هل نحتاج إلى سيبويه جديد؟
عن "التطوير" الذي لسنا في زمنه
ميلود بن غربي(*)
نبدأ من حيث انتهى الأستاذ شريف الشوباشي حينما انتقل لتقديم مقترحاته لإصلاح وتطوير اللغة العربية في الصفحات الأخيرة من مؤلفه "لتحيا اللغة العربية: يسقط سيبويه" ـ الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب ـ مؤكداً أن التطوير الذي يدعو إليه يجب أن يحافظ على أساسيات اللغة العربية، بحيث إن من يتعلم العربية بعد التطوير يكون قادراً على فهم ما كتب قبل إجراء عملية التطوير. ما يعني أن عملية التطوير تأخذ بعين الاعتبار عدم نسف الأسس والقواعد التي قامت عليها اللغة العربية مستبقاً مقترحاته مما أتت به اللهجات بالسليقة، لأن ذلك أقرب الى المنطق وأبعد عن التعقيد غير المفيد. كما أشار منوهاً في ذات الوقت الى أن أفكاره ستكون صدمة لبعض الذين اعتادوا السير في الطرق المعبدة التي مهدها السلف منذ قرون طويلة ويسير عليها كل من جاء من بعدهم في حالة استكانة عقلية غريبة، وأن من يعتبرون أنفسهم حراس اللغة العربية سينتفضون غضباً من اقتراحاته موجهين له اتهامات جاهزة، معتمدين على نزعة المزايدة واللعب على وتر الدين والتقاليد، وكل القيم المتوارثة عن الآباء والأجداد التي قد نفهمها من منطلقات متباينة.
ما يسترعي الانتباه والملاحظة هو المنهج المقارن الذي اعتمده المؤلف في تحاليله وتوصيفاته التي أفضت الى تلك الاستدلالات والخلاصات التي ترجمها الى مقترحات لتطوير اللغة العربية. وهو في منهجه ذاك أساء اختيار اللغات التي يفترض أن تكون مادة لتقارن باللغة العربية، إذ أنه اختار اللغتين الانكليزية والفرنسية كموضوع للمقارنة غاضاً الطرف عن أن هاتين اللغتين تنتميان الى مجموعة اللغات الهندو أوروبية، بينما تنتمي اللغة العربية الى اللغات السامية، ومن ثمة فمن المستحيل أن يكون تركيب الجملة في العربية مشابهاً لتركيبها في إحدى اللغات الأوروبية. فليس من المفارقة إذن أن تأخذ الكلمة معناها من التشكيل وليس من موقعها في الجملة، بل هي خصوصية وميزة للعربية فلكل لغة أو لهجة في العالم خصائصها التي تتفرد بها.
وإلغاء التشكيل والاستعاضة عنه بأحرف العلة التي يشكو المؤلف من نقصها يثير الاستغراب، ويتناقض في ذات الوقت مع ما يدعو إليه من تسهيلات واختصارات لتطوير العربية حيث يفضل أن تكتب الكلمات كما تلفظ باستبدال "راجولون" بـ"رجل" و"ضارباً" بـ"ضرب" وهكذا فإن سهلنا طريقة الكتابة كما يعتقد، فإننا في المقابل نصعب عملية الفهم والقراءة حتى على المبتدئين، والأجانب. وتجدر الاشارة في هذا الاطار الى أن العرب ينطقون كل ما يكتبونه بينما يهمل غيرهم أحرفاً يكتبونها؛ أليس الأجدى بهؤلاء في تلك اللغات الحية الحديثة أن يصلحوا لغاتهم ويعمدوا الى تطويرها حتى لا نجد نحن العرب وغيرنا من الشعوب صعوبة في تعلم ونطق كلمات تلك اللغات!؟
هذا، ولم يخف المؤلف دهشته في الصفحة مائة والسبعين متسائلاً كيف تكون لكلمة واحدة تكتب بطريقة واحدة في اللغة العربية أكثر من عشر دلالات!؟ ألا يؤدي هذا الى فتح باب اللبس والغموض في المعنى والحيرة والتأويلات المختلفة؟ وربما كان ذلك ـ حسب رأيه ـ أحد الأسباب وراء الخلافات التقليدية بين أبناء لغة الضاد فهم أحياناً غير قادرين على الاتفاق على معاني اللغة التي يتحدثون بها، فما بالنا بمضمون هذه الكلمات وفحواها؟ ولأن تساؤل المؤلف كان مباشراً مختوماً بتعليق صغير فيه مغالطة نورد إجابة مختصرة مباشرة نستكملها بتصويب نتوسمه صحيحاً.
فالكلمات التي تكتب بطريقة واحدة تشكيلها يتم بطرق مختلفة حسب المعنى المراد التدليل عليه، فطريقة النطق هي الفيصل لتحديد المقصود بذلك النوع من الكلمات وليس الصياغة مثلما هو الشأن في اللغة الفرنسية مثلاً حيث لا بد لمن يقرأ بهذه الأخيرة أن يتمتع بملكة التكهن ودرجة عالية من القدرة على الاستنتاج بل والرجم بالغيب أحياناً. فغالبية الأفعال والكلمات في هذه اللغة التي تدبج بنفس الأسلوب تلفظ بالطريقة ذاتها وعلى القارئ أو المستمع بعد ذاك أن يختار واحداً من المعاني التي يراها أكثر ملاءمة.
إن العربية بتعابيرها المتنوعة وتراكيبها المختلفة لم تكن قط أحد الأسباب وراء النزاعات بين أبناء الشعب الناطق بها بل كانت دائماً البوتقة التي تجمعهم وهو ما يعتد به كأحد المسلمات بطبيعة الحال. أما الباعث لتلك النزاعات والخلافات فيعود لدوافع أخرى يعرفها جميعنا.
اعتبر المؤلف أن السبب الوحيد الذي يجعلنا نتمسك بالمفعول به (منوّناً) هو أننا ورثناه من نحاة العصور السابقة، وأصبح مألوفاً لآذاننا، لكنه من غير المنطقي أن نقبل هذا السبب ونستكين لثقافة الأذن، كون الغالبية العظمى من العرب يخطئون في المفعول به عند الكتابة. كما أنهم لا يفهمون معنى بعض الجمل بسبب ذوبان المفعول به وسط مفردات الجملة، حيث إن تركيبة اللغة العربية لا تحدد له مكاناً محسوباً ومعروفاً سلفاً. واعتبر أيضاً أن المثنى يتربع على أصول النحو العربي، بالرغم من أن باقي اللغات في العالم أدركت أن المفرد والجمع يكفيان تماماً للتعبير عن المعنى، وما زاد عن واحد يعتبر ببساطة جمعاً سواء أكان واحداً أو مائة أو أكثر.
كان المؤلف شريف الشوباشي في هذا السياق قد ذكر أنه يجيد اللغة الأجنبية خصوصاً الفرنسية، ما معناه أنه يدرك جيداً: إنه في الفرنسية أو الانكليزية وإن لم يستخدم فيهما المثنى لعدم وجوده فيهما أصلاً فإن الناطقين بهاتين اللغتين يضطرون دائماً للتعبير عن المثنى بوضع العدد اثنين أو ما يشير إليه قبل المعدود، بينما في العربية يكتفى بالتثنية وهي أكثر دقة وبلاغة؛ والأكيد كذلك فيما يتعلق باستعمال المفعول به أن المؤلف على دراية واسعة لما تجره استخدامات المفعول به مع الأفعال المساعدة من غموض، وتعقيد، واشتباه تؤرق المختصين أنفسهم في تلك اللغات.
لم يوفق المؤلف في التدليل على عدم جدوى استعمال جمع المؤنث والتصريف الناتج عنه، الذي يراه مجرد أداة لتعذيب الطلبة وكل من يستخدم العربية كلغة كتابة، لأن تصريف جمع المؤنث من أعقد التركيبات التي لا لزوم لها لفهم المعنى. فغالبية لغات العالم لا تستعمل تلك التراكيب الصرفية البالغة التعقيد التي عفا عليها الزمن، وعدم نجاح المؤلف في ذلك التدليل يمكن تفسيره بالأساس من انبثاقه عن دعوى غير مبررة علمياً ولغوياً تشبه الدعوى لالغاء استخدام ضمير المخاطبة للمفرد، والتصريف الناتج عنه، والاستعاضة عنه بضمير المخاطبة للجمع وما ينتج من تصريف اقتفاء بما هو جار في اللغة الانكليزية.
إن هذه الدعوات لم تلقَ الترحيب والقبول لدى اللسانيين في اللغات الأخرى، إذ رفضوها وشجبوها واعتبروها مدمرة وهدامة لصروحهم الحضارية والثقافة، ويأتي اللبنانيون الفرنسيون في طليعة هؤلاء، بما أن الصرف في لغتهم مليء بالمفارقات والمتناقضات التي يشكو منها الفرنسيون أنفسهم.
وعلى العموم فإن سلمنا جدلاً بمختلف الاقتراحات الواردة في الكتاب، فكيف ستكون الأجيال القادمة قادرة على استيعاب اللغة العربية التي كانت سائدة قبل عمليات الاصلاح والتطوير التي يزعم المؤلف نجاعتها وفعاليتها!؟
***
في الصفحات الأولى من كتاب "لتحيا اللغة العربية: يسقط سيبويه" عقد الكاتب العديد من المقارنات التي منها: أن أية سكرتيرة متواضعة حاصلة على شهادة متوسطة في أية دولة غربية قادرة على أن تكتب بنفسها خطاباً دون أخطاء لغوية، وهذا ما لمسه خلال تعامله مع منظمة اليونسكو الدولية مع أكثر من سكرتيرة فرنسية، حيث فوجئ بأنهن يكتبن مذكرات وخطابات رسمية دون أي خطأ، أما في الوطن العربي فإن أعلى القيادات الوظيفية عاجزة عن صياغة مذكرة أو خطاب خاص بعملهم دون أخطاء لغوية في العربية، معللاً هذا الوضع بكون الفرنسية لغة سهلة وطيعة ومباشرة بسبب التطوير الدؤوب لهذه اللغة من طرف الفرنسيين، وهو التطوير ذاته الذي ينأى عنه العرب، والذين لا يزالون يتمسكون بالقواعد الصرفية والنحوية التي وضعها سيبويه وغيره.
والحقيقة أن تعليلاً على هذا النحو يجافي الصواب حتماً، لأن تلك القيادات الوظيفية لم تعيّن في جلها وفقاً لمعايير الكفاءة والأهلية العلمية المعمول بها في الدول الغربية والتي منها فرنسا وغيرها من البلدان المتقدمة، بل بناء على المحاباة والمحسوبية والجهوية والطائفية، فلم يستغرب إذن من هزالة مستواها الثقافي عموماً واللغوي تحديداً؟ ولم يطمح لاسقاط سيبويه ويدعو للتنكر له ولفضله في ضبط قواعد العربية، من حيث عجز غيره من المعاصرين عن ضبط وتوحيد أسماء الأشهر في العالم العربي!؟
(*) كاتب جزائري مقيم في بيروت
المصدر: صحيفة المستقبل
تعليق