بقلم الكاتب العربي الكبير محمد حسنين هيكل
صحيفة الإهرام القاهرية 18/2/1973
(من القرص المدمج: بصراحة، إصدار "البيت العربي للتوثيق العصري والنظم")
"دونغ فانغ هونغ"، عبارة فى اللغة الصينية، ترجمتها الحرفية "الشرق أحمر"، وكانت هذه العبارة هى الإشارة المميزة التى ظل القمر الصناعى الصينى يرددها فى طوافه حول الأرض حينما انطلق سنة 1970، بينما كان ثمانمائة مليون إنسان فى الصين يلصقون آذانهم على أجهزة الراديو فى كل مكان يتسمعون إلى النبضات القادمة من الفضاء الخارجى!
ولست أعرف تماماً من الذى اختار هذه العبارة لتكون الإشارة المميزة للقمر الصناعى الصينى الأول، وقد سألت فى ذلك كثيرين ممن لقيت فى الصين، ولكن أحداً لم يعطنى إجابة قاطعة، وإن كنت شخصياً أظن أن الذى اختار الإشارة هو الرئيس "ماوتسى تونج" بنفسه لأنه بحاسته التاريخية لا يمكن أن يترك مثل هذه الإشارة وما ترمز إليه دون أن يعبئها بمعنى خاص يقصده، ثم أن العبارة من ناحية الصياغة تحمل إيماءات إلى أسلوبه الخاص فى الكتابة، وحتى فى إصدار التوجيهات، وهو أسلوب وصفه الرئيس ماو نفسه ذات يوم بقوله: "لكى يستطيع أى تعبير أن يلهم ويحرك، فإنه لابد أن يكون مزيجاً بين التحديد الذى لا يسمح بالخطأ، والإبهام الذى لا يقمع الخيال ".
وربما كان من نماذج ذلك الأسلوب، أن الرئيس"ماو" عندما يدعو أحداً إلى حوار معه، فإن تعبيره المفضل هو القول:
- "تعال نتحدث فى كل شىء من جنوب الجبال إلى شمال البحار ".
وإذا قبلنا استنتاج أن عبارة "الشرق أحمر" من اختيار الرئيس ماو.
وإذا قبلنا تفسير الرئيس ماو نفسه لأسرار الكلمات، إذن فإن العبارة قد تكون إشارة إلى أن ظل الصين - الحمراء - هو الظل الغالب على الشرق....
وإذا كان ذلك هو المقصود، فلا أظننى أختلف، لأن هذه هى الحقيقة الكبرى فى آسيا كما رأيتها. ذلك أنه على طـول المسافة من اليابان إلى الباكستان، فإن ظل الصين هو الغالب فى كل مكان، ولا أحد - فيما أتصور - يستطيع أن ينازع فى هذه الحقيقة!.
وقبل أن أذهب إلى الصين، فقد حاولت أن أستمع إلى آراء عدد من الذين سبقونى إليها.
وكان بين ما لفت نظرى أن الآراء شديدة التباين، بل شديدة التناقض.
* ومثلاً، فإن وزيراً مصرياً هو الدكتور محمود محفوظ وزير الصحة قال لى بحماسة:
- "إنك سوف تجد هناك مجتمع الفضيلة.... لا أحد يكذب... لا أحد يسرق.... لا أحد يتواكل".
وهذه النظرة المثالية للصين وكل ما يجرى فيها شائعة، وقد كان مما لفت نظرى ذات يوم، أن أحد رفاقى فى بعثة "الأهرام" إلى بكين، هو خبير متخصص فى علوم الصراع السياسى، كان يزور معنا مدرسة من مدارس 7 مايو - وهى مدارس إعادة تقويم القيادات - ودخلنا أحد فصول المدرسة، وإذا قرابة المائة دارس جالسون على الأرض، يناقشون مع أستاذ لهم، يجلس أمامهم على منصة مرتفعة بعض الشىء من الأرض، أطروحة إنجلز الشهيرة "ضد دورينج"، إذا برفيقنا تأخذه النشوة، ويقول بالحرف:
- "يا إلهى... كأن أرسطو بعث حياً مرة أخرى".
ولكن هناك نظرة أخرى متباينة، بل متناقضة للصين، وكان صاحبها سياسياً عربياً - غير مصرى - وكان قوله:
- " أنت ذاهب إلى الصين؟، إنك هناك سوف ترى مجتمع النمل!
إنك فى الغالب سوف تنزل فى فندق "الشعوب"، وإذا حدث ذلك، فإنى أرجوك أن تستيقظ مبكراً ذات يوم، وأن تنظر من نافذة غرفتك إلى الشارع تحتك، وسوف تجد على الناحيتين فى الشارع الواسع منظراً لن يبرح ذاكرتك.
طابور لا ينقطع من راكبى الدراجات الذاهبين إلى عملهم فى الصباح على هذه الناحية من الشارع، وطابور آخر لا ينقطع على الناحية الأخرى.
سوف تجدهم كالنمل فى الحركة، وفى الشكل العام.
لن تجد فى بكين إلا هذه الطوابير من راكبى الدراجات، ليس فى الشوارع سيارات، لأن السيارات لا تخصص إلا لنواب الوزراء ومن فوقهم، وللأعمال الرسمية فقط.
وفى بكين مترو تحت الأرض، وهو فخم وأنيق، ولكنه للمستقبل.
وأما الوسيلة الأساسية للانتقال فى بكين اليوم فهى الدراجة، وسوف تذكرك طوابيرها المتحركة بغير انقطاع بطوابير النمل.... النمل الفارسى بالتحديد!"
وكان هذا التباين والتناقض مصداقاً حياً لملاحظة سمعتها من رفيق آخر من رفاق السفر وهو خبير فى العلاقات الدولية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية "بالأهرام"، وقد سبقت له الإقامة المتصلة سنتين فى الصين، وكانت ملاحظته:
- "إن أحداً لا يستطيع أن يتخذ موقفاً وسطاً إزاء الصين... الصين شىء يفرض نفسه، إما أن تتعصب له.... وإما أن تتعصب ضده! ".
- ولعلى أقول برغم ذلك، أن هناك من استطاعوا أن ينظروا إلى تجربة الصين نظرة موضوعية، وبينهم السير "إليك دوجلاس هيوم" وزير الخارجية البريطانية... وأتذكر أننى فى زيارة أخيرة للندن، أتيح لى الاطـلاع على فقرات من تقرير قدمه إلى مجلس الوزراء البريطانى بعد رحلة له أخيرة إلى الصين، وكان من بين ما قاله وزير خارجية بريطانيا:
- "سوف يكون مهماً بالنسبة للعالم كله، أن يتابع عن كثب تجربة الصين، لأنها فريدة فى التاريخ.
هناك شعب يريد أن يعتمد على نفسه كلية فى بناء تطوره وتقدمه.
وهو حتى لا يريد أن يقترض من الخارج لتمويل مشروعاته.
وقد سألت رئيس وزراء الصين "شوين لاى" عن السبب فى ذلك، وكان رده:
- "نحن نفضل أن نعتمد على أنفسنا تماماً... ولا نريد أن نقترض من أحد.... وليس من أهدافـنا أن نصل إلى وضع نجد أنفسنا فيه مثل غـيرنا يقترضون من جديد ليسددوا فوائد قروض قديمة!".
وعندما ركبت القطار من "كانتون" إلى "هونج كونج" خارجاً من الصين، بعد زيارة استغرقت اثنى عشر يوماً، فلقد وجدت كثيرين من الصحفيين فى انتظارى.
كان على أن أجيب على السؤال الذى طالما كنت قد وجهته إلى غيرى:
- " كيف وجدت الصين؟ ".
وقلت لهم بسرعة:
- " أن أبرز ما لفت نظرى فى الصين هو "قوة الاندفاع ".
هناك قوة دافعة تحرك الصين بغير حدود.
وهذه القوة مزيج من عناصر مختلفة، يمكن أن يطول النقاش حول أصولها وجذورها، ولكن أحداً لا يمكن أن يختلف حول الطاقة التى تولدها.
هناك فى الصين شعب من ثمانمائة مليون.
وهذا الشعب يتحرك إلى هدف.
ولا أعتقد، مما رأيت، أن هناك أحداً يستطيع أن يحول دونه ودون بلوغ هدفه.
"القوة الدافعة" هى الشىء اللافت للنظر فى الصين".
وعندما سئلت عن أحوال الناس فى الصين، قلت بأمانة :
- " الكل يأكل بما فيه الكفاية... الكل يلبس بما فيه الدفء والكرامة أيضاً... والكل يعمل بغير انقطاع... حتى العجائز فى المزارع الجماعية يكلفونهم بالسهر فى الليل مع الأطفال يروون لهم قصة ما كان فى الصين من جوع وفوضى وعذاب وذل، حتى لا تضيع من ذاكرة الأجيال حكاية ما كان، وليستطيعوا تقدير ما هو كائن".
ولقد سألت نفسى كثيراً بعد أن خرجت من الصين:
- "ما هو سر ما حدث فيها، وهو شىء أقرب إلى المعجزة؟".
ولست أسـتعمل هنا كلمة المعجزة جزافاً، لأننى حريص على الكلمة، ضنين بها، وهذا طبيعى، لأن الكلمة بالنسبة للكاتب حياة.
وإنما أستعمل هذه الكلمة لأننى أتذكر حواراً مع نيكيتا خروشوف الزعيم السوفيتى الشهير، جرى بينى وبينه سنه 1964، وكانت الصين فيه موضوعاً رئيسياً، وكان من بين ما قاله لى خروشوف وقتها:
- "سوف ترى، ونرى جميعاً، ما يحدث للصين بعد خلافها مع الاتحاد السوفيتى.
أقول لك بلا تردد، أنهم بدون مساعداتنا سوف يعودون إلى عصر المجاعات.
هل قرأت رواية الكاتبة الأمريكية بيرل باك عن "الأرض الطيبة" ووصف المجاعة فيها...؟
سوف تعود الصين إلى هذا العصر، وسوف يتعلمون درسهم.
لقد ضغطوا علينا، لأنهم أرادوا أن نسلمهم أسرار القنبلة الذرية، ونحن لن نعطيها لهم... إن القنبلة الذرية ليست لعبة... وليست مثل ما يقول "ماوتسى تونج" نمراً من ورق.
هم لا يعرفون شيئاً.. ولن يعرفوا"!
ولكن الصين لديها اليوم قنبلة ذرية، ولديها قنبلة هيدروجينية، وعندما كنت فيها، قال لى سفير أوروبى يتابع ما يجرى داخلها عن قرب وبعمق:
- "هناك معلومات لدينا تقول أنهم جربوا فى الأسبوع الماضى - وبنجاح - صاروخاً عابراً للقارات، مداه أربعة آلاف ميل"!
ولكن القنابل والصواريخ ليست فى رأيى، دليل المعجزة.
ولقد استوقفنى دليل آخر وبالأرقام.
تقول الأرقام:
أن حجم الإنتاج الصينى يعادل حجم الإنتاج اليابانى، وهو من أضخم القوى الإنتاجية.
(ولابد أن نسلم هنا بوجود فارق فى التقدم، لأن حجم الإنتاج الصينى يصنعه سكان يصل تعدادهم إلى 800 مليون بينما حجم الإنتاج اليابانى يصنعه سكان يصل تعدادهم إلى 100 مليون فقط).
لكن هذا ليس هو المهم.
المهم هو الرقم التالى عن استهلاك الصين من الوقود.
وأقصد به البترول قبل أى شىء آخر:
اليابان، لكى تصنع حجم إنتاجها، تستهلك سنوياً 240 مليون طن من البترول.
أما الصين، فإنها تستهلك سنوياً 25 مليون طن من البترول.
والغريب أن هذا الحجم الصينى فى استهلاك البترول (25 مليون طن)، هو نفسه تقريباً حجم الاستهلاك المصرى.
وإذن نخلص بمفارقة بالغة الأهمية، وهى:
"أن الصين تستخدم نفس حجم الطاقة التى تستهلكها مصر لكى تنتج نفس حجم الإنتاج الذى تصنعه اليابان".
وهذه هى الصورة الحية للمعجزة!.
والمعجزة، فى ظنى، ليست منى غيبياً، وإنما المعجزة، أو حتى ما يبدو أمامنا وكأنه معجزة له أسباب لابد أن تكون علمية.
وفى طوافى كله بالصين، فلقد أحسست بأن هناك ثلاثة أسباب محددة تكمن وراء المعجزة:
*** السبب الأول: أن كل إنسان يعمل، ولا يمكن أن يكون هناك شىء آخر وراء إنتاج بحجم إنتاج اليابان بوقود يماثل حجم استهلاك مصر، إلا العمل الإنسانى، والعمل الإنسانى وحده.
*** السبب الثانى: أنه ليس هناك ما كان يسميه الدكتور محمود فوزى، عندما كان رئيساً للوزراء "فاقد أو عادم أو ضائع" فى أى شىء.
وأتذكر أن "وولين شى" المسئول عن تحرير جريدة "الشعب" وهى كبرى الصحف الصينية، دعانى إلى عشاء ذات ليلة فى مطعم "بط بكين" الشهير.
كان العشاء سبعة أطباق من بطة واحدة!:
خمس قطع مختارة باردة من البطة فى أول طبق.
كبد البطة مقلياً فى طبق ثان.
أضلاع البطة بالصلصة فى طبق ثالث.
قلب البطة فى قطع صغيرة محمرة فى طبق رابع.
لسان البطة وأمعاؤها والبنكرياس، مطبوخة مع الخضر فى طبق خامس.
جسم البطة نفسه أخيراً، وهو الطبق الرئيسى، مشوياً فى طبق سادس.
عظام البطة مسلوقة، فى طبق حساء فى النهاية، وهو الطبق السابع.
وأتذكر أننى قلت لـ " وولين شى ":
- لم يبق من البطة غير ريشها، وأرجو أن لا نأكله؟".
وقال " وولين شى " بجد:
- "لا.... إن المطعم يبيع ريش البط لأغراض صناعية!".
*** السبب الثالث: هو التنظيم الدقيق، وهو شىء محسوس إلى "أطراف الأصابع" فى كل بقعة على أرض الصين.
ونقطة التنظيم تستحق مناقشة أطول.
"ما هو سر هذا الدور الذى يلعبه التنظيم الدقيق فى حياة الصين اليوم، وفى دورها حالياً ومستقبلاً؟".
ولقد سئلت هذا السؤال كثيراً وبإلحاح، ومنذ أن خرجت من الصين وحتى هذه اللحظة.
وكان آخر من وجه إلى هذا السؤال هو الرئيس معمر القذافى، وكان معنا فى الأسبوع الماضى لعدة ساعات يسمع "مشاهدات وملاحظات عائدين من آسيا".
وكنت دائماً ألخص رأيى فى النقط التالية:
1 - أن روح التنظيم موجودة فى عقيدة الصين التاريخية الأولى وهى تعاليم "كونفوشيوس ". ولم يكن كتاب كونفوشيوس الشهير وهو: "حوليات الربيع والخريف" - وقد أصبح فيما بعد كتاباً مقدساً - إلا مجموعة من قواعد الأخلاق والسلوك، أرست بين ما أرست فى المجتمع الصينى، أسساً راسخة لاحترام المسئوليات على كل المستويات، حتى أن عدداً من الدارسين لشئون الصين، وبينهم" "إدجار سنو" فى كتابه: "الناحية الأخرى من النهر "، يعتقدون أن "الكونفوشية" أعطت للصين أقوى الأجهزة الإدارية فى التاريخ، وأكثرها استمراراً واستقراراً، ولقد ساعدها على ذلك أن المجتمع الصينى بالطبيعة مجتمع نهر وإذن فهو يحتاج دائماً إلى حكومة مركزية قوية.
2 - أن الحضارة الصينية لم تنقطع طوال التاريخ، ولم تنكسر ولم تداخلها الشوائب.
وفى حين أن الحضارة المصرية مثلاً انكسرت وانقرضت بعد عهد الأسرات، كما أن الحضارة الأفريقية نامت على طول المسافة بين انهيار الإمبراطورية الرومانية وعصر النهضة الأوروبية الحديث، فإن الحضارة الصينية دون غيرها من الحضارات الأولى، واصلت استمرارها وازدهارها، برغم عصور من الانتكاس عاشتها.
ومن شأن استمرار الحضارة فى أمة من الأمم، أن وحدتها تبقى سليمة.
وربما كان من ذلك أن اللغة الصينية ظلت مع اتصال الحضارة الصينية، وعاء يتسع دوماً لضمير ووعى ومشاعر الأمة الصينية.
3 - أن الصينى كان، ولا يزال دائماً، يعتقد أن "الصين" هى قلب الكون، وربما كنا نحن هنا فى الشرق الأوسط - الذى نعتبره وسط العالم - نظن أن الصين فى طرف قصى من الدنيا، ولكن النظرة إلى خريطة العالم مرهونة دائماً بالمكان الذى ننظر منه.
ولقد نلاحظ أن اسم الصين فى اللغة الصينية هو "شونج كو" والترجمة الحرفية لهذا الاسم هى "الملكوت المركزى"، أو "الملكوت الأوسط".
ومن هنا، فإن الصين هى شعب الصين، بل أن الاقليات الصينية خارج الصين، وحتى فى الولايات المتحدة، لا تعتبر نفسها مهاجرة خارج الصين، وإنما تعتبر نفسها فى مهمة خارج الصين.
4 - أن الصين لم تتعرض للغزو الخارجى فى أى فترة من فترات تاريخها، كما أنها لم تذهب غازية إلى أى مكان، وكانت حروبها كلها حروباً دفاعية وحتى فى عصر التدخل الأوروبى فى الشرق الأقصى، وبعد حرب الأفيون الشهيرة، فإن الصين لم تصبح مستعمرة بالمعنى التقليدى وإنما تمركزت قوى التدخل الأجنبى على شواطئها، وعلى أطرافها البعيدة وبقى "الملكوت الأوسط" سليماً لا يمس.
5 - أن الكونفوشية لم تأت إلى الصين بأية أساطير غيبية يمكنها أن تمزق المجتمع الصينى إلى طوائف وشيع، أو تفرقه فى خزعبلات مظلمة ومسكونة.
وكان كونفوشيوس، ومن قبل ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة يقول:
- "لكم أن تحـترموا الأرواح... ولكن عليكم أن تحرصوا على إبقاء مسافة بينها وبين عقولكم!".
ثم كنت أقول:
- "أن هذه الأسباب الخمسة كانت موجودة فى الصين، تمهد للنظام وإمكانية التنظيم إذا جاءت القيادة الواعية ".
كانت هذه كلها أرضية تاريخية تمكن لماوتسى تونج من الدعوة إلى تعاليمه.
ولقد كان الجو كله مهيأً بعد عصر المجاعات وانحلال الأباطرة فى الصين، ونزعات التسلط لدى القادة العسكريين فى نهاية فترة حكم أسرة "مانشو"، وكان الجو كله مهيأً بعد إذلال حرب الأفيون، وبعد ضياع ثورة "سن يات سن" على يد الطبقة الجديدة التى سيطرت على حزبه "الكومنتانج" وكان المسرح جاهزاً تماماً لدخول ماو بعد الحرب الاستعمارية التى شنتها اليابان على الصين، ابتداء من سنة 1934.
إن "ماو" جاء حقيقة يحمل أعلام الماركسية اللينينية، ولكن "ماو" استجاب للطبيعة الوطنية للصين أكثر مما استجاب لماركس وإنجلز، ولينين، وستالين الذى لا تزال صورته معلقة حتى الآن فى الصين، أو لعلى أقول كى لا أتجاوز أن "ماو" أضاف إلى الماركسية اللينينية وغير فيها، بما يلائم ظروف الصين.
ولعلى أترك هذه النقطة لغيرى ممن يتحمسون للمناقشات العقائدية.
ولكننى أكتفى بالقول بأن "مـاو" جاء إلى المسرح الصينى والمجتمع هناك مهيأ لثورة، ومهيأ لثائر، ثم أنه كان بكامل وحدته الحضارية والتاريخية، على استعداد لأن يستجيب للنظام والتنظيم.
ولقد سئلت:
- "هل أحسست هناك بأثر للقسر والإرغام فى فرض النظام والتنظيم؟"..
وقلت:
- "لا أسـتطيع أن أتصور إنسانياً أن يحدث تغيير مثل الذى حدث فى الصين بدون قسر وإرغام ".
ولكننى أريد أن أضيف بأمانة:
- "إذا كنت أقول بذلك، فلابد أن أعترف بظاهرة لا يمكن المرور عليها بسهولة ".
هذه الظاهرة هى أن الخط الفكرى الصينى واضح من القمة عند "ماوتسى تونج" و"شوين لاى" إلى أى عامل فى مزرعة جماعية، وإلى أى طبيب من "الأطباء الحفاة" كما يسمونهم، وهم ليسوا حفاة الأقدام كما قد يوحى بذلك وصفهم، ولكن الوصف كان من صياغة "ماو" الذى وجد أن الريف الصينى بكل هؤلاء الملايين الذين يعيشون فيه لا يحتاج إلى أطباء متخصصين تصرف عليهم الدولة عشرات السنين، وإنما هو يحتاج إلى من يفهم فى الأمراض العادية، وهكذا كان تعبير الأطباء الحفاة الذين يسيرون فى الريف يعالجون - بالأعشاب الطبية فى معظم الأحوال - نزلات البرد والأمعاء ونوبات الزكـام والصداع، بعد تدريب عـلمى لثلاثة أو ستة شهور أو سنة واحدة فى بعض الأحيان "..
ولقد سئلت، وبين الذين سألونى الرئيس معمر القذافى:
-" كيف تفسر وحدة الخط الفكرى واتصاله بين القيادة والقاعدة ؟ ".
وقلت:
- لذلك فى ظنى خمسة أسباب:
الأول: أن التجربة أمام الإنسان الصينى ناجحة، أعطته الكثير، وحققت له الكثير.
الثانى: أن القيادة فى الصين قدوة أيضاً، وهذه نقطة بالغة الأهمية، لأن الناس يتقبلون حينما يشعرون أن الذين يدعونهم إلى شىء يطبقونه أولاً على أنفسهم.
ولقد نتذكر أن "ماوتسى تونـج" وهو إله فى الصين الآن يعيش فى المدينة المحرمة، فى بيت صغير، كان مخصصاً لخدم أسرة "مانشو"، والبيت من ثلاث غرف: غرفة نوم، وغرفة استقبال، وغرفة مكتبة، والأثاث بسيط، وليست هناك بجانب "ماو" إلا سكرتيرة واحدة ترتب غرفته وترتب أوراقه، وهذا هو كل شىء.
الثالث: وهو نتيجة لما سبق أن هناك ثقة كاملة بين القاعدة والقمة، والثقة فى القيادة فى الصين لا تقتصر على الإيمان بإخلاصها ولكنها تمتد أيضاً إلى الثقة بقدرتها وحكمتها - هذا فضلاً عن أن جميع المسائل والقضايا تطرح للمناقشة داخل الحزب وعلى كل مستوياته بحيث تصبح بالفعل حين صدورها معبرة عن رأى الجماهير الواسعة.
الرابع: هو أن العقائد لا تعطى للجماهير كأنها كتل حجر وإنما تترجم العقائد إلى تصرفات عادية وإنسانية بسيطة للغاية، قادرة على النفاذ داخل أى تصور.
وفى الفترة التى كانت الولايات المتحدة فيها تحاول احتواء الصين وفرض الحصار عليها، فإن ماوتسى تونج لم يحطم رؤوس الناس بعبارات لها دوى دون أن يكون لها صدى، وإنما اكتفى بإصدار توجيهاته الثلاثة المشهورة:
* احفروا الخنادق فى كل مكان (أى استعدوا للغزو).
* اختزنوا الحبوب فى كل مكان (أى استعدوا للحصار الاقتصادى).
* لا تسعوا للسيطرة فى أى مكان (أى أن سياسة الصين دفاعية وليست عدوانية).
الخامس: هو أن خطوط الاتصالات ولغة الاتصالات بين القمة والقاعدة فى الصين مازالت حية وقوية من أثر التجربة الثورية الطويلة التى كانت تجعل "الثلاثة فى واحد" كما يقولون فى الصين أى الحزب وجيش التحرير والحكومة - وذلك خلال سنوات النضال الشاق الطويل (ولقد أعود إلى هذه النقطة فيما بعد بتفصيل أكثر).
ولقد سئلت:
- "أليست غريبة هذه الألوهية لماوتسى تونج فى الصين ؟".
وقلت:
- "لقد كنت دائماً أستغرب هذه الألوهية "لماوتسى تونج"، وكنت أجدها دائماً غير معقولة، بل كنت أجدها فى بعض الأحيان على نقيض مع الفكر الماركسى ذاته، الذى تجرى التجربة فى الصين تحت راياته".
ولكن المذهل أن ما يبدو مستغرباً أو غريباً من خارج الصين، يبدو داخلها عادياً وطبيعياً.
ولقد شعرت بأن الناس فى الصين يعطون "لماو" مكانة الإله بغير رهبة أو خوف، وإنما بمزيج مثير من الحب والتقديس.
لقد وجدت الصين كلها تتحرك على إيقاع صادر من ذلك البيت الصغير وراء أسوار المدينة المحرمة، حيث يعيش "ماو" ويفكر ويصدر تعاليمه.
الصين كلها تتحرك - بثمانمائة مليون فيها - على الإيقاع الهادئ أحياناً، والهادر أحياناً أخرى - كما فى وقت الثورة الثقافية - الذى يعزفه ماوتسى تونج.
ويبدو أنه خبير بالموسيقى، عارف بفنونها، قادر على تطبيقها فى السياسة.
..... كان هو القـائل يوماً ربما فى أحد توجيهاته المنيرة إلى أكثر شعوب العالم كثافة فى السكان:
- "تعلمـوا العزف على البيانو... ينبغى للإنسان لكى يعزف على البيانو أن يحرك أصابعه العشر، لا أن يحرك بعض أصابعه ويترك بعضها الآخر جامداً لا يتحرك....
ولكنه إذا ضغط بأصابعه العشر دفعة واحدة فلن يستطيع أيضاً أن يعزف لحناً....
فلأجل عزف موسيقى جيدة، ينبغى أن تكون حركات الأصابع إيقاعية متناسقة !!".
صحيفة الإهرام القاهرية 18/2/1973
(من القرص المدمج: بصراحة، إصدار "البيت العربي للتوثيق العصري والنظم")
"دونغ فانغ هونغ"، عبارة فى اللغة الصينية، ترجمتها الحرفية "الشرق أحمر"، وكانت هذه العبارة هى الإشارة المميزة التى ظل القمر الصناعى الصينى يرددها فى طوافه حول الأرض حينما انطلق سنة 1970، بينما كان ثمانمائة مليون إنسان فى الصين يلصقون آذانهم على أجهزة الراديو فى كل مكان يتسمعون إلى النبضات القادمة من الفضاء الخارجى!
ولست أعرف تماماً من الذى اختار هذه العبارة لتكون الإشارة المميزة للقمر الصناعى الصينى الأول، وقد سألت فى ذلك كثيرين ممن لقيت فى الصين، ولكن أحداً لم يعطنى إجابة قاطعة، وإن كنت شخصياً أظن أن الذى اختار الإشارة هو الرئيس "ماوتسى تونج" بنفسه لأنه بحاسته التاريخية لا يمكن أن يترك مثل هذه الإشارة وما ترمز إليه دون أن يعبئها بمعنى خاص يقصده، ثم أن العبارة من ناحية الصياغة تحمل إيماءات إلى أسلوبه الخاص فى الكتابة، وحتى فى إصدار التوجيهات، وهو أسلوب وصفه الرئيس ماو نفسه ذات يوم بقوله: "لكى يستطيع أى تعبير أن يلهم ويحرك، فإنه لابد أن يكون مزيجاً بين التحديد الذى لا يسمح بالخطأ، والإبهام الذى لا يقمع الخيال ".
وربما كان من نماذج ذلك الأسلوب، أن الرئيس"ماو" عندما يدعو أحداً إلى حوار معه، فإن تعبيره المفضل هو القول:
- "تعال نتحدث فى كل شىء من جنوب الجبال إلى شمال البحار ".
وإذا قبلنا استنتاج أن عبارة "الشرق أحمر" من اختيار الرئيس ماو.
وإذا قبلنا تفسير الرئيس ماو نفسه لأسرار الكلمات، إذن فإن العبارة قد تكون إشارة إلى أن ظل الصين - الحمراء - هو الظل الغالب على الشرق....
وإذا كان ذلك هو المقصود، فلا أظننى أختلف، لأن هذه هى الحقيقة الكبرى فى آسيا كما رأيتها. ذلك أنه على طـول المسافة من اليابان إلى الباكستان، فإن ظل الصين هو الغالب فى كل مكان، ولا أحد - فيما أتصور - يستطيع أن ينازع فى هذه الحقيقة!.
وقبل أن أذهب إلى الصين، فقد حاولت أن أستمع إلى آراء عدد من الذين سبقونى إليها.
وكان بين ما لفت نظرى أن الآراء شديدة التباين، بل شديدة التناقض.
* ومثلاً، فإن وزيراً مصرياً هو الدكتور محمود محفوظ وزير الصحة قال لى بحماسة:
- "إنك سوف تجد هناك مجتمع الفضيلة.... لا أحد يكذب... لا أحد يسرق.... لا أحد يتواكل".
وهذه النظرة المثالية للصين وكل ما يجرى فيها شائعة، وقد كان مما لفت نظرى ذات يوم، أن أحد رفاقى فى بعثة "الأهرام" إلى بكين، هو خبير متخصص فى علوم الصراع السياسى، كان يزور معنا مدرسة من مدارس 7 مايو - وهى مدارس إعادة تقويم القيادات - ودخلنا أحد فصول المدرسة، وإذا قرابة المائة دارس جالسون على الأرض، يناقشون مع أستاذ لهم، يجلس أمامهم على منصة مرتفعة بعض الشىء من الأرض، أطروحة إنجلز الشهيرة "ضد دورينج"، إذا برفيقنا تأخذه النشوة، ويقول بالحرف:
- "يا إلهى... كأن أرسطو بعث حياً مرة أخرى".
ولكن هناك نظرة أخرى متباينة، بل متناقضة للصين، وكان صاحبها سياسياً عربياً - غير مصرى - وكان قوله:
- " أنت ذاهب إلى الصين؟، إنك هناك سوف ترى مجتمع النمل!
إنك فى الغالب سوف تنزل فى فندق "الشعوب"، وإذا حدث ذلك، فإنى أرجوك أن تستيقظ مبكراً ذات يوم، وأن تنظر من نافذة غرفتك إلى الشارع تحتك، وسوف تجد على الناحيتين فى الشارع الواسع منظراً لن يبرح ذاكرتك.
طابور لا ينقطع من راكبى الدراجات الذاهبين إلى عملهم فى الصباح على هذه الناحية من الشارع، وطابور آخر لا ينقطع على الناحية الأخرى.
سوف تجدهم كالنمل فى الحركة، وفى الشكل العام.
لن تجد فى بكين إلا هذه الطوابير من راكبى الدراجات، ليس فى الشوارع سيارات، لأن السيارات لا تخصص إلا لنواب الوزراء ومن فوقهم، وللأعمال الرسمية فقط.
وفى بكين مترو تحت الأرض، وهو فخم وأنيق، ولكنه للمستقبل.
وأما الوسيلة الأساسية للانتقال فى بكين اليوم فهى الدراجة، وسوف تذكرك طوابيرها المتحركة بغير انقطاع بطوابير النمل.... النمل الفارسى بالتحديد!"
وكان هذا التباين والتناقض مصداقاً حياً لملاحظة سمعتها من رفيق آخر من رفاق السفر وهو خبير فى العلاقات الدولية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية "بالأهرام"، وقد سبقت له الإقامة المتصلة سنتين فى الصين، وكانت ملاحظته:
- "إن أحداً لا يستطيع أن يتخذ موقفاً وسطاً إزاء الصين... الصين شىء يفرض نفسه، إما أن تتعصب له.... وإما أن تتعصب ضده! ".
- ولعلى أقول برغم ذلك، أن هناك من استطاعوا أن ينظروا إلى تجربة الصين نظرة موضوعية، وبينهم السير "إليك دوجلاس هيوم" وزير الخارجية البريطانية... وأتذكر أننى فى زيارة أخيرة للندن، أتيح لى الاطـلاع على فقرات من تقرير قدمه إلى مجلس الوزراء البريطانى بعد رحلة له أخيرة إلى الصين، وكان من بين ما قاله وزير خارجية بريطانيا:
- "سوف يكون مهماً بالنسبة للعالم كله، أن يتابع عن كثب تجربة الصين، لأنها فريدة فى التاريخ.
هناك شعب يريد أن يعتمد على نفسه كلية فى بناء تطوره وتقدمه.
وهو حتى لا يريد أن يقترض من الخارج لتمويل مشروعاته.
وقد سألت رئيس وزراء الصين "شوين لاى" عن السبب فى ذلك، وكان رده:
- "نحن نفضل أن نعتمد على أنفسنا تماماً... ولا نريد أن نقترض من أحد.... وليس من أهدافـنا أن نصل إلى وضع نجد أنفسنا فيه مثل غـيرنا يقترضون من جديد ليسددوا فوائد قروض قديمة!".
وعندما ركبت القطار من "كانتون" إلى "هونج كونج" خارجاً من الصين، بعد زيارة استغرقت اثنى عشر يوماً، فلقد وجدت كثيرين من الصحفيين فى انتظارى.
كان على أن أجيب على السؤال الذى طالما كنت قد وجهته إلى غيرى:
- " كيف وجدت الصين؟ ".
وقلت لهم بسرعة:
- " أن أبرز ما لفت نظرى فى الصين هو "قوة الاندفاع ".
هناك قوة دافعة تحرك الصين بغير حدود.
وهذه القوة مزيج من عناصر مختلفة، يمكن أن يطول النقاش حول أصولها وجذورها، ولكن أحداً لا يمكن أن يختلف حول الطاقة التى تولدها.
هناك فى الصين شعب من ثمانمائة مليون.
وهذا الشعب يتحرك إلى هدف.
ولا أعتقد، مما رأيت، أن هناك أحداً يستطيع أن يحول دونه ودون بلوغ هدفه.
"القوة الدافعة" هى الشىء اللافت للنظر فى الصين".
وعندما سئلت عن أحوال الناس فى الصين، قلت بأمانة :
- " الكل يأكل بما فيه الكفاية... الكل يلبس بما فيه الدفء والكرامة أيضاً... والكل يعمل بغير انقطاع... حتى العجائز فى المزارع الجماعية يكلفونهم بالسهر فى الليل مع الأطفال يروون لهم قصة ما كان فى الصين من جوع وفوضى وعذاب وذل، حتى لا تضيع من ذاكرة الأجيال حكاية ما كان، وليستطيعوا تقدير ما هو كائن".
ولقد سألت نفسى كثيراً بعد أن خرجت من الصين:
- "ما هو سر ما حدث فيها، وهو شىء أقرب إلى المعجزة؟".
ولست أسـتعمل هنا كلمة المعجزة جزافاً، لأننى حريص على الكلمة، ضنين بها، وهذا طبيعى، لأن الكلمة بالنسبة للكاتب حياة.
وإنما أستعمل هذه الكلمة لأننى أتذكر حواراً مع نيكيتا خروشوف الزعيم السوفيتى الشهير، جرى بينى وبينه سنه 1964، وكانت الصين فيه موضوعاً رئيسياً، وكان من بين ما قاله لى خروشوف وقتها:
- "سوف ترى، ونرى جميعاً، ما يحدث للصين بعد خلافها مع الاتحاد السوفيتى.
أقول لك بلا تردد، أنهم بدون مساعداتنا سوف يعودون إلى عصر المجاعات.
هل قرأت رواية الكاتبة الأمريكية بيرل باك عن "الأرض الطيبة" ووصف المجاعة فيها...؟
سوف تعود الصين إلى هذا العصر، وسوف يتعلمون درسهم.
لقد ضغطوا علينا، لأنهم أرادوا أن نسلمهم أسرار القنبلة الذرية، ونحن لن نعطيها لهم... إن القنبلة الذرية ليست لعبة... وليست مثل ما يقول "ماوتسى تونج" نمراً من ورق.
هم لا يعرفون شيئاً.. ولن يعرفوا"!
ولكن الصين لديها اليوم قنبلة ذرية، ولديها قنبلة هيدروجينية، وعندما كنت فيها، قال لى سفير أوروبى يتابع ما يجرى داخلها عن قرب وبعمق:
- "هناك معلومات لدينا تقول أنهم جربوا فى الأسبوع الماضى - وبنجاح - صاروخاً عابراً للقارات، مداه أربعة آلاف ميل"!
ولكن القنابل والصواريخ ليست فى رأيى، دليل المعجزة.
ولقد استوقفنى دليل آخر وبالأرقام.
تقول الأرقام:
أن حجم الإنتاج الصينى يعادل حجم الإنتاج اليابانى، وهو من أضخم القوى الإنتاجية.
(ولابد أن نسلم هنا بوجود فارق فى التقدم، لأن حجم الإنتاج الصينى يصنعه سكان يصل تعدادهم إلى 800 مليون بينما حجم الإنتاج اليابانى يصنعه سكان يصل تعدادهم إلى 100 مليون فقط).
لكن هذا ليس هو المهم.
المهم هو الرقم التالى عن استهلاك الصين من الوقود.
وأقصد به البترول قبل أى شىء آخر:
اليابان، لكى تصنع حجم إنتاجها، تستهلك سنوياً 240 مليون طن من البترول.
أما الصين، فإنها تستهلك سنوياً 25 مليون طن من البترول.
والغريب أن هذا الحجم الصينى فى استهلاك البترول (25 مليون طن)، هو نفسه تقريباً حجم الاستهلاك المصرى.
وإذن نخلص بمفارقة بالغة الأهمية، وهى:
"أن الصين تستخدم نفس حجم الطاقة التى تستهلكها مصر لكى تنتج نفس حجم الإنتاج الذى تصنعه اليابان".
وهذه هى الصورة الحية للمعجزة!.
والمعجزة، فى ظنى، ليست منى غيبياً، وإنما المعجزة، أو حتى ما يبدو أمامنا وكأنه معجزة له أسباب لابد أن تكون علمية.
وفى طوافى كله بالصين، فلقد أحسست بأن هناك ثلاثة أسباب محددة تكمن وراء المعجزة:
*** السبب الأول: أن كل إنسان يعمل، ولا يمكن أن يكون هناك شىء آخر وراء إنتاج بحجم إنتاج اليابان بوقود يماثل حجم استهلاك مصر، إلا العمل الإنسانى، والعمل الإنسانى وحده.
*** السبب الثانى: أنه ليس هناك ما كان يسميه الدكتور محمود فوزى، عندما كان رئيساً للوزراء "فاقد أو عادم أو ضائع" فى أى شىء.
وأتذكر أن "وولين شى" المسئول عن تحرير جريدة "الشعب" وهى كبرى الصحف الصينية، دعانى إلى عشاء ذات ليلة فى مطعم "بط بكين" الشهير.
كان العشاء سبعة أطباق من بطة واحدة!:
خمس قطع مختارة باردة من البطة فى أول طبق.
كبد البطة مقلياً فى طبق ثان.
أضلاع البطة بالصلصة فى طبق ثالث.
قلب البطة فى قطع صغيرة محمرة فى طبق رابع.
لسان البطة وأمعاؤها والبنكرياس، مطبوخة مع الخضر فى طبق خامس.
جسم البطة نفسه أخيراً، وهو الطبق الرئيسى، مشوياً فى طبق سادس.
عظام البطة مسلوقة، فى طبق حساء فى النهاية، وهو الطبق السابع.
وأتذكر أننى قلت لـ " وولين شى ":
- لم يبق من البطة غير ريشها، وأرجو أن لا نأكله؟".
وقال " وولين شى " بجد:
- "لا.... إن المطعم يبيع ريش البط لأغراض صناعية!".
*** السبب الثالث: هو التنظيم الدقيق، وهو شىء محسوس إلى "أطراف الأصابع" فى كل بقعة على أرض الصين.
ونقطة التنظيم تستحق مناقشة أطول.
"ما هو سر هذا الدور الذى يلعبه التنظيم الدقيق فى حياة الصين اليوم، وفى دورها حالياً ومستقبلاً؟".
ولقد سئلت هذا السؤال كثيراً وبإلحاح، ومنذ أن خرجت من الصين وحتى هذه اللحظة.
وكان آخر من وجه إلى هذا السؤال هو الرئيس معمر القذافى، وكان معنا فى الأسبوع الماضى لعدة ساعات يسمع "مشاهدات وملاحظات عائدين من آسيا".
وكنت دائماً ألخص رأيى فى النقط التالية:
1 - أن روح التنظيم موجودة فى عقيدة الصين التاريخية الأولى وهى تعاليم "كونفوشيوس ". ولم يكن كتاب كونفوشيوس الشهير وهو: "حوليات الربيع والخريف" - وقد أصبح فيما بعد كتاباً مقدساً - إلا مجموعة من قواعد الأخلاق والسلوك، أرست بين ما أرست فى المجتمع الصينى، أسساً راسخة لاحترام المسئوليات على كل المستويات، حتى أن عدداً من الدارسين لشئون الصين، وبينهم" "إدجار سنو" فى كتابه: "الناحية الأخرى من النهر "، يعتقدون أن "الكونفوشية" أعطت للصين أقوى الأجهزة الإدارية فى التاريخ، وأكثرها استمراراً واستقراراً، ولقد ساعدها على ذلك أن المجتمع الصينى بالطبيعة مجتمع نهر وإذن فهو يحتاج دائماً إلى حكومة مركزية قوية.
2 - أن الحضارة الصينية لم تنقطع طوال التاريخ، ولم تنكسر ولم تداخلها الشوائب.
وفى حين أن الحضارة المصرية مثلاً انكسرت وانقرضت بعد عهد الأسرات، كما أن الحضارة الأفريقية نامت على طول المسافة بين انهيار الإمبراطورية الرومانية وعصر النهضة الأوروبية الحديث، فإن الحضارة الصينية دون غيرها من الحضارات الأولى، واصلت استمرارها وازدهارها، برغم عصور من الانتكاس عاشتها.
ومن شأن استمرار الحضارة فى أمة من الأمم، أن وحدتها تبقى سليمة.
وربما كان من ذلك أن اللغة الصينية ظلت مع اتصال الحضارة الصينية، وعاء يتسع دوماً لضمير ووعى ومشاعر الأمة الصينية.
3 - أن الصينى كان، ولا يزال دائماً، يعتقد أن "الصين" هى قلب الكون، وربما كنا نحن هنا فى الشرق الأوسط - الذى نعتبره وسط العالم - نظن أن الصين فى طرف قصى من الدنيا، ولكن النظرة إلى خريطة العالم مرهونة دائماً بالمكان الذى ننظر منه.
ولقد نلاحظ أن اسم الصين فى اللغة الصينية هو "شونج كو" والترجمة الحرفية لهذا الاسم هى "الملكوت المركزى"، أو "الملكوت الأوسط".
ومن هنا، فإن الصين هى شعب الصين، بل أن الاقليات الصينية خارج الصين، وحتى فى الولايات المتحدة، لا تعتبر نفسها مهاجرة خارج الصين، وإنما تعتبر نفسها فى مهمة خارج الصين.
4 - أن الصين لم تتعرض للغزو الخارجى فى أى فترة من فترات تاريخها، كما أنها لم تذهب غازية إلى أى مكان، وكانت حروبها كلها حروباً دفاعية وحتى فى عصر التدخل الأوروبى فى الشرق الأقصى، وبعد حرب الأفيون الشهيرة، فإن الصين لم تصبح مستعمرة بالمعنى التقليدى وإنما تمركزت قوى التدخل الأجنبى على شواطئها، وعلى أطرافها البعيدة وبقى "الملكوت الأوسط" سليماً لا يمس.
5 - أن الكونفوشية لم تأت إلى الصين بأية أساطير غيبية يمكنها أن تمزق المجتمع الصينى إلى طوائف وشيع، أو تفرقه فى خزعبلات مظلمة ومسكونة.
وكان كونفوشيوس، ومن قبل ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة يقول:
- "لكم أن تحـترموا الأرواح... ولكن عليكم أن تحرصوا على إبقاء مسافة بينها وبين عقولكم!".
ثم كنت أقول:
- "أن هذه الأسباب الخمسة كانت موجودة فى الصين، تمهد للنظام وإمكانية التنظيم إذا جاءت القيادة الواعية ".
كانت هذه كلها أرضية تاريخية تمكن لماوتسى تونج من الدعوة إلى تعاليمه.
ولقد كان الجو كله مهيأً بعد عصر المجاعات وانحلال الأباطرة فى الصين، ونزعات التسلط لدى القادة العسكريين فى نهاية فترة حكم أسرة "مانشو"، وكان الجو كله مهيأً بعد إذلال حرب الأفيون، وبعد ضياع ثورة "سن يات سن" على يد الطبقة الجديدة التى سيطرت على حزبه "الكومنتانج" وكان المسرح جاهزاً تماماً لدخول ماو بعد الحرب الاستعمارية التى شنتها اليابان على الصين، ابتداء من سنة 1934.
إن "ماو" جاء حقيقة يحمل أعلام الماركسية اللينينية، ولكن "ماو" استجاب للطبيعة الوطنية للصين أكثر مما استجاب لماركس وإنجلز، ولينين، وستالين الذى لا تزال صورته معلقة حتى الآن فى الصين، أو لعلى أقول كى لا أتجاوز أن "ماو" أضاف إلى الماركسية اللينينية وغير فيها، بما يلائم ظروف الصين.
ولعلى أترك هذه النقطة لغيرى ممن يتحمسون للمناقشات العقائدية.
ولكننى أكتفى بالقول بأن "مـاو" جاء إلى المسرح الصينى والمجتمع هناك مهيأ لثورة، ومهيأ لثائر، ثم أنه كان بكامل وحدته الحضارية والتاريخية، على استعداد لأن يستجيب للنظام والتنظيم.
ولقد سئلت:
- "هل أحسست هناك بأثر للقسر والإرغام فى فرض النظام والتنظيم؟"..
وقلت:
- "لا أسـتطيع أن أتصور إنسانياً أن يحدث تغيير مثل الذى حدث فى الصين بدون قسر وإرغام ".
ولكننى أريد أن أضيف بأمانة:
- "إذا كنت أقول بذلك، فلابد أن أعترف بظاهرة لا يمكن المرور عليها بسهولة ".
هذه الظاهرة هى أن الخط الفكرى الصينى واضح من القمة عند "ماوتسى تونج" و"شوين لاى" إلى أى عامل فى مزرعة جماعية، وإلى أى طبيب من "الأطباء الحفاة" كما يسمونهم، وهم ليسوا حفاة الأقدام كما قد يوحى بذلك وصفهم، ولكن الوصف كان من صياغة "ماو" الذى وجد أن الريف الصينى بكل هؤلاء الملايين الذين يعيشون فيه لا يحتاج إلى أطباء متخصصين تصرف عليهم الدولة عشرات السنين، وإنما هو يحتاج إلى من يفهم فى الأمراض العادية، وهكذا كان تعبير الأطباء الحفاة الذين يسيرون فى الريف يعالجون - بالأعشاب الطبية فى معظم الأحوال - نزلات البرد والأمعاء ونوبات الزكـام والصداع، بعد تدريب عـلمى لثلاثة أو ستة شهور أو سنة واحدة فى بعض الأحيان "..
ولقد سئلت، وبين الذين سألونى الرئيس معمر القذافى:
-" كيف تفسر وحدة الخط الفكرى واتصاله بين القيادة والقاعدة ؟ ".
وقلت:
- لذلك فى ظنى خمسة أسباب:
الأول: أن التجربة أمام الإنسان الصينى ناجحة، أعطته الكثير، وحققت له الكثير.
الثانى: أن القيادة فى الصين قدوة أيضاً، وهذه نقطة بالغة الأهمية، لأن الناس يتقبلون حينما يشعرون أن الذين يدعونهم إلى شىء يطبقونه أولاً على أنفسهم.
ولقد نتذكر أن "ماوتسى تونـج" وهو إله فى الصين الآن يعيش فى المدينة المحرمة، فى بيت صغير، كان مخصصاً لخدم أسرة "مانشو"، والبيت من ثلاث غرف: غرفة نوم، وغرفة استقبال، وغرفة مكتبة، والأثاث بسيط، وليست هناك بجانب "ماو" إلا سكرتيرة واحدة ترتب غرفته وترتب أوراقه، وهذا هو كل شىء.
الثالث: وهو نتيجة لما سبق أن هناك ثقة كاملة بين القاعدة والقمة، والثقة فى القيادة فى الصين لا تقتصر على الإيمان بإخلاصها ولكنها تمتد أيضاً إلى الثقة بقدرتها وحكمتها - هذا فضلاً عن أن جميع المسائل والقضايا تطرح للمناقشة داخل الحزب وعلى كل مستوياته بحيث تصبح بالفعل حين صدورها معبرة عن رأى الجماهير الواسعة.
الرابع: هو أن العقائد لا تعطى للجماهير كأنها كتل حجر وإنما تترجم العقائد إلى تصرفات عادية وإنسانية بسيطة للغاية، قادرة على النفاذ داخل أى تصور.
وفى الفترة التى كانت الولايات المتحدة فيها تحاول احتواء الصين وفرض الحصار عليها، فإن ماوتسى تونج لم يحطم رؤوس الناس بعبارات لها دوى دون أن يكون لها صدى، وإنما اكتفى بإصدار توجيهاته الثلاثة المشهورة:
* احفروا الخنادق فى كل مكان (أى استعدوا للغزو).
* اختزنوا الحبوب فى كل مكان (أى استعدوا للحصار الاقتصادى).
* لا تسعوا للسيطرة فى أى مكان (أى أن سياسة الصين دفاعية وليست عدوانية).
الخامس: هو أن خطوط الاتصالات ولغة الاتصالات بين القمة والقاعدة فى الصين مازالت حية وقوية من أثر التجربة الثورية الطويلة التى كانت تجعل "الثلاثة فى واحد" كما يقولون فى الصين أى الحزب وجيش التحرير والحكومة - وذلك خلال سنوات النضال الشاق الطويل (ولقد أعود إلى هذه النقطة فيما بعد بتفصيل أكثر).
ولقد سئلت:
- "أليست غريبة هذه الألوهية لماوتسى تونج فى الصين ؟".
وقلت:
- "لقد كنت دائماً أستغرب هذه الألوهية "لماوتسى تونج"، وكنت أجدها دائماً غير معقولة، بل كنت أجدها فى بعض الأحيان على نقيض مع الفكر الماركسى ذاته، الذى تجرى التجربة فى الصين تحت راياته".
ولكن المذهل أن ما يبدو مستغرباً أو غريباً من خارج الصين، يبدو داخلها عادياً وطبيعياً.
ولقد شعرت بأن الناس فى الصين يعطون "لماو" مكانة الإله بغير رهبة أو خوف، وإنما بمزيج مثير من الحب والتقديس.
لقد وجدت الصين كلها تتحرك على إيقاع صادر من ذلك البيت الصغير وراء أسوار المدينة المحرمة، حيث يعيش "ماو" ويفكر ويصدر تعاليمه.
الصين كلها تتحرك - بثمانمائة مليون فيها - على الإيقاع الهادئ أحياناً، والهادر أحياناً أخرى - كما فى وقت الثورة الثقافية - الذى يعزفه ماوتسى تونج.
ويبدو أنه خبير بالموسيقى، عارف بفنونها، قادر على تطبيقها فى السياسة.
..... كان هو القـائل يوماً ربما فى أحد توجيهاته المنيرة إلى أكثر شعوب العالم كثافة فى السكان:
- "تعلمـوا العزف على البيانو... ينبغى للإنسان لكى يعزف على البيانو أن يحرك أصابعه العشر، لا أن يحرك بعض أصابعه ويترك بعضها الآخر جامداً لا يتحرك....
ولكنه إذا ضغط بأصابعه العشر دفعة واحدة فلن يستطيع أيضاً أن يعزف لحناً....
فلأجل عزف موسيقى جيدة، ينبغى أن تكون حركات الأصابع إيقاعية متناسقة !!".
تعليق