عناصرُ دراسةٍ مُقارنةٍ للشعر الصيني والشعر الغربي "عن الفرنسية" ـــ زهو غيونغكيان ـ ت.عوض الأحمد
يأخذ الشعر معنى مختلفاً حسب العصور، فلكل أمة شعرها ولكل عصر شعره. إنها لمتعة أن نشرع في دراسة مقارنة ول هذا الموضوع آخذين على سبيل المثال الشعر الصيني والشعر الغربي اللذين يتماثلان ويتميزان في نقاط عديدة. ويميلان عموماً إلى موضوعات مشتركة من أهمها:
1 ـ العلاقات الإنسانية. 2 ـ الطبيعة. 3 ـ الدين والفلسفة. وإنني سأسعى إلى بسط دراستي بهذا الترتيب.
العلاقات الإنسانية.
إن أغلب قصائد الغرب تتركز حول الحب في حين أن قصائد الصين تعالج الموضوع كذلك دون أن تمنحه أهمية كبيرة بهذا القدر.
وإذا كانت الروابط بين الأصدقاء والروابط بين الملك والوزراء لا تشغل إلا حيزاً يمكن إهماله في الشعر الغربي فإنها في الصين تملك نفس أهمية الحب في شعر الغرب.
إن قصائد ":كويان" و"دوفو" و"لويو" كانت ستفقد كثيراً من ماهيتها لو أفرغت من صدق ولاء مؤلفيها للإمبراطور ومن ارتباطهم بالوطن وبالشعب.
فيما مضى، كان معلّقو القصائد يميلون إلى عرض قصائد الحب دلالة على الإخلاص للإمبراطور وعلى الوطنية.
وهكذا فإن "ماو شانغ" معلقاً على كتاب الأناشيد كان يشرح قصائد الحب كنقد سياسي لاذع.
وحسب "زهانغ هويان" فإن الأربعة عشر فصلاً للقصيدة التي كتبها "وين فيكينغ" حول دافع "بوسامان" كانت معلّلة في أسفه لأنه مهمل.
هذا الشرح غير صحيح. ومع ذلك ففي العصور الأخيرة هذه وجد أناس يذهبون إلى الطرف الآخر ويلصقون بطاقات الحب لقصائد تعبر فعلاً عن الإخلاص للملك وحب الوطن.
فمثلاً قُدِّمت كقصائد حب أعمال من نوع "ندم الانفصال" و"الرحلة الكبرى" هذا الشرح كذلك هو شرح غير منطقي.
إن الذين قرأوا قصائد غربية يعتقدون بأن الحب كان يجب أن يحتل مكانة مهمة في الشعر الصيني كما هي الحالة في الغرب. إنهم لا يعرفون بأن الصين تختلف عن الغرب من حيث الوضع الاجتماعي والمبادئ الأخلاقية. ففي الصين قديماً لا يشغل الحب مكانة مهمة كما يتوهمه الصينيون المعاصرون وعلى العموم فإن القصائد التي تُغَنَّى للصداقة هي أكثر عدداً من تلك التي تتناول الحب. إن القسم الأعظم من المجموعات العديدة من القصائد مؤلفة من خلال رسائل وأجوبة مؤلفيها. واليوم ما تزال موضع إعجاب صداقة "سوفو" و"لي لنغ" و "الأدباء السبعة الكبار في عصر "جيان آن" و"لي بي" و"دو فو" و"هان يو" و"مانغ جياو" و"سوسهي" و"هوانغ تنجيان" و"نالان شانغد" و"غوزهنغوان".
ورغم أن صداقة متينة بنيت بين "غوته" و"شيلر" وبين "ودردشورت" و"كولوريدج" وبين "جون كيتس" و"شيلي" وبين "بول فيرلين" و"آرتور رمبو" فإن القصائد التي تذكر متعة لقاء الأصدقاء بعد الغياب قلما كانت تُنظم.
ثمة أسباب عديدة لكون الشعر الصيني يمنح مكانة أدنى للحب من الشعر الغربي. أولاً إنها الفردية التي تهيمن على المجتمع الغربي المبني في الظاهر على الدولة. وبما أن الحب في قلب الحياة فإنه يأخذ مساحة كبيرة بحيث يبزّ العواطف الإنسانية الأخرى. وبشكل عام بالنسبة للشاعر فإن الحياة هي قصته العاطفية وهذا أيضاً أكثر صحة في الأزمنة الحديثة.. والمجتمع الصيني مبني في الظاهر على العائلة. لكن المصلحة العامة في الواقع هي التي تتفوّق عليه.
في الماضي كان من الشائع أن يمضي رجال الأدب أكثر وقتهم في ممارسة وظيفة عامة بعيداً عن مواطن ولادتهم تاركين "زوجتهم العجوز في البيت" كانوا بالتالي أكثر اتصالاً مع زملائهم وأصدقاء الأدب من اتصالهم مع النساء ومن ثم فإن المرأة مع تقليد فروسية القرون الوسطى في الغرب قد عرفت وضعاً اجتماعياً مرتفعاً نسبياً.
وبما أن الثقافة كانت متطورة فإن النساء كان يمكنهن غالباً أن يتفاهمن مع الرّجال حول مناهج ثقافية وفنية.
أما في الصين وتحت تأثير الكونفوشية فإن النساء لم يستفدن مطلقاً من أي اعتبار. فالحب الزوجي تمليه الأخلاق ونادراً ما ينشأ وفق تذوّق الأدب والفن. يضاف إلى هذا أنه في المجتمع الصيني يُبحث قبل كل شيء عن مهنة رسمية باهرة. ومن كان متهتكاً فهو شخص جدير بالاحتقار. بحسب (الكونفوشيوسيين).
وأخيراً فإن مفهوم الحب يختلف بشكل كبير بين الشرق والغرب. فالحب قبل كل شيء هو مفهوم غربي. أما الصينيون فيمنحون أهمية أكبر للزواج منها للحب. إنه "في حقل أشجار التوت بجانب الماء" يوجد الحب الحقيقي. العاطلون عن العمل ومبغضو البشر وحدهم يُسَرّون في الحياة العاطفية.
إن بعض الملوك (أسرى التهتك) مثل الإمبراطور "يانغدي دي سوي" والإمبراطور "لي هوز" كان ينظر إليهم دائماً بشكل سيء في التاريخ الصيني.
وإذا أمكن القول بأن الشعراء الغربيين يعتبرون الحب تحقيقاً لحياتهم فإن زملاءهم. الصينيين لا يرون في الحب إلا متعة عابرة في الحياة.
في الواقع يسمّي الصينيون الحب حباً بينما الشعراء الغربيون يرون أبعد من ذلك مكتشفين في الحب اختبارات عن الحياة والدين.
وهذا لا يعني أن الشعراء الصينيين غير جديرين بالتعبير عن العواطف العميقة إن قصائد الحب الغربية ترتبط بوصف جمال الشخص المحبوب وعمق العواطف. أما في الصين فإن القسم الأعظم من قصائد الحب تنظم بعد الزواج.
وغالباً ما تكون أجمل قصائد الحب مكرسة للتعبير عن ندم الفراق أو فقدان الشخص المحبوب. إن قصيدة الحب الغربية تتميز بوصف التعلق بالمحبوب.
وأجمل القصائد من هذا النوع توجد عند "شكسبير" و"شيلي" و"بروينغ" أما في الصين فإن قصائد الحب الممتازة هي الأغاني المأساوية أو الدينية: "الشُبَيْط" و"مركب السرو" و"راعي البقر البعيد" و"أغنية دوكاوبي" و"امرأة متقلبة" و"حكمة الإمبراطور ياندي دي ليانغ الخريفية". و"الحنين إلى الوطن" و"الندم والحلم الربيعي" لـ "لي بي".
وبالاختصار فإنه يمكننا القول بأن الشعر الغربي يتميز بالصدق والعمق والاتساع بينما الشعر الصيني يسطع بالإلماح والرّقة والإيجاز.
الطبيعة
إنّ حب الطبيعة هو عاطفة حديثة نسبياً عند الشعراء في الصين كما في الغرب. في البداية كان الشعر يعكف بالأحرى على الناس والحوادث ولم تكن الطبيعة تلعب إلا دوراً ثانوياً كما في الرسم.
في "كتاب القصائد الغنائية" يستحضر المؤلف الترغلة الساجعة فوق جزيرة النهر ليبرز الشابة الفاتنة التي يغازلها الفتى. وقس على ذلك "القصب المبيض بطبقة الجليد" إنه مخصص لاستدعاء "الشخص من الضفة الأخرى للنهر". إن تحويل الاهتمام نحو الطبيعة يكون تحريراً للشعر لأن هذا ليس فقط يؤدي إلى إغناء الموضوعات ولكنه يسمح أيضاً لأبيات الشعر المكرسة للأشخاص والحوادث أن تصل إلى العمق. إن صعود الاهتمام بالطبيعة هو حركة في تاريخ تطور الفن الشعري. حركة تتحدد في الصين عند نقطة التقاء السلالتين الملكيتين: "جان" و"دي سونغ" في حوالي القرن الخامس وفي الغرب في بداية الحركة الرومانسية يعني في القرن الثامن عشر.
إن الشعر حول الطبيعة رأى النور في الصين قبل الغرب بألف وثلاثمائة سنة. لكن النقاد بشكل عام يحتقرون شعر السلالات الملكية الست وهذا خطأ في رأيي لأنه في عصر السلالات الملكية الست بالضبط تشكّل الشعر حول الطبيعة وبدأ الشعر الصيني منفصلاً عن الموسيقى يبحث عن موسيقاه في إطار اللغة نفسها.
وهكذا انطلقت الأبحاث حول الإيقاع وعرف الشعر الصيني صيغاً جديدة ومراكز اهتمام جديدة ومصادر إلهام جديدة ومواضيع جديدة مستعارة من الفلسفة. ويمكن إذن القول بأن السلالات الملكية الست هي أيضاً مهمة بالنسبة للشعر الصيني باعتبارها مرحلة رومانسية بقدر الحركة الرومانسية للشعر الغربي.
أما فيما يتعلق بالقصائد التي تدور حول موضوع الطبيعة فإن الشعر الصيني يشتهر بالإلماح والرقة والإيجاز والشعر الغربي بالصدق والعمق والاتساع. وهناك نوعان من جمال الطبيعة: الجمال النشيط والجمال الناعم. فالأول يختص بالجبال الشاهقة والبحر والعاصفة والطوفان والليل الهادئ والصحراء الواسعة والثاني بالنسمة وضوء القمر وبالعطور الخفيفة والظلال وبالهضبة في لحظة الغسق وبلمعان ماء البحيرة ولقد أُريد أن يُمثل لهذين النوعين من الجمال في الأزمنة القديمة بالبيتين التاليين من الشعر:
"فرس يخب في الريح الخريفية في شمال جبال يانسبان.
شجرة خوخ تزهر تحت المطر الربيعي في جنوب يانغتسي"
وهذه هي الحالة نفسها بالنسبة للجمال الفني. وإن "ياوني" يعالج المسألة بالتفصيل في "جوابه إلى لي كسيفي". إن الجمال النشيط في الشعر تتمثل في أعمال "لي بي" و"دوفو" و"سوشي" و"كسينٍ كيجي" والجمال الناعم في أعمال "وانغ وي" و"منغ هاوران"، و"ين تنفجين"، و"لي شانغيان".
لكننا لو قارنا الشعر الصيني بالشعر الغربي لظهر الأول موسوماً بالأحرى بالجمال الناعم والثاني بالجمال النشيط. إن الشعراء الغربيين يحبون البحر والعاصفة والشاطئ الصخري والوادي وبزوغ الفجر ويحب الشعراء الصينيون الساقية والصفصاف متدلي الأغصان والنسمة والغيمة وانعكاس الجبل في البحيرة وضوء القمر.
لا شك أن هذا يعني هنا العمومية. فالغرب لـه أيضاً قصائده الموسومة بالجمال الناعم والصين لها قصائدها ذات الجمال النشيط. ولكن ذلك لا يشكل مظهرها الرئيسي. يمكن للشعراء أن يحبوا الطبيعة بثلاث طرق: الطريقة الأكثر سطحية تتمّ بالإدراك الحسي: برودة النسيم، لون ورائحة الأزهار، أصوات العصافير العذبة، خرير الساقية، السماء اللازوردية والماء الصافي.. وهذه الطريقة وقف على الناس العاديين وتقريباً جميع الشعراء لهم ميل نحو هذه الطبيعة في الغرب المعاصر فإن المدرسة الشعرية المسماة في الصين "بالمنحطين" تعرض أعمالاً محشوة بوصف الأصوات والألوان والروائح والمذاقات هذا الهوس يأتي من غرابة أطوار المؤلفين، وأعمالهم ليست من القصائد الجميلة.
الطريقة الثانية هي الانصهار عقلياً مع الطبيعة. وهذا موقف أغلب الشعراء الصينيين وهكذا: "فإنه مع جبل "جينتغ" الوحيد يكون التأمل المتبادل بدون ضجر". "والهواء يهب من بعيد على السهل الواسع والنباتات الفتية تشعر أيضاً بالتجديد" "ويشعر المرء حقاً حين ينظر إلى العالم الهادئ وأفرح الفصول الأربعة بأنها كلها مشتركة".
والطريقة الثالثة هي الحلولية. فالطبيعة التي تعتبر كانبثاق إلهي تملك غرائب غير قابلة للسبر وقوة فوق قدرة البشر تهيمن على الإنسان في كل لحظة.
هنا التعبير عن الإحساس بالطبيعة يصبح ديناً ومزيجاً من الخرافات البدائية والفلسفات الغريبة. وهذا موقف أغلب الشعراء الغربيين.
والشعراء الصينيون الذين هم من هذه الشريحة نادرون. فـ "تاوكيان" و"وردزورث" الشاعران المشهوران غَنّى كلاهما الطبيعة وأعمالهما تقدم العديد من الخطوط المتشابهة. ومقارنة هذين الشاعرين تسمح لنا بالتأكد من السلوك المختلف للشعراء الصينيين والشعراء الغربين إزاء الطبيعة.
ولنأخذ على سبيل المثال "العودة إلى مسكني الريفي" لِـ "تاوكيان":
"أقطف الأقحوان قرب حظيرة الشرق
وأنتشي برؤية جبل الجنوب في الأفق
وعند المساء يبدو هواء الجبل أكثر برودة
وتعود العصافير منه زرافات
في هذه الأشياء يكمن معنى عميق
وحالما أريد شرح هذه الأشياء لنفسي فإن الكلمات تهرب مني".
ينتج من ذلك أن "تاو كيان" مخلص لعاداته: "أحب أن أقرأ دون الوصول إلى عمق الأشياء" ويكره "النار التي تتخبط في القفص" ويستمتع "بالحدائق البعيدة للعواطف المألوفة" فهو إذن يشعر بالراحة والرضا لعشرة من الخراف مع ثمانية أو تسعة من أكواخ القش وحالته الروحية منفصلة لدرجة "أنه إذ يلحظ أعلى الجبل" "يحس بلذة كبيرة في الاتحاد معه" لكنه لا يسعى عن شرح الأشياء لنفسه. وهذا ما يجعله مختلفاً بشكل أساسي عن "وردزورث" والشعراء الغربيين الآخرين. فالشاعر الإنكليزي ينفر من المألوف أيضاً ويحب الجبل. وهو أيضاً راض عن وجوده لكنه إنسان يتأمل ممتلِئاً بالعواطف الدينية فقد صرّح ذات يوم:
"إن الزهرة الأكثر تفاهة المحمولة مع الريح يمكنها أن تجعلني أستغرق في تفكير عميق لا تتوصل الدموع إلى التعبير عنه". لقد قال أيضاً في قصيدة إنه كان يشعر بأن روحاً تدفع هؤلاء الذين يتأملون ومواضيع كل فكرة وبأن روحاً تتدحرج عبر كل الأشياء".
إن اختراق الروح هذا وهذه الصوفية لا يجمعها شيء بالتأثر المنسجم لدى الشعراء الصينيين مع الطبيعة. فهؤلاء لا يرون في الطبيعة إلا الطبيعة في حين أن الشعراء الغربيين يرون فيها قوى خارقة وغريبة.
الفلسفة والدين
إن السبب الذي من أجله لا يستطيع الشعراء الصينيون الذهاب بعيداً جداً في فهمهم للحب وللطبيعة يكمن في بساطة مفاهيمهم الفلسفية وفي انفصالهم عن الدين. ورغم أن الشعر لا يفيد في مناقشة الفلسفة ولا في الترويج للدين إلا أنه لم يكن ليعرف الازدهار دون أن يجد نفسه في الأرض الخصبة، أي: الفلسفة والدين. وإذا كان الشعر الغربي بإمكانه أن يفوق الشعر الصيني مساحة وعمقاً، فذلك لأنه يقتبس بغزارة من الفلسفة والدين، فبدون "افلاطون" و"سبينوزا" لم تكن لتوجد المثالية والحلولية المتجليتان عند "غوته" و"وردزورث" و"شيلي".
ولولا الدين لم تكن لتوجد المآسي الإغريقية ولا "الكوميديا الإلهية" لِـ "دانتي" ولا "الفردوس المفقود" لـ "جون ملتون". طبعاً يمكننا لأسباب قوية أن نستمتع بالثمرات الرائعة للشعر الصيني المغروس في أرض فقيرة.
لكن في مقابل الشعر الغربي فإنه غير كاف. إنني أحب الشعر الصيني لأنه يسمو على الشعر الغربي في دقة فن القوافي وأناقة التعبير ولكن من جهة المدى والعمق فأنا لا أستطيع الدفاع عنه.
إن طباع الصينيين تشبه طباع قدماء الرومان. إنهم واقعيون جداً وعمليون ولا يستسلمون للغيبيات. وعلى المستوى الفلسفي فقد صاغوا مجموعة من المبادئ الأخلاقية دون أن يطوروا بشكل منهجي نظرية فلسفية مجردة. أما على المستوى الأدبي فلهم مؤلفات عديدة واقعية ذات علاقة بالمشاكل الاجتماعية وبالعلاقات بين الناس دون أن ينتجوا كثيراً من الأعمال ذات الخيال المحض. إن الصينيين واقعيون جداً وإنسانيون جداً.
وهنا نقطة القوة ونقطة الضعف عندهم أيضاً. نقطة القوة لان الكونفوشيوسية التي أعطت قيمة كبيرة للعلاقات الإنسانية سمحت لمجتمع متفكك بأن يحتفظ بالاستقرار مدة عشرين قرناً من الزمن.
ونقطة الضعف لأن هذا الارتباط القوي بالإنسانية وفي الزمن الحاضر منع الخيال من التحليق وبالتالي من أن تكون التطلعات أكثر طموحاً.
ونتج عن هذا أن الاستقرار الاجتماعي جرّ الركود ومن ثمّ ضياع الاستقرار.
وعندما أقول بأن المفاهيم الفلسفية بسيطة في الصين فإنني لا أنسى فلسفة "لاوزي" و"زهوانغي". صحيح أن هذه الفلسفة أكثر صعوبة من الكونفوشيوسية لكنها تميل أيضاً أكثر نحو القضايا الإنسانية بالنظر إلى الفلسفات الغربية. فـ "لاوزي" و"زهوانغي" نادراً ما تركا القضايا الإنسانية من أجل النفاذ بعمق في ماهية الأفكار وأصل الكون وتأثيرهما على الشعر الصيني هام ولكنه غير موفق لسببين:
أولاً: إن فلسفة مبنية على التحليل الأخلاقي والمنهجي تحفظ بسهولة لكن فلسفة مؤسسة على الشعور السبقي فهي صعبة المعرفة والحفظ. إن فلسفة "لاو" و"زهوانغ" تنتمي إلى الطبقة الأخيرة وفيما بعد فإن فلسفة "لاوزي" تماثلت مع الطاوية.
ولهذا فإن الشعر الصيني متأثر بالأحرى بالطاوية. وثانياً: فإن فلسفة "لاو" و"زهوانغ" تنشر فكرة الفراغ الأوَّلي وتحتقر فكرة السعي ولكن بدون السعي المدعوم والمشجّع من قبل الغربيين فإنه من المستحيل النفاذ إلى طبيعة الأشياء لا في الشعر ولا في الفلسفة.
ورغم أن "لاو" و"زهوانغ" نجحا في تعميق نظريتهما فإن تلاميذهما يميلون إلى الاكتفاء بالعناصر السطحية.
وعندما ندرس قصائد مستوحاة من فلسفة "لاو" و"زهوانغ" يستحوذ علينا هذا المنطق. فغالبية الشعراء الصينيين هم كونفوشيوسيون. و"دوفو" و"تاوكيان" هما أفضل الممثلين، لهذه الفئة لكن في هذا الشعر المتشبع بالكونفوشيوسية خلق أربعة من كبار الشعراء المتأثرين بقوة بـ "لاو" و"زهوانغ" عالماً مستقلاً. وهؤلاء هم "كيو وان" مؤلف "ندم الانفصال" والمؤلف المفترض لِـ "الرحلة الكبرى" و"روان جي" الذي ألف "أغاني قلبي" و"غيوبو" مؤلف "المتسكعون الخالدون". و"لي بي" مؤلف "الغناء حول مطلع وغروب الشمس". و"تسع وخمسين قصيدة من النوع القديم". ونحن نستطيع أن نسميهم بشكل عام شعراء مدرسة المتسكعين الخالدين. فما هي وجهات نظرهم؟
يكتب "كيو وان":
السماء والأرض وحدهما لامتناهيان
آسف على عمل البشر المتواصل
ولا أستطيع إدراك هذا الذي مضى
ولا أستطيع كذلك فهم المستقبل
أية متعة أشعر بها في صمت مجدب!
وكم يريحني الكسل العذب!
(الرحلة الكبرى)
في "أغاني قلبي" يعلن "روان جي".
"لا أستطيع إدراك الماضي
ولا أعرف المكوث حتى مجيء المستقبل
أرغب بتسلق جبل الزهر السماوية.
لأتسلى مع الأبدي "شي سونغزي". "
وفي قصيدة من النوع القديم يصرّح "لي بي":
"النهر الأصفر يصب في البحر الشرقي
والشمس تغرب في المحيط الغربي
فَلْتَمْضِ سريعاً دون أي انتظار
هذه الأنهار وهذه الأنوار التي تجري".
............
"آمل أن أمتطي تنيناً
لأستمتع ببهاء المنظر"
هذه الأبيات تعبر دون استثناء عن فكرة بذاتها: يكره المؤلفون الحياة ويتمنون التفوق على العالم.
لقد أصبحوا كارهين للبشر بسبب تغير الناس وقصر مدة الأشياء.
إنهم يريدون التفوق على العالم بتقليد الطاويين الذين يزعمون بأنهم قادرون على صنع إكسير الخلود والتحليق على ظهر كُركي في عالم الخالدين لكن هذا ليس إلا حلماً ولهذا يكتب "كيووان":
"الشمس في القبة الزرقاء بعيدة جداً
حتى أنني لا أعرف كيف أمضي."
أما "روان جي" فإنه يقول:
"قطاف النباتات الطبية يكون بدون رجعة
والخالدون لم يعطوا أية إشارة محددة
إنني أحس بقسوة هذه الورطة
وأتعذب بلا نهاية"
و"غيوبو" يقر من جانبه:
"أريد حقاً أن أحلق فوق الساقية الحمراء
ومع الأسف فإن التنين ليس مطيتي".
أما بالنسبة لِـ "لي بي" فإنه ينوح:
"أعتقد أن الخالدين
يوجدون في نهاية شرق البحر الأزرق
ريح سماوية تهب فوق هذا اللامتناهي القارس
والأمواج العالية المزبدة تتكسر على الجبال
والحيتان التي تنفخ الماء تمنع المرور
والحيرة تقتلع مني الدموع بلا نهاية.
لاستيائهم من العالم الذي يعيشون فيه يبحثون عن عالم آخر. هذه الرغبة المشابهة للأمنيات الدينية للغربيين يجب أن تقود إلى ابتكار عالم مثالي. لكن لا: لأنهم حاولوا عبثاً التأكد من مشقات العالم الحالي ليست عندهم فكرة واضحة عن الأرض الموعودة. إن عالم الخالدين الذي يرغبون فيه هو أحياناً في "الغيوم اللازوردية" وأحياناً في "نهاية شرق البحر الأزرق" وأحياناً في بركة اليشب لملكة الغرب الأم والتي حسب "لي بي" ستكون فيما وراء السماء بثلاثمائة فرسخ. في عالم الخالدين يهيمن الإمبراطور يخدمه صبيان من اليشب يعزفون الأورغ بالفم ومومسات يمسكن الخبيزة بأيديهن إن "وانغ كياو" و"كيسهنغ" و"شي سونغزي" هم أتباع الخالدين في عالم حيث جميع المباهج الإنسانية فيه مثمنة عالياً أيضاً. ويمكننا تخيل قطار الحياة الفخم قطار الخالدين الذين يشربون في أكواب من اليشب فوق مصاطب من الذهب والفضة.
إن الخالدين ليسوا بالطبيعة فاقدي الحس بالمناظر الجميلة. إنهم يتلذذون أمام شلالات الماء الذي يسقط من ارتفاع عدة آلاف من الأمتار.
وفي قصورهم غيوم تحيط بالعوارض الخشبية ويشب يختلط بالسحلبيات. وعندهم حسب "غيوبو" "من يكون عمرهم ألف سنة هم أطفال" وحسب "لي بي" "فإن وجبة طعامهم تدوم عشرة آلاف سنة" ولهم قوة خارقة.
إنهم قادرون على "ابتلاع قطع كبيرة جداً" و"رسم مناظر وتزيينها بالأضواء المتعددة الألوان" و"كسر غصن ميت لكنس أشعة شمس الغرب" فكيف نصبح خالدين؟ يجب أن نمارس علم تحويل المعادن وأن نسجد طويلاً أمامهم طالبين منهم سِرَّ فنهم قبل أن يسافروا فوق غيمة أو فوق كُركي. إن تصوّر عالم الخالدين هو مزيج من عدمية "لاوزي" وزهو "انغزي" وأفكار الطاويين حول ترك العالم الإنساني.
هؤلاء الشعراء لا يدركون بأن الطاويين ينتسبون عبثاً إلى "لاوزي" وأن أفكارهم متعارضة مع فلسفته. وحسب "لاوزي" "فالشر الأكبر للإنسان هو أن يكون مادياً".
إنه يقترح إذن "التخلص من الشهوات للنفوذ إلى خفايا الحياة" أما بالنسبة للطاوويين فهم يعملون المستحيل ليمتلكوا حياة طويلة وفاتنة جداً وأن يكونوا من ذوي الحياة الفخمة. ولا ينسون لحظة قصور اليشب هذه وهذه الخمور اللذيذة المقدمة في أكواب مصنوعة من الأحجار الكريمة.
إن تناقض شعراء مدرسة الخالدين المتسكعين يرتكز على الرغبة بالتخلي عن العالم دون القدرة على التخلي عن رغباتهم الخاصة.
والأكثر من ذلك أنهم موسومون بشدة بحب الكونفوشيوسية المرتكزة على تحسين العالم.
إنهم لم يتنازلوا نهائياً عن الإنسانية الصينية. إن "كيو وان" و"روان جي" و"لي بي" عندهم مطمح نبيل في مساعدة العالم والشعب وحتى "روان جي" والذي هو حر للغاية ومتعال يعطي هذه النصيحة في "أغاني قلبي" "كم الحياة قصيرة فلا تبخل بكدّك" وفي قصيدة من النوع القديم يعبر "لي بي" في هذه الكلمات عن رغبته "باعتناق مهنة الأديب الذي تسطع مؤلفاته خلال ألف ربيع" [ تسجل آلام العالم وقصر حياة الكائنات الإنسانية] إن شعراء مدرسة الخالدين المتسكعين إذ يتخندقون في عدمية الطاويين يختارون حلمهم بمغادرة العالم.
لكن عالم الخالدين الذين يحلمون به بعيد جداً بحيث يتحسرون: "أريد حقاً أن أحلّق فوق الساقية الحمراء لكن التنين للأسف ليس مطيتي" و"الحيرة تستدرّ منع الدموع بلا نهاية" وهكذا فإنهم مجبرون على البقاء في العالم الإنساني وإغراق حزنهم في الخمر ووجود المتعة في القرب من النساء. أتمنى أن أهجر العالم دون أن أعرف أين أتوقف، لكني لا أستطيع إلا أن أسافر في كل مكان كما يحلو لي"
إن "كيو وان" ينتحب وأما بالنسبة لِـ "لي بي" و"روان جي" فهنا أسلوبهما في أن يعيشا حياتهما.
إن شعراء هذه المدرسة جميعاً يشعرون بأنهم موجودون في طريق مسدود وهم يبكون عجزهم. إنهم يبدأون بحب الحياة ثم بالتقزز منها والاستعلاء على هذه الحياة وأخيراً يتوصلون إلى السخرية من كل شيء ولا تخلو سخريتهم من الحزن. إنهم يمضون حياتهم هكذا في مزج التناقضات والنزاعات. وهذا هو نصيب جميع الشعراء الكبار الجديرين بهذا الاسم والذين هم مع ذلك قادرون على أن ينتهوا منها ويصلوا إلى سلامتهم.
وإذا كان "دانتي" و"شكسبير" و"غوته" تفوقوا على "روان جي" و"لي بي" فلأنهم انتهى بهم الأمر إلى أن وجدوا سلامهم بينما "روان جي" و"لي بي" لم ينقطعا أبداً عن الإحساس بعذاب الشك والحيرة.
إن "كيو وان" و"روان جي" و"لي بي" يرون أبعد مما يرى الشعراء الصينيون الآخرون. ويستكشفون آفاقاً قلما يرتادها مواطنوهم.
لكن إرثهم القومي ثقيل جداً بحيث لا يستطيعون الذهاب حتى النهاية ولهذا فإن طموحات الشعراء الغربيين بعالم آخر يمكن أن تنتج "الفردوس المفقود" و"فاوست" بينما في الصين فإن الظاهرة لا تنتج إلا بعض القصائد من نوع: "الرحلة الكبرى" و"أغاني قلبي" و"الخالدون المتسكعون" وكذلك بعض القصائد من الأسلوب القديم. إن البوذية مارست أيضاً تأثيراً عميقاً على الشعر الصيني ومع الأسف فإن أحداً لم يقم بأبحاث جادة حول هذا الموضوع.
ويجب أن نعرف قبل كل شيء أن معظم القصائد المستلهمة من البوذية خالية من التعاليم البوذية ولكن مليئة بفرح الاستغراق في التأمل وبعد "تاوكيان دي جان" فإنّ "كْسِي لنغيون" و"وانغ دي" و"سوشي" هم الشعراء الكبار الذين وُسموا أكثر بالبوذية ومؤلفاتهم تُظهر من سطر إلى آخر فرح الاستغراق في التأمل، دون أن تتناول فيما عدا بعض الاستثناءات، مبادئ البوذية.
ونستطيع أن نستخلص هذا الانطباع العام من قراءة مؤلفاتهم الكاملة. وسأقتصر على ذكر بعض المقاطع الشعرية:
"غيوم بيضاء تلف صخرة هادئة
ونباتات البامبو الخضراء تداعب ساقية صافية"
"النقاشات انطفأت في المقصورة الخاوية
وتأتي القنادس في الباحة الخالية"
"كْسِي لنغيون"
"تحلق العصافير وهي تغني بينما يتلاشى فرحي
والأزهار تسقط عديدة عندما أجلس مدة طويلة"
"مستنداً على عكازي خارج باب الكوخ
أصغي إلى غناء الأزياز المتباطئة في الريح.
(وانغ وي)
"في الزورق المتحرك نرى الضفاف تهرب من ذاتها
ومتمدداً فوق ظهر الجاموس أقرأ دون أن يعرف الحيوان ذلك"
"أقرع الباب دون الحصول على جواب.
وأستند على عكازي مصغياً لارتداد أمواج النهر".
(سوشي)
وينبغي علينا أن نجد السبب في ازدواجية الواقع بأن الشعر ليس خليقاً بمناقشة الفلسفة وبأن هؤلاء الشعراء الصينيين يعجبون في الحقيقة بالبوذيين وليس بالديانة البوذية.
بعد سلالة "جين" فإن غالبية الشعراء الصينيين قد ارتبطوا بصداقات مع (المنعزلين عن العالم).
وهكذا "كْسِي لنغيون" مع "يوان غونغ". و"وانغ وي" مع "يوان غونغ" وأستاذ التأمل "كاو سوشي" مع "فويل" وإذا كانوا معجبين بفعل وسلوك هؤلاء الرهبان البوذيين. فقد كانوا يترددون على معبدهم للتمتع بلذة التأمل أو لتبادل الأحاديث الروحية معهم.
والمنظر الشعري إذ يرتبط بعدّة صلات مع صور التأمل، فإن الشاعر وأستاذ التأمل يتفاهمان غالباً بشكل كامل. وإذا كان الشعراء الصينيون قد سبقوا زملاءهم الغربيين بعشق الطبيعة والتدله بها بألف وبضع مئات من السنوات فذلك يعود إلى تأثير البوذية. ورجال الدين في عصر "وي وجين" اعتادوا بناء معبدهم في موقع رائع الجمال.
(هذا الميل لرجال الدين الصينيين ربما نشأ عن رجال الدين الهنود إن "حلقة الساكونتالا" وهي دراما مكتوبة باللغة السنسكريتية تظهر لنا أن رهبان الهند البرهميين القدماء كانوا يحبون العيش متنسكين في موقع جميل) وروابطهم مع "المنعزلين عن الناس" علّمت الشعراء هذا الفرح الجديد فرح التأمل الذي يتكوّن قبل كل شيء في الفهم الصامت للطبيعة.
وهذا ما استفاده الشعراء الصينيون من البوذية. لكن ليس بقصد الدّفاع عن المبادئ البوذية. فقصدهم الحقيقي كان التسلي دون الرّغبة في ممارسة البوذية حتى التسليم الكامل. كانوا يتأملون في الجبل ويخرجون منه ليتابعوا طريق حياتهم كموظفين كبار: أكل فاخر وحب زوجي... إن جوهر البوذية يتطلب أن "لا تترك شيئاً للكتابة وأن تصبح بوذياً بالطبيعة". ومع ذلك فقد بقي الشعر عقبة في هذه الطريق.
إن البوذية لم تقم بتوسيع سوى الأسس الجمالية وليس الفلسفية للشعر الصيني المبني دائماً على الكونفوشيوسية والطاوية. إن المذهب البوذي بوصفه فلسفة غريبة فقد استقبل من قبل الشعراء الصينيين لأنه يُذكِّر بطريقة ما بأقوال الطاويين. وبعد سلالة جين فإن الناس أخذوا يميلون إلى مزج البوذية والطاوية معتقدين أنه كي تصير خالداً يجب أنه تصير بوذياً.
وفي مغناة النزهة فوق جبل الشرفة السماوية لِـ "سن شيو" والقصيدة المهداة إلى الراهب "ياغونغ" من "لي بي" فإن مؤلفي هاتين القصيدتين يعتقدان بأن البوذية ومذهب "لاوزي" يشتركان في الأفكار. إن "هان يو" إذ دحض الأفكار الهرطقية وضعهما هو أيضاً في نفس المستوى. إن "لاوزي" ينادي بالعدم دون أن يقترح بعبارات واضحة السكون والخمود. إنه فرداني كامل. إن كتاب الطريق والفضيلة يحتوي في أغلب الحالات تجربة إنسان محرر من الوهم. لهذا استخدم فيما بعد لتسمية العقوبات القانونية المحددة من قبل "شن بوهي" و"هان في".
إنّ البوذية تراعي نشر العطف للجميع. وحسب "لاوزي" فإن الإنسانية يجب أن تعود إلى حالتها الجاهلة في العصر الأول بينما البوذية تطلب من الإنسان أن يفهم القلب وأن ينفذ إلى طبيعة الآخرين.
وطبقاً لمبدأ "لاوزي": أخذ حداً للحكيم وتنازل عن المعرفة" فحتى البوذية يجب رفضها. فإننا نرى بوضوح أن مذهبه لا ينسجم في شيء مع البوذية إن أتباع جين وأتباع "تانغ" بوضعهم البوذية ومذهب "لاوزي" أو الطاوية في نفس السلة فإنهم يتناقضون دون أن يلاحظوا ذلك.
وما يدهش هو أن الشعراء الكونفوشوسيين هم بشكل عام تلاميذ للبوذية.
في الأصل كان "بي جويسي" و"يوان زهن" كونفوشيوسيين مائة بالمائة لكن "بي" كتب هذه الكلمات "إنني مناصر للبوذية وليس للطاوية وخلاصي الأبدي سيكون في الفردوس البوذي" و"يوان" في "وداعاً للمرض" يعلن هو أيضاً: "إني تلميذ للبوذية، منذ زمن طويل وأسكن فقط في إهاب مادي".
لقد اعتاد الصينيون أن يكون عندهم ميل للدين دون الرغبة في الذهاب حتى النهاية.
هذا الميل إلى التهاون والتسوية ليس بالتأكيد دون مزية . ولكنه لا ينسجم مع الفلسفة، ومع الأماني الدينية المضطَّرمة. وهذا هو السبب الذي من أجله وصل الشعر الصيني إلى الجمال ولكنه لم يدرك العظمة.
المصدر: مجلة الآداب الأجنبية، العدد122
يأخذ الشعر معنى مختلفاً حسب العصور، فلكل أمة شعرها ولكل عصر شعره. إنها لمتعة أن نشرع في دراسة مقارنة ول هذا الموضوع آخذين على سبيل المثال الشعر الصيني والشعر الغربي اللذين يتماثلان ويتميزان في نقاط عديدة. ويميلان عموماً إلى موضوعات مشتركة من أهمها:
1 ـ العلاقات الإنسانية. 2 ـ الطبيعة. 3 ـ الدين والفلسفة. وإنني سأسعى إلى بسط دراستي بهذا الترتيب.
العلاقات الإنسانية.
إن أغلب قصائد الغرب تتركز حول الحب في حين أن قصائد الصين تعالج الموضوع كذلك دون أن تمنحه أهمية كبيرة بهذا القدر.
وإذا كانت الروابط بين الأصدقاء والروابط بين الملك والوزراء لا تشغل إلا حيزاً يمكن إهماله في الشعر الغربي فإنها في الصين تملك نفس أهمية الحب في شعر الغرب.
إن قصائد ":كويان" و"دوفو" و"لويو" كانت ستفقد كثيراً من ماهيتها لو أفرغت من صدق ولاء مؤلفيها للإمبراطور ومن ارتباطهم بالوطن وبالشعب.
فيما مضى، كان معلّقو القصائد يميلون إلى عرض قصائد الحب دلالة على الإخلاص للإمبراطور وعلى الوطنية.
وهكذا فإن "ماو شانغ" معلقاً على كتاب الأناشيد كان يشرح قصائد الحب كنقد سياسي لاذع.
وحسب "زهانغ هويان" فإن الأربعة عشر فصلاً للقصيدة التي كتبها "وين فيكينغ" حول دافع "بوسامان" كانت معلّلة في أسفه لأنه مهمل.
هذا الشرح غير صحيح. ومع ذلك ففي العصور الأخيرة هذه وجد أناس يذهبون إلى الطرف الآخر ويلصقون بطاقات الحب لقصائد تعبر فعلاً عن الإخلاص للملك وحب الوطن.
فمثلاً قُدِّمت كقصائد حب أعمال من نوع "ندم الانفصال" و"الرحلة الكبرى" هذا الشرح كذلك هو شرح غير منطقي.
إن الذين قرأوا قصائد غربية يعتقدون بأن الحب كان يجب أن يحتل مكانة مهمة في الشعر الصيني كما هي الحالة في الغرب. إنهم لا يعرفون بأن الصين تختلف عن الغرب من حيث الوضع الاجتماعي والمبادئ الأخلاقية. ففي الصين قديماً لا يشغل الحب مكانة مهمة كما يتوهمه الصينيون المعاصرون وعلى العموم فإن القصائد التي تُغَنَّى للصداقة هي أكثر عدداً من تلك التي تتناول الحب. إن القسم الأعظم من المجموعات العديدة من القصائد مؤلفة من خلال رسائل وأجوبة مؤلفيها. واليوم ما تزال موضع إعجاب صداقة "سوفو" و"لي لنغ" و "الأدباء السبعة الكبار في عصر "جيان آن" و"لي بي" و"دو فو" و"هان يو" و"مانغ جياو" و"سوسهي" و"هوانغ تنجيان" و"نالان شانغد" و"غوزهنغوان".
ورغم أن صداقة متينة بنيت بين "غوته" و"شيلر" وبين "ودردشورت" و"كولوريدج" وبين "جون كيتس" و"شيلي" وبين "بول فيرلين" و"آرتور رمبو" فإن القصائد التي تذكر متعة لقاء الأصدقاء بعد الغياب قلما كانت تُنظم.
ثمة أسباب عديدة لكون الشعر الصيني يمنح مكانة أدنى للحب من الشعر الغربي. أولاً إنها الفردية التي تهيمن على المجتمع الغربي المبني في الظاهر على الدولة. وبما أن الحب في قلب الحياة فإنه يأخذ مساحة كبيرة بحيث يبزّ العواطف الإنسانية الأخرى. وبشكل عام بالنسبة للشاعر فإن الحياة هي قصته العاطفية وهذا أيضاً أكثر صحة في الأزمنة الحديثة.. والمجتمع الصيني مبني في الظاهر على العائلة. لكن المصلحة العامة في الواقع هي التي تتفوّق عليه.
في الماضي كان من الشائع أن يمضي رجال الأدب أكثر وقتهم في ممارسة وظيفة عامة بعيداً عن مواطن ولادتهم تاركين "زوجتهم العجوز في البيت" كانوا بالتالي أكثر اتصالاً مع زملائهم وأصدقاء الأدب من اتصالهم مع النساء ومن ثم فإن المرأة مع تقليد فروسية القرون الوسطى في الغرب قد عرفت وضعاً اجتماعياً مرتفعاً نسبياً.
وبما أن الثقافة كانت متطورة فإن النساء كان يمكنهن غالباً أن يتفاهمن مع الرّجال حول مناهج ثقافية وفنية.
أما في الصين وتحت تأثير الكونفوشية فإن النساء لم يستفدن مطلقاً من أي اعتبار. فالحب الزوجي تمليه الأخلاق ونادراً ما ينشأ وفق تذوّق الأدب والفن. يضاف إلى هذا أنه في المجتمع الصيني يُبحث قبل كل شيء عن مهنة رسمية باهرة. ومن كان متهتكاً فهو شخص جدير بالاحتقار. بحسب (الكونفوشيوسيين).
وأخيراً فإن مفهوم الحب يختلف بشكل كبير بين الشرق والغرب. فالحب قبل كل شيء هو مفهوم غربي. أما الصينيون فيمنحون أهمية أكبر للزواج منها للحب. إنه "في حقل أشجار التوت بجانب الماء" يوجد الحب الحقيقي. العاطلون عن العمل ومبغضو البشر وحدهم يُسَرّون في الحياة العاطفية.
إن بعض الملوك (أسرى التهتك) مثل الإمبراطور "يانغدي دي سوي" والإمبراطور "لي هوز" كان ينظر إليهم دائماً بشكل سيء في التاريخ الصيني.
وإذا أمكن القول بأن الشعراء الغربيين يعتبرون الحب تحقيقاً لحياتهم فإن زملاءهم. الصينيين لا يرون في الحب إلا متعة عابرة في الحياة.
في الواقع يسمّي الصينيون الحب حباً بينما الشعراء الغربيون يرون أبعد من ذلك مكتشفين في الحب اختبارات عن الحياة والدين.
وهذا لا يعني أن الشعراء الصينيين غير جديرين بالتعبير عن العواطف العميقة إن قصائد الحب الغربية ترتبط بوصف جمال الشخص المحبوب وعمق العواطف. أما في الصين فإن القسم الأعظم من قصائد الحب تنظم بعد الزواج.
وغالباً ما تكون أجمل قصائد الحب مكرسة للتعبير عن ندم الفراق أو فقدان الشخص المحبوب. إن قصيدة الحب الغربية تتميز بوصف التعلق بالمحبوب.
وأجمل القصائد من هذا النوع توجد عند "شكسبير" و"شيلي" و"بروينغ" أما في الصين فإن قصائد الحب الممتازة هي الأغاني المأساوية أو الدينية: "الشُبَيْط" و"مركب السرو" و"راعي البقر البعيد" و"أغنية دوكاوبي" و"امرأة متقلبة" و"حكمة الإمبراطور ياندي دي ليانغ الخريفية". و"الحنين إلى الوطن" و"الندم والحلم الربيعي" لـ "لي بي".
وبالاختصار فإنه يمكننا القول بأن الشعر الغربي يتميز بالصدق والعمق والاتساع بينما الشعر الصيني يسطع بالإلماح والرّقة والإيجاز.
الطبيعة
إنّ حب الطبيعة هو عاطفة حديثة نسبياً عند الشعراء في الصين كما في الغرب. في البداية كان الشعر يعكف بالأحرى على الناس والحوادث ولم تكن الطبيعة تلعب إلا دوراً ثانوياً كما في الرسم.
في "كتاب القصائد الغنائية" يستحضر المؤلف الترغلة الساجعة فوق جزيرة النهر ليبرز الشابة الفاتنة التي يغازلها الفتى. وقس على ذلك "القصب المبيض بطبقة الجليد" إنه مخصص لاستدعاء "الشخص من الضفة الأخرى للنهر". إن تحويل الاهتمام نحو الطبيعة يكون تحريراً للشعر لأن هذا ليس فقط يؤدي إلى إغناء الموضوعات ولكنه يسمح أيضاً لأبيات الشعر المكرسة للأشخاص والحوادث أن تصل إلى العمق. إن صعود الاهتمام بالطبيعة هو حركة في تاريخ تطور الفن الشعري. حركة تتحدد في الصين عند نقطة التقاء السلالتين الملكيتين: "جان" و"دي سونغ" في حوالي القرن الخامس وفي الغرب في بداية الحركة الرومانسية يعني في القرن الثامن عشر.
إن الشعر حول الطبيعة رأى النور في الصين قبل الغرب بألف وثلاثمائة سنة. لكن النقاد بشكل عام يحتقرون شعر السلالات الملكية الست وهذا خطأ في رأيي لأنه في عصر السلالات الملكية الست بالضبط تشكّل الشعر حول الطبيعة وبدأ الشعر الصيني منفصلاً عن الموسيقى يبحث عن موسيقاه في إطار اللغة نفسها.
وهكذا انطلقت الأبحاث حول الإيقاع وعرف الشعر الصيني صيغاً جديدة ومراكز اهتمام جديدة ومصادر إلهام جديدة ومواضيع جديدة مستعارة من الفلسفة. ويمكن إذن القول بأن السلالات الملكية الست هي أيضاً مهمة بالنسبة للشعر الصيني باعتبارها مرحلة رومانسية بقدر الحركة الرومانسية للشعر الغربي.
أما فيما يتعلق بالقصائد التي تدور حول موضوع الطبيعة فإن الشعر الصيني يشتهر بالإلماح والرقة والإيجاز والشعر الغربي بالصدق والعمق والاتساع. وهناك نوعان من جمال الطبيعة: الجمال النشيط والجمال الناعم. فالأول يختص بالجبال الشاهقة والبحر والعاصفة والطوفان والليل الهادئ والصحراء الواسعة والثاني بالنسمة وضوء القمر وبالعطور الخفيفة والظلال وبالهضبة في لحظة الغسق وبلمعان ماء البحيرة ولقد أُريد أن يُمثل لهذين النوعين من الجمال في الأزمنة القديمة بالبيتين التاليين من الشعر:
"فرس يخب في الريح الخريفية في شمال جبال يانسبان.
شجرة خوخ تزهر تحت المطر الربيعي في جنوب يانغتسي"
وهذه هي الحالة نفسها بالنسبة للجمال الفني. وإن "ياوني" يعالج المسألة بالتفصيل في "جوابه إلى لي كسيفي". إن الجمال النشيط في الشعر تتمثل في أعمال "لي بي" و"دوفو" و"سوشي" و"كسينٍ كيجي" والجمال الناعم في أعمال "وانغ وي" و"منغ هاوران"، و"ين تنفجين"، و"لي شانغيان".
لكننا لو قارنا الشعر الصيني بالشعر الغربي لظهر الأول موسوماً بالأحرى بالجمال الناعم والثاني بالجمال النشيط. إن الشعراء الغربيين يحبون البحر والعاصفة والشاطئ الصخري والوادي وبزوغ الفجر ويحب الشعراء الصينيون الساقية والصفصاف متدلي الأغصان والنسمة والغيمة وانعكاس الجبل في البحيرة وضوء القمر.
لا شك أن هذا يعني هنا العمومية. فالغرب لـه أيضاً قصائده الموسومة بالجمال الناعم والصين لها قصائدها ذات الجمال النشيط. ولكن ذلك لا يشكل مظهرها الرئيسي. يمكن للشعراء أن يحبوا الطبيعة بثلاث طرق: الطريقة الأكثر سطحية تتمّ بالإدراك الحسي: برودة النسيم، لون ورائحة الأزهار، أصوات العصافير العذبة، خرير الساقية، السماء اللازوردية والماء الصافي.. وهذه الطريقة وقف على الناس العاديين وتقريباً جميع الشعراء لهم ميل نحو هذه الطبيعة في الغرب المعاصر فإن المدرسة الشعرية المسماة في الصين "بالمنحطين" تعرض أعمالاً محشوة بوصف الأصوات والألوان والروائح والمذاقات هذا الهوس يأتي من غرابة أطوار المؤلفين، وأعمالهم ليست من القصائد الجميلة.
الطريقة الثانية هي الانصهار عقلياً مع الطبيعة. وهذا موقف أغلب الشعراء الصينيين وهكذا: "فإنه مع جبل "جينتغ" الوحيد يكون التأمل المتبادل بدون ضجر". "والهواء يهب من بعيد على السهل الواسع والنباتات الفتية تشعر أيضاً بالتجديد" "ويشعر المرء حقاً حين ينظر إلى العالم الهادئ وأفرح الفصول الأربعة بأنها كلها مشتركة".
والطريقة الثالثة هي الحلولية. فالطبيعة التي تعتبر كانبثاق إلهي تملك غرائب غير قابلة للسبر وقوة فوق قدرة البشر تهيمن على الإنسان في كل لحظة.
هنا التعبير عن الإحساس بالطبيعة يصبح ديناً ومزيجاً من الخرافات البدائية والفلسفات الغريبة. وهذا موقف أغلب الشعراء الغربيين.
والشعراء الصينيون الذين هم من هذه الشريحة نادرون. فـ "تاوكيان" و"وردزورث" الشاعران المشهوران غَنّى كلاهما الطبيعة وأعمالهما تقدم العديد من الخطوط المتشابهة. ومقارنة هذين الشاعرين تسمح لنا بالتأكد من السلوك المختلف للشعراء الصينيين والشعراء الغربين إزاء الطبيعة.
ولنأخذ على سبيل المثال "العودة إلى مسكني الريفي" لِـ "تاوكيان":
"أقطف الأقحوان قرب حظيرة الشرق
وأنتشي برؤية جبل الجنوب في الأفق
وعند المساء يبدو هواء الجبل أكثر برودة
وتعود العصافير منه زرافات
في هذه الأشياء يكمن معنى عميق
وحالما أريد شرح هذه الأشياء لنفسي فإن الكلمات تهرب مني".
ينتج من ذلك أن "تاو كيان" مخلص لعاداته: "أحب أن أقرأ دون الوصول إلى عمق الأشياء" ويكره "النار التي تتخبط في القفص" ويستمتع "بالحدائق البعيدة للعواطف المألوفة" فهو إذن يشعر بالراحة والرضا لعشرة من الخراف مع ثمانية أو تسعة من أكواخ القش وحالته الروحية منفصلة لدرجة "أنه إذ يلحظ أعلى الجبل" "يحس بلذة كبيرة في الاتحاد معه" لكنه لا يسعى عن شرح الأشياء لنفسه. وهذا ما يجعله مختلفاً بشكل أساسي عن "وردزورث" والشعراء الغربيين الآخرين. فالشاعر الإنكليزي ينفر من المألوف أيضاً ويحب الجبل. وهو أيضاً راض عن وجوده لكنه إنسان يتأمل ممتلِئاً بالعواطف الدينية فقد صرّح ذات يوم:
"إن الزهرة الأكثر تفاهة المحمولة مع الريح يمكنها أن تجعلني أستغرق في تفكير عميق لا تتوصل الدموع إلى التعبير عنه". لقد قال أيضاً في قصيدة إنه كان يشعر بأن روحاً تدفع هؤلاء الذين يتأملون ومواضيع كل فكرة وبأن روحاً تتدحرج عبر كل الأشياء".
إن اختراق الروح هذا وهذه الصوفية لا يجمعها شيء بالتأثر المنسجم لدى الشعراء الصينيين مع الطبيعة. فهؤلاء لا يرون في الطبيعة إلا الطبيعة في حين أن الشعراء الغربيين يرون فيها قوى خارقة وغريبة.
الفلسفة والدين
إن السبب الذي من أجله لا يستطيع الشعراء الصينيون الذهاب بعيداً جداً في فهمهم للحب وللطبيعة يكمن في بساطة مفاهيمهم الفلسفية وفي انفصالهم عن الدين. ورغم أن الشعر لا يفيد في مناقشة الفلسفة ولا في الترويج للدين إلا أنه لم يكن ليعرف الازدهار دون أن يجد نفسه في الأرض الخصبة، أي: الفلسفة والدين. وإذا كان الشعر الغربي بإمكانه أن يفوق الشعر الصيني مساحة وعمقاً، فذلك لأنه يقتبس بغزارة من الفلسفة والدين، فبدون "افلاطون" و"سبينوزا" لم تكن لتوجد المثالية والحلولية المتجليتان عند "غوته" و"وردزورث" و"شيلي".
ولولا الدين لم تكن لتوجد المآسي الإغريقية ولا "الكوميديا الإلهية" لِـ "دانتي" ولا "الفردوس المفقود" لـ "جون ملتون". طبعاً يمكننا لأسباب قوية أن نستمتع بالثمرات الرائعة للشعر الصيني المغروس في أرض فقيرة.
لكن في مقابل الشعر الغربي فإنه غير كاف. إنني أحب الشعر الصيني لأنه يسمو على الشعر الغربي في دقة فن القوافي وأناقة التعبير ولكن من جهة المدى والعمق فأنا لا أستطيع الدفاع عنه.
إن طباع الصينيين تشبه طباع قدماء الرومان. إنهم واقعيون جداً وعمليون ولا يستسلمون للغيبيات. وعلى المستوى الفلسفي فقد صاغوا مجموعة من المبادئ الأخلاقية دون أن يطوروا بشكل منهجي نظرية فلسفية مجردة. أما على المستوى الأدبي فلهم مؤلفات عديدة واقعية ذات علاقة بالمشاكل الاجتماعية وبالعلاقات بين الناس دون أن ينتجوا كثيراً من الأعمال ذات الخيال المحض. إن الصينيين واقعيون جداً وإنسانيون جداً.
وهنا نقطة القوة ونقطة الضعف عندهم أيضاً. نقطة القوة لان الكونفوشيوسية التي أعطت قيمة كبيرة للعلاقات الإنسانية سمحت لمجتمع متفكك بأن يحتفظ بالاستقرار مدة عشرين قرناً من الزمن.
ونقطة الضعف لأن هذا الارتباط القوي بالإنسانية وفي الزمن الحاضر منع الخيال من التحليق وبالتالي من أن تكون التطلعات أكثر طموحاً.
ونتج عن هذا أن الاستقرار الاجتماعي جرّ الركود ومن ثمّ ضياع الاستقرار.
وعندما أقول بأن المفاهيم الفلسفية بسيطة في الصين فإنني لا أنسى فلسفة "لاوزي" و"زهوانغي". صحيح أن هذه الفلسفة أكثر صعوبة من الكونفوشيوسية لكنها تميل أيضاً أكثر نحو القضايا الإنسانية بالنظر إلى الفلسفات الغربية. فـ "لاوزي" و"زهوانغي" نادراً ما تركا القضايا الإنسانية من أجل النفاذ بعمق في ماهية الأفكار وأصل الكون وتأثيرهما على الشعر الصيني هام ولكنه غير موفق لسببين:
أولاً: إن فلسفة مبنية على التحليل الأخلاقي والمنهجي تحفظ بسهولة لكن فلسفة مؤسسة على الشعور السبقي فهي صعبة المعرفة والحفظ. إن فلسفة "لاو" و"زهوانغ" تنتمي إلى الطبقة الأخيرة وفيما بعد فإن فلسفة "لاوزي" تماثلت مع الطاوية.
ولهذا فإن الشعر الصيني متأثر بالأحرى بالطاوية. وثانياً: فإن فلسفة "لاو" و"زهوانغ" تنشر فكرة الفراغ الأوَّلي وتحتقر فكرة السعي ولكن بدون السعي المدعوم والمشجّع من قبل الغربيين فإنه من المستحيل النفاذ إلى طبيعة الأشياء لا في الشعر ولا في الفلسفة.
ورغم أن "لاو" و"زهوانغ" نجحا في تعميق نظريتهما فإن تلاميذهما يميلون إلى الاكتفاء بالعناصر السطحية.
وعندما ندرس قصائد مستوحاة من فلسفة "لاو" و"زهوانغ" يستحوذ علينا هذا المنطق. فغالبية الشعراء الصينيين هم كونفوشيوسيون. و"دوفو" و"تاوكيان" هما أفضل الممثلين، لهذه الفئة لكن في هذا الشعر المتشبع بالكونفوشيوسية خلق أربعة من كبار الشعراء المتأثرين بقوة بـ "لاو" و"زهوانغ" عالماً مستقلاً. وهؤلاء هم "كيو وان" مؤلف "ندم الانفصال" والمؤلف المفترض لِـ "الرحلة الكبرى" و"روان جي" الذي ألف "أغاني قلبي" و"غيوبو" مؤلف "المتسكعون الخالدون". و"لي بي" مؤلف "الغناء حول مطلع وغروب الشمس". و"تسع وخمسين قصيدة من النوع القديم". ونحن نستطيع أن نسميهم بشكل عام شعراء مدرسة المتسكعين الخالدين. فما هي وجهات نظرهم؟
يكتب "كيو وان":
السماء والأرض وحدهما لامتناهيان
آسف على عمل البشر المتواصل
ولا أستطيع إدراك هذا الذي مضى
ولا أستطيع كذلك فهم المستقبل
أية متعة أشعر بها في صمت مجدب!
وكم يريحني الكسل العذب!
(الرحلة الكبرى)
في "أغاني قلبي" يعلن "روان جي".
"لا أستطيع إدراك الماضي
ولا أعرف المكوث حتى مجيء المستقبل
أرغب بتسلق جبل الزهر السماوية.
لأتسلى مع الأبدي "شي سونغزي". "
وفي قصيدة من النوع القديم يصرّح "لي بي":
"النهر الأصفر يصب في البحر الشرقي
والشمس تغرب في المحيط الغربي
فَلْتَمْضِ سريعاً دون أي انتظار
هذه الأنهار وهذه الأنوار التي تجري".
............
"آمل أن أمتطي تنيناً
لأستمتع ببهاء المنظر"
هذه الأبيات تعبر دون استثناء عن فكرة بذاتها: يكره المؤلفون الحياة ويتمنون التفوق على العالم.
لقد أصبحوا كارهين للبشر بسبب تغير الناس وقصر مدة الأشياء.
إنهم يريدون التفوق على العالم بتقليد الطاويين الذين يزعمون بأنهم قادرون على صنع إكسير الخلود والتحليق على ظهر كُركي في عالم الخالدين لكن هذا ليس إلا حلماً ولهذا يكتب "كيووان":
"الشمس في القبة الزرقاء بعيدة جداً
حتى أنني لا أعرف كيف أمضي."
أما "روان جي" فإنه يقول:
"قطاف النباتات الطبية يكون بدون رجعة
والخالدون لم يعطوا أية إشارة محددة
إنني أحس بقسوة هذه الورطة
وأتعذب بلا نهاية"
و"غيوبو" يقر من جانبه:
"أريد حقاً أن أحلق فوق الساقية الحمراء
ومع الأسف فإن التنين ليس مطيتي".
أما بالنسبة لِـ "لي بي" فإنه ينوح:
"أعتقد أن الخالدين
يوجدون في نهاية شرق البحر الأزرق
ريح سماوية تهب فوق هذا اللامتناهي القارس
والأمواج العالية المزبدة تتكسر على الجبال
والحيتان التي تنفخ الماء تمنع المرور
والحيرة تقتلع مني الدموع بلا نهاية.
لاستيائهم من العالم الذي يعيشون فيه يبحثون عن عالم آخر. هذه الرغبة المشابهة للأمنيات الدينية للغربيين يجب أن تقود إلى ابتكار عالم مثالي. لكن لا: لأنهم حاولوا عبثاً التأكد من مشقات العالم الحالي ليست عندهم فكرة واضحة عن الأرض الموعودة. إن عالم الخالدين الذي يرغبون فيه هو أحياناً في "الغيوم اللازوردية" وأحياناً في "نهاية شرق البحر الأزرق" وأحياناً في بركة اليشب لملكة الغرب الأم والتي حسب "لي بي" ستكون فيما وراء السماء بثلاثمائة فرسخ. في عالم الخالدين يهيمن الإمبراطور يخدمه صبيان من اليشب يعزفون الأورغ بالفم ومومسات يمسكن الخبيزة بأيديهن إن "وانغ كياو" و"كيسهنغ" و"شي سونغزي" هم أتباع الخالدين في عالم حيث جميع المباهج الإنسانية فيه مثمنة عالياً أيضاً. ويمكننا تخيل قطار الحياة الفخم قطار الخالدين الذين يشربون في أكواب من اليشب فوق مصاطب من الذهب والفضة.
إن الخالدين ليسوا بالطبيعة فاقدي الحس بالمناظر الجميلة. إنهم يتلذذون أمام شلالات الماء الذي يسقط من ارتفاع عدة آلاف من الأمتار.
وفي قصورهم غيوم تحيط بالعوارض الخشبية ويشب يختلط بالسحلبيات. وعندهم حسب "غيوبو" "من يكون عمرهم ألف سنة هم أطفال" وحسب "لي بي" "فإن وجبة طعامهم تدوم عشرة آلاف سنة" ولهم قوة خارقة.
إنهم قادرون على "ابتلاع قطع كبيرة جداً" و"رسم مناظر وتزيينها بالأضواء المتعددة الألوان" و"كسر غصن ميت لكنس أشعة شمس الغرب" فكيف نصبح خالدين؟ يجب أن نمارس علم تحويل المعادن وأن نسجد طويلاً أمامهم طالبين منهم سِرَّ فنهم قبل أن يسافروا فوق غيمة أو فوق كُركي. إن تصوّر عالم الخالدين هو مزيج من عدمية "لاوزي" وزهو "انغزي" وأفكار الطاويين حول ترك العالم الإنساني.
هؤلاء الشعراء لا يدركون بأن الطاويين ينتسبون عبثاً إلى "لاوزي" وأن أفكارهم متعارضة مع فلسفته. وحسب "لاوزي" "فالشر الأكبر للإنسان هو أن يكون مادياً".
إنه يقترح إذن "التخلص من الشهوات للنفوذ إلى خفايا الحياة" أما بالنسبة للطاوويين فهم يعملون المستحيل ليمتلكوا حياة طويلة وفاتنة جداً وأن يكونوا من ذوي الحياة الفخمة. ولا ينسون لحظة قصور اليشب هذه وهذه الخمور اللذيذة المقدمة في أكواب مصنوعة من الأحجار الكريمة.
إن تناقض شعراء مدرسة الخالدين المتسكعين يرتكز على الرغبة بالتخلي عن العالم دون القدرة على التخلي عن رغباتهم الخاصة.
والأكثر من ذلك أنهم موسومون بشدة بحب الكونفوشيوسية المرتكزة على تحسين العالم.
إنهم لم يتنازلوا نهائياً عن الإنسانية الصينية. إن "كيو وان" و"روان جي" و"لي بي" عندهم مطمح نبيل في مساعدة العالم والشعب وحتى "روان جي" والذي هو حر للغاية ومتعال يعطي هذه النصيحة في "أغاني قلبي" "كم الحياة قصيرة فلا تبخل بكدّك" وفي قصيدة من النوع القديم يعبر "لي بي" في هذه الكلمات عن رغبته "باعتناق مهنة الأديب الذي تسطع مؤلفاته خلال ألف ربيع" [ تسجل آلام العالم وقصر حياة الكائنات الإنسانية] إن شعراء مدرسة الخالدين المتسكعين إذ يتخندقون في عدمية الطاويين يختارون حلمهم بمغادرة العالم.
لكن عالم الخالدين الذين يحلمون به بعيد جداً بحيث يتحسرون: "أريد حقاً أن أحلّق فوق الساقية الحمراء لكن التنين للأسف ليس مطيتي" و"الحيرة تستدرّ منع الدموع بلا نهاية" وهكذا فإنهم مجبرون على البقاء في العالم الإنساني وإغراق حزنهم في الخمر ووجود المتعة في القرب من النساء. أتمنى أن أهجر العالم دون أن أعرف أين أتوقف، لكني لا أستطيع إلا أن أسافر في كل مكان كما يحلو لي"
إن "كيو وان" ينتحب وأما بالنسبة لِـ "لي بي" و"روان جي" فهنا أسلوبهما في أن يعيشا حياتهما.
إن شعراء هذه المدرسة جميعاً يشعرون بأنهم موجودون في طريق مسدود وهم يبكون عجزهم. إنهم يبدأون بحب الحياة ثم بالتقزز منها والاستعلاء على هذه الحياة وأخيراً يتوصلون إلى السخرية من كل شيء ولا تخلو سخريتهم من الحزن. إنهم يمضون حياتهم هكذا في مزج التناقضات والنزاعات. وهذا هو نصيب جميع الشعراء الكبار الجديرين بهذا الاسم والذين هم مع ذلك قادرون على أن ينتهوا منها ويصلوا إلى سلامتهم.
وإذا كان "دانتي" و"شكسبير" و"غوته" تفوقوا على "روان جي" و"لي بي" فلأنهم انتهى بهم الأمر إلى أن وجدوا سلامهم بينما "روان جي" و"لي بي" لم ينقطعا أبداً عن الإحساس بعذاب الشك والحيرة.
إن "كيو وان" و"روان جي" و"لي بي" يرون أبعد مما يرى الشعراء الصينيون الآخرون. ويستكشفون آفاقاً قلما يرتادها مواطنوهم.
لكن إرثهم القومي ثقيل جداً بحيث لا يستطيعون الذهاب حتى النهاية ولهذا فإن طموحات الشعراء الغربيين بعالم آخر يمكن أن تنتج "الفردوس المفقود" و"فاوست" بينما في الصين فإن الظاهرة لا تنتج إلا بعض القصائد من نوع: "الرحلة الكبرى" و"أغاني قلبي" و"الخالدون المتسكعون" وكذلك بعض القصائد من الأسلوب القديم. إن البوذية مارست أيضاً تأثيراً عميقاً على الشعر الصيني ومع الأسف فإن أحداً لم يقم بأبحاث جادة حول هذا الموضوع.
ويجب أن نعرف قبل كل شيء أن معظم القصائد المستلهمة من البوذية خالية من التعاليم البوذية ولكن مليئة بفرح الاستغراق في التأمل وبعد "تاوكيان دي جان" فإنّ "كْسِي لنغيون" و"وانغ دي" و"سوشي" هم الشعراء الكبار الذين وُسموا أكثر بالبوذية ومؤلفاتهم تُظهر من سطر إلى آخر فرح الاستغراق في التأمل، دون أن تتناول فيما عدا بعض الاستثناءات، مبادئ البوذية.
ونستطيع أن نستخلص هذا الانطباع العام من قراءة مؤلفاتهم الكاملة. وسأقتصر على ذكر بعض المقاطع الشعرية:
"غيوم بيضاء تلف صخرة هادئة
ونباتات البامبو الخضراء تداعب ساقية صافية"
"النقاشات انطفأت في المقصورة الخاوية
وتأتي القنادس في الباحة الخالية"
"كْسِي لنغيون"
"تحلق العصافير وهي تغني بينما يتلاشى فرحي
والأزهار تسقط عديدة عندما أجلس مدة طويلة"
"مستنداً على عكازي خارج باب الكوخ
أصغي إلى غناء الأزياز المتباطئة في الريح.
(وانغ وي)
"في الزورق المتحرك نرى الضفاف تهرب من ذاتها
ومتمدداً فوق ظهر الجاموس أقرأ دون أن يعرف الحيوان ذلك"
"أقرع الباب دون الحصول على جواب.
وأستند على عكازي مصغياً لارتداد أمواج النهر".
(سوشي)
وينبغي علينا أن نجد السبب في ازدواجية الواقع بأن الشعر ليس خليقاً بمناقشة الفلسفة وبأن هؤلاء الشعراء الصينيين يعجبون في الحقيقة بالبوذيين وليس بالديانة البوذية.
بعد سلالة "جين" فإن غالبية الشعراء الصينيين قد ارتبطوا بصداقات مع (المنعزلين عن العالم).
وهكذا "كْسِي لنغيون" مع "يوان غونغ". و"وانغ وي" مع "يوان غونغ" وأستاذ التأمل "كاو سوشي" مع "فويل" وإذا كانوا معجبين بفعل وسلوك هؤلاء الرهبان البوذيين. فقد كانوا يترددون على معبدهم للتمتع بلذة التأمل أو لتبادل الأحاديث الروحية معهم.
والمنظر الشعري إذ يرتبط بعدّة صلات مع صور التأمل، فإن الشاعر وأستاذ التأمل يتفاهمان غالباً بشكل كامل. وإذا كان الشعراء الصينيون قد سبقوا زملاءهم الغربيين بعشق الطبيعة والتدله بها بألف وبضع مئات من السنوات فذلك يعود إلى تأثير البوذية. ورجال الدين في عصر "وي وجين" اعتادوا بناء معبدهم في موقع رائع الجمال.
(هذا الميل لرجال الدين الصينيين ربما نشأ عن رجال الدين الهنود إن "حلقة الساكونتالا" وهي دراما مكتوبة باللغة السنسكريتية تظهر لنا أن رهبان الهند البرهميين القدماء كانوا يحبون العيش متنسكين في موقع جميل) وروابطهم مع "المنعزلين عن الناس" علّمت الشعراء هذا الفرح الجديد فرح التأمل الذي يتكوّن قبل كل شيء في الفهم الصامت للطبيعة.
وهذا ما استفاده الشعراء الصينيون من البوذية. لكن ليس بقصد الدّفاع عن المبادئ البوذية. فقصدهم الحقيقي كان التسلي دون الرّغبة في ممارسة البوذية حتى التسليم الكامل. كانوا يتأملون في الجبل ويخرجون منه ليتابعوا طريق حياتهم كموظفين كبار: أكل فاخر وحب زوجي... إن جوهر البوذية يتطلب أن "لا تترك شيئاً للكتابة وأن تصبح بوذياً بالطبيعة". ومع ذلك فقد بقي الشعر عقبة في هذه الطريق.
إن البوذية لم تقم بتوسيع سوى الأسس الجمالية وليس الفلسفية للشعر الصيني المبني دائماً على الكونفوشيوسية والطاوية. إن المذهب البوذي بوصفه فلسفة غريبة فقد استقبل من قبل الشعراء الصينيين لأنه يُذكِّر بطريقة ما بأقوال الطاويين. وبعد سلالة جين فإن الناس أخذوا يميلون إلى مزج البوذية والطاوية معتقدين أنه كي تصير خالداً يجب أنه تصير بوذياً.
وفي مغناة النزهة فوق جبل الشرفة السماوية لِـ "سن شيو" والقصيدة المهداة إلى الراهب "ياغونغ" من "لي بي" فإن مؤلفي هاتين القصيدتين يعتقدان بأن البوذية ومذهب "لاوزي" يشتركان في الأفكار. إن "هان يو" إذ دحض الأفكار الهرطقية وضعهما هو أيضاً في نفس المستوى. إن "لاوزي" ينادي بالعدم دون أن يقترح بعبارات واضحة السكون والخمود. إنه فرداني كامل. إن كتاب الطريق والفضيلة يحتوي في أغلب الحالات تجربة إنسان محرر من الوهم. لهذا استخدم فيما بعد لتسمية العقوبات القانونية المحددة من قبل "شن بوهي" و"هان في".
إنّ البوذية تراعي نشر العطف للجميع. وحسب "لاوزي" فإن الإنسانية يجب أن تعود إلى حالتها الجاهلة في العصر الأول بينما البوذية تطلب من الإنسان أن يفهم القلب وأن ينفذ إلى طبيعة الآخرين.
وطبقاً لمبدأ "لاوزي": أخذ حداً للحكيم وتنازل عن المعرفة" فحتى البوذية يجب رفضها. فإننا نرى بوضوح أن مذهبه لا ينسجم في شيء مع البوذية إن أتباع جين وأتباع "تانغ" بوضعهم البوذية ومذهب "لاوزي" أو الطاوية في نفس السلة فإنهم يتناقضون دون أن يلاحظوا ذلك.
وما يدهش هو أن الشعراء الكونفوشوسيين هم بشكل عام تلاميذ للبوذية.
في الأصل كان "بي جويسي" و"يوان زهن" كونفوشيوسيين مائة بالمائة لكن "بي" كتب هذه الكلمات "إنني مناصر للبوذية وليس للطاوية وخلاصي الأبدي سيكون في الفردوس البوذي" و"يوان" في "وداعاً للمرض" يعلن هو أيضاً: "إني تلميذ للبوذية، منذ زمن طويل وأسكن فقط في إهاب مادي".
لقد اعتاد الصينيون أن يكون عندهم ميل للدين دون الرغبة في الذهاب حتى النهاية.
هذا الميل إلى التهاون والتسوية ليس بالتأكيد دون مزية . ولكنه لا ينسجم مع الفلسفة، ومع الأماني الدينية المضطَّرمة. وهذا هو السبب الذي من أجله وصل الشعر الصيني إلى الجمال ولكنه لم يدرك العظمة.
المصدر: مجلة الآداب الأجنبية، العدد122
تعليق