كتاب - ازدحام العالم

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد زعل السلوم
    عضو منتسب
    • Oct 2009
    • 746

    كتاب - ازدحام العالم

    كتاب - ازدحام العالم - الحلقة(1)
    ثورة تكنولوجيا المعلومات تساهم في تثبيت أركان العولمة المعاصرة
    تأليف :فرانسوا هايسبورغ



    يزداد العالم الذي نعيش فيه تعقيدا بمقدار ما تتداخل مصالح القوى الفاعلة فيه وتتعدد التحديات الكونية المطروحة عليه وفي مقدمتها التحديات الخاصة بالطاقة والثورات التكنولوجية والتهديدات الإرهابية. وفي ضوء هذا لتعقيد المتزايد، تثار أسئلة تحتاج إلى إجابات من قبيل: لمن ستؤول السيطرة على السلطة في هذا العالم« المزدحم» أكثر فأكثر؟ وما هي أدوات هذه السيطرة؟ وكيف سيتم اتخاذ القرارات؟ وهل نحن على مشارف الدخول في «الحقبة الآسيوية» وخاصة الصينية؟


    هذه الأسئلة وغيرها الكثير يحاول فرانسوا هايسبورج، رئيس معهد الدراسات الإستراتيجية في لندن ومدير مركز السياسة الأمنية في جنيف، الإجابة عليها في الكتاب الذي نقدّمه لقرائنا. وعلى ما يبدو فإن عالم الغد لن يكون أقل قسوة من عالم اليوم وعلى مجتمعات اليوم أن تفهم التحديات، التي تلوح في الأفق القريب، من أجل مواجهتها. لم يدخل تعبير» العولمة» في القواميس الغربية إلا خلال سنوات الستينات في القرن العشرين. ولم يحتل مكانا راجحا في النقاشات العامة سوى في النصف الثاني من سنوات التسعينات، وخاصة منذ قمة منظمة التجارة العالمية في سياتل عام 1999 مع بروز مفهوم» مناهضي العولمة».


    هذا بالنسبة للتعبير، ولكن الأمر مختلف فيما يتعلق بالمدلول الضمني للعولمة، إذ كان» كارل ماركس» قد وصف ظاهرة» العولمة» في» البيان الشيوعي» المنشور عام 1848. وينقل المؤلف عنه قوله:» بدلا من العزلة القديمة للأقاليم والأمم المكتفية بذاتها تتطور علاقات كونية وتداخل كوني بين الأمم. وما ينطبق على الإنتاج المادي لا ينطبق بدرجة أقل على الإنتاج الذهني. والأعمال الفكرية لأمة ما تصبح ملكية مشتركة لجميع الأمم». وكان الشيوعيون، كما هو معروف، قد رفعوا شعار» الأممية» ذات الطابع العمالي والمغايرة ل«العولمة الليبرالية» السائدة اليوم، والتي تحمل مفهوم «التدويل».


    نبذة تاريخية: يرى مؤلف هذا الكتاب أنه يمكن إعادة «العولمة الأولى» لدى الجنس البشري إلى فترة انتشار «الإنسان العاقل» على مختلف قارات العالم منذ حوال 000 60 سنة. واستمرت منذ« خروج» الإنسان الحديث من إفريقيا وحتى نهاية الألف الأول من العصر الميلادي. لكن تلك «العولمة» لم تعرف المبادلات بين القارات وإنما عاشت المجموعات البشرية في أطر معزولة عن بعضها البعض. مع ذلك كانت العولمة موجودة في «الوقائع»، إن لم تكن موجودة في «الوعي»، فالمناطق التي كانت مأهولة أثناء تلك العولمة الأولى الطويلة الأمد هي نفسها التي يعيش عليها البشر اليوم.


    وكان قد تكوّن تدريجيا مفهوم «العولمة الواعية للجنس البشري» بالتزامن مع الاكتشافات الأوروبية الكبرى. وفي عام 1492 قام كريستوفر كولومبوس وبحّارته بمغامرة اكتشاف» العالم الجديد» التي كان هدفها النهائي ذو طابع «عالمي» ويتمثّل ب«الإحاطة بالكرة الأرضية كلها». وكان ذلك «الهدف» هو الذي ميّز رحلة كولومبوس عن بقية الحملات البحرية اليونانية والرومانية والصينية وحملات الفايكنج السابقة. وفي عام 1522 تم القيام بأول دوران حول العالم من البحّارة الباقين من الحملة التي كان قد قادها ماجلاّن قبل ثلاث سنوات انطلاقا من اسبانيا.


    مع دوران حملة ماجلاّن حول العالم قامت للمرة الأولى علاقات منتظمة بين التجمعات البشرية الكبرى في أوروبا وأميركا وآسيا وقسم من إفريقيا. ثم قامت بسرعة كبيرة صلات وثيقة بين الدول الأوروبية والمستعمرات الاسبانية الجديدة في أمريكا اللاتينية. ولا يتردد المؤلف في القول أن حرب الثلاثين سنة ـ 1618 - 8461 ـ، التي كانت هي الحرب الأولى على صعيد القارة الأوروبية، قد تزامنت مع وصول الذهب والفضة من المناجم الاسبانية فيما يعرف الآن باسم بوليفيا. وشيئا فشيئا جرى تقسيم العالم بين دول تتبادل الاعتراف فيما بينها، وتقيم علاقات منتظمة في إطار «التدويل» الذي كرّسه مؤتمر برلين عام 1884 الذي كرّس في الوقت نفسه التقسيم الاستعماري لإفريقيا.


    كان القرن العشرون قد عرف تبدلات جوهرية في العلاقات بين الأمم والدول حيث غدت روابط التداخل الاقتصادي مصادر لتحديد موازين القوى فيما بينها. وقد عرفت سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى نوعا من «العولمة» حيث شهدت المبادلات الدولية ازدهارا كبيرا. هكذا بلغت نسبة صادرات السلع حوالي 9 بالمئة من إجمالي الإنتاج العالمي عشية تلك الحرب، ولم تبلغ المستوى نفسه إلا بعد حوالي ستّين سنة.


    وكانت التجارة الخارجية تمثل نسبة 34 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي البريطاني عام 1910 بحيث أنها لم تبلغ نفس النسبة من جديد سوى في نهاية عقد الثمانينات الماضي. وأمثلة كثيرة أخرى يقدمها المؤلف وتبيّن كلها أن المواد الأولية، وفي مقدمتها الفحم والبترول، تشكل عصب ذلك الازدهار في المبادلات الدولية.


    وتتميز «عولمة» القرن العشرين بأنها كانت تتركز على أوروبا. ففي عام 1914 كانت القوى الأوروبية تسيطر مباشرة، أو من خلال الاستعمار، على ثلاثة أخماس سكان العالم وثلاثة أخماس إجمالي الإنتاج العالمي أيضا. لكن أوروبا تلك لم تكن «واحدة». والدليل على ذلك قيام حربين عالميتين انطلاقا منها.


    وكانت أصلا تتعرض لمنافسة الولايات المتحدة الأمريكية. وكان إجمالي الإنتاج الداخلي الأمريكي قد بلغ منذ عام 1914 حوالي 20 بالمائة من إجمالي الإنتاج العالمي، أي مستوى قريب مما عرفته السنوات ال25 الأخيرة من القرن العشرين. هذا يعني أن «حجب» الدور الأوروبي من قبل الولايات المتحدة قد بدأ بتزامن مع «النصر الظاهري» للإمبريالية الأوروبية.


    الحرب الأهلية العالمية


    كانت الفترة بين 1914 (بداية الحرب العالمية الأولى) و1989 (انهيار جدار برلين) مضطربة جدا. لقد شهدت حربين عالميتين وعدة حروب «صغيرة» وأزمات كبرى، خاصة تلك التي عرفتها البلدان الرأسمالية ما بين عام 1929 وعام 1935.


    السمة التي يتم التأكيد عليها بالنسبة لتلك الفترة المضطربة يحددها المؤلف في «تعزيز مكانة الدولة» باتجاه توتاليتاري شمولي مثلما حدث في ألمانيا النازية وأيضا باتجاه أن تلعب دورا مركزيا في الحياة الاقتصادية. هذه الوظيفة الاقتصادية لم تكن بعيدة عن تعبئة مجموع الموارد البشرية والمادية للدخول في الحربين الكونيتين المدمرتين.


    وأُضيف للدور «الاقتصادي» للدولة دور آخر بعد الحرب العالمية الثانية، وهو دور «الدولة المانحة» ذو الطبيعة الاجتماعية خاصة في الدول الأوروبية. ولا تزال الدولة ذات وزن كبير في نهاية فترة الحرب الباردة بالقياس إلى فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى. وللمفارقة تبدو العولمة الحالية وكأنها مناطة قبل كل شيء بقوى اقتصادية واجتماعية فاعلة تعمل ضمن أطر ليبرالية لا حدود لها.


    ويستخدم المؤلف تعبير «الحرب الأهلية العالمية» للحديث عن التغيرات التي عرفتها مصادر القوة العالمية على صعيدي التراتبية وإعادة التوزيع. ولقد عرف القرن الماضي زوال جميع الإمبراطوريات الأوروبية دون استثناء وكان آخرها الإمبراطورية السوفييتية التي مثّلها الاتحاد السوفييتي السابق الذي كان تجسيدا «جغرافيا» للإمبراطورية الروسية بصيغة شيوعية. بل ونجح فيما لم يستطع القياصرة تحقيقه في القرن التاسع عشر، أي الوصول إلى مصاف القوى العظمى العالمية الحقيقية بفضل عوامل ثلاثة تمثلت في الامتداد الجغرافي (عبر الأنظمة الشيوعية) وفي امتلاك القوة العسكرية التقليدية ثم ومنذ عام 1949 القوة النووية.


    انقسم العالم في ظل الاستقطاب الثنائي الدولي إلى معسكرين، رأسمالي واشتراكي، كانت التواصلات محدودة بينهما جدا خلال نصف قرن كامل. ولم تكن التجارة مثلا بين الشرق والغرب تمثل سوى حوالي 3 بالمئة من المبادلات الدولية آنذاك. وكانت المبادلات السوفييتية مع العالم الخارجي أقل مما كان يعرفه بلد مثل بلجيكا. ولا شك أن انهيار تلك الإمبراطورية قد فتح مجالات هامة للتبادل الدولي وأزال الكثير من «الحواجز» في العالم.


    وكانت حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية قد شهدت أرجحية الدور الأمريكي في العالم. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تنتج وحدها عند نهاية تلك الحرب ثلث إجمالي الإنتاج العالمي. وقد تزامن ازدهار الإنتاج الأمريكي مع انهيار الاقتصادات الأوروبية والآسيوية. ولم يكن في مواجهة الولايات المتحدة أية قوة «إمبريالية» منافسة باستثناء الاتحاد السوفييتي الذي كانت مرتكزات قوته إيديولوجية وعسكرية وإستراتيجية أكثر مما هي اقتصادية.


    وكان القرن العشرون الذي عرف في بداياته انهيار الإمبراطوريات قد انتهى ببروز أعداد متزايدة من الدول التي وصل عددها إلى 193 دولة مقابل 52 دولة فقط عام 1913. وبلغ عدد الدول الأوروبية (بما في ذلك روسيا وتركيا) 43 دولة مقابل 25 دولة عشية الحرب العالمية الأولى. وكانت دولة واحدة مستقلة في أوروبا هي «الجبل الأسود» قد اختفت، لكنها عادت للظهور عام 2006، مقابل ولادة 18 دولة جديدة.


    العولمة المعاصرة


    يؤكد مؤلف هذا الكتاب أن العولمة الراهنة عرفت بداياتها خلال التجزئة التي عرفتها فترة 1914-1989. وإن الحرب نفسها كانت وراء ولادة بعض «الحوامل» الأكثر دفعا نحو العولمة وخاصة ثورة المعلومات. ويتم هنا تحديد مصدرين أساسيين للعولمة، ومن طبيعتين مختلفتين تماما، هما: مؤسسات بريتون وودز وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من جهة، وثورة المعلوماتية من جهة أخرى.


    كانت منظومة بريتون وودز قد تأسست عام 1944، وكانت تمتلك إلى جانب بعدها المالي والنقدي (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) بُعدا تجاريا تمثّل في اتفاقية ال«الجات» الخاصة بالمبادلات التجارية والتعرفة الجمركية، نجم عن ذلك «تحريرا» تدريجيا للتجارة الدولية عبر اتفاقية ال«الجات» حتى عام 1994 حيث حلّت محلّها منظمة التجارة العالمية. وخدم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كضامنين ل«الأمن المالي العالمي».


    وكان ذلك الجمع بين الإجراءات الليبرالية وتنظيم المبادلات الدولية قد سمح بتجنب بروز أزمات اقتصادية هائلة مثل تلك التي عرفها العالم الاستعماري منذ عام 1929 وحتى عام 1935. كانت هناك فقط فترات «ركود» اقتصادي كتلك التي عرفتها البلدان المصنعة خلال عامي 1973 و1975 إثر الزيادة الكبيرة في أسعار البترول. كما استجدّت بعض الأزمات الإقليمية الخطيرة في المكسيك عام 1994 وفي آسيا ما بين 1997 و1999 وفي روسيا والبرازيل. لكن لم يكن لتلك الأزمات الإقليمية كلها أي صدى حقيقي على المستوى العالمي، وبالتالي لعبت المؤسسات الدولية الدور المطلوب منها.


    وكانت ثورة تكنولوجيات المعلومات قد ساهمت كثيرا في تثبيت أركان العولمة المعاصرة، وذلك من خلال «اللقاء» منذ حوالي ثلاثين سنة تقريبا، بين استخدام الإلكترونيات والحاسوب والشبكات. فالتكنولوجيا الإلكترونية جرى استخدامها كوسيلة لإنتاج المعلومات ونقلها وليس كقوّة وطاقة فقط. ويشير مؤلف الكتاب في هذا السياق إلى أن اللجوء للإلكترونيات من أجل «معالجة» المعلومات وليس فقط نقلها حديث جدا نسبيا. فالآلة الحاسبة الإلكترونية الأولى تعود إلى عام 1946 وقام بتصنيعها الجيش الأمريكي من أجل حسابات خاصة بالمتفجرات. أما التقدم الأساسي فقد تحقق مع اختراع أول مذياع محمول «ترانزستور» في مخابر شركة «بيل» عام 1948.


    وبعد خمسين سنة من تصنيع «الترانزستور» جرى التوصل إلى صناعة «برغوث إلكتروني» يضم حوالي 14 مليون «ترانزستور» على مساحة تعادل قطعة طولها 5 سنتمترات. وغيّرت بالتالي اللغة الرقمية آلية التعامل مع المعلومات لتحدث ثورة حقيقية على مستوى التلفزة والإذاعة ووسائل الإعلام كلها. وكان إيقاع التقدم سريعا جدا خلال العقود الثلاثة المنصرمة إلى درجة قول مؤلف الكتاب أنه: «إذا جرى تطبيق إيقاع التقدم ـ الحاصل في ميدان المعلومات ـ على ميادين أخرى، فإن تصنيع سيارة جديدة سوف يكلّف أقل من يورو واحد وسوف تسير عدة مئات من الكيلومترات بليتر واحد من البنزين». ويضيف: «تتمثل إحدى سمات ثورة المعلومات في أنها لا تكتفي بالمبالغة في فرض نفسها أو أنها تأتي بعد موجات أخرى من التصنيع، وإنما هي تندمج داخل المنتوجات التقليدية».


    أما بالنسبة للحاسوب فإن المؤلف يعيد ظهور مفهوم الحسابات المعقّدة والذاكرة والبرمجة إلى سنوات الثلاثينات من القرن التاسع عشر حسب نظرية المدعو «ميشيل باباج». لكن كان لا بد من انتظار سنوات التسعينات في القرن الماضي (العشرين) لكتابة أول برنامج معلوماتي بينما كان البريطانيون والأمريكيون قد استخدموا منذ سنوات الأربعينات، وتحديدا أثناء الحرب العالمية الثانية، بعض الحواسيب «البدائية» في التشويش على الرسائل الألمانية «المشفّرة».


    ويشير المؤلف هنا إلى أن أي حاسوب حديث يمتلك استطاعة حسابية أعلى من مجموع حواسيب العالم التي كانت في الخدمة خلال منتصف سنوات الخمسينات المنصرمة. واليوم هناك مئات ملايين الحواسيب الشخصية بينما لم يكن هناك آنذاك سوى عدة عشرات من «الوحدات المركزية». ثم كانت هناك «الشبكات» وخاصة شبكة «الانترنت». كانت الشبكة الأولى تحمل اسم «اربانيت» التي أُقيمت تحت إشراف وزارة الدفاع الأميركية من أجل التواصل مباشرة من حاسوب إلى آخر لمؤسسات جامعية وغيرها، كانت تعمل مع الوزارة.


    لقد بدأت الشبكة بالعمل عام 1972 بوجود أربعين موقعا. ويشير المؤلف في هذا السياق إلى روايات أكّدت أن الباعث الأساسي وراء قيام شبكة الانترنت كان تأمين اتصالات يمكنها أن تعمل حتى في حالة قيام حرب نووية. ما يؤكده المؤلف، بعيدا عن مثل تلك الرواية، هو أن الانترنت» وليدة» الحرب الباردة.


    في المحصلة يحدد مؤلف الكتاب ثلاث خصوصيات تميّز العولمة الراهنة وكلّها لها علاقة مباشرة بثورة المعلوماتية. الخصوصية الأولى تتمثل في المباشرة وبنقل المعلومات خلال «الزمن الحقيقي»، أو «شبه الحقيقي» بواسطة اللغة الرقمية. الخصوصية الثانية هي تمكّن الجميع دون تمييز في الوصول إلى المعلومات. والخصوصية الثالثة تتمثل في تجاوز الحدود الجغرافية والديموغرافية بالنسبة لأغلبية شبكات المعلومات.


    القطيعة مع التدويل


    إن العولمة الحالية تشكل قطيعة مع عملية «التدويل» التي سبقتها. فذلك التدويل كان أوروبيا من حيث القائمين عليه وأوروبيا من حيث تقسيم العالم إلى مناطق استعمارية مرتبطة بأوروبا وأوروبيا من حيث القيم التي حملها. وكان مستعمرو الأمس قد حملوا معهم بعض القيم ذات النزعة الكونية فالحديث عن الإرث الثوري وحقوق الإنسان شكّل أحد عناصر الخطاب الإمبريالي الفرنسي، وكانت الديمقراطية إحدى موضوعات البلاغة الإمبريالية البريطانية. مثل هذه المقولات في الخطاب النظري وجدت بالطبع حدودها الضيّقة في الواقع. ذلك أن القائلين بها كانوا يُخضعون آخرين لسيطرتهم ولم يكن بإمكانها أن تطمس الواقع الاستعماري.


    لا شك أن عملية «التدويل» تلك قد خلقت أشكالا من التداخل على الصعيد العالمي. لكن كان لا بد لذلك النموذج «الإمبريالي» من «العولمة» كي يعمل، من افتراض وجود روابط سياسية وليس فقط اقتصادية أو ثقافية بين من يسيطر ومن يقع تحت السيطرة. ثم من المعروف أن أوروبا لم تكن هي المهيمنة فعليا خلال ثلاثة أرباع الفترة التي فصلت بين قيام الحرب العالمية الأولى (1914) وسقوط جدار برلين (1989) ذلك أن الولايات المتحدة كانت قد غدت زعيمة المعسكر الغربي والمهيمنة فيه اقتصاديا ثم سياسيا وإستراتيجيا.


    لقد اتسم القرن العشرون عامة بوجود إيديولوجيتين متعارضتين، انتهت إحداهما بالسقوط أمام امتحان الوقائع. وبدت تسود في العالم الغربي ليبرالية مزدوجة. فهي من جهة ليبرالية سياسية تحت شعار التأكيد أن الديمقراطية هي مستقبل العالم وليس فقط هي «الأقل سوءا» بين الأنظمة حسب مقولة ونستون تشرشل. ومن جهة أخرى ليبرالية اقتصادية قادرة وحدها على «تحرير» قوى الإنتاج بما في ذلك من أشكال القسر التي تفرضها الدولة والتي غدت لا تتلاءم مع متطلبات العولمة الجديدة.


    إن المعسكر الذي يقول بمثل تلك القيم بدا منتصرا. وانتصاره هذا هو الذي استلهم منه المفكر الأمريكي ذو الأصل الياباني فرانسيس فوكوياما كتابه المعروف «نهاية التاريخ» والذي يندرج، حسب توصيف المؤلف، في النهج المستقيم لأفكار هيغل وماركس الخاصة ب«الحتمية التاريخية». ذلك أن» فوكوياما» قد أعطى الانتصار لليبرالية كما كان ماركس قد أعطاه للطبقة العاملة» بروليتاريا» زاعما أنه جعل خطاب «هيجل» يمشي على قدميه وليس على رأسه.


    وتتم الإشارة في هذا السياق إلى فكرة انتشرت ومفادها أن المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للعولمة الجديدة ليست هي نتاج علاقات سيطرة تمارسها أمريكا بمقدار ما هي نتيجة مباشرة للتكنولوجيات الجديدة. ومن جهة أخرى كانت سنوات التسعينات المنصرمة قد شهدت نقاشات واسعة حول» القيم الآسيوية» أثارها رئيس وزراء ماليزيا آنذاك مهاتير محمد . بل وكانت الولايات المتحدة نفسها قد عرفت منذ عام 1993 الإعلان عن «صدام الحضارات» كما جاء في أطروحة صموئيل هنتجتون الشهيرة.


    ويشير المؤلف إلى أن «الحرب الأهلية العالمية» ما بين 1914 و1989 قد قامت على خلفية استقطاب إيديولوجي متطرف نتيجة للنقاشات التي عرفها القرن التاسع عشر وقسط كبير من القرن العشرين وكان لها آثارها السياسية والعسكرية الكبيرة. لكنه يرى أن النقاش الحالي الدائر حول «صدام الحضارات» لن يؤدي بالضرورة إلى مواقف جذرية «راديكالية» كالسابق وإنما إلى تعميم القيم الغربية لكن دون أن يسيطر الغرب على صعيد موازين القوة العالمية. ذلك على غرار اليونان القديمة التي فقدت مواقع قوتها العسكرية والسياسية والاقتصادية وإنما سادت ثقافتها في مجال جغرافي امتد من اسبانيا حتى نهر الغانج بعد انهيار الإمبراطورية المقدونية العابرة التي أشادها الاسكندر الأكبر.


    وكانت تلك الثقافة اليونانية القديمة «الكونية» قد ولّدت، عبر امتزاجها مع ثقافات المجتمعات الإقليمية المحيطة، نوعا من الثقافة «العامّة» التي وحّدت، عشية انتصار الإمبراطورية الرومانية، العالم المتوسطي ومنطقة غرب آسيا. على نفس الطريقة يمكن للقيم التي حملتها الديمقراطيات الغربية أن تمتزج مع الثقافات غير الغربية. وعبر هذا ستصبح القيم الغربية، حسب شروحات المؤلف، منذئذ قيما ذات تطلع كوني على غرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من قبل منظمة الأمم المتحدة عام 1948 كوريث لإعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عن الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789 أو ربما كوريث لما جاء في مقدمة الإعلان عن استقلال أمريكا عام 1776، وحيث كانت تلك المقدّمة مكرسة للبحث عن «السعادة الإنسانية».


    وإذا كان المحافظون الأمريكيون الجدد يؤيدون مقولة التقدّم نحو «عولمة سعيدة» فإن تفجيرات 11 سبتمبر 2001 والحرب في العراق تؤكدان واقع أن مسيرة التاريخ لا يمكن رسم خطوطها المستقبلية حسبما جاء في الإيديولوجيات التي ترسم تلك المسيرة على أساس «قوانين» من الماركسية حتى المحافظة الجديدة. وما يؤكده المؤلف هو أن القرن الحادي والعشرين زاخر بالرهانات ذات المصير المجهول في ظل حقيقة واضحة هي صعود آسيا.


    محصلة قرن


    شهد القرن العشرون حالتين متقدمتين من عالمية العلاقات الدولية. كانت الأولى في بدايته أثناء ذروة «التدويل» الذي أنتجته الثورة الصناعية واستجدّت الثانية في نهايته مع العولمة الحالية. وما بين هاتين الحالتين قامت «حرب أهلية عالمية»، حسب تعبير مؤلف هذا الكتاب. هكذا تحدث البعض، مثل المؤرخ البريطاني الشهير «اريك هوبسباوم» عن قرن عشرين «قصير» ابتدأ يوم 28 يونيو 1914 في سراييفو وانتهى في برلين ليلة 9 إلى 10 نوفمبر 1989، وبتعبير آخر كان قرنا من النزاعات الكونية مما مثّل تراجعا فيما يتعلق ب«عولمة» المبادلات الاقتصادية والإنسانية والثقافية بالقياس إلى العقود التي سبقت عام 1914.


    لكن المؤلف يشير إلى ضرورة عدم الفصل بين فترة النزاعات الكبرى والسنوات التي سبقتها أو تلتها مباشرة. ذلك أنه لا يمكن فصل الحرب الأهلية العالمية عن العقود السابقة للتدويل، ولا عن مظاهر الدورة الجديدة من العولمة المرتبطة بتطور تقنيات المعلومات، وخاصة اختراع الحاسوب. ويرى المؤلف أيضا أن الحربين العالميتين اللتين شهدهما القرن الماضي لم تكونا فترتين «معترضتين» طويلتين وقاتلتين بين حالتين من العولمة فحسب وإنما كانتا أيضا أحد مكونات المنظومة العالمية التي خلّفها القرن التاسع عشر. بهذا المعنى تغدو العولمة والنزاعات جزء من «الواقع نفسه».


    ذلك أن» النزاعات الماضية والحالية والقادمة مدانة كلها، لكنها ليست عنصرا خارجيا بالعلاقة مع مسار العولمة. وإذا استعرنا بعض تعابير القاموس الطبي، فإن هذه النزاعات لا تمثل جرحا طارئا بسبب حدث ما وإنما بالأحرى هي سرطان ينتشر بفضل المنظومة التي يتولّد بداخلها ويتغذى منها.


    وتتم الإشارة هنا إلى أن الحرب العالمية «الأولى» عام 1914 لم تكن» الأولى» حقيقة فحرب الخلافة في اسبانيا (1701-1714) وفي النمسا (1740-1748) وحرب السنوات السبع (1756- 1763) شهدت معارك في جميع البحار والقاراّت المسكونة. مع ذلك تتميز الحرب الكبرى لعام 1914 بأنها كانت «حربا شاملة» خاضتها المجتمعات أيضا، وحربا قاتلة مع ما يزيد عن 15 مليون ضحية أغلبيتهم الساحقة من الشباب. وكانت الحرب العالمية الثانية قد شهدت استخدام السلاح النووي للمرة الأولى في التاريخ بينما زاد عدد ضحاياها عن 50 مليون نسمة، أربعة أخماسهم في أوروبا وحدها.


    هكذا كان القرن العشرون هو الذي امتلكت فيه الإنسانية وسائل تدميرها. ويرى المؤلف أن نجاتها من «الإبادة النووية» تعود إلى الحظ بدرجة لا تقل عما تعود إلى حكمة البشر، كما يشير مضيفا «أن ما نعرفه اليوم عن أزمة الصواريخ الكوبية - عام 1962- لا يبعث أبدا على الاطمئنان».


    وكان القرن العشرون قد شهد كوارث هائلة مصدرها البشر أنفسهم، فحوالي 20 مليون إنسان فقدوا حياتهم في الاتحاد السوفييتي (السابق) ما بين 1930 و1940 بسبب الجوع أو القمع الستاليني. وهلك 30 مليون صيني على الأقل أثناء» القفزة الكبرى إلى الأمام» التي قررها ماوتسي تونج ما بين 1957 و1963.


    ويقدم المؤلف رقم 170 مليونا من البشر فقدوا حياتهم من جرّاء أفعال مباشرة قامت بها الدول. بالمقابل ما بين عام 1900 وعام 2000 ازداد عدد سكان المعمورة من 6. 1 مليار نسمة إلى 6 مليارات. هذه الزيادة التي لا سابق لها تطرح أيضا تساؤلات حول المصادر الطبيعية المتوفرة وتحديات كبيرة وحاسمة حول البيئة. هذا الواقع الجديد سيكون أحد مفاتيح تحولات العولمة نفسها خلال العقود القادمة.


    عرض ومناقشة: محمد مخلوف
  • محمد زعل السلوم
    عضو منتسب
    • Oct 2009
    • 746

    #2
    كتاب - ازدحام العالم - الحلقة(2)
    نذير شؤم يلوح في أفق القوة الأميركية المتفردة
    تأليف :فرانسوا هايسبورغ



    يتناول المؤلف في هذه الحلقة القوة الأميركية وهيمنتها على العالم، حيث يشير إلى أن الأميركيين بدأوا يمارسون دوراً عالمياً في الحرب العالمية الأولى ولكنهم لم يفرضوا حضورهم الفعلي إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وخروجهم منتصرين على أعدائهم بالضربة النووية الحاسمة.




    ويجري المؤلف هنا مقارنة بين القوة الأميركية وقوى أخرى سادت فيما مضى وقيض لها أن تنشئ إمبراطوريات حكمت أجزاء واسعة من العالم، ويرى أن الأميركيين لا يجدون أي منافس حقيقي لهم قادر على إلحاق الهزيمة ببلادهم. ولكن المستقبل يحمل نذر شؤم للولايات المتحدة، بحسب المؤلف، الذي يعتقد أن الأعوام القادمة ستشهد ظهور قوى منافسة للهيمنة الأميركية ويخص بالذكر القوة الصينية. تحتل الولايات المتحدة الأميركية مرتبة متقدمة من حيث مدة استمرارها كقوة عالمية. ذلك أن «القرن الأميركي» قد بدأ مع الحرب ضد اسبانيا عام 1898 التي كرّست وصول الولايات المتحدة كقوة تدخل عالمية في منطقة تمتد من الفلبين حتى جزر بحر الكاريبي.




    تدخلت الولايات المتحدة للمرّة الأولى في الشؤون الأوروبية أثناء الحرب العالمية الأولى 1914 ـ 1918 وكانت وراء تسريع هزيمة ألمانيا. أما على الصعيد الاقتصادي فقد أصبح لأميركا وزن يعادل وزن الإمبراطورية البريطانية كلها منذ بدايات القرن العشرين وكانت قد تجاوزت على صعيد القوة الاقتصادية بريطانيا ـ دون مستعمراتها ـ اعتبارا من سنوات السبعينات في القرن التاسع عشر. وبعد أن يرسم مؤلف الكتاب هذه الصورة للقوة العالمية الأميركية يشير إلى أن الإمبراطورية الرومانية قد استمرت خمسة قرون ما بين انتصارها النهائي على قرطاجة حتى الاجتياحات الأولى للبرابرة. وكانت محاولات الهيمنة الاسبانية قد استمرّت حوالي قرن ونصف بعد «اكتشاف» العالم الجديد كما عرفت الإمبراطورية البريطانية نفس الاستمرارية تقريبا قبل أن تتحلل نهائيا خلال سنوات 1947 ـ 1960.




    أما محاولات الهيمنة الفرنسية في ظل لويس الرابع عشر أو نابليون بونابرت، والألمانية خلال القرن التاسع عشر، فإن المؤلف يصفها، أي محاولات الهيمنة، بأنها مجرد «ومضات عابرة» بالقياس إلى الاستمرارية التي تتسم بها أرجحية أميركا في عالم اليوم. والهيمنة الأميركية شاملة. كما أنها تتميز عن أشكال الهيمنة السابقة بجمعها لتفوق الولايات المتحدة عالميا في ميادين مختلفة إذ لا تقتصر على المجال العسكري والإستراتيجي فحسب، وإنما تشمل أيضا المجال الاقتصادي والمجال الثقافي بالمعنى «العريض» للثقافة. ويشير المؤلف هنا إلى أن فرنسا قد هيمنت «ثقافيا» على الصعيد العالمي خلال القرن السابع عشر وحتى التاسع عشر فيما هو أبعد من وزنها العسكري والاقتصادي خلال تلك الفترة. واستطاعت اسبانيا أن تسيطر على أول إمبراطورية في تاريخ العالم «لم تكن الشمس تغيب عنها» واستمرت لفترة من الزمن لكن «نموذجها» الثقافي لم يتجاوز أبدا حدود تلك الإمبراطورية.


    أما الولايات المتحدة الأميركية فإنها قد انتصرت في الحرب العالمية الثانية في والحرب الباردة وهي المحرك الأساسي لموجة العولمة التي عمّت منذ النصف الثاني للقرن العشرين. ولم يكن الغرب في تاريخه كله قد جمع مثل هذا القدر من عوامل القوة، ربما باستثناء الإمبراطورية الرومانية، إنما في مجال جغرافي محدود أكثر.


    غياب المنافس


    تتميز القوة الأميركية اليوم ، وللمرة الأولى في التاريخ، بعدم وجود أية قوة أخرى منافسة لها يمكنها أن تواجهها مع إمكانية الانتصار عليها. فالإمبراطوريات السابقة اصطدمت كلها بمنافسين متنوعين. لكن هذا لا يعني، كما يشير المؤلف، إلى عدم وجود معارضات واحتجاجات حيال الهيمنة الأميركية، وإنما لا يمكن لها كلها أن تكون حاسمة، في الوقت الحالي، سوى حول بعض المسائل الخاصة وفي أمكنة محدودة وأيضا لمدة قصيرة.


    في المحصلة ليست الولايات المتحدة القوة المحورية في المنظومة الدولية فحسب وإنما هي كذلك بصورة لا سابق لها في التاريخ. هنا يفتح المؤلف قوسين ليقول أن ذلك «لا يعني بالضرورة» أن ما كان صحيحا في القرن العشرين ـ ذي الهيمنة الأميركية ـ سيكون صحيحا غدا. والوزن الاقتصادي الأكثر أهمية لأميركا اليوم قد لا يكون كذلك مستقبلا. ذلك أن منافسين جددا يبرزون وليس أقلهم شأنا الصين. ثم هناك إمكانية لتغيير معايير القوة قد تتم على حساب الولايات المتحدة.


    وتتم الإشارة هنا إلى أن عددا من الشخصيات السياسية والمراقبين توقعوا عند منعطف نهاية الألفية الأولى أن تحافظ الولايات المتحدة على تفوقها خلال القرن الحادي والعشرين. ومن بين هؤلاء هوبير فيدرين وزير الخارجية الفرنسي الأسبق الذي استخدم تعبير «القوة الأعظم» للتأكيد على المرتبة المتفرّدة للولايات المتحدة بعد زوال القوة السوفييتية المنافسة «سابقا».


    مما أدى إلى «تبدل نوعي» في الهيمنة الأميركية. وساعد على ذلك شبكة التحالفات السياسية والعسكرية التي أقامتها، كما ساعد عليه واقع أنها في صميم العولمة الاقتصادية والثقافية الجارية مع احتفاظها بدرجة متقدمة على صعيد التجديد التكنولوجي.


    وضمن هذا السياق قام أولئك الذين اشتهروا تحت تسمية «المحافظين الجدد» عام 1997 بصياغة بيانهم «من أجل قرن أميركي جديد». وقد وقّعه العديد من الذين غدوا لاحقا من المساهمين في «المغامرة العراقية» لإدارة جورج دبليو بوش. كان ذلك «البيان» يدعو إلى ضرورة أن يكون للولايات المتحدة حضور عسكري في العالم كله. بهذا المعنى كان أولئك «المحافظون الجدد» ثوريين «يريدون تغيير خارطة العالم».


    مع ذلك هناك احتمال بسيط جدا أن يؤكد الواقع صحة هذه التحليلات القائلة أن القرن الجديد سوف يكون أميركيا»، حسب تعبير المؤلف، الذي يشير مباشرة أن هذا القول لا يعني أن الولايات المتحدة سوف تعرف مسارا انحداريا على الصعيد الاقتصادي أو العسكري أو الديموغرافي، كما تقول تحليلات فرنسية عديدة تؤكد «حتمية الانحطاط الأميركي».


    ما يشكك به المؤلف هو القارة الأميركية على هيكلة النظام الدولي حسب النموذج الذي عرفته العقود الستة الأخيرة. وبتعبير آخر فإن الهيمنة الأميركية هي التي سوف تنتهي. وللمقارنة كانت الولايات المتحدة تمثل عشية نشوب الحرب العالمية الأولى حصة من الإنتاج العالمي تشابه وضعها في عام 2000 حيث إنها القوة العظمى الوحيدة في العالم ومحور نظامه بينما لم تكن كذلك عام 1914. وبنفس الطريقة قد يكون وضع الولايات المتحدة في أفق عام 2050 مجاورا، من حيث نسبته، للوضع القائم اليوم، ولكن واشنطن لن تبقى عندها مركز العالم.


    مصادر القوة الأميركية


    يؤكد المؤلف أن معرفة مصادر القوة الأميركية وطبيعتها قد تستدعي التذكير بظروف قيام الجمهورية الأميركية في نهاية القرن الثامن عشر. ويرى أن الولايات المتحدة تمثل بلادا قامت على أساس مشروع إيديولوجي وسياسي وديني اختلطت فيه أفكار عصر التنوير مع النزعات الدينية المناضلة الموروثة من عصر الإصلاح الديني، ويضاف إلى هذا الظروف الخاصة لاستعمار مجال جغرافي كان يعيش فيه آخرون هم الهنود «الحمر» وأيضا محتلّون اسبان ومكسيكيون لجزء من الأرض.


    وتتميز الولايات المتحدة، من حيث نشأتها، عن الأمم الأوروبية التي نتجت عن عملية تفاعل طويلة الأمد. وفي القرن التاسع عشر أحكمت الولايات المتحدة سيطرتها على مجالها الجغرافي دون إيلاء أية أهمية خاصة لأبناء البلاد الأصليين. كما شهدت في ذلك القرن حربا «انفصالية» قاتلة بين الشمال والجنوب ما بين 1861 و1865. وكانت الحرب مع اسبانيا عام 1898 هي الفرصة التي برزت فيها الولايات المتحدة كقوة «امبريالية» كبرى على المسرح العالمي.


    واعتبارا من تلك الحرب مع اسبانيا عرفت الولايات المتحدة تعاقبا، وأحيانا «تعايشا» بين مراحل للتوسع، مثل المرحلة التي تصرّفت فيها كقوة إمبريالية على الطريقة الأوروبية في منطقتي البحر الكاريبي والمحيط الهادئ، ومراحل انكفاء على الذات خلال سنوات 1920 ـ 1940 على سبيل المثال، وأخيرا مراحل الالتزام السياسي والإستراتيجي في آلية عمل المنظومة العالمية.


    كما هو الحال في المرحلة الراهنة. وعرفت هذه المراحل كلها «توترا» بين نوع من النزعة التبشيرية، مثلتها سابقا سياسة الرئيس ولسون وتمثلها حاليا سياسة جورج دبليو بوش، وبين نزعة «واقعية» يحدد المؤلف «هنري كسنجر» وزير خارجية أميركا الأسبق كأفضل مثال عليها.


    ما يؤكده المؤلف أيضا هو أن الولايات المتحدة لم تكن تريد باستمرار تعميم «النموذج» أو المشروع الأميركي على العالم. ثم إن سياستها لا تتغير كثيرا بالعلاقة مع بلدان الهجرة التي قدم منها مواطنوها. ذلك أن مصالح الولايات المتحدة هي أولا مصالح البلاد نفسها وليس مصالح البلدان الأصلية للأميركيين. هذا يعني أن التنوع الاثني قد يعطي للسياسة الخارجية الأميركية « تباينا لونيا ما» لكنه لا يحدد جوهرها وخطوطها الكبرى.


    ويقول المؤلف في هذا السياق: «مع ذلك يرى بعض المحللين، بما في ذلك الأكثر شهرة، أن الدعم الأميركي لإسرائيل يشذ عن هذه القاعدة وأنه تحت ضغط اللوبي اليهودي تتفوق المصلحة الإسرائيلية في الولايات المتحدة على المصلحة الأميركية فيما يتعلق باتخاذ القرارات التنفيذية كما التشريعية».


    ويشير المؤلف هنا إلى أن سياسة واشنطن حيال إسرائيل لم تكن ثابتة قبل عام 1967 حيث أقامت معها علاقة إستراتيجية مستدامة بينما كان الحليف العسكري المميّز لإسرائيل حتى آنذاك هو فرنسا. كما يشير إلى نوع من «التباين» بين سياسة جورج بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر حيال إسرائيل وبين سياسة رونالد ريغان وفيما بعد سياسة جورج بوش الابن.


    ويضيف المؤلف ضمن النهج نفسه من التحليل أن نفوذ «اللوبي اليهودي» لا يأتي من عدد اليهود في أميركا الذي لا يتجاوز 2 بالمائة تقريبا من مجموع السكان. ثم إن أغلبية الناخبين منهم يقترعون لصالح الحزب الديمقراطي (أكثر من 70 بالمئة) مما لا يفسّر السياسة الموالية للصهيونية التي تنتهجها إدارة جورج دبليو بوش الجمهورية.


    ونقطة أخرى هي أن أغلبية الذين يدعمون النزعة الموالية للصهيونية لدى الجمهوريين هم ليسوا من اليهود وإنما من الإنجيليين البروتستانت الذين يدعمون القوى الإسرائيلية الأكثر نزوعا للتوسع على خلفية نظرية تقول بنهاية العالم ونهاية اليهود بعد «تجميعهم» في إسرائيل.


    ويؤكد مؤلف هذا الكتاب على وجود تداخل كبير بين «المراحل التبشيرية» للسياسة الخارجية الأميركية وبين القيم الديمقراطية التي تعارض العنف. وإذا كانت هذه السياسة وراء العديد من أعمال العنف الدامية قبل احتلال العراق، مثلما عرفت فيتنام، فإن الرأي العام الأميركي الرافض للحرب الفيتنامية هو الذي أرغم الإدارة الحاكمة آنذاك على الانسحاب.


    وإذا كان نيكسون وكيسنجر قد أعطيا الأوامر بالقصف الوحشي لكمبوديا خلال عامي 1970 ـ 1971 فإنهما قد فعلا ذلك تحت جنح السرية الكاملة. والملاحظة نفسها تنطبق على فظائع سجن أبو غريب أو مجزرة «حديثا» أو عمليات نقل السجناء بصورة غير مشروعة نحو بلدان تسمح بممارسة التعذيب وذلك بقصد سحب اعترافات منهم حول نشاطاتهم «الإرهابية» المزعومة.


    وأثناء الحرب العالمية الثانية، رغم السرية التي أحاطت بالبرنامج النووي الأميركي، كانت هناك نقاشات حامية بين العلماء ورجال السياسة والعسكريين فيما يتعلق بقصف ميدنتي هيروشيما وناغازاكي بالسلاح الذري وبما يترتب على ذلك «أخلاقيا».


    هذا مع التأكيد على إرادة بلوغ الهدف المنشود ولو باستخدام القوة. بالتالي كان ينبغي لطبيعة القيم الأميركية أن تدفع، «منطقيا» كما يشير المؤلف، الولايات المتحدة «كدولة» إلى أن تعطي الأولوية لاستخدام أدوات التأثير وليس وسائل القوة. ولكن، وللمفارقة، المسألة ليست كذلك.


    ويتم التأكيد في أميركا على أهمية «الشعور الوطني»، إذ عندما يجري إعطاء الجنسية لأي مهاجر ـ حوالي 000 200 سنويا ـ لا يتم الاكتفاء بالإجراءات الإدارية، وإنما يصار إلى أداء قسم جماعي ل«المواطنين الجدد» لتغذية روح الوطنية. ويرى المؤلف أن هذا «الشعور الوطني» هو الذي يفسّر، إلى حد ما، ردود أفعال المجتمع الأميركي وتعبئته بسرعة عندما يتم التعرض لأي عدوان خارجي. مثلما حدث عندما هاجم اليابانيون قاعدة بيرل هاربور في المحيط الهادئ عام 1941.


    إن الولايات المتحدة، بالتعريف، هي بلد للهجرة طيلة تاريخها باستثناء فترة توقفت فيها نسبيا ما بين 1920 و1966. وتتميز الهجرة إلى أميركا بمدى استمراريتها وبتنوعها. فبعد موجات الهجرة الانكلو ـ سكوتلاندية والإفريقية في القرن الثامن عشر وبدايات القرن العشرين وفد الإيرلنديون إثر المجاعة الكبرى التي شهدتها بلادهم خلال سنوات 1846 ـ 1849 ثم المهاجرون من بلدان وسط القارة الأوروبية وجنوبها. أما أقرب الهجرات فتتمثل في الوافدين من أميركا اللاتينية والجنوبية، خاصة المكسيك، ومن آسيا.


    ويرى المؤلف أن الصدمة الكبيرة لتفجيرات 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن لتخلق الظروف المناسبة ليس فقط للجوء إلى استخدام الأداة العسكرية وإنما أيضا لزيادة كبيرة في الميزانية الدفاعية الأميركية التي قفزت من 270 مليار دولار عام 1998 إلى 500 مليار دولار عام 2006. وأصبحت الولايات المتحدة تمثل وحدها حوالي نصف النفقات العسكرية في العالم. وهذه نسبة لا سابق لها في التاريخ.


    نحو نهاية الأحادية القطبية


    يشكل الدستور الأميركي أحد نقاط الارتكاز الأساسية لآليات عمل القوة الأميركية فهو في الوقت نفسه أداة لتنظيم هذه القوة وعامل حاسم في المحافظة على «الهوية الوطنية» للولايات المتحدة. ويحدد المؤلف ثلاثة أسباب تجعل الدستور الأميركي فريدا من نوعه في العالم. أولا هو «مقدّس» إذ يجسّد إلى جانب التاريخ الأميركي والعلم الأميركي، الوحدة والهوية الوطنية في بلاد سكانها من أصول مختلفة.


    وثانيا ينص الدستور على فصل حاسم بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. وإذا كان ينجم عن هذا أحيانا نوع من «التباين» في المواقف بين البيت الأبيض والكونجرس، فإن الوصول إلى اتفاق بينهما يكون مصدر قوة وتعبئة وطنية حيال مسائل كبرى مثل الحروب العالمية والحرب الباردة وحتى الحرب في العراق. وثالثا واقع أن القانون الداخلي له الغلبة على الالتزامات الدولية حسب الدستور الأميركي.


    وتتمتع الرئاسة الأميركية «البيت الأبيض» بسلطات واسعة على المستوى التنفيذي. وهي تتمتع بصلاحية زج القوات المسلحة في عمليات عسكرية لا تتطلب «إعلان الحرب» الذي يتعلق حصرا بالبرلمان، مثلما هو الأمر في الأنظمة الديمقراطية الأخرى.


    وعلى الرئيس الأميركي أن يقدّم تقريرا بعد 60 يوما من زج القوات المسلحة في عمليات عسكرية لمجلس الشيوخ عن النتائج المحققة. وللكونجرس وزنه في التأثير على الرئاسة عبر «رفضه» تقديم الميزانيات المطلوبة لدعم العمليات العسكرية. لذلك تلجأ الرئاسة غالبا إلى الحصول على الموافقة المسبقة لممثلي الشعب قبل الشروع في عمليات عسكرية كبرى مثلما حدث بالنسبة لحرب الخليج الأولى عام 1991 وللحرب الأخيرة في العراق عام 2003.


    وتلجأ الرئاسة في حالات كثيرة إلى «تمرير» مشاريعها عبر مجلس الأمن القومي الذي أسسه الرئيس هاري ترومان عام 1947 والذي يزيد عدد أعضائه اليوم على 100 عضو لا يخضع تعيينهم لمجلس الشيوخ مما يعطي الرئيس هامش مناورة كبير. كذلك يلعب مجلس الأمن القومي دور المركز الذي تجتمع لديه مصادر المعلومات الاستخباراتية المختلفة بحيث يؤمّن دمجها ومركزيتها. لكن الأزمة المفتوحة التي ترتبت على تفجيرات 11 سبتمبر 2001 أظهرت عدم كفاية آليات العمل المتبعة في ميدان عمل الأجهزة السرية المختلفة.


    على المستوى التشريعي يمتلك مجلس الشيوخ سلطة رفض اقتراحات تعيين الوزراء وكبار موظفي الدولة المقدّمة من البيت الأبيض. وهكذا يحتاج الرئيس الأميركي لموافقة لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ من أجل تعيين أحد السفراء. ويؤكد المؤلف في هذا السياق أن الهيئات التشريعية الأميركية خاضعة، إلى هذه الدرجة أو تلك، لنفوذ مجموعات مصالح مختلفة على المستوى القومي الأميركي أو على المستويات المحلية.


    وبعد شرح مسهب لآليات عمل الهيئات والمؤسسات «القائدة» في الولايات المتحدة الأميركية ودورها في ظل الإدارات الأميركية الأخيرة من جورج بوش الأب إلى جورج بوش الابن، يؤكد المؤلف أن الرئيس الأميركي الحالي ـ جورج بوش الابن ـ قبل أن يتولّى تسيير شؤون البلاد في شهر يناير من عام 2001 كان يجهل كل شيء تقريبا عن القضايا الدولية إذ لم يكن يهتم بها أصلا.


    لكنه جمع حوله فريقا من الخبراء المجرّبين في حقل السياسة الخارجية حيث كان عدد منهم قد عمل سابقا في إدارة الرئيس الأسبق رونالد ريغان من أمثال بول وولفويتز وكولن باول وريشارد بيرل، بل ومن الأكثر قدما في ميزان العمل السياسي مثل دونالد رامسفيلد وديك تشيني، وكان بعض أعضاء الإدارة الجديدة قد برزوا في فترة نهاية الحرب الباردة مثل كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية حاليا.


    إن أغلبية هؤلاء الساسة اشتهروا تاريخيا على أنهم من المتشددين ومن دعاة الدور «الكوني» للولايات المتحدة الأميركية. وقد كانت تفجيرات 11 سبتمبر 2001 المنعطف الذي فتح أمامهم «آفاقا جديدة».


    نهاية الحرب الباردة


    يؤكد مؤلف هذا الكتاب على أن «إدارة جورج دبليو بوش سوف ينظر إليها في التاريخ الأميركي باعتبارها من جهة الإدارة التي قامت بقطيعة أحادية الجانب وبإدارة الفشل في العراق الذي قد يمثل التقهقر الإستراتيجي الأميركي الأكبر منذ الحرب مع بريطانيا عام 1812».


    ويتم اعتبار مثل هذا المفهوم كنتيجة لتضافر عوامل ظرفية وتوجهات في العمق. إذ يمثل بشكل ما «لقاء» بين فريق سياسي ـ ايديولوجي وصل إلى السلطة ضمن ظروف غريبة خلال شهري نوفمبر ـ ديسمبر 2000 وبين الصدمة التاريخية لهجوم 11 سبتمبر 2001، وهذا كله على خلفية توجهات وضعت حدا على الصعيد الإستراتيجي لإرث الحرب الباردة».


    وبعد أن يذكّر المؤلف بشروط فوز المرشح الجمهوري بوش على المرشح الديمقراطي «آل جور» إثر عملية طويلة لإعادة إحصاء أصوات الناخبين وقرار من محكمة ولاية فلوريدا، يشير إلى أن أحداث 11 سبتمبر الرهيبة جاءت كي تمنح الإدارة الجديدة «الشرعية» التي كانت بحاجة إليها بعد «فوزها المرتبك»، كما أبرزت مكانة الولايات المتحدة في العالم.


    قبل 11 سبتمبر كانت نزعة اتخاذ قرارات دولية منفردة ـ من طرف واحد ـ قد ظهرت في مبادرات ذات طبيعة قانونية مثل رفض التصديق على اتفاقية كيوتو الخاصة بحماية البيئة ورفض المعاهدة الخاصة بإنشاء محكمة جنائية دولية وأيضا اعتبار الأسلحة المضادة للصواريخ لاغية تماما. وكانت واشنطن، مع ذلك، حريصة كما يبدو آنذاك على اتخاذ مواقف «متناغمة» على صعيد العلاقات الدولية. لكن بعد 11 سبتمبر «زالت الرقابات كلها» ليبدأ التخطيط لغزو العراق.


    وفي الوقت نفسه عايش الأميركيون هجمات 11 سبتمبر باعتبارها أفدح حدث ضدهم وضد التراب الأميركي. بل ويقول المؤلف أنه «لم يكن فقط الفعل الإرهابي الأكثر قتلا في التاريخ وإنما تجاوزت فداحته الهجمات السابقة ضد أميركا، أي تدمير البيت الأبيض من قبل البريطانيين أثناء حرب 1812 والهجوم المفاجئ الذي قام به اليابانيون على قاعدة بيرل هاربور عام 1941».


    ويشير المؤلف أن الرئيس الأميركي بوش استطاع في أجواء ما بعد 11 سبتمبر 2001 أن يجمع «بسهولة» المبررات من أجل القيام ب«حربه» ضد العراق. وإنه رغم العقبات المترتبة على تلك المغامرة فإن «الثقة الشعبية» سمحت بإعادة انتخاب بوش ب«شكل مريح» لفترة رئاسية ثانية في شهر نوفمبر 2004.


    ولا يتردد المؤلف في أن يؤكد ضمن هذا السياق أن «المشاعر التي أثارتها تفجيرات 11 سبتمبر سوف تعطي للسلطة التنفيذية الأميركية هوامش مناورة كبيرة فيما يخص السياسات الأمنية بعد الانتخابات الرئاسية لشهر نوفمبر 2008».


    لكن نهاية الحرب الباردة سوف تثقل على الخيارات الأميركية المستقبلية. فأوروبا أصبحت «هامشية» استراتيجيا ولم تعد البؤرة الرئيسية للتوترات الدولية كما كانت خلال فترة الاستقطاب الثنائي الدولي، كما أن حروب البلقان التي شهدتها القارة خلال سنوات التسعينات قد انتهت.


    بالتوازي مع هذا فقد الحلف الأطلسي بعض أهميته الإستراتيجية فيما أصبحت المشاكل والتحديات خارج أوروبا هي التي تشد انتباه الولايات المتحدة وفي مقدمتها الصعود القوي للصين وتهديد الإرهاب ونزاعات منطقة الشرق الأوسط ومصادر الطاقة فيها.


    وفي الوقت نفسه أدى غياب التهديد العسكري السوفييتي إلى تضاؤل أهمية التحالفات التقليدية للولايات المتحدة. واستجد وضع جديد عبرت عنه جيدا، كما يقول المؤلف، جملة لوزير الدفاع الأميركي السابق رونالد رامسفيلد جاء فيها: «المهمات هي التي تحدد التحالفات».


    كما أصبح من الواضح أنه لا الولايات المتحدة وحدها ولا حتى ائتلاف أميركي ـ أوروبي أصبح كافيا لمواجهة فعالة حيال التحديات ذات البعد الكوني (مثل سخونة المناخ) أو حيال الأزمات الإقليمية الكبرى. ذلك أن «ازدحام العالم» لم يعد يسمح بممارسة هيمنة أميركية أو غربية كالماضي. في المحصلة يرى المؤلف أن القرن الحادي والعشرين «لن يكون قرنا أميركيا جديدا». لكن هل هذا يعني أن دور آسيا، وخاصة الصين، قد جاء؟ يتساءل المؤلف.


    عرض ومناقشة: محمد مخلوف

    تعليق

    • محمد زعل السلوم
      عضو منتسب
      • Oct 2009
      • 746

      #3
      كتاب- ازدحام العالم -الحلقة(3)
      المراقبون يتوقعون امتلاك الصين عناصر القوة العظمى بحلول 2020
      تأليف :فرانسوا هايسبورغ



      يتناول المؤلف في هذه الحلقة القوة الصينية ومستقبلها في المنطقة الآسيوية والعالم، حيث يرى أن الصين مؤهلة للعب دور قوة عظمى ومنافسة أميركا على قيادة العالم وذلك في ضوء الانجازات التي حققتها وما زالت في ميادين التصنيع والتحديث والتقدم العلمي.




      ولكن ما يؤكد عليه المؤلف هو أن الصين ليست وحدها في آسيا فهناك قوى أخرى لا ترضى أن تدور في فلك الصين الحمراء مثل الهند واليابان، وهذه ستجعل المنافسة حامية الوطيس وقد تمنح الولايات المتحدة بعض الوقت في مقعد القائد للعالم قبل أن تزيحها عنه الصين. غير أن المؤلف يرى أن هذا كله مرتبط بإجراءات يتعين على الصين اتخاذها كالتحول الديمقراطي وتعزيز الحريات العامة. لقد اختار مؤلف الكتاب عنواناً «مبهما» لهذا الفصل من كتابه، وذلك فيما يتعلق بالقول إن القرن الجديد سيكون آسيويا بوضوح. فطالما أن الصين والهند اللتين يسكنهما حوالي 40 في المئة من مجموع سكان العالم قد عرفتا نهوضا اقتصاديا مشهودا فإن مرتبتهما المتقدمة على الصعيد العالمي هي نتيجة «تلقائية». ثم إن مساهمة النمو الاقتصادي الآسيوي في النمو العالمي هي أعلى من مساهمة الولايات المتحدة وكندا. وأصبح وزن مجموع آسيا، بما في ذلك اليابان، يعادل وزن أميركا الشمالية والاتحاد الأوروبي. وسوف تتفوق آسيا خلال السنوات القليلة القادمة. بالمقابل يمكن لدولة ما أن تكون «عملاقة» اقتصاديا وإنما «قزما» سياسيا مثل اليابان، أو ربما يمكن أن تكون قوة إستراتيجية من المصاف الأول دون أن تمتلك قوة اقتصادية كبيرة فالقوة العظمى السوفييتية التي سحقت الجيش النازي (الرايخ الثالث) وسادت على إمبراطورية هائلة أثناء الحرب الباردة كان إجمالي إنتاجها المحلي يقارب دولة متواضعة مثل إيطاليا. إن الصين والهند، مثلما كان الاتحاد السوفييتي وإنما على خلاف اليابان التابعة للولايات المتحدة، تمتلكان هامشا حرا على الصعيد الإستراتيجي كما تمتلكان القدرة العسكرية والسياسية من أجل التصرف على قاعدة الإرادة الحرة.




      مع ذلك يمكن للتحليل على مستوى آخر أن يصل إلى نتيجة مؤداها أن القرن الجديد لن يكون آسيويا، على الأقل لن يكون آسيويا بالمعنى الذي كان فيه القرن التاسع عشر أوروبيا والقرن العشرين أميركيا. في الواقع تشهد آسيا أشكالا قوية من المعارضة داخلها. فالصين والهند واليابان ليسوا شركاء توحد بينهم القيم والمصالح المشتركة. بالتالي لا يشيد هؤلاء العمالقة الثلاثة مجالا آسيويا بل على العكس يؤدي واقع هذه البلدان إلى تجزئته. بالتأكيد كانت أوروبا ما قبل عام 1914 منقسمة على نفسها وتمزقها المنافسات العميقة بين القوى الكبرى فيها. لكنها، رغم ذلك وحتى القطيعة «الكارثية» التي مثلتها الحرب العالمية الأولى عرفت كيف تقدّم نفسها منذ الثورة الصناعية كقوة موحدة حول معين ثقافي مشترك. وإذا كان الأوروبيون منقسمين فيما بينهم فإنهم مع ذلك اقتسموا العالم وهيمنوا عليه.




      ولا تعرف آسيا حاليا أي مشروع إمبريالي من الطراز نفسه وليس لديها ما يعادل الهيمنة الإيديولوجية والسياسية والاقتصادية الغربية. ويرى المؤلف أن القارة الآسيوية لا تتقدم باعتبارها قارة، كما أن منظمة تعاون شنغهاي التي تضم روسيا والصين وأربعة من جمهوريات آسيا الوسطى لا تشكل تحالفا حقيقيا، حسب التحليلات المقدّمة. وبهذا المعنى آسيا ليست موجودة بالمعنى السياسي والإستراتيجي كمشروع موحّد على غرار أوروبا أو الولايات المتحدة.


      أما بالنسبة للميدان الثقافي بالمعنى العريض للكلمة الذي يشمل الفنون والآداب وأنماط العيش فإن المؤلف يقول بعدم وجود آسيا. فالعمق المشترك للغرب الأوروبي لا مثيل له على الصعيد الآسيوي، والصين والهند مثلا تختلفان فيما بينهما أكثر مما تختلف كل منهما مع أوروبا. هذا مع إشارة المؤلف إلى أن الهند «مشرّبة»، إلى هذه الدرجة أو تلك، بالإرث الأوروبي على مستوى نمط الحياة والتنظيم السياسي.


      القرن الآسيوي


      في المحصلة يرى المؤلف أنه يمكن الحديث بدرجة أقل عن منظور «قرن آسيوي» مما هو عن «هيمنة صينية». بتعبير آخر الحديث عن «ظفر محتمل» لجزء من آسيا وليس لها كلها. من هنا سوف تتركز الأنظار على الصين أكثر مما هي على القارة الآسيوية.


      ويعتبر المؤلف أن أي تحليل خاص بمكانة الصين في العالم قد يكون نوعا من العبث إذا لم يأخذ في حسابه التجربة التاريخية المزدوجة لهذه البلاد. من جهة تجربة قوة قديمة وعظيمة ومن جهة أخرى بلاد منهوبة وذليلة، وفي الحالتين على خلفية هوية وطنية قوية منذ آلاف السنوات. وعلى هذا الأساس من البعد الزمني تندرج عملية اتخاذ القرارات على صعيد السياسة الخارجية في إطار الاستمرارية. وحيث يمكن تشبيه ذلك كما لو أن إيطاليا تتخذ قراراتها اليوم وكأنه لم تحدث أية قطيعة بينها وبين الإمبراطورية الرومانية.


      وعندما كانت أوروبا تعيش عصورها الوسطى عرفت الصين تقدما تكنولوجيا كبيرا مع اختراع المطبعة والمدفعية والبوصلة. ومع بروز الثورة الصناعية الأوروبية كانت الصين هي الدولة الأكبر سكانا والأغنى اقتصاديا، إذ كان يقطنها 330 مليون نسمة عام 1700 من أصل 950 مليون نسمة في العالم كله. وكان إجمالي الإنتاج الصيني يتجاوز إجمالي الإنتاج الأوروبي. وكان وزن الصين راجحا كثيرا في منطقتها. بل وكانت البلدان المجاورة لها تدور في فلكها. وقد تبنّت الصين آنذاك سياسة الانكفاء على الذات، الأمر الذي جسّده قرار جرى اتخاذه في أواسط القرن الخامس عشر وقضى بمنع القيام بحملات كبرى فيما وراء البحار.


      باختصار تمثّل النموذج المثالي الذي سعت الصين لتحقيقه على مدى آلاف من السنين في الوصول إلى إقامة إمبراطورية كبرى متمركزة على ذاتها وتندرج ضمن إطار إقليمي.


      لكن الصين كانت خلال تاريخها، على غرار أوروبا، عرضة لغزوات كبرى قام بها شعوب السهوب المحاربة الذين يعود أصلهم إلى آسيا الوسطى. من هنا جرى بناء سور الصين العظيم بطول 2500 كيلومتر اعتبارا من القرن الثالث الميلادي. وتعرّضت الصين لغزو المغول، مثل روسيا، في القرن الثالث عشر.


      لكن الصين نجحت أمام هذه الغزوات، وغيرها، في أن «تمتصّ» على مدى جيل واحد أولئك الذين اجتاحوها من آسيا الوسطى. هكذا خرجت سليمة معافاة تقريبا من غزوات المغول في القرن الخامس عشر بيد أن هذه الغزوات نفسها قد خرّبت طيلة عدة قرون من الزمن التنظيم السياسي لروسيا. باختصار عرفت الحضارة الصينية كيف تتغلب على جميع التحديات إلى أن جاء دور الغربيين.


      كانت العلاقات الأولى للصين مع الغرب المسيحي وديّة بالأحرى، وذلك منذ رحلة ماركو بولو في أواسط القرن الثالث عشر حتى إقامة العلماء المسيحيين في بكين خلال القرن الثامن عشر. لكن «الإذلال» الذي عرفته الصين على يد الأوروبيين بدأ عمليا مع حرب الأفيون 1840-1841 ولم يتوقف بعد ذلك على مدى قرن ونصف.


      ووصل الأمر بالأوروبيين إلى اجتياح بكين خلال عامي 1860-1861 حيث حرقوا ونهبوا قصر الصين. ثم عاودوا الكرّة عام 1900 بحملة متعددة الجنسيات أوروبية-أميركية-يابانية بقيادة جنرال ألماني. وإذا لم يتم عندها استعمار بكين، إلا في بعض النقاط، فإنه جرى تقسيم المدينة إلى مناطق نفوذ. ولم ينته مثل ذلك الوضع تماما إلا مع الحرب العالمية الثانية.


      وصل الشيوعيون إلى السلطة عام 1945، واعتبارا من عام 1954 ساءت العلاقات مع الاتحاد السوفييتي وصولا إلى القطيعة الإيديولوجية والاقتصادية في عام 1960. لقد رفض الاتحاد السوفييتي آنذاك دعم الصين في عملية عسكرية ضد جزيرة تايوان خشية أن يؤدي ذلك إلى مجابهة مع الولايات المتحدة التي كانت تنشر أسطولها السابع في مضيق «فورموزا» اعتبارا من عام 1954. رفضت موسكو أن تشمل «مظلّتها النووية» الصين بقيادة ماوتسي تونج في حالة حدوث مواجهة عسكرية بين القوات الصينية والأميركية.


      ويعيد المؤلف إلى ذلك الحدث قرار الصين الشروع اعتبارا من نهاية عام 1954 ببرنامجها النووي العسكري. وكانت موسكو، رغم كل شيء، قد وعدت بكين بتقديم مساعدة تقنية لها في الميدان الذري، خاصة أنها قدمت لها «مجسّما» للسلاح النووي في إطار اتفاق سري عقده البلدان عام 1958، وهو الاتفاق الذي نقضه نيكيتا خروتشوف في نهاية عام 1958. الأمر الذي لم يمنع الصين من إجراء أول تجربة لها في شهر أكتوبر 1964 ثم قامت بعد 18 شهرا بتجريب أول قنبلة هيدروجينية صينية.


      ويذكر المؤلف في هذا السياق المجابهات المسلحة التي شهدها شهر مارس من عام 1969 على طول الحدود بين الاتحاد السوفييتي والصين. وفي تلك الفترة استعرض السوفييت فرضية القيام بضربة نووية تقتل القوة الذرية الصينية الوليدة «في المهد». أدى مثل ذلك المنظور إلى بداية تقارب بين الولايات المتحدة والصين. وقامت منذ عام 1970 شراكة إستراتيجية أميركية-صينية تحت رعاية رئيس وزراء الصين شو ان لاي ووزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر، وذلك في مواجهة الاتحاد السوفييتي.


      الصعود السلمي للصين


      في الوقت الذي تتهيأ الصين الشعبية لاستقبال الألعاب الأولمبية في عام 2008، عشية الاحتفال بالذكرى الستين لتأسيسها لم يتم بعد نسيان ذكريات الماضي البعيد والقريب. هذا مع التأكيد أن صين اليوم ليس لها سوى القليل من النقاط المشتركة مع صين الحرب الصينية-اليابانية وصين الحرب الأهلية خلال سنوات الثلاثينات والأربعينات المنصرمة.


      بل وليس لها نقاط مشتركة كثيرة مع صين ما قبل 30 عاما وما عرفته من هذيان جماعي تحت عنوان «القفزة الكبرى إلى الأمام» و«الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى»، ثم فترة حكم «عصابة الأربعة» خلال فترة 1973-1975. لكن رغم العودة نحو اقتصاد السوق ورغم الآثار العميقة للنمو الاقتصادي الهائل على المجتمع، فإن النظام السياسي الصيني لم يتطور سوى قليلا ولا يزال هو أحد الأنظمة الاستبدادية الشيوعية في العالم. وتقول الكلمات الأولى من النشيد الوطني الشيوعي الصيني: «الشرق أحمر، والصين تقف منتصبة على قدميها» كما يشير المؤلف ثم يسأل: «إلى أين سوف تمضي«؟


      يبلغ عدد سكان الصين 3,1 مليار نسمة من أصل 4,6 مليارات يشكلون سكان المعمورة. وبالتالي يتمثل الهم الأول لجميع الحكومات الصينية في المحافظة على الوحدة السياسية لأكبر بلد في العالم.


      وكان قد تمّ الشروع منذ أواسط عقد السبعينات الماضي بسياسة تحديد النسل الذي انخفض إلى ما دون حد تجديد الأجيال. أما على المستوى الاقتصادي فقد عرفت الصين منذ إطلاق شعار «عمليات التحديث الأربع» من قبل دينج شياو بينج عام 1978 نموا لا سابق له بحيث أن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي قد تضاعف خلال 20 سنة. وليس هناك أي بلد هام كان قد عرف مثل هذا المعدّل من النمو خلال فترة قصيرة كهذه.


      لكن هذه التنمية لم تكن متكافئة بالنسبة لعموم الصين إذ أنها عرفت تركز الثروات في المناطق الشاطئية بينما ظلت بعض المقاطعات الداخلية في الداخل شبيهة بمقاطعات الهند «الفقيرة» من حيث نمط المعيشة ومستواها. وتؤدي قوة الجنوب التي تمارسها المدن زيادة كبيرة في تلوث البيئة.


      وهناك قسم هام من سكان المدن الوافدين عليها خاصة من الأرياف، لا يجدون سوى فرص عمل هشة ويفتقرون للحد الأدنى من الخدمات العامة والخدمات الصحية. ثم إن التوسع الاقتصادي الصيني يعتمد على منظومة مالية ومصرفية «خفيّة» بمقدار ما هي «هشّة» وعليها أن تلبي احتياجات القطاع العام التابع للدولة الموروث من الحقبة الماوية. كما يعتمد على ازدهار القطاع الزراعي بعد التخلّي عن النظام التعاوني «الجماعي» وعلى التطور الكبير الذي عرفه قطاع التجارة الخارجية.


      هذا الصعود الذي عرفته الصين على الصعيد الاقتصادي واكبه تدريجيا تنامي دورها السياسي على المسرح الدولي. وتمتلك الصين نظريا «على الورق» الإمكانيات السياسية التي تسمح لها بأن يكون لها وزنها عالميا. وهي عضو دائم في مجلس الأمن الدولي اعتبارا من عام 1971 حيث أخذت المقعد الذي كانت تحتله آنذاك «الصين الوطنية»، أي تايوان. والصين، مثل روسيا أو الولايات المتحدة، متمسّكة جدا بسيادتها. لكن «النزعة التبشيرية» التي عرفها عهد ماوتسي تونج قد جرت ترجمتها بدعم الحركات الثورية «ذات الإيديولوجية المادية» في جميع أصقاع العالم.


      ويشير المؤلف هنا إلى أن دور الصين على الصعيد العالمي حديث العهد جدا، إذ أنها حتى سنوات قليلة خلت كانت «خارج اللعبة» فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط أو إفريقيا. وقد كانت بلدا مصدّرا للبترول حتى سنوات التسعينات الماضية لكنها أصبحت تحتل، اعتبارا من عام 2004، المرتبة الثانية، في قائمة البلدان المستوردة له وراء الولايات المتحدة الأميركية. بكل الأحوال تصف النقاشات العامة الدائرة في الصين النهضة التي عرفتها البلاد أنها «صعود سلمي» على خلفية الاعتزاز بالهوية الوطنية التي تستعيد بنظر الصينيين مكانتها الطبيعية. وكانت الصين قد انضمّت عام 2001 لمنظمة التجارة العالمية.


      على الصعيد العسكري يجري «صعود» الصين تدريجيا أيضا. إن جيشها يمتلك أسلحة تقليدية قديمة غالبا وترسانتها النووية متواضعة بحيث أنها لا تمتلك في المحصلة القوة العسكرية القادرة على منافسة قوة الولايات المتحدة، حتى على المستوى الإقليمي. كما أن قدرة الصين على القيام بعمليات تدخل عسكرية خارجية لا تزال أدنى من قدرة فرنسا أو انجلترا.


      مع ذلك يمكن لهذا الوضع كله أن يتغير في أفق 15 سنة قادمة أو ربما عشر سنوات فقط، لاسيما وأن هناك مؤشرات تدل على أن الصين قد تمتلك صواريخ نووية حديثة خلال عدة سنوات. وتقدّر النفقات العسكرية الصينية ب75 مليار دولار سنويا أي ضعف ما تنفقه فرنسا أو اليابان.


      في المحصلة يرى مؤلف الكتاب أنه اعتبارا من الآن وحتى أفق عام 2020 سيكون لدى الصين - إلا إذا استجدت أزمة كبرى- جميع الأوراق الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية التي تسمح لها بلعب دور قوة عظمى مهما كانت طبيعة نظامها. هذا على عكس اليابان ذات التبعية الإستراتيجية شبه الكاملة اليوم للولايات المتحدة الأميركية.


      رؤى المستقبل


      يرتبط تحقيق منظور الهيمنة الصينية بما ستعرفه البلاد من تطورات على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ويطرح المؤلف في هذا السياق ثلاثة أسئلة رئيسية يجدها حاسمة فيما يخص مكانة الصين المستقبلية. يتعلق السؤال الأول بالروابط بين «مركز» الصين و«محيطها» وبالآليات التي سوف تستطيع من خلالها «دولة واحدة» على حكم ما يزيد عن خمس سكان العالم. هذا لاسيما وأن الوزن الديموغرافي والاقتصادي لبعض المناطق قد يجعل منها «ضمنا» قوى «تحظى بالاحترام» على المسرح الدولي. ويعود المؤلف في هذا السياق إلى تاريخ الصين الذي عرف العديد من الهزّات الداخلية.


      وسؤال آخر يتعلق بمصير الصين كإمبراطورية متعددة الجنسيات. وبعد أن ينبّه المؤلف إلى خطأ المقارنة، حول هذه النقطة، مع الاتحاد السوفييتي السابق حيث كان الروس يشكّلون أغلبية قليلة -150 مليون من أصل 280 مليونا حسب إحصائيات 1989-، يشير إلى أن 91 بالمائة من الصينيين ينتمون إلى نفس الأغلبية وتنتمي لغاتهم إلى «الجزء اللغوي» الصيني بينما جرى توحيد كتابتهم على أساس منظومة إيديولوجية. القوميات الأخرى تشكل 9 بالمائة فقط، أي ما يمثل 100 مليون نسمة. وإذا كان أهل «التيبت» يشكّلون حالة خاصة فإنهم لا يمثّلون مع ذلك أضخم الأقليات، على عكس الفكرة السائدة.


      التساؤل الأخير - الثالث- يتعلق بنتائج احتمال أن تعرف الصين تحولا ديمقراطيا، ذلك على أساس أن «وصول» الديمقراطية في بلدان شرق آسيا قد سبقه غالبا ازدهار اقتصادي. هكذا جرى الحديث عن دخل الفرد في كوريا الجنوبية بمعدّل 50000 دولار سنويا خلال سنوات الثمانينات «كمقدمة» لتبنّي الديمقراطية.


      ويشير المؤلف هنا إلى أن القيادة الشيوعية الصينية، مع تأكيدها على رفض أي تدخل أجنبي، لا تزعم أنها سوف تكبح إلى ما لا نهاية كل منظور لإمكانية التطور الديمقراطي. ثم إن تعاظم حجم ودور الطبقة الوسطى بالتزامن مع النمو الاقتصادي سيغدو المطلب الديمقراطي أكثر ألحاحا، دون معرفة ما إذا كان سيجري تطبيقه تدريجيا - مثل «تايوان»- أو سيتم فرضه فجأة على قاعدة أزمة اقتصادية كبرى.


      بقيت معرفة الآلية التي سوف تتصرف بها «صين ديمقراطية» على المسرح الدولي. ما يتم تأكيده هو أنه ليس هناك ما يسمح بالقول أن مثل هذه الصين «الديمقراطية» ستعلب دورا أكثر «تصالحا» و«دعما للاستقرار» دوليا من القيادة الشيوعية الحالية، بل قد يكون العكس أكثر احتمالا. فإذا كان الشيوعيون يخشون الحركات الشعبية فإن «قيادة صينية ديمقراطية» قد تعتمد عليها. ثم إن اكتساب «الشرعية الديمقراطية» إلى جانب أدوات القوة الاقتصادية والعسكرية، يمكن أن يدعو الصين إلى «مغامرات» شبيهة بتلك التي دفعت «أمما صاعدة» نحو تحقيق «أحلام أمبريالية» في نهاية القرن التاسع عشر مثلما عرفت ألمانيا أو الولايات المتحدة أو اليابان.


      مواجهة الازدحام


      يقول المؤلف أن قبول فرضية وصول الصين إلى مصاف قوة عظمى في إطار آسيا بحيث تغدو المنطقة الأكثر أهمية في العالم على الصعيدين الاقتصادي والإستراتيجي، لا يعني أن هيمنتها مؤمّنة.


      الصين ليست وحدها في منطقتها، فاليابان والهند قوتان كبيرتان وليستا على استعداد لتدوران في فلك «إمبراطورية الوسط». بالتالي لن تكون الهيمنة الصينية الإقليمية أكيدة أكثر مما كانت هيمنة ألمانيا بقيادة غيّوم الثاني حيال فرنسا أو انجلترا أو روسيا. ثم إن الولايات المتحدة لن تكون مهمّشة على الصعيد العالمي ولو أنها لن تكون مسيطرة، فهي تمتلك وزنا ديموغرافيا واقتصادا مجددا والعديد من الأوراق السياسية والإستراتيجية الرابحة.


      ما يهم الإنسانية هو معرفة الشروط التي سوف يتم فيها صعود الصين، وعما إذا كان ذلك سيتم على شاكلة الصعود المتهوّر القوي لأوروبا ما بين 1914 و1945 - أي الفترة التي عرفت حربين عالميتين- أم أن صعود الصين سيتم تدريجيا. يتم التأكيد هنا على الأهمية القصوى للدور الذي سوف تلعبه الولايات المتحدة التي كان لها منذ هزيمة اليابان عام 1945 دورا مركزيا في المحافظة على الاستقرار في منطق شرق آسيا.


      ثم إن ضمان الولايات المتحدة للأمن يرمي أساسا إلى منع حدوث أي «صدام مباشر» لليابان مع الصين. بالتالي لا ترغب واشنطن في أن تستطيع اليابان تحقيق استقلاليتها فيما يخص تأمين دفاعها الذاتي، بل على العكس تريد أن تبقيها تابعة لها «إستراتيجيا».


      ثم إن واشنطن بحمايتها تايوان لا تمنع قيام هيمنة عسكرية صينية في المنطقة فحسب وإنما تمنع أيضا تايوان من إعلان استقلالها، الأمر الذي تعتبره الصين سببا مبررا لشنّها الحرب إذ تعتبر تايوان «جزءً لا يتجزأ منها». ومهما قيل سمح هذا الوضع الأمني الذي ساد منذ الحرب العالمية الثانية بتحقيق الشروط التي عرفت إعادة تعمير اليابان ثم صعود الصين القوي والذي يمكن أن يهز المعادلة القائمة.


      ويمكن للتطورات الحاصلة أن تؤدي، بعد أجل، إلى قيام منظومة أمنية إقليمية يشرف عليها الثنائي الصيني-الأميركي، وهذا ما بدت ملامحه من خلال الطريقة التي تصرفت بها بكين وواشنطن حيال الطموحات النووية لكوريا الشمالية. وقد تتابع أميركا ممارسة نفس سياستها الحالية الخاصّة بضمان أمن اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية وبحيث يتم إبقاء هذه البلدان الثلاثة بعيدة عن أي استقلال ذاتي أمني.


      وقد يجري هذا كله بالتعاون مع بكين شريطة أن تقبل الولايات المتحدة التعامل مع النظام الشيوعي الصيني دون أية مساعي لدفعه «قسرا» نحو الديمقراطية. ويرى المؤلف أن تاريخ العلاقات الصينية-الأميركية منذ القرن التاسع عشر لا يستبعد، مسبقا، مثل هذه الإمكانية في التطور الذي ستشهده منطقة شرق آسيا.


      البحث عن حلفاء


      إن انتهاج سياسة أخرى سيؤدي إلى توفر تدريجي لشروط قيام حرب باردة جديدة في هذه المنطقة من العالم. وستبحث أميركا عندها عن حلفاء جدد قد تكون الهند في مقدمتهم، مع التركيز على أن تكون التحالفات الجديدة متعددة الأطراف في منظور «شراكة من أجل السلام». ويمكن أن يبدو الأمر وكأنه يخص تأسيس «حلف أطلسي مكرر» مع دول غير الحلف القائم مع أوروبا.


      ما يتم التأكيد عليه هو أن الولايات المتحدة والصين لم تقررا «نهائيا» حتى الآن أي سبيل ستسلكان: أهو «التعاون» أم «التباين»، هذا إذا لم تكن المواجهة؟ بكل الأحوال سيكون عليهما اتخاذ قرار. ويشبه المؤلف الوضع في شرق آسيا الآن بالوضع في أوروبا خلال أواخر القرن التاسع عشر حيث لم تكن الحرب العالمية الأولى 1914 عندها خيارا محتوما.


      في المحصلة يقال إن الهيمنة في القرن الحادي والعشرين تفترض شروطا أخرى بالإضافة إلى تلك التي عرفتها الحقبة الكلاسيكية أو الصناعية، الشرط الأساسي الجديد هو امتلاك قدرة كبيرة للجذب بواسطة المال والخطاب -اللغة- الموجّهة للعالم. الصين تملك المال بفضل فائضها التجاري الكبير مع الولايات المتحدة ومنطقة اليورو وقد تجاوزت الاحتياطيات المالية الصينية منذ صيف 2006 مبلغ تريليون دولار، وهذا مبلغ لا مثيل له في العالم.


      أمّا على صعيد اللغة فالملاحظة الأولى المقدّمة تقول أنه للمرة الأولى تجذب الصين أعدادا كبيرة من الطبلة والباحثين الأجانب الساعين إلى تعلّم اللغة الصينية. ثم إن عددا من البلدان الآسيوية أصبحت توفد أعدادا أكبر من طلبتها إلى الصين أكثر مما توفدهم إلى الولايات المتحدة التي وضعت من جهتها شروطا صارمة لدخولها بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001.


      ولغة المال تسمح للصين أن تتنافس مع الولايات المتحدة. لكن «اللغة» بالمعنى الدقيق للكلمة قد تكون أكثر أهمية إذ كانت أداة للسيطرة قديما استعملها الاسبان والبرتغاليون في أميركا اللاتينية والفرنسيون في إفريقيا والانكليز في الهند. وإذا كانت الصين لا تزال تحتل مرتبة متواضعة على صعيد العوامل الثقافية الاجتماعية عالميا فإن الألعاب الأولمبية لعام 2008 تشكل مرحلة هامة لها على هذا الصعيد.


      لكن إذا كان «الشرق أحمر» فإن العالم لن يكون صينيا. و«الخطر الأصغر» الذي تحدث عنه الإمبراطور غيّوم الثاني لن يبسط هيمنته على العالم. لكن هذا لا يعني أن الصين ستلاقي نفس مصير اليابان التي لن تغدو أبدا قوة عظمى بسبب عدم استقلالها الذاتي الإستراتيجي.


      باختصار يمكن للصين أن تغدو قوة عظمى تنافس الولايات المتحدة لكنها لن تكون القوة المهيمنة الجديدة. وهذه هي خلاصة ما يتوصل إليه المؤلف من تحليلات.


      عرض ومناقشة: محمد مخلوف

      تعليق

      • محمد زعل السلوم
        عضو منتسب
        • Oct 2009
        • 746

        #4
        كتاب- ازدحام العالم -الحلقة(4)
        انتشار الديمقراطية والليبرالية يقلص الفوارق في توزيع مكاسب العولمة
        تأليف :فرانسوا هايسبورغ



        يتناول المؤلف في هذه الحلقة تقارب العالم الذي أصبح قرية واحدة في ظل نظام العولمة، ولكنه يشير إلى استمرار وجود التنافس بين القوى الكبرى على مكاسب تلك العولمة التي يرى أنها موزعة بصورة غير عادلة بين الدول القوية والضعيفة، وإن كان يعتقد أن انتشار الديمقراطية والليبرالية سيعمل على تقليص الفوارق في الحظوظ من مكاسب العولمة.




        غير أنه يقر بأن الديمقراطية وحدها لا تكفي لنزع فتيل التوتر في العلاقات الدولية، فهي لا تضمن عدم التورط في الحروب من جانب الدول التي تصنف بأنها ديمقراطية أو ليبرالية. اختار الصحافي الأميركي الشهير توماس فريدمان عبارة «الأرض مسطّحة» عنوانا، لكتاب أصدره مؤخرا، ذلك أن انتفاء المسافات وفاصل الزمن بفضل وسائل الاتصالات الالكترونية ووسائل النقل الحديثة جعل كل إنسان يمتلك، «افتراضيا» على الأقل، نفس الحظوظ في معرفة ما يجري في العالم.ويرى فريدمان أن العولمة لم تضع الجميع في علاقة مع الجميع داخل «القرية الكونية» فحسب، وإنما ستؤدي إلى قيام كيان إنساني عالمي شبيه، من حيث قدرته على التنظيم الإنساني العالمي للأفراد، بالدول القومية التي ظهرت خلال القرون المنصرمة.إن مقولة فريدمان حول عالم وحّدته العولمة تبدو أكثر قوة من مقولات المحافظين الجدد التي كذبتها الأحداث سريعا عبر أشكال الفوضى المستجدّة حديثا. ولا بد من قبول حقيقة أن العولمة موجودة.


        ثم إن النزاعات في العالم أصبحت تعود إلى الفروقات في إيقاع الوصول إلى مكاسب العولمة كما تعود إلى أشكال عدم المساواة في إعادة توزيع هذه المكاسب. لكن مع انتشار الديمقراطية والليبرالية سوف تتقلّص هذه الفروقات وعدم المساواة، حسبما تؤكد رؤية فريدمان.


        ويرى المؤلف أن مثل هذه الرؤية تقود إلى أخطاء خطيرة. وذلك ليس على مستوى التحليل فقط وإنما أيضاً على مستوى الأحكام العملية الصادرة. ففريدمان كان قد أيّد بقوة حرب العراق الأخيرة على أساس أنها كانت ستسمح، بنظره، بفتح سبل التقدم أمام البلاد. ثم قام بعد ذلك، مثل الكثيرين، بتحميل مسؤولية الفشل لعدم تحضير إدارة بوش لمرحلة ما بعد الحرب. هذا مع نسيان أن مثل هذا النقص في الحملة الأميركية ـ البريطانية على العراق كان واضحا قبل الغزو إلى جانب إغفال التساؤل حول إمكانية قدرة أي محتل على فرض قبول قيمه بواسطة قوة السلاح.


        بطريقة أكثر عمومية وعلى عكس رؤية توماس فريدمان، يرى المؤلف أن تحليلاً دقيقاً للشروط التي تحكم العلاقات الدولية في عصر العولمة الجديدة لا يؤدي إلى القول بوجود «لعبة عالمية» واحدة سياسياً واجتماعياً. ذلك أن المسائل المتعلقة بالحدود وبالهوية لم تختف نهائياً بل ولم تتهمش بفعل العولمة.


        ثم إن التحديات الكونية المطروحة لا تتم معالجتها بإرادة مشتركة. هكذا وبدلا من «الأرض المسطّحة» التي يقول بها فريدمان ربما يمكن الحديث بالأحرى عن قرية كونية بكل ما فيها من تصدعات وتناقضات و«عوالم صغيرة» داخل «العالم الواحد الشامل».


        تأثير الحرب الباردة


        أول ما يشير إليه المؤلف فيما غيرته الحرب الباردة أهمية نهايتها في مصير «منظومة العالم». إن عملية زوال الإمبراطورية السوفييتية كانت ذات آثار عميقة بالنسبة لموقع الولايات المتحدة وحلفائها في العالم.


        بل إن نهاية الحرب الباردة هزت أسس النظام الدولي نفسها. كما أن نهايتها «عولمت العولمة»، إذ كان الاستقطاب الثنائي الدولي بين معسكرين غربي وشرقي قد أدّى إلى تضاؤل نشاط السوق الدولي وإلى الفصل «المادي» بين المجموع الأوروبي ـ الأطلسي عن أمم المنطقة الآسيوية المجاورة للمحيط الهادئ.


        ومع دخول الصين تدريجيا في السوق اعتبارا من سنوات الثمانينات ثم التفكك المفاجئ للإمبراطورية السوفييتية عام 1989 وجد العالم نفسه في وضع يشابه من وجوه شتى فترة ما قبل الحروب والثورات والقطيعات التي افتتحتها الحرب العالمية الأولى عام 1914. لكن العودة إلى مثل تلك الفترة لا تكفي من أجل تأكيد أن «العالم منبسط». مع ذلك كان التحوّل كبيرا بعد «فترة توقف» استمرت ثلاثة أرباع قرن كامل.


        غدت الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة في العالم مع نهاية الحرب الباردة. لكن «فقدان» الخصم السوفييتي جعلها أيضا تفقد قوة جذب الشركاء لمواجهة خصم قائم في المواجهة.


        ثم إن كون الولايات المتحدة قوة عظمى وحيدة في العالم يثير رفض، بل ربما حقد، جميع أولئك الذين يريدون لأسباب عديدة زيادة هامش مناورتهم. وهناك دائما خطر انبثاق قوة منافسة يحمل معه احتمال مواجهة، ومثل هذا الأمر يندرج اعتبارا من عام 2002 في إستراتيجية الأمن القومي الأميركي. أما القوة المنافسة الكامنة الأكثر جلاء فإنها تتمثل في الصين.


        وبغضّ النظر عن العواقب الوخيمة جدا لفشلها في العراق فإن الولايات المتحدة فقدت جزءاً من قدرتها السابقة على صياغة العلاقات الدولية. ذلك أن تعاظم قوتها عندما انهار الاتحاد السوفييتي قابله في الواقع فقدان بعض سلطتها الحقيقية.


        ومع نهاية الحرب الباردة أيضاً تقلّص الالتزام الأميركي بالقارّة الأوروبية. وغدت نوعية الروابط القائمة بين جانبي الأطلسي تتعلق بمدى اتفاقهما، أو عدم اتفاقهما، حيال مشكلات أطراف أخرى متواجدة خاصة في العالم الإسلامي أو في آسيا. وتمثّل التوجه الأميركي الجديد بقول دونالد رامسفيلد أن «المهمّات هي التي تحدد التحالفات».


        وتتم الإشارة هنا إلى أن نهاية الأسباب الموجبة لقيام شبكات تحالفات كبرى حول الولايات المتحدة الأميركية لا تعود فقط إلى زوال الإمبراطورية السوفييتية وإنما انتفت تلك الأسباب أيضا بسبب غياب مصدر تهديد آخر تقوم على أساسه «هيكلة» العلاقات الدولية. أراد الأميركيون تقديم التهديد الذي مثلته «القاعدة» إثر تفجيرات 11 سبتمبر 2001 على أنه مصدر تهديد «بديل» للتهديد الشيوعي «السابق» ورفعوا شعار «الحرب العالمية ضد الإرهاب».


        لكن الشركاء وحتى «الأكثر إخلاصا» لأميركا لم يتبنّوا مثل هذا المفهوم الذي لم يلعب دورا مركزيا في «هيكلة» العلاقات الدولية. وغدت من أهم ميزات عالم اليوم أن الأزمات تتوالى، لكنها «لا تتشابه».


        ويلاحظ المؤلف بروز مسائل قديمة «إنما يتم النظر إليها وكأنها جديدة» على مقدمة المسرح الدولي. هذه المسائل كان قد تمّ حجبها برهانات النزاع بين الغرب والشرق الذي استحوذ على انتباه جميع الأمم والدول. ويذكر المؤلف في رأس قائمة المسائل القديمة ـ الجديدة صعود النزعات الدينية القتالية، الإسلامية وغير الإسلامية، والمسائل المتعلقة بانتشار الأسلحة النووية، ومسائل الوصول إلى مصادر الطاقة.


        الديمقراطية الليبرالية


        اعتبر المحافظون الجدد عملية الجمع بين الديمقراطية السياسية والليبرالية الاقتصادية عاملا محددا لمنظومة الأمن الدولي. هذا ما عبّر عنه بوضوح، على الصعيد السياسي، خطاب الرئيس جورج دبليو بوش عندما افتتح فترته الرئاسية الثانية بتاريخ 20 يناير 2005. لقد اعتبر أن تحقيق السلام والأمن والازدهار في العالم يتلازم مع تعميم الديمقراطية التي ينبغي أن يكون دعمها، حسب رأيه، المبدأ المؤسس للسياسة الخارجية وللأمن الأميركي.


        هكذا إذن ومن أجل «تشجيع الديمقراطية» جرى غزو العراق، كما يشير المؤلف ليضيف أن مؤيدي مثل هذا الطرح لم يكونوا بين صفوف الجمهوريين الأميركيين من المحافظين الجدد خاصة، وإنما كانوا أيضا بين صفوف المثقفين الديمقراطيين.


        هنا يتم التأكيد على أن تبنّي مثل هذه «النزعة النضالية الديمقراطية» كمبدأ أساسي في سياسة واشنطن يحمل خطر المواجهة مع منافس قوي مثل الصين التي لا تبدو أنها من «هواة» الديمقراطية ولن تسمح لأحد، كما يبدو، أن يفرضها عليها من الخارج. من هنا أيضا يتأتّى خطر مقولة «الغرب في مواجهة بقية العالم» التي تمّت صياغتها خلال سنوات التسعينات المنصرمة.


        ويرى المؤلف أن الاتحاد الأوروبي قد انضوى، ولو بطريقة أقل فظاظة وأكثر مرونة، في منظور مشابه كما تبيّن الوثيقة التي تبنّاها عام 2003 (شهر ديسمبر) تحت عنوان: «أوروبا أكثر أمنا في عالم أفضل، استراتيجية أوروبية للأمن». الفرق المهم مع المشروع الأميركي ل«نشر الديمقراطية» هو أن الأوروبيين يريدون دفعها إلى الأمام عبر توسيع إطار الاتحاد الأوروبي والشراكات مع دول أخرى والإقناع بينما يتصرف المحافظون الجدد وحدهم دون استشارة أحد بل ويميلون أحياناً إلى إرسال جنود المارينز لدعم مشاريعهم «الديمقراطية».


        ويلاحظ المؤلف أولاً أن الديمقراطية السياسية، ومهما كانت نواقصها، انتشرت في العالم أكثر فأكثر منذ نهاية الحرب الباردة. ودون الدخول في معارك الأرقام ومسائل التعريفات لا شك أن أغلبية بلدان حلف وارسو «السابق» قد أصبحت بسوادها الأعظم ديمقراطيات ليبرالية إلى هذه الدرجة أو تلك. وحلّت أنظمة «ديمقراطية» قامت على الانتخاب مكان الدكتاتوريات العسكرية التي سادت لفترة طويلة في عدد مهم من بلدان أميركا اللاتينية.


        ويفتح المؤلف هنا قوسين ليشير إلى أنه «ما زال يوجد بالتأكيد في إفريقيا والشرق الأوسط عدد كبير من الدول التي تتأرجح بين الفوضى والدكتاتورية». كما لا تزال هناك شكوك حول مدى تطور «دولة القانون واحترام الحريات» في روسيا، ولا تزال الصين خاضعة لحكم الحزب الواحد، ولا يزال الاستبداد هو السمة السائدة في كوريا الشمالية.


        بكل الحالات هناك بون شاسع بين الواقع «الديمقراطي» اليوم وما كانت عليه الأمور قبل ربع قرن فقط حيث لم يكن وصف «ديمقراطي» ينطبق سوى على عدد قليل من الدول والتي كانت تتواجد بمعظمها في أوروبا الغربية وفي «المحيط الانجليزي»، بالإضافة إلى حفنة من الدول والتي كانت تشكل استثناء في محيطها مثل الهند واليابان.


        كانت النتائج الأولى لتعميم الديمقراطية مشجعة للوهلة الأولى بالنسبة للأطروحات الأميركية الخاصة بدعم مثل هذا المسار على صعيد العالم كله. لكن المؤلف يشير هنا إلى أن الديمقراطيات قد تكون هي أيضا وراء نشوب الحروب. ويذكر كأمثلة على ذلك الولايات المتحدة وإسرائيل والهند وفرنسا وبريطانيا التي قادت كلها خلال الستين سنة الأخيرة عمليات عسكرية كبيرة.


        وقد فعلت كلها ذلك أكثر من الصين على سبيل المثال. لكن ما يتم التأكيد عليه أيضا هو أن الديمقراطيات لا تتحارب فيما بينها، ذلك أن وجود دولة قانون وديمقراطية ليبرالية لا يتماشى مع اللجوء إلى القوة ضد دولة أخرى تتسم بنفس الصفات.


        ولا تضم قائمة الحروب التي دارت بين 1918 و2005 أي نزاع بين بلدان ديمقراطية. هذا يعني أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مطلوب منهما أن ينتهجا «منطقيا» سياسة خارجية وأمنية تقوم على تشجيع الديمقراطية ولكن بعيدا عن استخدام القوة من أجل ذلك. ويُفترض منهما «منطقيا» أيضا. تحمّل النتائج المترتبة على ذلك بما في ذلك خلق حالة من التوتر مع الصين، لكن ما يعرفه الواقع ليس متماشيا مع ذلك المنطق.


        الشرخ التاريخي


        من جهة أخرى يرى المؤلف أنه ليس هناك ما يضمن مستقبلا أن تنتهج الصين «إذا تحوّلت إلى الديمقراطية»، سياسة خارجية أقل عدائية ونزوعا للحرب مما تنتهجه القيادة الشيوعية الحالية. بهذا المعنى لا تكفي الديمقراطية وحدها من أجل نزع كل أشكال التوتر من العلاقات الدولية، هذا إذا لم تتأكد إرادة «الانتهاء» من الآلام التي عرفتها مسيرة التاريخ وأيضا وضع حد نهائي للخلافات الموروثة من الماضي.


        مثل هذه الإرادة لا تزال غائبة، حسب التحليلات المقدمة من مناطق مثل الشرق الأوسط وشرق آسيا، ويقصد المؤلف خاصة في هذه المنطقة الأخيرة الشرخ «التاريخي» العميق بين الصين واليابان. وينقل المؤلف في هذا السياق كلمة قالها ذات يوم ونستون تشرشل عندما كان عضوا شابا في البرلمان ببدايات القرن العشرين، وجاء فيها: «إن حروب الشعوب سوف تكون رهيبة أكثر من حروب الملوك».


        ولا يتردد المؤلف في هذا السياق بالتأكيد على خطأ المبدأ القائل باستخدام القوة من أجل نشر الديمقراطية، وجعل هذا المبدأ المحرك الأساسي للسياسة الخارجية والأمنية للدول، وهو يشير إلى بداية نقاش حقيقي داخل الولايات المتحدة نفسها حول هذا المبدأ وربما قد يؤدي، حسب رأيه، إلى الانتقال تدريجيا من سياسة «الدعم النضالي» لنشر الديمقراطية على الطريقة «العراقية» إلى طريقة سياسية أكثر.


        ويتم تحديد الغرب المقصود ك«موطن للديمقراطية» بالولايات المتحدة وشركائها في أوروبا وآسيا ـ المحيط الهادئ. وهم شركاء مرتبطون عامة مع واشنطن باتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف للأمن والدفاع. ويضاف إلى هذه البلدان إسرائيل.


        وقد يحاول هذا الغرب بعد أجل «هيكلة» المنظومة الدولية بحيث يتم توسيع الشراكات المندرجة في إطار الحلف الأطلسي إلى بلدان أخرى وخاصة في منطقة آسيا ـ المحيط الهادئ والشرق الأوسط وحيث ستجد هذه البلدان نفسها وكأنها تشكّل «نوعا من الملحق العالمي للحلف الأطلسي».


        لكن مثل هذا التوجه قد يولّد مشاكل إستراتيجية وعملية كبيرة، وليس أقل المشاكل الإستراتيجية خطر الاستقطاب «الغربي» حيال الصين التي تعتريها بدورها مخاوف من محاصرتها أميركياً. هذا لاسيما وأن أميركا موجودة أصلا في شرق آسيا ومرتبطة باتفاقات مع العديد من بلدان جنوب آسيا وحليفة لليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وأستراليا. وفي المحصلة لابد أن خلق «حلف أطلسي مكرر» سيثير، على الأقل، قلق الصين.


        وفي مقدمة المشاكل «العملية» التي قد يواجهها مثل هذا المنظور انضواء حلفاء واشنطن تحت رايتها. والغرب الأوروبي ممثّلا في عدد من بلدانه الرئيسية، ليس أقلّها شأنا فرنسا وألمانيا، لم يؤيد المغامرة العراقية التي قامت بها الولايات المتحدة الأميركية. وكان وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد قد تحدث عن «أوروبا القديمة» و«أوروبا الجديدة» أثناء الأزمة العراقية والتحضير للحرب الأميركية ـ الانجليزية.


        تحديات كونية


        مع نهاية الحرب الباردة وتثبيت أركان العولمة قفزت التحديات الكونية إلى مقدمة الاهتمام الدولي. وصفة «الكونية» يبررها كون التحديات المقصودة ذات بعد عالمي مثل «تسخين المناخ» أو أنها تخص مخاطر محلية وإنما أصبحت ب«فعل العولمة» ذات بعد شامل مثل الأوبئة. لكن هناك مشاكل خطيرة جدا أحيانا لكنها تبقى مرتبطة بمنطقة إقليمية بذاتها مثل الانحسار الاقتصادي المستدام في إفريقيا جنوب الصحراء.


        وبالتوازي مع تعاظم التحديات يرتسم في الأفق أيضا تنامي نفوذ بعض القوى على الصعيد العالمي والتي كان دورها بنفس الوقت سببا للعولمة ونتيجة لها. لقد أدّى الجمع بين التحديات وتزايد القوى ذات النفوذ إلى فرض واجبات مشتركة أمام المنظومة الدولية بالإضافة إلى ما كان مطروحا في ظل الحرب الباردة مثل انتشار أسلحة الدمار الشامل والوصول إلى مصادر الطاقة.


        وتتم الإشارة في هذا السياق إلى أن ميدان أسلحة الدمار الشامل لا يزال «غائم الحدود». فخلال الثلاثين سنة الأولى من «العصر الذرّي» كان هناك عدد قليل من الدول التي تمتلك السلاح النووي من بينها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا والصين وإسرائيل والهند، هذا إلى جانب دول أخرى كانت قد التزمت جديا بالبحث عن امتلاكه يعدّ المؤلف بينها السويد وجنوب إفريقيا والعراق والبرازيل وباكستان.


        أما السنوات الثلاثين التالية لبداية عقد السبعينات فقد شهدت امتلاك الهند للسلاح النووي عام 1974 ثم باكستان قبل عام 1998 وتضاف لهما كوريا الشمالية بينما تخلّت جنوب إفريقيا عن مساعيها لامتلاكه وتخلّت كل من ليبيا والأرجنتين والبرازيل والعراق عن برامجها النووية. هذا يعني أن السياسة الرامية إلى وقف الانتشار النووي كانت، رغم ما يقال عكس ذلك، تمثل نجاحا ملموسا خلال العقود الثلاثة الأخيرة. بل ويعمم المؤلف نفس الملاحظة بالنسبة للأسلحة البيولوجية الكيماوية.


        يعتبر المؤلف، ضمن هذا الإطار، أن الملف النووي الإيراني وما يثار حوله من نقاشات يشكل، بصيغة ما، عودة إلى المنطق الذي كان سائدا في سنوات الخمسينات والستينات التي تلت الحرب العالمية الثانية. هذا يعني العودة إلى احتمال تزايد عدد الدول المالكة للسلاح النووي حيث إن أكثر من 50 بلداً مزودة الآن بمراكز «مدنية» للبحث في هذا الميدان.


        ومن بين المناطق المرشحة أكثر من غيرها للعمل من أجل امتلاك السلاح الفتاك تحدد التحليلات المقدّمة كل من الشرق الأوسط وشرق آسيا. المنطقة الأولى هي ذات أهمية كبيرة على صعيد الطاقة كما أنها مسرح أزمات وشقاقات هامة بينما أصبحت المنطقة الثانية «القاطرة الرئيسية» للنمو الاقتصادي العالمي.


        يؤكد المؤلف أن منظومة عالمية يمتلك فيها العشرات من البلدان السلاح النووي ستكون مختلفة وبالقطع أكثر خطورة من عالم لا يزال يعرف، إلى هذه الدرجة أو تلك، نظاما مطبّقا لمنع انتشار هذا السلاح.


        ومن السمات التي يركّز عليها المؤلف في هذا «العالم المزدحم» تعاظم انتقال البشر. ففي عام 2006 وحده استقلّ 2 مليار شخص وسائل النقل الجوي أي ما يقارب ثلث سكان المعمورة. وإذا كان مثل هذا الواقع يؤكد على أحد مظاهر العولمة وأن الأرض قد أصبحت «قرية كونية» فإنه يساعد من جانب آخر على الانتشار السريع للأوبئة والأمراض. وما يتم تأكيده هو أن النمط من المخاطر سوف يزداد ويتسع.


        بصورة عامة لا يستدعي مجمل التحديات «الجديدة» المطروحة إجابة وحيدة ولو أنه يتطلب جهود الجميع وبصورة منظّمة. بكل الحالات تبقى الدولة عنصرا أساسيا في آلية عمل منظومة العالم القائمة على اعتبار أنها الكيان الجماعي الوحيد الذي يتمتع بصلاحيات كبيرة وبشرعية داخل مجال عملياتها.


        ويتم التأكيد هنا على أن وجود دولة، أية دولة هو أفضل من غيابها الذي يعني حالة من الفوضى. لكنه محكوم على الدولة أن تتعاون في إطار العولمة مع الدول الأخرى من أجل مواجهة التحديات الكونية المطروحة على الجميع.


        كذلك سيتعين على الدول أن تتعلم كيف تنسّق آليات عملها مع قوى فاعلة غير حكومية، وذلك مثلا من أجل الوصول إلى مكافحة فعالة للإرهاب ولسخونة المناخ والتصدي للأوبئة، وذلك داخل حدود الدول وربما عبر حدود مجموعة منها. ويتم التأكيد هنا على أن أحد مقاييس نجاح الدول مستقبلا،.


        وبالتالي مقاييس شرعيتها، سيكون مدى قدرتها على أن تخدم كمحرك من أجل تشكيل «ائتلاف» ملائم لمواجهة هذا التحدي أو ذاك. ويؤكد المؤلف هنا أن الشعور المبرر بتضاؤل سلطة الولايات المتحدة يتأتى بجزء كبير منه، من فشلها في لعب دور تجميع الحلفاء والشركاء.


        ثم إن الدولة، ومهما كانت ايديولوجيتها السائدة أو شكل تنظيمها، قابلة للتوصيف ولتحديد هويتها بسهولة. هذا على عكس الهيئات والمنظمات غير الحكومية. إن بعض هذه المنظمات غير الحكومية أصبحت قوى فاعلة من الدرجة الأولى على المسرح الدولي في ميدان اهتمامها. الأمثلة على هذا كثيرة وليس أقلها شأنا منظمة «أطباء بلا حدود» و«السلام الأخضر ـ غرين بيس» ومنظمة «هيومان رايتس واتش» الدولية لحقوق الإنسان...


        هذه المنظمات أثبتت كفاءتها العالية في التعبئة وقد نجحت، في حالات كثيرة، بجعل حكومات أو شركات دولية تتراجع عن مواقف كانت قد اتخذتها. وكانت إحداها المهتمة بالنضال ضد الألغام الفردية قد ساهمت إلى درجة كبيرة بجعل 154 بلدا في العلم توقع معاهدة لمنع إنتاج وامتلاك مثل هذه المتفجرات. المنظمة المعنية فازت بجائزة نوبل للسلام عام 1997. لكن بكل الحالات قد لا تتمكن المنظمات غير الحكومية من الذهاب بعيدا، إذا لا يكفي طرح المشاكل من أجل حلّها.


        احتكار العنف


        ويرى المؤلف أن العنف «غير الحكومي» يتطور هو الآخر حسب منطق مشابه لتطور المنظمات غير الحكومية. لقد كانت مهمة الدولة على مدى آلاف السنين هي ضمان أمن مواطنيها، ولو أن دولا عديدة كانت، في الواقع، هي مصدر غياب الأمن. وقد كانت الدولة باستمرار هي التي «تحتكر» الممارسة المشروعة للعنف، وكانت هي صاحبة الأمر حتى في الفترات التي كان اللجوء فيها إلى المرتزقة هو القاعدة وليس الاستثناء.


        لكن عصر العولمة شهد تطور العنف «غير الحكومي». ويعدّ المؤلف من مظاهر هذا التطور الإرهاب والعصابات المسلّحة التي تعيث فسادا في بعض الدول، لاسيما في إفريقيا.


        وإذا لم يكن العنف «خارج الدول» و«ضد الدول» جديدا إذ عرفت العصور الوسطى الأوروبية «حملات كبيرة» منه، فإن الجديد في عنف اليوم أنه لا يتأتى فقط من ضعف الدول وإنما أيضا من تطور الإمكانيات التقنية والعملياتية التي يمكن للمجموعات «مصدر العنف» امتلاكها. في المحصلة أدى توزع السلطة بين مراكز كثيرة نشيطة منها ما هو دولة وما هو «غير دولة» إلى خلق «عالم مزدحم» لا سيد فيه يأمر... فيطاع.


        عرض ومناقشة: محمد مخلوف

        تعليق

        • محمد زعل السلوم
          عضو منتسب
          • Oct 2009
          • 746

          #5
          كتاب - ازدحام العالم - الحلقة(5)
          زوال الإمبراطوريات مهد الطريق لصياغة قواعد كونية مشتركة
          تأليف :فرانسوا هايسبورغ



          يتناول المؤلف في هذه الحلقة طبيعة التحديات التي تواجه الأمم المتحدة وعلى رأسها إصلاح نظام المنظمة نفسها، حيث إنه يقوم على أسس وضعت بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية في ظروف تختلف تماماً عن الظروف الدولية الراهنة، وبالتالي بات من الضروري تعديله لكي يكون أكثر عدلاً وإنصافاً.




          فهناك دول عديدة تعترض على صيغة الصوت الواحد للبلد الواحد نظراً للتفاوت الكبير في حجم الدول الأعضاء في المنظمة الدولية، وهناك من يعترض على حصر حق النقض «الفيتو» بالدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، ويطالب بتوسيع عضوية المجلس لتضم دولاً أخرى ذات تأثير ونفوذ عالمي كبير. ويشير المؤلف إلى أنه وعلى الرغم من الجهود التي بذلت من أجل إصلاح الأمم المتحدة، إلا أنها جميعاً باءت بالفشل بسبب تضارب المصالح واختلاف الرؤى بين الدول الأعضاء. تتمتع الدول في العالم المعاصر بمساواة شكلية شبه كاملة وتخضع لنفس قواعد اللعبة تقريبا.




          كن هذا التعايش بين دول متساوية من حيث الشكل وتجسيد سلطة سياسية داخل حدودها يقابله «تنافر» كبير على مستوى الواقع. إن الدول «ذات السيادة» يقطنها 7. 99 في المئة من مجموع سكان المعمورة، ولا «ينجو» من هذه السيادة سوى حوالي 20 مليون نسمة يسكنون جزيرة تايوان التي تمثل واقعيا «دولة» لكنها لا تحظى باعتراف سوى حفنة قليلة من الدول. هذا بالإضافة إلى بعض المناطق الصغيرة من «بقايا» الإمبراطوريات والتي يخضع سكانها لسيادة أميركية (جوام وساموا) أو بريطانية (جبل طارق وبرمودا) أو أنها تغدو بمثابة مقاطعات بعيدة مرتبطة بالوطن الأم مثل علاقة «جزر نيو وتوكولا وكوك) مع نيوزلندا أو علاقة «كاليدونيا الجديدة» مع فرنسا.




          وتتم الإشارة في هذا السياق إلى المساحات الواسعة في القارة المتجمدة الجنوبية «انتاركتيكا» التي تبلغ مساحتها حوالي 14 مليون كيلومتر مربع، أي ما يعادل 10 بالمئة من مساحات اليابسة البارزة من المياه. هذه الأراضي الشاسعة خاضعة لمعاهدات خاصة «تجمّد» تماما المكانة القانونية لهذه القارّة غير المأهولة بصورة مستمرّة. ويشير المؤلف إلى أن هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يغدو فيها السواد الأعظم من البشر محكومين، نظريا على الأقل، من قبل مجموعة متشابهة، إلى هذا الحد أو ذاك، من القواعد تعود إلى القرن السابع عشر وتتمثل صيغتها الأساسية اليوم في ميثاق الأمم المتحدة الساري المفعول اعتبارا من عام 1945.


          ويتم التأكيد هنا على أن الانتصار الكوني «يونيفرسال» للقواعد المطبقة اليوم يتوافق مع نهاية الحرب الباردة، وذلك مع نهاية الإمبراطورية البرتغالية (استقلال انغولا وموزمبيق وغينيا بيساو وجزر الرأس الأخضر وساوتومي) بل ومع فترة أقرب عند استقلال ناميبيا عام 1989 التي كانت تخضع لاحتلال جنوب إفريقيا.


          وتزامن الأخذ بمجموعة من القواعد على الصعيد الكوني مع ظاهرة من طبيعة أخرى يحددها المؤلف بزوال الإمبراطوريات متعددة القوميات أو الأشكال «المصغرة» عنها. هكذا انتهت الإمبراطوريتان النمساوية-المجرية والعثمانية عند نهاية الحرب العالمية الأولى 1914-1918. ثم عرفت هذه الحركة ذروتها مع تفكك الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا الاتحادية حيث تولّد عن ذلك قيام 21 دولة ذات سيادة وعدة كيانات لم يتم حتى الآن تحديد مكانتها القانونية ( مثل كوسوفو وأبخازيا).


          لكن بالمقابل استمرّت عدة مجاميع متعددة القوميات بالوجود مثل الصين وروسيا ما بعد السوفييتية أو أخرى أكثر تواضعا كبلجيكا والبوسنة والهرسك. هنا تتم الإشارة إلى أن الأغلبية الساحقة من سكان الصين هم من شعب ال«هان» وأكثر من 80 بالمئة من سكان روسيا الاتحادية هم من القومية الروسية.


          ويركّز مؤلف الكتاب على القول إن زوال الإمبراطوريات متعددة القوميات في أوروبا والشرق الأوسط لا يعني وجود ميل إلى زوال الكيانات ذات المساحات الكبيرة. ذلك أن «بلدانا كبرى» من حيث مساحتها أو عدد سكانها استطاعت، عبر وجود مؤسسات ملائمة، البقاء والازدهار. وتعتبر الهند والولايات المتحدة والبرازيل وكندا واندونيسيا واستراليا، والصين بشكل خاص، شواهد بليغة على ذلك.


          شكّل الانتماء إلى منظمة الأمم المتحدة أحد سمات «الكونية» الحديثة، لكن هذا لم يمنع واقع أن بلدا مثل سويسرا قد مارس سيادته القانونية والفعلية دون أن يكون عضوا في الأمم المتحدة حتى عام 2002. لكن منذئذ أصبحت السيادة القانونية والانتماء إلى المنظمة الدولية شبه مترادفين. «دولة» الفاتيكان وحدها لا تزال خارج هذه المنظّمة التي غدت بمثابة برلمان العالم أو بدقة أكبر برلمان دول العالم. هذه الدول تمتلك، كل منها، صوتا مهما كانت صغيرة كأمارة موناكو أو مهما كبرت كالولايات المتحدة الأميركية.


          يبقى القول إن سلطات كل أمة أو كل دولة مرتبطة بمدى قوتها. ولا شك إذن أن سلطات الولايات المتحدة أكبر بكثير من سلطات موناكو. مع ذلك تبقى نقطة الانطلاق هي التأكيد على سيادة كل دولة. وللمرة الأولى في التاريخ تخضع المساواة الشكلية لجميع الدول إلى معين مشترك من القواعد القانونية والسياسية مع تنافر كبير في الأوضاع وفي امتلاك أدوات السلطة والنفوذ. ثم إن طبيعة أشكال اللا مساواة الحديثة بين الدول لا بد وأن تكون لها آثارها على ما يمكن انتظاره من «الحكومة العالمية» وعلى مفهوم «دولة واحدة، صوت واحد».


          إن أكثر من نصف ال192 دولة التي تتألف منها منظمة الأمم المتحدة يقل عدد السكان في كل منها عن 10 ملايين نسمة. وهناك 39 دولة لا يبلغ عدد سكان أي منها مليون نسمة. كما أن خمس الدول الأعضاء لا يصل مجموع عدد سكانها إلى عدد سكان بلد أوروبي صغير مثل بلجيكا. بالمقابل هناك عشرة بلدان (الصين، الهند، الولايات المتحدة، أندونيسيا، البرازيل، روسيا، باكستان، بنغلاديش، نيجيريا، اليابان) يسكنها 8. 3 مليارات نسمة تقريبا أي ما يمثل حوالي 60 بالمئة من مجموع عدد سكان العالم.


          البعد الديموغرافي


          هنا يفتح المؤلف قوسين كي يشير إلى أن البعد الديموغرافي ـ عدد السكان ـ لا يشكّل بالطبع العامل الحاسم الوحيد ولا الرئيسي دائما لقوة أمة ولمدى نفوذها. العامل العددي له وزنه في حالة اعتماد مبدأ الاقتراع العام. لكن هذا لا يمنع واقع أنه من الصعب تصوّر أن يغدو عمل الجمعية العامة للأمم المتحدة «أكثر ديمقراطية» إذا أصبح أغلبية أعضائه من الدول الديمقراطية مع تطبيق مبدأ «دولة واحدة، صوت واحد».


          إذ أن «وزن الدول» هو الذي يحدد أكثر مدى «سلطة» الجمعية العامة ومدى فاعليتها وليس بالأحرى عددها. بالطبع ينبغي «عدم خلط» هذه الحقيقة، كما يقول المؤلف، مع أطروحات المحافظين الجدد التي ترفض أصلا أية سلطة للجمعية الأممية بحجة أن عددا من أعضائها لا يشكل دولا جديرة بهذه العضوية مثل زيمبابوي وميانمار.


          يمتلك العالم اليوم بفضل منظومة الأمم المتحدة شكلا أوليا من «حكومة دولية» تعتمد قانونيا على مكتسبات القانون الدولي المتكدّسة خلال القرون الأخيرة المنصرمة. واليوم في عصر العولمة، وبمواجهة «عالم مزدحم» لم يعد ينتظم بسهولة حول مراكز قوة مثّلتها سابقا هيمنة، جزئية على الأقل، مارستها عدة دول، يغدو التساؤل الأساسي هو معرفة ما إذا كانت منظمة الأمم المتحدة وكل ما يرتبط بها يمكن أن يخدم ك«اسمنت» لضمان صلابة منظومة العالم.


          الإجابة الإيجابية عن مثل هذا التساؤل قدّمها الأوروبيون عندما تحدّثوا عن «تعددية أطراف فاعلة» تجمع بين منظمة أمم متحدة جرى تفعيلها ومجموعة من قواعد السلوك الدولي المطبّق على الجميع. مثل هذه المقولة تلتقي حولها جميع الدول الأوروبية.


          لكن للأسف، كما يقول المؤلف، لا تزال إمكانيات تطوير الأمم المتحدة كي تغدو إطارا معززا محدودة. ولا شك أن المنظمة الدولية كانت في السياق الذي تأسست فيه بعد الحرب العالمية الثانية تقدما ثوريا. لكن غياب مثل هذا السياق، وما رافقه من ظروف، يجعل من الصعب الذهاب إلى أبعد من مكتسبات 1945، أي عند تأسيسها وتزويدها عندئذ بمجلس الأمن -الأداة التنفيذية- والجمعية العامة- الأداة التشريعية.


          الاتفاق على مبدأ الإصلاح


          ما يتم التأكيد عليه في هذا الإطار هو أن المجموعة الدولية تتفق نظريا اليوم على ضرورة إصلاح مجلس الأمن الذي يضم اليوم خمسة أعضاء (دول) دائمين (الصين والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وروسيا) وعشرة أعضاء بالتناوب يمثلون مناطق العالم الكبرى لمدة عامين.


          الأعضاء الدائمون هم وحدهم الذين يملكون حق «تعطيل» تبنّي قرار دولي وبحيث جرى اختيارهم على أساس الوضع الذي كان سائداً في العالم عام 1945، عالم المنتصرين آنذاك وليس العالم كما هو اليوم، إذ أن دولا هامة مثل اليابان والهند والبرازيل وألمانيا لا تزال «خارج اللعبة».


          ثم إن وجود أكثر من 190 دولة ـ عضو في الأمم المتحدة يجعل فترة انتظار الأعضاء «المتناوبين» في مجلس الأمن طويلة جدا، إذ ينبغي الانتظار «حسابيا» أكثر من 37 سنة «للظفر» بتلك العضوية.


          إن التمتع ب«حق النقض» ـ الفيتو ـ يتم تقديمه على أنه «غير ديمقراطي» بجوهره، إذ أنه يعني بكل بساطة أن بعض الدول لها مكانة أكبر من الدول الأخرى. أي أن هذه الصيغة الموروثة من الحرب العالمية الثانية هي «ذات طبيعة ارستقراطية» في مبدئها ولم تصبح ممكنة إلا بفضل الظروف الخاصة لعام 1945.


          وكانت عملية «إصلاح» مجلس الأمن التي شجّع عليها الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان قد فشلت عشية «قمة القمم» عام 2005 التي جمعت رؤساء الدول والحكومات في نيويورك، والتي لم تتوصل إلى أية نتيجة فيما يخص مجلس الأمن.


          ذلك أن البعض بالغوا في مطالبهم (طلب الأفارقة تمثيلهم بعدد هام من الدول) ورفض البعض الآخر(كرفض الصين بحث مطالب اليابان ورفض إيطاليا طموحات ألمانيا) وتمنّى آخرون بقاء الأمور على ما هي عليه (فرنسا وانجلترا خاصة). وكانت المحصّلة هي تعطيل أي إصلاح لمجلس الأمن الدولي.


          بكل الحالات وفيما يتعلق بمنظمة الأمم المتحدة وبمجلس أمنها وأيضا بالمنظمات ذات الطابع الدولي مثل منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وأيضا المنظمات الإقليمية، يصل المؤلف إلى القول أن منظومة العالم التي ترتسم ملامحها لن تعرف مؤسسات دولية ديمقراطية بالمعنى الذي تتواجد فيه هذه المؤسسات داخل الدول.


          أما المنظمات الأممية الأكثر فعالية فسوف تكون هي التي تتمتع بأكبر قدر من الشرعية البيروقراطية. في حين أن المنظمات الإقليمية فستكون بجوهرها تعبيرا عن إرادة التعاون بين الدول، باستثناء الاتحاد الأوروبي الذي يحاول تكوين مجال «موحّد» أمنيا واقتصاديا وربما سياسيا.


          والمنظمات غير الحكومية سوف يتعزز دورها لكن شرعيتها لن تكون ذات جوهر ديمقراطي إذ لن تسود فيها اللعبة الانتخابية. بل سوف تكتسب مصداقيتها من خلال قيامها بالمهمات التي تحددها لنفسها.


          الإمبراطورية المعيارية


          باختصار سوف يقوم عالم لا سيد فيه. ولكن لا يمكن لأي عالم أن يعمل دون قواعد مشتركة. هنا يقدم المؤلف مفهوم «الإمبراطورية المعيارية». لكن الشروط التي سيتم فيها صياغة «المعايير» ستكون ذات أهمية أساسية، ولا تقل عن أهمية مضمونها ذاته.


          ينبغي على الدول من الآن فصاعدا القيام بمهمتين جديدتين بالإضافة إلى مهامها التقليدية. فمن جهة عليها التزود بقدرة مواجهة التحديات التي تتجاوز كل الحدود، ومن جهة أخرى غدا من الضروري إعداد قواعد على الصعيد العالمي تؤمن استمرار التنمية الاقتصادية في عالم يزداد اكتظاظا بالسكان بينما تبقى موارده محدودة.


          ويرى المؤلف أنه يمكن تلخيص مجمل المهمّات المطروحة على الدول بتعبير «التنمية المستدامة»، لكن شريطة عدم فهم ذلك أنه يعني فقط ميدان البيئة أو الجهود التنموية الموجهة نحو البلدان الأكثر فقرا.


          المطلوب هو الجمع بين الصعيدين الاقتصادي والبيئي، إذ لن يكون ممكنا الوصول إلى أية «تنمية مستدامة» إذا لم تتم السيطرة على التحديات الكونية المطروحة. لكن ينبغي في الوقت نفسه عدم الخلط بين الصعيدين إذ أن إدارة مشاكل الانتشار النووي مثلا ليس بالتأكيد من نفس طبيعة تشغيل المنظومة التجارية والمالية الدولية.


          مع ذلك قد يكون من الممكن السعي لتحقيق المهمتين الكبيرتين في ظل وجود نظام دولي يعتمد على هيمنة قوة واحدة، أو ربما على صراع مستمر بين قوتين مهيمنتين ومتنافستين وإنما تتمتعان بقدر كبير من الاستقرار. إن تحقيق مثل هذا الهدف المزدوج هو في غاية الصعوبة، إذ أنه يفترض أيضا وجود سلطة مستنيرة على رأس القوى المهيمنة، كما يفترض إخلاصا كاملا من جميع الشركاء.


          ويشير المؤلف هنا إلى أن الهيمنة الأميركية لم تمتلك قدرة لعب مثل هذا الدور في مواجهة العالم. هذا مع التأكيد بنفس الوقت أن وجود أميركا تقبل العمل مع شركائها «دون أية نزعة تبشيرية» ليست مرغوبة فقط وإنما لا بد منها من أجل القيام بالمهمات الكبرى المطروحة على عالم اليوم. إنه شرط ضروري ولكنه ربما لن يكون كافيا وحده.


          بالمقابل يتم التأكيد على أن وجود عالم ثنائي الأقطاب أميركي-صيني قد يسهّل إمكانيات بلوغ الأهداف، لكن شريطة أن تقوم العلاقات بين القوتين على خلفية التفاهم وليس العداء. ويرجّح المؤلف إمكانية أن تتأسس علاقات بكين وواشنطن على التفاهم أكثر مما هو على البحث عن المواجهة أو على الرفض المتبادل لتحمّل المسؤوليات في مواجهة التحديات الكونية.


          لكن لا بد من ملاحظة أن ما هو قائم اليوم يدل على أن الولايات المتحدة والصين تنتهجان سياسات لا تسهّل إدارتهما المشتركة للمهمات المطروحة. ولا تقدمان لبقية العالم النموذج الذي يُحتذى به في ميادين الطاقة والبيئة ومنع انتشار الأسلحة النووية.


          لكن، ودون استبعاد إمكانية أن تلعب الولايات المتحدة، مع الصين أو دونها، دورا قياديا يجمع حوله أكبر عدد من الدول، يتم التأكيد على ضرورة أن تنطلق البلدان الأخرى من مبدأ أن إيجاد القواعد التي تسمح بالوصول إلى «التنمية المستدامة» ليس مرهونا بانتظار إشارة الأكثر قوة. ولحسن الحظ تتمثل القواعد المنشودة في جملة من المبادئ وضوابط السلوك وليس إعطاء الامتياز لمبدأ اللجوء إلى القوة.


          يمكن للاتحاد الأوروبي أن يلعب دورا مهما في هذا الإطار إذ يمتلك أكثر من 20 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي ومن حجم التجارة الدولية ويحتل المرتبة الثالثة في العالم من حيث عدد السكان، بعد الصين والهند، وإنما قبل الولايات المتحدة الأميركية.


          وبعد أن ينقل المؤلف عن المحلل «مارك ليونارد» تأكيده أن «الاتحاد الأوروبي سيقود العالم في القرن الحادي والعشرين»، كما جاء أصلا في عنوان كتاب له، يشير إلى القدرة الكبيرة التي أظهرتها مسيرة التوحيد الأوروبية في استيعاب بلدان أوروبا الشرقية والوسطى الأعضاء سابقا في حلف وارسو، وإعادة توحيد ألمانيا واستيعاب دكتاتوريات «عريقة» في الإطار الديمقراطي الذي تبنته بلدان «أوروبا القديمة».


          ويتم التأكيد في النهج نفسه من التحليل أنه إذا لم يقرّ العالم بعد أن الاتحاد الأوروبي يمكن أن يحدد «عبر القبول العام» معايير الحياة الدولية على الصعيد العالمي، فإنه من الواضح أنه قد أصبح «إمبراطورية معيارية» داخل حدوده. وإن سلطته تكمن في قدرته على تحديد قواعد للسلوك يتم قبولها بالتراضي وليس بالقوّة.


          كما إن الاتحاد الأوروبي قد لعب دورا لا يستهان به فيما يخص معايير «اتفاق كيوتو» الخاص بتحديد كميات غاز الفحم الصادرة من المصانع. وأيضا فيما يخص «معاهدة روما» التي قررت إنشاء محكمة جنائية دولية.


          الدرس الذي يتم استخلاصه من قدرة النموذج الأوروبي على إنتاج معايير مقبولة من أكبر عدد من البشر هو تلازم هذه القدرة مع درجة الديمقراطية التي تتسم بها البلدان المعنية. ذلك أن الديمقراطية تقوم على أساس قبول مجموعة بشرية لحرية التعبير عن وجهات النظر والمصالح المختلفة بل وتشجيعها لمثل هذه الحرية التي تجد ترجمتها «سياسيا» بوجود مؤسسات معترف بشرعيتها من قبل الجميع.


          هناك إذن رابطة بين الديمقراطية والمعايير. البرهان على ذلك يقدمه المؤلف بقدرة الولايات المتحدة، القوة الديمقراطية الكبرى، على فرض نفسها ك«منتجة للمعايير» وحتى لو كان ذلك باسم قوة الدولة، خاصة على الصعيد العسكري. كذلك تتم الإشارة إلى أن تاريخ العقود الأخيرة المنصرمة بيّن جيدا أن احترام حقوق الإنسان هو بصدد طرح نفسه كـ«معيار» يجري تطبيقه إلى هذه الدرجة أو تلك.


          بل إن دولة قوية كالصين لا تتجرأ على رفض مبدأ احترام حقوق الإنسان بل ولا ترفض الهدف (البعيد بالتأكيد) المتمثل بتعميم الديمقراطية. بهذا المعنى ترى الدول الأوروبية في تسريع قيام «الإمبراطورية المعيارية» رهانا كبيرا يخدم مصالحها وتطلعاتها.


          من جهة أخرى تفرض التحديات الكونية ومطالب العولمة الجديدة تسريع حركة البحث عن «معايير» ناظمة لسلوكيات العالم. مع ذلك لن تسير عملية «التسريع» هذه دون عقبات مصدرها المنظمات غير الحكومية التي تعاظم دورها في ظل العولمة أيضا. وكان إنتاج «المعايير العالمية» مرتبطا بالدول أساسا وربما كان يكفي أن تلتقي الدول في ندوة دولية وتقرر معايير جديدة.


          هكذا جرى مثلا إيجاد ضوابط لسلوكيات الحرب أثناء القرن العشرين (معاهدة لاهاي ثم معاهدة جنيف). كان وجود دولة مسيطرة قد سهّل ذلك، والمقصود هو الولايات المتحدة الأميركية التي فرضت نفسها كقوة عظمى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.


          ورقة استخدام القوة


          من الواضح أن اللجوء إلى القوة المسلّحة قد تراجع منذ نهاية الحرب الباردة، بل وتراجع حتى بالقياس إلى فترة الحرب الباردة نفسها التي شهدت الحرب الكورية وحروب الهند الصينية والحروب الإسرائيلية ـ العربية وحرب العراق ـ إيران والحروب الهندية ـ الباكستانية والعديد من الحروب الأخرى من بينها حروب التحرر من الاستعمار التي أودت بحياة حوالي 20 مليون شخص ما بين عام 1945 وعام 1990.


          بعد الحرب الباردة أصبحت الحروب التقليدية نادرة. الاستثناءان الكبيران تمثلا في حرب الخليج (1990-1991) والغزو الأميركي للعراق (2003). ويتم التأكيد في هذا السياق على الدور الكبير الذي لعبه العامل النووي «في الواقع العملي» ككابح قوي لأية مواجهة مسلّحة مباشرة بين قوى أو تحالفات مزودة بالقدرات العسكرية النووية.


          وإذا كانت قد قامت توترات شديدة وأحيانا اشتباكات بين الهند وباكستان بعد امتلاكهما للسلاح النووي، وتحديدا في عام 1999 فإنه لم تنشب بينهما حرب بالمعنى الدقيق للكلمة. مع ذلك تحمل متابعة انتشار السلاح النووي خطر إمكانية استخدامه أكثر فأكثر مع كل ما يترتب على ذلك من خراب ودمار. الخطر الآخر الكبير يحدده المؤلف في التهديدات الإرهابية. إن المبدأ الأول الذي يتم التأكيد عليه هو ضرورة تجنّب القيام بعمليات عسكرية طويلة الأمد وكبيرة تقوم بها دولة أجنبية في بلد آخر.


          المثال الصارخ الذي يتم تقديمه هو «المغامرة الفاشلة» التي قامت بها أميركا في العراق، ثم إن الحروب المسماة «ضرب التمردات» التي تقوم بها جيوش أجنبية لا يمكن الفوز بها إلا إذا توفر شرطان. الأول هو وجود فرق كبير في موازين القوى والثاني وجود تواصل جغرافي. ثم كذلك غدت المهمات العسكرية في بلد أجنبي أكثر صعوبة بسبب تعاظم إمكانيات القدرة على مقاومة أي غزو.


          وتتمثل إحدى الخلاصات الأساسية التي يتم التوصل إليها في التحليلات المقدّمة بالقول إن الحروب بين الدول ليست، أو «لم تعد»، فعّالة أمام التحديات الكونية «المعقّدة» التي يفرضها «عالم مزدحم» غدا «أكثر كثافة». الحرب لن تحل مثلا مشكلة سخونة المناخ ولن توقف التهديد الإرهابي الذي «يزدهر» اليوم كاستمرار للأمس. وفي مثل هذا السياق لا يمكن للأطروحة الأميركية عن «الحرب العالمية ضد الإرهاب» أن تكون بمثابة «صيغة حديثة» للحروب الكبرى التي عرفها القرن العشرون والتي كانت حروبا بين دول.


          ويرى مؤلف هذا الكتاب أن المسألة الجوهرية التي سوف تحدد بدرجة كبيرة منظور قيام عالم «متعاون» ويتآلف فيه «اللجوء إلى القوة» مع «تبنّي معايير ملزمة للجميع» إنما هي مسألة الحد من انتشار الأسلحة النووية. من هنا تبرز أهمية الكيفية التي سيتم بها معالجة الملف النووي الإيراني.


          ونقرأ في محصلة التحليل الذي توصل إليه المؤلف بخصوص هذا الملف: «بعد الكارثة التي آل إليها اللجوء للقوة من طرف الولايات المتحدة في العراق بقرار فردي، لا يمكن للعالم أن يسمح بقطيعة جديدة حول المسألة الإيرانية. ذلك أن الإمبراطورية المعيارية، وعلى عكس ساحة استخدام القوة، لا تتماشى مع مفهوم العمل القائم على قرارات يتم اتخاذها من قبل طرف واحد». هذا حتى لو كان هذا الطرف هو القوة العظمى الوحيدة في عالم اليوم.


          عرض ومناقشة: محمد مخلوف

          تعليق

          • محمد زعل السلوم
            عضو منتسب
            • Oct 2009
            • 746

            #6
            كتاب - ازدحام العالم - الحلقة(الأخيرة)
            اختلال التوازن بين عناصر القوة الصينية يعوق بروز «الإمبراطورية المعيارية»
            تأليف :فرانسوا هايسبورغ



            يختتم المؤلف كتابه بالحديث عن نذر المستقبل بالنسبة للوضع العالمي، حيث يستبعد هيمنة قوة واحدة على عالم الغد من دون منازع، ويتوقع أن نشهد بروز قوى عديدة تمتلك السلاح النووي، الأمر الذي يهدد بنشوب حرب نووية مدمرة ويستدعي اللجوء إلى التعددية كأسلوب لبسط السيطرة على الساحة العالمية ومنع حدوث فوضى قد تهدد بقاء الإنسان نفسه.




            ويلاحظ في هذه الحلقة تركيز المؤلف على الحركة المناهضة للعولمة ومحاولة استقراء مستقبل هذه الحركة التي تواجه عقبات في طريق تحولها إلى قوة عالمية مؤثرة، خاصة في ظل ضعف تأثيرها في شرق آسيا بسبب النمو الاقتصادي الكبير الذي يشهده العملاقان الآسيويان الصين والهند، والذي يعيق نشوء حركات اجتماعية ثورية.




            «هيمنة مستبعدة وفوضى ممكنة». هذا العنوان الذي استخدمه المؤلف يذكر بجملة شهيرة لعالم الاجتماع الفرنسي ومنظّر الليبرالية الشهير ريمون آرون القائلة: «سلام مستحيل وحرب مستبعدة»، وذلك كي يعبر عن الحالة التي كانت سائدة في ظل الحرب الباردة. هكذا جاء «انهيار» الإمبراطورية السوفييتية في مطلع عقد التسعينات الماضي كي يحل تلك المشكلة التي تحدّث عنها ريمون آرون.




            بالمقابل يتسم عالم اليوم بقدر أكبر من الحركة و«االمرونة» بحيث يمكن تصور أن يكون المستقبل مختلفا جدا. فمن جهة هناك عملية «الهدم» و«إعادة البناء» التي ترافق العولمة، على غرار ما عرفته فترة «التدويل» خلال القرن التاسع عشر والتي انتهت بصدمة الحرب العالمية الأولى (1914-1918). تلك الحرب التي يعتبرها المؤلف بمثابة «الذروة المأساوية لتفوق القوى الامبريالية الأوروبية».


            ومن جهة أخرى هناك «ازدحام العالم» القائم في ظل العولمة الليبرالية الراهنة مما يحد من هامش مناورة الدول مع ما يترتب على هذا من «تعطيل» لآليات عمل العلاقات الدولية ومن «كبح» لإمكانيات بروز هيمنة قوى سياسية جديدة.


            مع ذلك لن يختفي أبداً البحث عن الهيمنة وربما إذا اجتمعت بعض الظروف يمكن للعالم أن يجد نفسه في ظل نفوذ «سيد» جديد، هذا مع الإشارة إلى أن مثل هذا المنظور مستبعد فالفرضية المركزية في هذا الكتاب تقول بمنظور قيام عالم «لا سيد» فيه، وبالمقابل لن تسود تعددية الأقطاب دون بذل جهود عديدة.


            وستكون «الإمبراطورية المعيارية» ثمرة التقاء مجموعة من القوى الفاعلة والعوامل المتأرجحة والتي هي في حالة إعادة تشكيل مستمرّة. في أسوأ الاحتمالات قد يكون هناك خطر أن تعم الفوضى منظومة العالم بفضل تضافر التوترات العالمية ورفض آثار صدمة العولمة. ويرى مؤلف الكتاب أن الثورة البلشفية لعام 1917 في روسيا التي طبعت بطابعها القسم الأكبر من القرن العشرين كانت ثمرة سياق مشابه.


            ويتم التأكيد أيضا على أن «ازدحام العالم» يفتح مجالات لبروز قوى تعيق قيام نظام دولي مستقر وإنما تثبت معايير تحيط بالعولمة وتوجهها. كذلك يمكن للرؤية التي تقول بإمكانية أن تسود «الإمبراطورية المعيارية» ذات الطبيعة الاجتماعية ـ الديمقراطية أن تجد في مواجهتها نوعا من الفوضى التي يمثل مناهضو العولمة تعبيراتها الخجولة الأولى.


            ويحدد المؤلف عدة نقاط ارتكاز سوف تسمح بالحكم على الاتجاه وعلى المسار اللذين ستعرفهما منظومة العالم خلال السنوات والعقود القادمة. النقطة الأولى تتعلق بالوضع الذي ستؤول إليه حالة انتشار أسلحة الدمار الشامل في العالم، وخاصة الأسلحة النووية. ذلك أن عالما قد يصل عدد القوى النووية فيه إلى عشرين أو ثلاثين قوة ويصبح امتلاك القوّة النووية فيه مطمحاً تتطلع إليه الدول بلا شك وضعاً غير موات لظهور هيمنة دولة واحدة، ومهما كانت قوة هذه الدولة. فالسلاح النووي يحمي في واقع الأمر من يملكه.


            الحروب المدمرة


            إن عالما كالذي يرتسم في الأفق يغدو فيه خطر الحروب المدمّرة أكبر فأكبر. ذلك أن زيادة عدد القوى النووية يمكن أن تتم ترجمته بتعاظم احتمالات اللجوء إلى استخدام السلاح النووي. لكن يبقى الخطر الأكبر هو امتلاك أسلحة الدمار الشامل هذه من قبل مجموعات غير حكومية، وغير خاضعة لسلطة الدول، والتي لن يكون من السهل ردعها وقتالها إلا عن طريق اتخاذ إجراءات عالمية للمراقبة وبحيث يتم أيضا اتخاذ إجراءات تتجاوز جميع التشريعات والممارسات السائدة اليوم لمكافحة الإرهاب والتي تعاني من مكامن ضعف واضحة كبيرة.


            ضمن هذا النهج من التحليل تغدو مكافحة انتشار الأسلحة النووية رهانا لا يرمي إلى استقرار الجميع وضمان أمنهم فحسب وإنما أيضا يستهدف، بعد أجل، طبيعة المجتمع (الوطني أو العالمي) نفسه الذي سيعيش فيه البشر.


            ويرى المؤلف أنه سوف يجري على مدى تطورات أطول وأعمق نوعا من ترسيم حدود السلطات وأشكال النفوذ التي تساهم في بروز «معايير من مختلف الأشكال والمشارب» تتحكم بآلية عمل منظومة العالم، خاصة فيما يتعلق بوزن الدول الشريكة أو المتنافسة صاحبة المبادرة في هذا المجال أو فيما يخص توزيع الأدوار بين الدول ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات ذات الغاية الاقتصادية.


            ويتم التأكيد على أن الولايات المتحدة الأميركية هي التي سيكون لها أيضا الأرجحية، هذا على الرغم من تواضع الممارسات التي تصرّفت فيها إدارة جورج دبليو بوش على أساس تعددية الأقطاب في العالم، هذا إذا لم تكن قدرتها اللامحدودة في تثبيط عزيمة أصدقائها واحتقار شركائها وتعزيز قوة أعدائها. مع ذلك وضمن هذه الظروف لا يزال النقاش الخاص بأغلبية المواضيع المتعلقة بآلية عمل منظومة العالم مرهونا إلى حد كبير بالولايات المتحدة الأميركية.


            إن المبادرات التي اتخذتها الحكومة الأميركية حول نشر الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، والأعمال الوقائية التي قامت بها في الميدان الإستراتيجي، والتمييز بين «أوروبا القديمة ـ العجوز» وأوروبا «الجديدة».


            حسب التعبير الذي كان دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي السابق هو الذي استخدمه أولا بعد ظهور أصوات أوروبية ـ خاصة فرنسا وألمانيا ـ مناوئة للحرب في العراق، ومبادرات التنمية الأميركية حيال القارة الإفريقية كانت كلها أمثلة على قدرة إدارة بوش (لما هو أفضل وما هو أسوأ) على طرح مسائل النقاش.


            كذلك تتم هنا الإشارة إلى النشاط الكبير الذي تقوم به قوى أميركية غير تابعة للدولة مثل دور الكنائس الإنجيلية الأميركية في إفريقيا أو في إسرائيل. هكذا إذن تمتلك الولايات المتحدة القدرة على قيادة مبادرات تصدر عن الدولة أو القيام بأعمال يكون المجتمع المدني وراءها.


            وفي المقابل تبقى الصين، كما يتم تقديمها، خارج اللعبة ك«إمبراطورية معيارية». ذلك أن وزنها الاقتصادي والسياسي المتنامي لا يترافق، أو لم يترافق بعد، بقدرة من نفس الوزن فيما يتعلق بالجذب الإيديولوجي أو الثقافي.


            أما الاتحاد الأوروبي فإنه يمتلك من جهته أوراقا رابحة كبيرة أصبحت تعبئتها أكثر سهولة بسبب فقدان الولايات المتحدة للكثير من مصداقيتها على الصعيد الدولي بسبب الأخطاء التي ارتكبتها إدارة جورج دبليو بوش والظروف الجديدة لممارسة السلطة في أميركا.


            ومن الاحتمالات التي يتوقع حدوثها مستقبلا تهيؤ الظروف التي تساعد على بروز حركة اجتماعية تمتلك من القوة ما يسمح لها بصد الجهود الرامية إلى الإحاطة بالعولمة لصالح تعبئة تسعى إلى «كسرها». إن مناهضي العولمة لا يشكلون، أو لم يشكّلوا بعد، مثل هذه القوة، على الرغم من طموحاتهم التي تظهر من خلال محاولة تأسيس «حركة عالمية» يمثّلها المنتدى الاجتماعي العالمي بالعلاقة مع الأنظمة الشعبوية في أميركا اللاتينية.


            لكن عقبتين أساسيتين تعيقان تقدم حركة مناهضي العولمة. العقبة الأولى تتمثل في «اصطدام» هذه الحركة بحقائق الواقع. ذلك أن الجزء الأكثر سكانا في العالم، أي جنوب وشرق آسيا، حيث يعيش نصف مجموع البشر هو أقلّ ملاءمة لتعبئة الحركات الاجتماعية الجماهيرية مما كانت عليه أوروبا أثناء الثورة الصناعية.


            وتستطيع الصين والهند من خلال معدّل النمو الاقتصادي الكبير الذي حققتاه خلال أكثر من عقدين من الزمن المحافظة على درجة من الاستقرار الاجتماعي والسياسي على قاعدة تحسّن مستوى معيشة شرائح متزايدة من المجتمع.


            ثم يلعب القمع دوره بالنسبة للصين، لكن مع إشارة المؤلف إلى أن أوروبا عندما كانت في صدد التصنيع خلال القرن التاسع عشر لم تكن خالية من أشكال القمع، فإنه يركز على القول أن النمو الاقتصادي الأوروبي أثناء الثورة الصناعية كان أدنى بكثير (3 بالمئة سنويا) مما هو النمو الاقتصادي الصيني اليوم (10 بالمئة سنويا) والهندي (8 بالمئة).


            وهكذا أدّى النمو الاقتصادي الضعيف في أوروبا إلى استمرار معاناة شرائح واسعة من «صدمة التحديث» اقتصاديا واجتماعيا وبالتالي إلى تشكل حركات ذات طابع ثوري، كان لها دور كبير. إن تراجعا كبيرا ومستداما للنمور الاقتصادي في آسيا يمكن أن يؤدي إلى بروز حركات اجتماعية كبيرة، لكن مثل هذا الاحتمال يعتبره المؤلف بمثابة «فرضية» وليس «أمرا مؤكدا».


            على الصعيد الواقع العملي اجتازت دول جنوب شرق آسيا وكوريا الجنوبية من دون كارثة سياسية واجتماعية الأزمة المالية العنيفة التي هزتها خلال عامي 1997 ـ 1998. بل إن ما يثير الدهشة أثناء تلك الأزمة هو تماسك المجتمعات المعنية وليس هشاشتها أمام ما كان يمثل قوة كابحة كبيرة كان لها آثارا سيئة عميقة في سياقات أخرى.


            عقبة أخرى


            العقبة الثانية التي تعيق تقدم حركة مناهضة العولمة تتمثل في أنها لم تجد حتى الآن الإيديولوجية التي توحّدها بأبعد من رفض مختلف المظاهر والجوانب السلبية للعولمة. إن التمسك بمثل هذا الرفض والاكتفاء به لا يمكن أن يوفّر التعبئة على الصعيد العالمي.


            ذلك أن شجب عملية نقل نشاطات الشركات والمؤسسات الأوروبية إلى الصين أو الهند حيث اليد العاملة وكلفة الإنتاج أرخص ليس منه أن يؤدي إلى تعبئة الجماهير العاملة الصينية أو الهندية أو غيرها المستفيدة أصلا من ذلك الانتقال.


            ثم إن انتقاد حرية التبادل التجاري في القطاع الزراعي لن يعبئ هو الآخر جماهير الفلاحين في بلدان العالم الثالث ضد العولمة لاسيما وأن هذه الجماهير هي التي تعاني أصلا من إجراءات الحماية الأوروبية والأميركية واليابانية بالنسبة للمنتوجات الزراعية.


            كذلك يرى المؤلف أن حركة مناهضة العولمة تعاني، حسب أسس عملها الحالية، من عدة تناقضات كبيرة. ولا يتم استبعاد أن يكون تأثيرها في مثل هذه الظروف عاملا مساعدا لتأثير قوى تتجاوزها. فمن جهة يصب عمل الحركات المناهضة للعولمة في طاحونة تدعيم أولئك الذين يريدون، بأي ثمن، حماية المجتمعات الصناعية «التقليدية» على حساب مصالح الاقتصادات الصاعدة التي تمثل عملية تحرير المبادلات التجارية شرطا لا بد منه من أجل تنميتها.


            وفي المحصلة، وإذا تمّ دفع المنطق الذي تتبنّاه حركة مناهضة العولمة إلى حدوده القصوى، فإنه يتقارب مع منطق القوى الأكثر رجعية مثل النزعة الأحادية في تسيير أمور العالم التي يقول بها المحافظون الجدد ورفض المنظومات متعددة الأطراف التي تتبنّاها المنظمة العالمية للتجارة والرامية إلى «تأطير» عمل العولمة.


            ويشرح المؤلف في هذا السياق أنه ربما كان بإمكان الماركسية أن تمثل الإيديولوجية التي توحّد الجهود ضد العولمة الرأسمالية، وحيث تجاوزت، عبر مقولة صراع الطبقات، النزاعات بين البلدان المصنّعة والاقتصادات الصاعدة والبلدان النامية.


            ثم إن الماركسية، التي تريد شرح العالم من أجل تغييره، وما لازمها من تعبئة دولية للعمال ـ «يا عمّال العالم اتحدوا» ـ تجاوزت مبدئيا على الصعيد الإيديولوجي نزاعات المصالح الوطنية والاقتصادية التي لم تتجاوزها عمليا حركة مناهضة العولمة في السياق الراهن.


            لكن الماركسية تعاني من فقدان المصداقية الكبير الذي أفرزته المحصّلة البائسة ل«الاشتراكية الواقعية» كما مارستها الإمبراطورية السوفييتية السابقة وغيرها من البلدان التي تبنّت نفس التوجه الإيديولوجي. كما أن الماركسية، التي تماهت مع أشكال الرعب للستالينية والتي أظهرت عدم قدرتها على الوفاء بوعودها، برهنت على أنها غير قادرة على منافسة خصومها الليبراليين على المدى الطويل.


            ويشير المؤلف في هذا الإطار أيضا إلى كتاب: «الطبّاخة وآكل البشر» الذي ألّفه الفيلسوف الفرنسي «أندريه جلوكسمان» أثناء «انتقاله» من الماركسية إلى الليبرالية. لكن بالمقابل يتم التأكيد على أن الماركسية لم تفقد مصداقيتها كاملة كما حلّ بالفاشية. ذلك أن الآراء الفلسفية والتاريخية (هذا إذا لم يكن الاقتصادية) التي قال بها ماركس ورفاق دربه لم تفقد مصداقيتها كلها. مع ذلك لا يمكن القول أن الماركسية كقوة إيديولوجية سياسية وتنظيمية ستعود قريبا إلى الساحة.


            وبانتظار ذلك هناك عناصر أخرى سوف تعيق قيام نظام دولي يعمل على أساس عقلاني. أولا هناك النتائج المترتبة على إهمال العولمة الليبرالية السائدة لمجموعات من البشر «المتروكين لمصيرهم» خاصة في إفريقيا الواقعة جنوب الصحراء (إفريقيا السوداء).


            إن التحديات المتعلقة بهذه المنطقة من العالم كبيرة وهي تتعاظم أكثر فأكثر مع مرور الوقت. ولا شك، برأي المؤلف، أن البلدان الإفريقية البائسة التي يهلك الكثير من أبنائها في عرض البحر وهم يحاولون الوصول إلى «الفردوس الأوروبي» سوف تصدّر فيما بعد العنف نحو العالم الصناعي.


            ويسوق المؤلف بين عوائق قيام نظام دولي عقلاني جديد المقاومة الدائمة والمتعددة الأشكال ضد الحداثة التي تبديها دول الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. ويزيد من وزن هذا العامل واقع أن هاتين المنطقتين غنيّتان بمصادر الطاقة كما أنهما تشهدان حالة من العنف الكامن الذي يظهر على السطح بين الفينة والأخرى. ويتم التأكيد في هذا السياق على الدور الكبير الذي تلعبه المواجهة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في تأجيج حالة العنف.


            وعائق آخر يحدده المؤلف ببروز تيارات تقيم مرتكزاتها على أساس اللعب على العواطف الشعبية. وهي تيارات متنوعة تشمل أنظمة قائمة في أميركا اللاتينية وغيرها وحركات يمينية متطرفة في أوروبا بحيث أن القاسم المشترك بينها كلها هو أنها تعيق قيام نظام دولي فاعل.


            المعارك الخلفية


            في المحصلة يمكن لمجمل «المعارك» الخلفية الصغيرة المشار إليها أن تكون ذات أثر من حيث ترجمتها أحيانا برفض الأغلبية لمستلزمات العولمة في بلدانها المعنية. لكنها بالمقابل لا تتوصل إلى كبح مسيرة عالم يتابع تقدمه بمعزل عن مختلف محاولات دفعه في طريق مسدود.


            يبقى الخطر الأكبر هو «تفجر العنف القومي» في منطقة شرق آسيا، خاصة في الصين. هذه المنطقة أصبحت قطب الاقتصاد العالمي ونتائج مواجهات كبرى فيها سوف تتجاوز ما كان العالم قد عرفه مع نزاعات منطقة الشرق الأوسط ومع الأوضاع الإفريقية.


            إن أي عنف كبير في شرق آسيا سوف يعرض للخطر مسيرة العالم الحالية على غرار ما كانت أوروبا قد عرفته اعتبارا من عام 1914، أي منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى، كما يصل المؤلف في تحذيراته. ثم يؤكد أن هذه التوترات سوف تمنع العالم، بكل الأحوال، من انتهاج مسار يكون منظّما وسلميا بنفس الوقت. لا سيما وأن التاريخ لم يعرف سابقا مثل هذا المسار.


            مع ذلك كانت تجربة العقود الأخيرة قد برهنت على أن منظومة العالم القائمة تتمتع بقدر كبير من المرونة والتأقلم مما شكّل شرطا أساسيا لخروج ثلث أبناء البشرية من حالة الفقر خاصة في آسيا. بالتالي قد تستطيع فضيلة «المرونة والتأقلم» أن تجنّب العالم، هذه المرّة، عواقب ولوج سبيل الفوضى والتدمير الذاتي.


            لا تبدو أوروبا للوهلة الأولى أنها في موقع جيد يسمح لها بلعب دور كبير في عملية إعادة صياغة منظومة عالمية جديدة إلى جانب تأثرها بالعولمة على خلفية تبعيتها للتجارة الدولية في قطاعي المنتجات والخدمات.


            ثم إن أوروبا لا تمتلك القوة المتعددة الأشكال والوحدة السياسية التي تمتلكها الولايات المتحدة الأميركية، رغم أن هذه الأخيرة قد فقدت بعض مواقع سلطتها خلال الحرب الباردة، كما فقدت جزءً كبيرا من مصداقيتها المعنوية والسياسية ومن قدرتها الحركية بسبب قرارات إدارتها الحالية.


            كذلك لا تمتلك القارة الأوروبية «القديمة» الدينامية الاقتصادية التي تمتلكها كل من الصين والهند الصاعدتين. كما أن السوق الأوروبي للعمل، المفتوح بالضرورة على «الرياح» التجارية والاقتصادية العالمية، يعاني كثيرا من هجوم «الجيش الاحتياطي لرأس المال» الذي تمثله جموع العاملين الآسيويين. هكذا تضاءلت «حصة الأجور» في الناتج الوطني للبلدان الأوروبية بنسبة 10 بالمئة تقريبا منذ نهاية الحرب الباردة.


            بالمقابل لا شك أن الأوروبيين يستفيدون كمصدرين من زيادة الطلب الآسيوي. هكذا ازدادت مثلا مبيعات أوروبا من 200 مليار يورو عام 2001 إلى 244 مليار يورو عام 2005. واستفاد الأوروبيون أيضا أكثر كمستهلكين من الأسعار المنخفضة للمنتوجات والخدمات القادمة من آسيا.


            من جهة أخرى لا تعاني أوروبا عن أشكال رعب الحياة اليومية للفقراء الأفارقة، ولا تعرف نفس التناقص السريع في عدد السكان كما تشهد الآن روسيا، وليس فيها أشكال حادة من اللامساواة الاجتماعية ومن العنف الإجرامي مثلما هو الحال في العديد من بلدان أميركا اللاتينية.


            لكن بعد أن يقدم المؤلف مثل هذا التوصيف لأوروبا يشير إلى «تواضع» مثل هذه السمات الإيجابية بالنسبة لمنطقة كانت تسيطر على المسرح الدولي منذ ما يقلّ عن قرن من الزمن، ولا تزال تتمتع بوزن اقتصادي وتجاري كبير فمجمل إنتاجها الوطني وتجارتها يضعانها في مصاف الولايات المتحدة الأميركية، وكذلك في مصاف مجموع دول شرق آسيا.


            أوراق أوروبا الرابحة


            مع ذلك تمتلك القارة الأوروبية «أوراقا رابحة» كبرى تسمح لها أن تكون في عداد القوى الكبرى المشاركة في صياغة منظومة العالم القائمة على معايير محددة، أو «الإمبراطورية المعيارية» حسب تعبير المؤلف.


            الورقة الأولى تتمثل في أن أوروبا ودولها ومجتمعاتها المدنية تتمتع بدرجة كبيرة من القبول على المسرح الدولي. وهناك حيث تثير الولايات المتحدة ردود أفعال سلبية، بل والبغض، وهناك أيضا حيث لا تثير الصين الاستبدادية والمتمركزة حول ذاتها الحماسة للاقتداء بها، تمثل أوروبا بالمقابل، وبدرجات مختلفة، محاورا مقبولا بالنسبة للسواد الأعظم من العالم. ثم إن معيارا دعمته أوروبا، مثل اتفاق كيوتو أو المحكمة الجنائية الدولية، يمكنه أن يلقى قبولا أكثر من مبادرة وراءها الولايات المتحدة (أو من غياب أية مبادرة صينية).


            الورقة الرابحة الثانية يحددها المؤلف ب«المرونة». وهده ميزة كبيرة في عالم «مزدحم» لا يمكن فيه لأداة سلطة أو نفوذ، مهما كانت، أن تعطي نتائج مستدامة. لكن الأوروبيين، من خلال مؤسسات الاتحاد الأوروبي أو على مستوى الدول والمجتمعات المدنية، يمتلكون «أدوات» عديدة للفعل والتنظيم مما يسمح بتنويع أشكال التحرك تبعا للأوضاع وللأهداف المطلوب تحقيقها.


            بالمقابل هناك عدة عقبات يصطدم فيها العمل الأوروبي، وهي تعود جزئيا إلى «ازدحام العالم». فعلى الصعيد العسكري لا تستطيع أوروبا في عصر العولمة على أن ترسل أعدادا كبيرة من القوات إلى أنحاء العالم. وهناك اليوم حوالي 60 ألف جندي أوروبي موجودين في مختلف مسارح العمليات بينما كانت أوروبا تستطيع إرسال أضعافا مضاعفة في السابق.


            والحروب اليوم أصبحت باهظة التكلفة اقتصاديا بحيث تقلّصت إمكانيات التدخل لدى الدول الصناعية «الاستعمارية» سابقا «لحسن الحظ»، كما يقول المؤلف، مشيرا في الوقت نفسه إلى أن هذه «العقبة» لم تكن موجودة في الماضي.


            بكل الحالات تبقى أوروبا «خجولة» في صياغة مبادرات ملموسة ذات تطلع عالمي. وقد يكون هذا استمرارا «لسلوكيات» الحرب الباردة خاصة ترك المسؤوليات الإستراتيجية الرئيسية للولايات المتحدة. إن أوروبا تمتلك إمكانيات اقتصادية ومجتمعية وسياسية وعسكرية كبيرة ومتنوعة ومرنة، تؤهلها للعب دور في صياغة عالم الغد. وهذه هي الرسالة التي يختتم فيها المؤلف كتابه.


            عرض ومناقشة: محمد مخلوف

            تعليق

            يعمل...