المسألة الصينية

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • amattouch
    عضو منتسب
    • May 2006
    • 971

    المسألة الصينية

    تصاعد الجدل الغربي حول المسألة الصينية
    د. بشير موسي نافع
    بدأ الجدل الغربي حول الصين قبل أكثر من عقد من الزمان، عندما نشر الباحث الامريكي في مؤسسة راند، غراهام فولر، مقالة شهيرة في الدورية المعروفة شؤون خارجية . حاول فولر في مقالته الرد علي دعاة تأجيج الصراع بين الإسلام والغرب، الذين ارتفعت اصواتهم منذ نهاية الحرب الباردة، وعلي رواج الفكرة القائلة بأن الإسلام هو الخطر المقبل علي الهيمنة الغربية علي الشأن العالمي. كان فولر يعلم حقيقة الجهات التي تقف وراء تلك المقولة، ولكنه تجاهل الإشارة إليها علي وجه التحديد، وصاغ مقالته في سياق جدل الدوائر الامريكية حول استراتيجيات المستقبل، بعد ان بدا وكأن انهيار الاتحاد السوفييتي قد أخرج روسيا نهائياً من المنافسة الاستراتيجية الكبري. ما حاول فولر التأكيد عليه ان لا خطر علي القوة والنفوذ الامريكي من الإسلام ولا المسلمين، وأن المنافس الحقيقي القادم هو الصين، مقدماً عدداً من البراهين الاقتصادية والجيوبوليتيكية للتأسيس لموضوعته. ولكن مشكلة فولر، مسؤول الاستخبارات الامريكية السابق، كان في تخصصه في الشأن الإسلامي والصبغة التي أضفتها جهات امريكية معينة علي كتاباته باعتبارها متعاطفة مع الإسلام وقواه السياسية.
    وبالرغم من ان الجدل اتصل بعد ذلك، إلا أنه لم يأخذ طابعاً ملحاً ومنهجياً كذلك الذي أخذه الجدل الغربي المتواصل حول الاتحاد السوفييتي والخطر الشيوعي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ثم وقعت هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، وبدا ان أنصار الخطر الإسلامي قد كسبوا حق ترتيب الأولويات الامريكية والغربية. إذ مهما كان نوع وحجم التحدي الذي تمثله الصين، فإن وقع الدمار والموت الذي أوقعته الهجمات كان أكبر من أي حجة أو منطق. ومن أفغانستان إلي العراق، إلي عدد لا يحصي من المواقع والأهداف، انطلقت حرب علي الإرهاب لا حدود لها، حرب أوقعت في غمارها وما تزال مئات الألوف من القتلي والجرحي، دمرت وما تزال تدمر بلداناً ومواريث حضارية وإنسانية؛ ولكنها فوق ذلك كله جعلت مسألة الصراع بين الإسلام والغرب، ممثلاً في الولايات المتحدة الامريكية، وكأنها محور التوازنات الدولية القادمة. ولم تكن هناك من طريقة لرسم ملامح عالم ما بعد الحرب الباردة أكثر خداعاً وتزييفاً من هذه الطريقة. خلال الأسابيع القليلة الماضية، وفي ظل فشل المشروع الامريكي في العراق وتزايد الشكوك الغربية تجاه الحرب علي الإرهاب ومتعلقاتها، انفجر الجدل حول المسألة الصينية من جديد.
    الحقيقة ان دوائر التسلح والدفاع لم تكن غائبة عن المسألة الصينية؛ وقد نشر روبرت كابلان في العام الماضي تقريراً مطولاً من قيادة الأسطول الامريكي في المحيط الهادي، موضحاً بما لا يحتمل مجالاً للشك ان الصين باتت تحتل الموقع الرئيسي في استراتيجية الدفاع الامريكية في ذلك الجزء من العالم. ولم يكن خافياً ان الذين سمحوا لكابلان بالوصول إلي قيادة أسطول المحيط الهادئ، وأعطوا الإذن بنشر تحقيقه التفصيلي والطويل، كانوا يقصدون إيصال رسالة ما للصينيين من ناحية وللشعب الامريكي من ناحية أخري. ولكن ما تشهده الساحة الفكرية والسياسية الغربية الآن يمكن ان يوصف بأنه جدل حقيقي وواسع، جدل شبيه بذلك الذي شهدته سنوات الحرب الباردة حول المخاطر والمهمات واحتمالات المواجهة، جدل الخوف الغربي الدفين والمستتر حول مصير الهيمنة الغربية علي الشأن العالمي، المستمرة منذ بدايات القرن التاسع عشر.
    يتعلق أحد أهم وجوه المسألة الصينية اليوم بالصعود الصيني الاقتصادي الهائل. ففي حين تدور معدلات النمو في دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة حول إثنين في المائة سنوياً، فإن معدل النمو الصيني يتجاوز العشرة، وتحافظ الصين علي هذا المعدل المرتفع منذ عقد من الزمان علي الأقل. من المعروف بالطبع ان كل الاقتصادات النامية والنشطة تتحرك بمعدلات نمو مرتفعة نسبياً في البداية، وما ان يدخل اقتصاد ما منتدي القلة المتنافسة علي قيادة السوق العالمي حتي يصبح من الصعوبة بمكان الاحتفاظ بمعدلات نمو عالية. هذا صحيح تاريخياً ونمطياً، ولكن البعض يتساءل، في ضوء اكتساح المنتجات الصينية المتسع لأسواق الدول المتقدمة ودول العالم الثالث علي السواء، ماذا إن كانت الحالة الصينية ستكسر القاعدة والنمط، وتستمر في الاحتفاظ بمعدلات نمو عالية خلال العقد أو العقدين القادمين؟ لقد باتت الصادرات الصينية الرخيصة تخرج قطاعات صناعية وانتاجية واسعة من السوق، في أوروبا والولايات المتحدة، كما في دول أخري عديدة كانت تعتمد علي الأسواق الأوروبية والامريكية. وربما يعتبر قطاع الأنسجة مثالاً بارزاً علي ذلك. ولكن الأمر لا يتوقف هنا، فمن منصة الحفر التي تستخدمها شركات النفط النرويجية في شمال العراق، إلي أسواق السيارات الحديثة في بلدان الشرق الأوسط، ومن أحذية الشاطئ الرخيصة للسياح الأوروبيين، إلي سوق أجهزة الكومبيوتر المحمول، ومن أثاث المنازل والمكاتب إلي بطاريات التلفونات المحمولة، تتحسن جودة المنتجات الصينية في شكل حثيث وتقدم للمستهلك العالمي بأسعار لا تنافس. هذه إذن ظاهرة اقتصادية ـ صناعية غير مسبوقة، ربما تذكر بتلك العقود المبكرة من القرن التاسع عشر عندما أخذ تدفق المنتجات الرخيصة نسبياً للآلة الصناعية البريطانية والفرنسية في اكتساح أسواق العالم، وتغيير أنماط اجتماعه وانتاجه وثروته معاً.
    بيد ان هناك من يقول ان ليس في الطفرة الصينية ما يخيف، فالرأسمالية تعمل بقوانينها الخاصة، والتحدي الصيني هو تحد صحي للرأسمالية الغربية، ليس فقط لأنه سيجبر الصناعات الغربية علي تحسين أدائها بل سيدفع بالأسعار حول العالم ولو قليلاً إلي الأسفل ويخفض من معدلات التضخم الضارة بالرأسمالية والتجارة العالمية علي السواء. وفي هذا مصلحة للمنتج والمستهلك الغربي؛ إضافة إلي ان النمو الاقتصادي الصيني يأتي بالرفاه إلي أكثر من مليار من سكان العالم ويدخلهم إلي قلب السوق العالمي. خلال سنوات قليلة، ستصبح الصين ذاتها سوقاً هائلاً لمنتجات الآخرين، ستصبح ساحة توسع لصناعة السياحة والطيران والاتصالات، وتشكل بالتالي رافداً غير مسبوق للتجارة العالمية. ويقول هؤلاء أيضاً ان التقدم الصناعي الصيني لا يجب أن يثير الخوف الذي كان يثيره التقدم الصناعي السوفييتي، فاقتصاد الصين (بخلاف الاتحاد السوفييتي السابق) يعتمد في كليته علي الارتباط والاندراج في السوق العالمي، وما ان ترتبط قوة ما بهذا السوق حتي تصبح جزءاً من قوانين لعبته وصاحبة مصلحة في استقراره وتوازن قواه.
    ويتعلق الجانب الثاني للجدل حول المسألة الصينية بالانفاق العسكري الصيني. هذا البند في الميزانية الصينية يشهد تصاعدا مستمرا، وقد وصل إلي ما يقرب من 35 مليار دولار سنوياً. وبالنظر إلي الفائض المالي الصيني الكبير، البالغ 700 مليار دولار في الوقت الحالي، فالواضح ان بإمكان بكين مواصلة الارتفاع بالميزانية العسكرية بدون ان تتأثر مشاريع التنمية في البلاد. يثير الانفاق العسكري الصيني قلقاً متصاعداً في العواصم الغربية، عبر عنه وزير الدفاع الامريكي دونالد رامسفيلد عشية زيارته الأخيرة لبكين. ولنبدأ هنا بوجهة النظر المتفائلة التي تذكر دائماً بان الضجيج المثار حول هذه القضية هو ضجيج مبالغ فيه؛ ليس فقط لأن من حق دولة في حجم وميراث الصين ان يكون لها قوة دفاعية ذات اعتبار، ولكن أيضاً لان ميزانية الدفاع الصينية تبدو ميزانية بالغة التواضع أمام الميزانية الامريكية الدفاعية التي تجاوزت 561 مليار دولار. بل ان الإنفاق العسكري الامريكي يزيد عن إنفاق الدول العالمية الرئيسية التالية مجتمعه. فأين هو مبرر القلق من ميزانية الدفاع الصينية، التي لن تصل إلي مستوي نظيرتها الامريكية لا في عقد ولا عقدين ولا ربما في هذا القرن كله؟ قد لا تكون هناك إجابة قاطعة علي هذا السؤال، ولكن للمتشككين منطقهم الذين لا يقل وجاهة. يقول هؤلاء ان الإنفاق العسكري، كما الناتج القومي، لا يجب ان يحسب بأرقام مطلقة، بل بعلاقة تلك الأرقام بقيمتها الشرائية محلياً وعالمياً. الجندي الصيني لا يتكلف، تدريباً أو إعاشة أو راتباً وتعويضاً، ولو عشر الجندي الامريكي، وتكلفة التقنية العسكرية الصينية المنتجة داخلياً هي أقل بكثير من تكلفة نظيرتها الامريكية. ولذا فالمقارنة بين رقمي الإنفاق العسكري الامريكي والصيني هي مقارنة خادعة. صحيح ان أمام الصينيين شوطاً طويلاً قبل ان يحلموا بالوصول إلي مستوي الكفاءة والقوة العسكرية الامريكية، ولكن أحداً لا يجب ان يستخف بالميزانية العسكرية الصينية، واضعين في الاعتبار كذلك ان ليس من عادة الصينيين التصريح بحقيقة حجم انفاقهم العسكري كله.
    أما الوجه الثالث الهام لهذا الجدل فهو ذلك الخاص بالسياسة الصينية الخارجية. حول هذا الجانب للتدافع الصيني ـ الغربي، يشير القائلون بحتمية الصدام الغربي ـ الصيني إلي ان اللغة الصينية تجاه تايوان، والسياسة التي التزمتها بكين حتي الآن من الملف النووي الإيراني، وعلاقات التحالف الصينية ـ الروسية التي تزداد وثوقاً، والمنافسة الصينية المحمومة علي مصادر النفط والغاز، هي في مجموعها دلائل علي عداء صيني متزايد للغرب واندفاع صيني للربط بين القوة الاقتصادية والثقل السياسي الدولي. الصين، باختصار، تمضي حثيثاً علي طريق الصدام الاستراتيجي مع نظام السيطرة الغربية علي النظام الدولي. بينما يؤكد القائلون بإمكانية التعايش ان مساحة الاتفاق الصيني مع المجموعة الغربية حول الملف النووي الإيراني هي أكبر من مساحة الاختلاف، وان علي من يلاحظ اللغة الصينية تجاه تايوان ان يلاحظ أيضاً ان بكين لم ترتكب حماقة ما في هذا المجال بالرغم من النزعة القومية الصينية التاريخية والتعقيد الكبير المحيط بالمسألة التايوانية. كما يلفت هؤلاء الانتباه إلي ان من حق الصينيين التصرف علي ضوء حجم بلادهم، وان الغرب يخطئ عندما يفسر كل سياسة صينية مستقلة وكأنها مشروع تصعيد ضده وضد مصالحة.
    ما الذي يمكن استخلاصه من هذا الجدل متعدد الأوجه حول المسألة الصينية؟ المؤكد ان القوي الغربية تعاملت باستخفاف مهين مع الصين منذ بدايات القرن التاسع عشر، وان ميراث هذا التعامل ما يزال يشوب السياسات الغربية تجاه الصين، حتي والأخيرة تتحول إلي قوة اقتصادية عظمي. ولكن الغرب يتعلم سريعاً أن صين القرن الحادي والعشرين لم تعد جسداً للنهش ولا كرة للعب في ساحة التوازنات الغربية. من ناحية أخري، تبدو خطوات الصين في اتجاه منتدي الكبار حذرة ومترددة، ليس فقط لأن الدول ذات الحجم والميراث الكبيرين هي أكثر بطئاً وأقل تسرعاً في سياساتها الخارجية، ولكن أيضاً لأن الصين تدخل دائرة لم تدخلها من قبل. فهذه دولة ليس لديها تجربة إمبريالية عالمية (إمبريالية ما وراء البحار علي الأقل)، وهي تدخل عالماً أكثر تعقيداً علي أصعدة السوق والتجارة ومصادر الطاقة والقوة مما كان عليه العالم ما قبل الحديث، عالم يفرض قيوداً عديدة علي قوة كبري تنبع قوتها من آلتها الصناعية والاقتصادية المتنامية، وهو عالم أشد ضراوة في ربطه بين القوة المطلقة والوزن الصناعي والتجاري للأمم. قد لا يسير العالم بالضرورة نحو حرب باردة جديدة، ولكن تجنب مثل هذه الحرب يتطلب اعترافاً غربياً (وامريكياً علي وجه الخصوص) بالصعود النسبي للصين والتراجع النسبي للولايات المتحدة والكتلة الغربية. وخلف هذا الاعتراف يقع عالم جديد، عالم سيكون من المغامرة رسم ملامحه في شكل مسبق. بدون هذا الاعتراف، سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، ألا يشهد العالم تنافساً امريكياً ـ صينياً، تصطف علي جانبيه تحالفات عالمية، يضيف إلي السياسة الدولية مصطلحاً جديداً للحرب.
    9

    د/ محمد عمر أمطوش
يعمل...