهو درب وإمام ومصير
هو ذا البدر فلا تعجب أخي / جسم إنسان وروح عبير )
2 – ويهدي قصيدته " تبحر في المدى " إلى صديقه الشاعر محمود الديداموني، وكأنه يؤكد من خلال قصيدته على أهمية الصداقة والصديق الصدوق الذي نفتقده في هذا الزمن النكد الضنين، ويؤكد فيها ايضا على قيمة الحب، فالديداموني له نفس طباع وأخلاق الشاعر، وتجمع بينهما البراءة والنقاء، وأخلاق أبناء القرية، ومن أجواء القصيدة :
( وأنت بقلبك الطفليّ / قد أكملت عنوانك
تحملت الأسى طوعا / وما أشقيت خلاّنك )
ويقول أيضا :
( أخي من وقت صحبتنا / وعهد الحب ما خانك
وفيّ – قل كما تهوى - / كتوم السر قد صانك )
ومن أجواء القصيدة أيضا :
( ويبقى طبعك الريفي / فوق الرأس تيجانك
قليل هم رفاق الدّرب / من تُفضي له شانك
ومن – إن جاء نائبة - / تراه يريح وجدانك
وإن حملته أمرا / تجده يطيع سلطانك
فليس بطبعه الخذلان / ليس يملُ ألحانك
.....
.....
صديق العمر طب نفسا / فما غيرت ألوانك )
3 – الغرام بالزوجة :
ويسير شاعرنا على درب أستاذه بدر بدير في عشق الزوجة، ورضا يمطر زوجته بقصائد الغزل وعبارات العشق والهيام، وقصائده في زوجته تفيض رقة وعذوبة، ومن الإهداء إلى قصيدة " بدونك " مرورا بالعديد من القصائد التي كتبها في الزوجة، نستشف فيها أثر استاذه ومدى تأثره به، وهذا ملمح مهم في تجربة رضا الشعرية والإنسانية، ويحتاج إلى مبحث خاص، والموازنة والمقاربة فيه بينه وبين أستاذه والغزل بالزوجة.
4 – وفي قصيدة " توضأ من دمي ) يرثي شهداء مسجد الروضة ببئر العبد
5 - ويهدي قصيدة " معك " إلى مؤتمر ديرب نجم، وهو من المؤتمرات الذي كان له السبق والريادة، ويبدو أن هناك من كان يتربص بالمؤتمر وبالمؤتمرين، ولا يريد له الانعقاد في موعده، فتمت إقامته بالقاهرة، وينحاز الشاعر في قصيدته إلى المؤتمر الذي نما وترعرع على أرض ديرب الطيبة.
ومن أجواء القصيدة :
( هو الحُلم يبعث فينا الحياة / ويقذف وجه البلى بالحسك
" ديرب " التي أنجبت عاشقيها / تموت؟! وكيف يموت الفلك؟
محبوه كثر وإنا حماة / نصارع بالحب المعترك )
6 – قصيدة " نبض ثائر " ومُهداه إلى الدكتور صابر عبدالدايم، وهي من القصائد القصار، مكثفة ومكتنزة، وعبرت بصدق وبحب عن شاعرنا وأستاذنا ومولانا وعالمنا الجليل خير تعبير، راصدة بعض من صفاته وشمائله وخصاله :
( أنت الهدوء أم أنت موج هادر / الصبر فيك وفيك عز نادر
الصدق في فيك المطّهر آية / والشعر في الأعماق نبض ثائر
لغة الشعور لديك أنغام الهوى / ومع الأئمة في الأثير مناظرُ
وأراك في زمن الرخاء مسبحا / ولأنت في هول الشدائد صابرُ )
7 – قصيدة " قلب طفل " ومُهداه إلى الأستاذ جمال النصيري، مشرف النادي الأدبي بديرب نجم، وجمال النصيري مثقف نبيل، أحب العمل الثقافي، والأدباء، وربطته الصداقة والمحبة بكل أدباء النادي، وما زالت ممتدة حتى بعد بلوغه سن التقاعد.
......
( 7 )
قد تدهش بعض العناوين التي اختارها الشاعر المتلقي، ومنها عنوان الديوان " انطوى في حجرها المدى "، وهو عنوان إحدى قصائد الديوان، وتأمل بعض عناوين قصائد الديوان : على صهوة الجوع، تبحر في المدى، توضأ من دمي، زهرة البعث، طعم الوجيعة، ...إلخ.
ومعظم العناوين جاءت كصور شعرية جديدة ومُبهرة ومبتكرة، وصور الشاعر الشعرية اعتمدت في معظمها في هذا الديوان على حاسة البصر التي تلعب دورا رئيسيا في الفنون عامة، فالعين اللاقطة للشاعر نقلت لنا من العالم الخارجي الأشياء بأشكالها وألوانها وأحجامها، والديوان عبارة عن صور بصرية تترى، وتتوالى، ولكن ثمة بعض الصور الشعرية الأخرى جاءت بالديوان واعتمد فيها الشاعر على الحواس الأخرى، وخاصة الحواس الثانوية، فحاستي البصر والسمع من الحواس الرئيسة، ولا غنى للشاعر عنهما، فالشاعر الموهوب يتمتع بعين لاقطة وبأذن واعية رهيفة وإحساساته الصوتية عالية بحيث يسمع وطء النملة على العشب المبتل، مثل الموسيقي، وشاعرنا مشبع بهاتين الحاستين، وصوره البصرية والسمعية، وموسيقاه، تؤكد ذلك، ولكن اللافت في هذا الديوان هو وجود الكثير من الصور التي اعتمد فيها الشاعر على الحواس الثانوية، والتي غالبا ما تكون مهملة، ونغبط الشاعر عليها، وعلى سلامة حواسه، ويمكن للقارئ أن يرصد ويحصي ويتتبع تلك الصور التي تؤكد سلامة حواس الشاعر كلها.
......
أما بعد :
أعتقد أنه من الصعب مقاربة كل قصائد الديوان، في هذه العجالة، ورضا عطية يستحق كل الحفاوة التي تليق به وبإبداعه، وأرجو أن أكون قد نثرت في هذه العجالة بعض قطرات الضوء حول الشاعر وديوانه " انطوى في حجرها المدى "، وأرجو أن نتوقف في مقالة أخرى، على الجوانب الفنية وجماليات النص الشعري عند شاعرنا.