كتاب - ازدحام العالم - الحلقة(1)
ثورة تكنولوجيا المعلومات تساهم في تثبيت أركان العولمة المعاصرة
تأليف :فرانسوا هايسبورغ
يزداد العالم الذي نعيش فيه تعقيدا بمقدار ما تتداخل مصالح القوى الفاعلة فيه وتتعدد التحديات الكونية المطروحة عليه وفي مقدمتها التحديات الخاصة بالطاقة والثورات التكنولوجية والتهديدات الإرهابية. وفي ضوء هذا لتعقيد المتزايد، تثار أسئلة تحتاج إلى إجابات من قبيل: لمن ستؤول السيطرة على السلطة في هذا العالم« المزدحم» أكثر فأكثر؟ وما هي أدوات هذه السيطرة؟ وكيف سيتم اتخاذ القرارات؟ وهل نحن على مشارف الدخول في «الحقبة الآسيوية» وخاصة الصينية؟
هذه الأسئلة وغيرها الكثير يحاول فرانسوا هايسبورج، رئيس معهد الدراسات الإستراتيجية في لندن ومدير مركز السياسة الأمنية في جنيف، الإجابة عليها في الكتاب الذي نقدّمه لقرائنا. وعلى ما يبدو فإن عالم الغد لن يكون أقل قسوة من عالم اليوم وعلى مجتمعات اليوم أن تفهم التحديات، التي تلوح في الأفق القريب، من أجل مواجهتها. لم يدخل تعبير» العولمة» في القواميس الغربية إلا خلال سنوات الستينات في القرن العشرين. ولم يحتل مكانا راجحا في النقاشات العامة سوى في النصف الثاني من سنوات التسعينات، وخاصة منذ قمة منظمة التجارة العالمية في سياتل عام 1999 مع بروز مفهوم» مناهضي العولمة».
هذا بالنسبة للتعبير، ولكن الأمر مختلف فيما يتعلق بالمدلول الضمني للعولمة، إذ كان» كارل ماركس» قد وصف ظاهرة» العولمة» في» البيان الشيوعي» المنشور عام 1848. وينقل المؤلف عنه قوله:» بدلا من العزلة القديمة للأقاليم والأمم المكتفية بذاتها تتطور علاقات كونية وتداخل كوني بين الأمم. وما ينطبق على الإنتاج المادي لا ينطبق بدرجة أقل على الإنتاج الذهني. والأعمال الفكرية لأمة ما تصبح ملكية مشتركة لجميع الأمم». وكان الشيوعيون، كما هو معروف، قد رفعوا شعار» الأممية» ذات الطابع العمالي والمغايرة ل«العولمة الليبرالية» السائدة اليوم، والتي تحمل مفهوم «التدويل».
نبذة تاريخية: يرى مؤلف هذا الكتاب أنه يمكن إعادة «العولمة الأولى» لدى الجنس البشري إلى فترة انتشار «الإنسان العاقل» على مختلف قارات العالم منذ حوال 000 60 سنة. واستمرت منذ« خروج» الإنسان الحديث من إفريقيا وحتى نهاية الألف الأول من العصر الميلادي. لكن تلك «العولمة» لم تعرف المبادلات بين القارات وإنما عاشت المجموعات البشرية في أطر معزولة عن بعضها البعض. مع ذلك كانت العولمة موجودة في «الوقائع»، إن لم تكن موجودة في «الوعي»، فالمناطق التي كانت مأهولة أثناء تلك العولمة الأولى الطويلة الأمد هي نفسها التي يعيش عليها البشر اليوم.
وكان قد تكوّن تدريجيا مفهوم «العولمة الواعية للجنس البشري» بالتزامن مع الاكتشافات الأوروبية الكبرى. وفي عام 1492 قام كريستوفر كولومبوس وبحّارته بمغامرة اكتشاف» العالم الجديد» التي كان هدفها النهائي ذو طابع «عالمي» ويتمثّل ب«الإحاطة بالكرة الأرضية كلها». وكان ذلك «الهدف» هو الذي ميّز رحلة كولومبوس عن بقية الحملات البحرية اليونانية والرومانية والصينية وحملات الفايكنج السابقة. وفي عام 1522 تم القيام بأول دوران حول العالم من البحّارة الباقين من الحملة التي كان قد قادها ماجلاّن قبل ثلاث سنوات انطلاقا من اسبانيا.
مع دوران حملة ماجلاّن حول العالم قامت للمرة الأولى علاقات منتظمة بين التجمعات البشرية الكبرى في أوروبا وأميركا وآسيا وقسم من إفريقيا. ثم قامت بسرعة كبيرة صلات وثيقة بين الدول الأوروبية والمستعمرات الاسبانية الجديدة في أمريكا اللاتينية. ولا يتردد المؤلف في القول أن حرب الثلاثين سنة ـ 1618 - 8461 ـ، التي كانت هي الحرب الأولى على صعيد القارة الأوروبية، قد تزامنت مع وصول الذهب والفضة من المناجم الاسبانية فيما يعرف الآن باسم بوليفيا. وشيئا فشيئا جرى تقسيم العالم بين دول تتبادل الاعتراف فيما بينها، وتقيم علاقات منتظمة في إطار «التدويل» الذي كرّسه مؤتمر برلين عام 1884 الذي كرّس في الوقت نفسه التقسيم الاستعماري لإفريقيا.
كان القرن العشرون قد عرف تبدلات جوهرية في العلاقات بين الأمم والدول حيث غدت روابط التداخل الاقتصادي مصادر لتحديد موازين القوى فيما بينها. وقد عرفت سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى نوعا من «العولمة» حيث شهدت المبادلات الدولية ازدهارا كبيرا. هكذا بلغت نسبة صادرات السلع حوالي 9 بالمئة من إجمالي الإنتاج العالمي عشية تلك الحرب، ولم تبلغ المستوى نفسه إلا بعد حوالي ستّين سنة.
وكانت التجارة الخارجية تمثل نسبة 34 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي البريطاني عام 1910 بحيث أنها لم تبلغ نفس النسبة من جديد سوى في نهاية عقد الثمانينات الماضي. وأمثلة كثيرة أخرى يقدمها المؤلف وتبيّن كلها أن المواد الأولية، وفي مقدمتها الفحم والبترول، تشكل عصب ذلك الازدهار في المبادلات الدولية.
وتتميز «عولمة» القرن العشرين بأنها كانت تتركز على أوروبا. ففي عام 1914 كانت القوى الأوروبية تسيطر مباشرة، أو من خلال الاستعمار، على ثلاثة أخماس سكان العالم وثلاثة أخماس إجمالي الإنتاج العالمي أيضا. لكن أوروبا تلك لم تكن «واحدة». والدليل على ذلك قيام حربين عالميتين انطلاقا منها.
وكانت أصلا تتعرض لمنافسة الولايات المتحدة الأمريكية. وكان إجمالي الإنتاج الداخلي الأمريكي قد بلغ منذ عام 1914 حوالي 20 بالمائة من إجمالي الإنتاج العالمي، أي مستوى قريب مما عرفته السنوات ال25 الأخيرة من القرن العشرين. هذا يعني أن «حجب» الدور الأوروبي من قبل الولايات المتحدة قد بدأ بتزامن مع «النصر الظاهري» للإمبريالية الأوروبية.
الحرب الأهلية العالمية
كانت الفترة بين 1914 (بداية الحرب العالمية الأولى) و1989 (انهيار جدار برلين) مضطربة جدا. لقد شهدت حربين عالميتين وعدة حروب «صغيرة» وأزمات كبرى، خاصة تلك التي عرفتها البلدان الرأسمالية ما بين عام 1929 وعام 1935.
السمة التي يتم التأكيد عليها بالنسبة لتلك الفترة المضطربة يحددها المؤلف في «تعزيز مكانة الدولة» باتجاه توتاليتاري شمولي مثلما حدث في ألمانيا النازية وأيضا باتجاه أن تلعب دورا مركزيا في الحياة الاقتصادية. هذه الوظيفة الاقتصادية لم تكن بعيدة عن تعبئة مجموع الموارد البشرية والمادية للدخول في الحربين الكونيتين المدمرتين.
وأُضيف للدور «الاقتصادي» للدولة دور آخر بعد الحرب العالمية الثانية، وهو دور «الدولة المانحة» ذو الطبيعة الاجتماعية خاصة في الدول الأوروبية. ولا تزال الدولة ذات وزن كبير في نهاية فترة الحرب الباردة بالقياس إلى فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى. وللمفارقة تبدو العولمة الحالية وكأنها مناطة قبل كل شيء بقوى اقتصادية واجتماعية فاعلة تعمل ضمن أطر ليبرالية لا حدود لها.
ويستخدم المؤلف تعبير «الحرب الأهلية العالمية» للحديث عن التغيرات التي عرفتها مصادر القوة العالمية على صعيدي التراتبية وإعادة التوزيع. ولقد عرف القرن الماضي زوال جميع الإمبراطوريات الأوروبية دون استثناء وكان آخرها الإمبراطورية السوفييتية التي مثّلها الاتحاد السوفييتي السابق الذي كان تجسيدا «جغرافيا» للإمبراطورية الروسية بصيغة شيوعية. بل ونجح فيما لم يستطع القياصرة تحقيقه في القرن التاسع عشر، أي الوصول إلى مصاف القوى العظمى العالمية الحقيقية بفضل عوامل ثلاثة تمثلت في الامتداد الجغرافي (عبر الأنظمة الشيوعية) وفي امتلاك القوة العسكرية التقليدية ثم ومنذ عام 1949 القوة النووية.
انقسم العالم في ظل الاستقطاب الثنائي الدولي إلى معسكرين، رأسمالي واشتراكي، كانت التواصلات محدودة بينهما جدا خلال نصف قرن كامل. ولم تكن التجارة مثلا بين الشرق والغرب تمثل سوى حوالي 3 بالمئة من المبادلات الدولية آنذاك. وكانت المبادلات السوفييتية مع العالم الخارجي أقل مما كان يعرفه بلد مثل بلجيكا. ولا شك أن انهيار تلك الإمبراطورية قد فتح مجالات هامة للتبادل الدولي وأزال الكثير من «الحواجز» في العالم.
وكانت حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية قد شهدت أرجحية الدور الأمريكي في العالم. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تنتج وحدها عند نهاية تلك الحرب ثلث إجمالي الإنتاج العالمي. وقد تزامن ازدهار الإنتاج الأمريكي مع انهيار الاقتصادات الأوروبية والآسيوية. ولم يكن في مواجهة الولايات المتحدة أية قوة «إمبريالية» منافسة باستثناء الاتحاد السوفييتي الذي كانت مرتكزات قوته إيديولوجية وعسكرية وإستراتيجية أكثر مما هي اقتصادية.
وكان القرن العشرون الذي عرف في بداياته انهيار الإمبراطوريات قد انتهى ببروز أعداد متزايدة من الدول التي وصل عددها إلى 193 دولة مقابل 52 دولة فقط عام 1913. وبلغ عدد الدول الأوروبية (بما في ذلك روسيا وتركيا) 43 دولة مقابل 25 دولة عشية الحرب العالمية الأولى. وكانت دولة واحدة مستقلة في أوروبا هي «الجبل الأسود» قد اختفت، لكنها عادت للظهور عام 2006، مقابل ولادة 18 دولة جديدة.
العولمة المعاصرة
يؤكد مؤلف هذا الكتاب أن العولمة الراهنة عرفت بداياتها خلال التجزئة التي عرفتها فترة 1914-1989. وإن الحرب نفسها كانت وراء ولادة بعض «الحوامل» الأكثر دفعا نحو العولمة وخاصة ثورة المعلومات. ويتم هنا تحديد مصدرين أساسيين للعولمة، ومن طبيعتين مختلفتين تماما، هما: مؤسسات بريتون وودز وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من جهة، وثورة المعلوماتية من جهة أخرى.
كانت منظومة بريتون وودز قد تأسست عام 1944، وكانت تمتلك إلى جانب بعدها المالي والنقدي (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) بُعدا تجاريا تمثّل في اتفاقية ال«الجات» الخاصة بالمبادلات التجارية والتعرفة الجمركية، نجم عن ذلك «تحريرا» تدريجيا للتجارة الدولية عبر اتفاقية ال«الجات» حتى عام 1994 حيث حلّت محلّها منظمة التجارة العالمية. وخدم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كضامنين ل«الأمن المالي العالمي».
وكان ذلك الجمع بين الإجراءات الليبرالية وتنظيم المبادلات الدولية قد سمح بتجنب بروز أزمات اقتصادية هائلة مثل تلك التي عرفها العالم الاستعماري منذ عام 1929 وحتى عام 1935. كانت هناك فقط فترات «ركود» اقتصادي كتلك التي عرفتها البلدان المصنعة خلال عامي 1973 و1975 إثر الزيادة الكبيرة في أسعار البترول. كما استجدّت بعض الأزمات الإقليمية الخطيرة في المكسيك عام 1994 وفي آسيا ما بين 1997 و1999 وفي روسيا والبرازيل. لكن لم يكن لتلك الأزمات الإقليمية كلها أي صدى حقيقي على المستوى العالمي، وبالتالي لعبت المؤسسات الدولية الدور المطلوب منها.
وكانت ثورة تكنولوجيات المعلومات قد ساهمت كثيرا في تثبيت أركان العولمة المعاصرة، وذلك من خلال «اللقاء» منذ حوالي ثلاثين سنة تقريبا، بين استخدام الإلكترونيات والحاسوب والشبكات. فالتكنولوجيا الإلكترونية جرى استخدامها كوسيلة لإنتاج المعلومات ونقلها وليس كقوّة وطاقة فقط. ويشير مؤلف الكتاب في هذا السياق إلى أن اللجوء للإلكترونيات من أجل «معالجة» المعلومات وليس فقط نقلها حديث جدا نسبيا. فالآلة الحاسبة الإلكترونية الأولى تعود إلى عام 1946 وقام بتصنيعها الجيش الأمريكي من أجل حسابات خاصة بالمتفجرات. أما التقدم الأساسي فقد تحقق مع اختراع أول مذياع محمول «ترانزستور» في مخابر شركة «بيل» عام 1948.
وبعد خمسين سنة من تصنيع «الترانزستور» جرى التوصل إلى صناعة «برغوث إلكتروني» يضم حوالي 14 مليون «ترانزستور» على مساحة تعادل قطعة طولها 5 سنتمترات. وغيّرت بالتالي اللغة الرقمية آلية التعامل مع المعلومات لتحدث ثورة حقيقية على مستوى التلفزة والإذاعة ووسائل الإعلام كلها. وكان إيقاع التقدم سريعا جدا خلال العقود الثلاثة المنصرمة إلى درجة قول مؤلف الكتاب أنه: «إذا جرى تطبيق إيقاع التقدم ـ الحاصل في ميدان المعلومات ـ على ميادين أخرى، فإن تصنيع سيارة جديدة سوف يكلّف أقل من يورو واحد وسوف تسير عدة مئات من الكيلومترات بليتر واحد من البنزين». ويضيف: «تتمثل إحدى سمات ثورة المعلومات في أنها لا تكتفي بالمبالغة في فرض نفسها أو أنها تأتي بعد موجات أخرى من التصنيع، وإنما هي تندمج داخل المنتوجات التقليدية».
أما بالنسبة للحاسوب فإن المؤلف يعيد ظهور مفهوم الحسابات المعقّدة والذاكرة والبرمجة إلى سنوات الثلاثينات من القرن التاسع عشر حسب نظرية المدعو «ميشيل باباج». لكن كان لا بد من انتظار سنوات التسعينات في القرن الماضي (العشرين) لكتابة أول برنامج معلوماتي بينما كان البريطانيون والأمريكيون قد استخدموا منذ سنوات الأربعينات، وتحديدا أثناء الحرب العالمية الثانية، بعض الحواسيب «البدائية» في التشويش على الرسائل الألمانية «المشفّرة».
ويشير المؤلف هنا إلى أن أي حاسوب حديث يمتلك استطاعة حسابية أعلى من مجموع حواسيب العالم التي كانت في الخدمة خلال منتصف سنوات الخمسينات المنصرمة. واليوم هناك مئات ملايين الحواسيب الشخصية بينما لم يكن هناك آنذاك سوى عدة عشرات من «الوحدات المركزية». ثم كانت هناك «الشبكات» وخاصة شبكة «الانترنت». كانت الشبكة الأولى تحمل اسم «اربانيت» التي أُقيمت تحت إشراف وزارة الدفاع الأميركية من أجل التواصل مباشرة من حاسوب إلى آخر لمؤسسات جامعية وغيرها، كانت تعمل مع الوزارة.
لقد بدأت الشبكة بالعمل عام 1972 بوجود أربعين موقعا. ويشير المؤلف في هذا السياق إلى روايات أكّدت أن الباعث الأساسي وراء قيام شبكة الانترنت كان تأمين اتصالات يمكنها أن تعمل حتى في حالة قيام حرب نووية. ما يؤكده المؤلف، بعيدا عن مثل تلك الرواية، هو أن الانترنت» وليدة» الحرب الباردة.
في المحصلة يحدد مؤلف الكتاب ثلاث خصوصيات تميّز العولمة الراهنة وكلّها لها علاقة مباشرة بثورة المعلوماتية. الخصوصية الأولى تتمثل في المباشرة وبنقل المعلومات خلال «الزمن الحقيقي»، أو «شبه الحقيقي» بواسطة اللغة الرقمية. الخصوصية الثانية هي تمكّن الجميع دون تمييز في الوصول إلى المعلومات. والخصوصية الثالثة تتمثل في تجاوز الحدود الجغرافية والديموغرافية بالنسبة لأغلبية شبكات المعلومات.
القطيعة مع التدويل
إن العولمة الحالية تشكل قطيعة مع عملية «التدويل» التي سبقتها. فذلك التدويل كان أوروبيا من حيث القائمين عليه وأوروبيا من حيث تقسيم العالم إلى مناطق استعمارية مرتبطة بأوروبا وأوروبيا من حيث القيم التي حملها. وكان مستعمرو الأمس قد حملوا معهم بعض القيم ذات النزعة الكونية فالحديث عن الإرث الثوري وحقوق الإنسان شكّل أحد عناصر الخطاب الإمبريالي الفرنسي، وكانت الديمقراطية إحدى موضوعات البلاغة الإمبريالية البريطانية. مثل هذه المقولات في الخطاب النظري وجدت بالطبع حدودها الضيّقة في الواقع. ذلك أن القائلين بها كانوا يُخضعون آخرين لسيطرتهم ولم يكن بإمكانها أن تطمس الواقع الاستعماري.
لا شك أن عملية «التدويل» تلك قد خلقت أشكالا من التداخل على الصعيد العالمي. لكن كان لا بد لذلك النموذج «الإمبريالي» من «العولمة» كي يعمل، من افتراض وجود روابط سياسية وليس فقط اقتصادية أو ثقافية بين من يسيطر ومن يقع تحت السيطرة. ثم من المعروف أن أوروبا لم تكن هي المهيمنة فعليا خلال ثلاثة أرباع الفترة التي فصلت بين قيام الحرب العالمية الأولى (1914) وسقوط جدار برلين (1989) ذلك أن الولايات المتحدة كانت قد غدت زعيمة المعسكر الغربي والمهيمنة فيه اقتصاديا ثم سياسيا وإستراتيجيا.
لقد اتسم القرن العشرون عامة بوجود إيديولوجيتين متعارضتين، انتهت إحداهما بالسقوط أمام امتحان الوقائع. وبدت تسود في العالم الغربي ليبرالية مزدوجة. فهي من جهة ليبرالية سياسية تحت شعار التأكيد أن الديمقراطية هي مستقبل العالم وليس فقط هي «الأقل سوءا» بين الأنظمة حسب مقولة ونستون تشرشل. ومن جهة أخرى ليبرالية اقتصادية قادرة وحدها على «تحرير» قوى الإنتاج بما في ذلك من أشكال القسر التي تفرضها الدولة والتي غدت لا تتلاءم مع متطلبات العولمة الجديدة.
إن المعسكر الذي يقول بمثل تلك القيم بدا منتصرا. وانتصاره هذا هو الذي استلهم منه المفكر الأمريكي ذو الأصل الياباني فرانسيس فوكوياما كتابه المعروف «نهاية التاريخ» والذي يندرج، حسب توصيف المؤلف، في النهج المستقيم لأفكار هيغل وماركس الخاصة ب«الحتمية التاريخية». ذلك أن» فوكوياما» قد أعطى الانتصار لليبرالية كما كان ماركس قد أعطاه للطبقة العاملة» بروليتاريا» زاعما أنه جعل خطاب «هيجل» يمشي على قدميه وليس على رأسه.
وتتم الإشارة في هذا السياق إلى فكرة انتشرت ومفادها أن المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للعولمة الجديدة ليست هي نتاج علاقات سيطرة تمارسها أمريكا بمقدار ما هي نتيجة مباشرة للتكنولوجيات الجديدة. ومن جهة أخرى كانت سنوات التسعينات المنصرمة قد شهدت نقاشات واسعة حول» القيم الآسيوية» أثارها رئيس وزراء ماليزيا آنذاك مهاتير محمد . بل وكانت الولايات المتحدة نفسها قد عرفت منذ عام 1993 الإعلان عن «صدام الحضارات» كما جاء في أطروحة صموئيل هنتجتون الشهيرة.
ويشير المؤلف إلى أن «الحرب الأهلية العالمية» ما بين 1914 و1989 قد قامت على خلفية استقطاب إيديولوجي متطرف نتيجة للنقاشات التي عرفها القرن التاسع عشر وقسط كبير من القرن العشرين وكان لها آثارها السياسية والعسكرية الكبيرة. لكنه يرى أن النقاش الحالي الدائر حول «صدام الحضارات» لن يؤدي بالضرورة إلى مواقف جذرية «راديكالية» كالسابق وإنما إلى تعميم القيم الغربية لكن دون أن يسيطر الغرب على صعيد موازين القوة العالمية. ذلك على غرار اليونان القديمة التي فقدت مواقع قوتها العسكرية والسياسية والاقتصادية وإنما سادت ثقافتها في مجال جغرافي امتد من اسبانيا حتى نهر الغانج بعد انهيار الإمبراطورية المقدونية العابرة التي أشادها الاسكندر الأكبر.
وكانت تلك الثقافة اليونانية القديمة «الكونية» قد ولّدت، عبر امتزاجها مع ثقافات المجتمعات الإقليمية المحيطة، نوعا من الثقافة «العامّة» التي وحّدت، عشية انتصار الإمبراطورية الرومانية، العالم المتوسطي ومنطقة غرب آسيا. على نفس الطريقة يمكن للقيم التي حملتها الديمقراطيات الغربية أن تمتزج مع الثقافات غير الغربية. وعبر هذا ستصبح القيم الغربية، حسب شروحات المؤلف، منذئذ قيما ذات تطلع كوني على غرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من قبل منظمة الأمم المتحدة عام 1948 كوريث لإعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عن الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789 أو ربما كوريث لما جاء في مقدمة الإعلان عن استقلال أمريكا عام 1776، وحيث كانت تلك المقدّمة مكرسة للبحث عن «السعادة الإنسانية».
وإذا كان المحافظون الأمريكيون الجدد يؤيدون مقولة التقدّم نحو «عولمة سعيدة» فإن تفجيرات 11 سبتمبر 2001 والحرب في العراق تؤكدان واقع أن مسيرة التاريخ لا يمكن رسم خطوطها المستقبلية حسبما جاء في الإيديولوجيات التي ترسم تلك المسيرة على أساس «قوانين» من الماركسية حتى المحافظة الجديدة. وما يؤكده المؤلف هو أن القرن الحادي والعشرين زاخر بالرهانات ذات المصير المجهول في ظل حقيقة واضحة هي صعود آسيا.
محصلة قرن
شهد القرن العشرون حالتين متقدمتين من عالمية العلاقات الدولية. كانت الأولى في بدايته أثناء ذروة «التدويل» الذي أنتجته الثورة الصناعية واستجدّت الثانية في نهايته مع العولمة الحالية. وما بين هاتين الحالتين قامت «حرب أهلية عالمية»، حسب تعبير مؤلف هذا الكتاب. هكذا تحدث البعض، مثل المؤرخ البريطاني الشهير «اريك هوبسباوم» عن قرن عشرين «قصير» ابتدأ يوم 28 يونيو 1914 في سراييفو وانتهى في برلين ليلة 9 إلى 10 نوفمبر 1989، وبتعبير آخر كان قرنا من النزاعات الكونية مما مثّل تراجعا فيما يتعلق ب«عولمة» المبادلات الاقتصادية والإنسانية والثقافية بالقياس إلى العقود التي سبقت عام 1914.
لكن المؤلف يشير إلى ضرورة عدم الفصل بين فترة النزاعات الكبرى والسنوات التي سبقتها أو تلتها مباشرة. ذلك أنه لا يمكن فصل الحرب الأهلية العالمية عن العقود السابقة للتدويل، ولا عن مظاهر الدورة الجديدة من العولمة المرتبطة بتطور تقنيات المعلومات، وخاصة اختراع الحاسوب. ويرى المؤلف أيضا أن الحربين العالميتين اللتين شهدهما القرن الماضي لم تكونا فترتين «معترضتين» طويلتين وقاتلتين بين حالتين من العولمة فحسب وإنما كانتا أيضا أحد مكونات المنظومة العالمية التي خلّفها القرن التاسع عشر. بهذا المعنى تغدو العولمة والنزاعات جزء من «الواقع نفسه».
ذلك أن» النزاعات الماضية والحالية والقادمة مدانة كلها، لكنها ليست عنصرا خارجيا بالعلاقة مع مسار العولمة. وإذا استعرنا بعض تعابير القاموس الطبي، فإن هذه النزاعات لا تمثل جرحا طارئا بسبب حدث ما وإنما بالأحرى هي سرطان ينتشر بفضل المنظومة التي يتولّد بداخلها ويتغذى منها.
وتتم الإشارة هنا إلى أن الحرب العالمية «الأولى» عام 1914 لم تكن» الأولى» حقيقة فحرب الخلافة في اسبانيا (1701-1714) وفي النمسا (1740-1748) وحرب السنوات السبع (1756- 1763) شهدت معارك في جميع البحار والقاراّت المسكونة. مع ذلك تتميز الحرب الكبرى لعام 1914 بأنها كانت «حربا شاملة» خاضتها المجتمعات أيضا، وحربا قاتلة مع ما يزيد عن 15 مليون ضحية أغلبيتهم الساحقة من الشباب. وكانت الحرب العالمية الثانية قد شهدت استخدام السلاح النووي للمرة الأولى في التاريخ بينما زاد عدد ضحاياها عن 50 مليون نسمة، أربعة أخماسهم في أوروبا وحدها.
هكذا كان القرن العشرون هو الذي امتلكت فيه الإنسانية وسائل تدميرها. ويرى المؤلف أن نجاتها من «الإبادة النووية» تعود إلى الحظ بدرجة لا تقل عما تعود إلى حكمة البشر، كما يشير مضيفا «أن ما نعرفه اليوم عن أزمة الصواريخ الكوبية - عام 1962- لا يبعث أبدا على الاطمئنان».
وكان القرن العشرون قد شهد كوارث هائلة مصدرها البشر أنفسهم، فحوالي 20 مليون إنسان فقدوا حياتهم في الاتحاد السوفييتي (السابق) ما بين 1930 و1940 بسبب الجوع أو القمع الستاليني. وهلك 30 مليون صيني على الأقل أثناء» القفزة الكبرى إلى الأمام» التي قررها ماوتسي تونج ما بين 1957 و1963.
ويقدم المؤلف رقم 170 مليونا من البشر فقدوا حياتهم من جرّاء أفعال مباشرة قامت بها الدول. بالمقابل ما بين عام 1900 وعام 2000 ازداد عدد سكان المعمورة من 6. 1 مليار نسمة إلى 6 مليارات. هذه الزيادة التي لا سابق لها تطرح أيضا تساؤلات حول المصادر الطبيعية المتوفرة وتحديات كبيرة وحاسمة حول البيئة. هذا الواقع الجديد سيكون أحد مفاتيح تحولات العولمة نفسها خلال العقود القادمة.
عرض ومناقشة: محمد مخلوف
ثورة تكنولوجيا المعلومات تساهم في تثبيت أركان العولمة المعاصرة
تأليف :فرانسوا هايسبورغ
يزداد العالم الذي نعيش فيه تعقيدا بمقدار ما تتداخل مصالح القوى الفاعلة فيه وتتعدد التحديات الكونية المطروحة عليه وفي مقدمتها التحديات الخاصة بالطاقة والثورات التكنولوجية والتهديدات الإرهابية. وفي ضوء هذا لتعقيد المتزايد، تثار أسئلة تحتاج إلى إجابات من قبيل: لمن ستؤول السيطرة على السلطة في هذا العالم« المزدحم» أكثر فأكثر؟ وما هي أدوات هذه السيطرة؟ وكيف سيتم اتخاذ القرارات؟ وهل نحن على مشارف الدخول في «الحقبة الآسيوية» وخاصة الصينية؟
هذه الأسئلة وغيرها الكثير يحاول فرانسوا هايسبورج، رئيس معهد الدراسات الإستراتيجية في لندن ومدير مركز السياسة الأمنية في جنيف، الإجابة عليها في الكتاب الذي نقدّمه لقرائنا. وعلى ما يبدو فإن عالم الغد لن يكون أقل قسوة من عالم اليوم وعلى مجتمعات اليوم أن تفهم التحديات، التي تلوح في الأفق القريب، من أجل مواجهتها. لم يدخل تعبير» العولمة» في القواميس الغربية إلا خلال سنوات الستينات في القرن العشرين. ولم يحتل مكانا راجحا في النقاشات العامة سوى في النصف الثاني من سنوات التسعينات، وخاصة منذ قمة منظمة التجارة العالمية في سياتل عام 1999 مع بروز مفهوم» مناهضي العولمة».
هذا بالنسبة للتعبير، ولكن الأمر مختلف فيما يتعلق بالمدلول الضمني للعولمة، إذ كان» كارل ماركس» قد وصف ظاهرة» العولمة» في» البيان الشيوعي» المنشور عام 1848. وينقل المؤلف عنه قوله:» بدلا من العزلة القديمة للأقاليم والأمم المكتفية بذاتها تتطور علاقات كونية وتداخل كوني بين الأمم. وما ينطبق على الإنتاج المادي لا ينطبق بدرجة أقل على الإنتاج الذهني. والأعمال الفكرية لأمة ما تصبح ملكية مشتركة لجميع الأمم». وكان الشيوعيون، كما هو معروف، قد رفعوا شعار» الأممية» ذات الطابع العمالي والمغايرة ل«العولمة الليبرالية» السائدة اليوم، والتي تحمل مفهوم «التدويل».
نبذة تاريخية: يرى مؤلف هذا الكتاب أنه يمكن إعادة «العولمة الأولى» لدى الجنس البشري إلى فترة انتشار «الإنسان العاقل» على مختلف قارات العالم منذ حوال 000 60 سنة. واستمرت منذ« خروج» الإنسان الحديث من إفريقيا وحتى نهاية الألف الأول من العصر الميلادي. لكن تلك «العولمة» لم تعرف المبادلات بين القارات وإنما عاشت المجموعات البشرية في أطر معزولة عن بعضها البعض. مع ذلك كانت العولمة موجودة في «الوقائع»، إن لم تكن موجودة في «الوعي»، فالمناطق التي كانت مأهولة أثناء تلك العولمة الأولى الطويلة الأمد هي نفسها التي يعيش عليها البشر اليوم.
وكان قد تكوّن تدريجيا مفهوم «العولمة الواعية للجنس البشري» بالتزامن مع الاكتشافات الأوروبية الكبرى. وفي عام 1492 قام كريستوفر كولومبوس وبحّارته بمغامرة اكتشاف» العالم الجديد» التي كان هدفها النهائي ذو طابع «عالمي» ويتمثّل ب«الإحاطة بالكرة الأرضية كلها». وكان ذلك «الهدف» هو الذي ميّز رحلة كولومبوس عن بقية الحملات البحرية اليونانية والرومانية والصينية وحملات الفايكنج السابقة. وفي عام 1522 تم القيام بأول دوران حول العالم من البحّارة الباقين من الحملة التي كان قد قادها ماجلاّن قبل ثلاث سنوات انطلاقا من اسبانيا.
مع دوران حملة ماجلاّن حول العالم قامت للمرة الأولى علاقات منتظمة بين التجمعات البشرية الكبرى في أوروبا وأميركا وآسيا وقسم من إفريقيا. ثم قامت بسرعة كبيرة صلات وثيقة بين الدول الأوروبية والمستعمرات الاسبانية الجديدة في أمريكا اللاتينية. ولا يتردد المؤلف في القول أن حرب الثلاثين سنة ـ 1618 - 8461 ـ، التي كانت هي الحرب الأولى على صعيد القارة الأوروبية، قد تزامنت مع وصول الذهب والفضة من المناجم الاسبانية فيما يعرف الآن باسم بوليفيا. وشيئا فشيئا جرى تقسيم العالم بين دول تتبادل الاعتراف فيما بينها، وتقيم علاقات منتظمة في إطار «التدويل» الذي كرّسه مؤتمر برلين عام 1884 الذي كرّس في الوقت نفسه التقسيم الاستعماري لإفريقيا.
كان القرن العشرون قد عرف تبدلات جوهرية في العلاقات بين الأمم والدول حيث غدت روابط التداخل الاقتصادي مصادر لتحديد موازين القوى فيما بينها. وقد عرفت سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى نوعا من «العولمة» حيث شهدت المبادلات الدولية ازدهارا كبيرا. هكذا بلغت نسبة صادرات السلع حوالي 9 بالمئة من إجمالي الإنتاج العالمي عشية تلك الحرب، ولم تبلغ المستوى نفسه إلا بعد حوالي ستّين سنة.
وكانت التجارة الخارجية تمثل نسبة 34 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي البريطاني عام 1910 بحيث أنها لم تبلغ نفس النسبة من جديد سوى في نهاية عقد الثمانينات الماضي. وأمثلة كثيرة أخرى يقدمها المؤلف وتبيّن كلها أن المواد الأولية، وفي مقدمتها الفحم والبترول، تشكل عصب ذلك الازدهار في المبادلات الدولية.
وتتميز «عولمة» القرن العشرين بأنها كانت تتركز على أوروبا. ففي عام 1914 كانت القوى الأوروبية تسيطر مباشرة، أو من خلال الاستعمار، على ثلاثة أخماس سكان العالم وثلاثة أخماس إجمالي الإنتاج العالمي أيضا. لكن أوروبا تلك لم تكن «واحدة». والدليل على ذلك قيام حربين عالميتين انطلاقا منها.
وكانت أصلا تتعرض لمنافسة الولايات المتحدة الأمريكية. وكان إجمالي الإنتاج الداخلي الأمريكي قد بلغ منذ عام 1914 حوالي 20 بالمائة من إجمالي الإنتاج العالمي، أي مستوى قريب مما عرفته السنوات ال25 الأخيرة من القرن العشرين. هذا يعني أن «حجب» الدور الأوروبي من قبل الولايات المتحدة قد بدأ بتزامن مع «النصر الظاهري» للإمبريالية الأوروبية.
الحرب الأهلية العالمية
كانت الفترة بين 1914 (بداية الحرب العالمية الأولى) و1989 (انهيار جدار برلين) مضطربة جدا. لقد شهدت حربين عالميتين وعدة حروب «صغيرة» وأزمات كبرى، خاصة تلك التي عرفتها البلدان الرأسمالية ما بين عام 1929 وعام 1935.
السمة التي يتم التأكيد عليها بالنسبة لتلك الفترة المضطربة يحددها المؤلف في «تعزيز مكانة الدولة» باتجاه توتاليتاري شمولي مثلما حدث في ألمانيا النازية وأيضا باتجاه أن تلعب دورا مركزيا في الحياة الاقتصادية. هذه الوظيفة الاقتصادية لم تكن بعيدة عن تعبئة مجموع الموارد البشرية والمادية للدخول في الحربين الكونيتين المدمرتين.
وأُضيف للدور «الاقتصادي» للدولة دور آخر بعد الحرب العالمية الثانية، وهو دور «الدولة المانحة» ذو الطبيعة الاجتماعية خاصة في الدول الأوروبية. ولا تزال الدولة ذات وزن كبير في نهاية فترة الحرب الباردة بالقياس إلى فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى. وللمفارقة تبدو العولمة الحالية وكأنها مناطة قبل كل شيء بقوى اقتصادية واجتماعية فاعلة تعمل ضمن أطر ليبرالية لا حدود لها.
ويستخدم المؤلف تعبير «الحرب الأهلية العالمية» للحديث عن التغيرات التي عرفتها مصادر القوة العالمية على صعيدي التراتبية وإعادة التوزيع. ولقد عرف القرن الماضي زوال جميع الإمبراطوريات الأوروبية دون استثناء وكان آخرها الإمبراطورية السوفييتية التي مثّلها الاتحاد السوفييتي السابق الذي كان تجسيدا «جغرافيا» للإمبراطورية الروسية بصيغة شيوعية. بل ونجح فيما لم يستطع القياصرة تحقيقه في القرن التاسع عشر، أي الوصول إلى مصاف القوى العظمى العالمية الحقيقية بفضل عوامل ثلاثة تمثلت في الامتداد الجغرافي (عبر الأنظمة الشيوعية) وفي امتلاك القوة العسكرية التقليدية ثم ومنذ عام 1949 القوة النووية.
انقسم العالم في ظل الاستقطاب الثنائي الدولي إلى معسكرين، رأسمالي واشتراكي، كانت التواصلات محدودة بينهما جدا خلال نصف قرن كامل. ولم تكن التجارة مثلا بين الشرق والغرب تمثل سوى حوالي 3 بالمئة من المبادلات الدولية آنذاك. وكانت المبادلات السوفييتية مع العالم الخارجي أقل مما كان يعرفه بلد مثل بلجيكا. ولا شك أن انهيار تلك الإمبراطورية قد فتح مجالات هامة للتبادل الدولي وأزال الكثير من «الحواجز» في العالم.
وكانت حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية قد شهدت أرجحية الدور الأمريكي في العالم. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تنتج وحدها عند نهاية تلك الحرب ثلث إجمالي الإنتاج العالمي. وقد تزامن ازدهار الإنتاج الأمريكي مع انهيار الاقتصادات الأوروبية والآسيوية. ولم يكن في مواجهة الولايات المتحدة أية قوة «إمبريالية» منافسة باستثناء الاتحاد السوفييتي الذي كانت مرتكزات قوته إيديولوجية وعسكرية وإستراتيجية أكثر مما هي اقتصادية.
وكان القرن العشرون الذي عرف في بداياته انهيار الإمبراطوريات قد انتهى ببروز أعداد متزايدة من الدول التي وصل عددها إلى 193 دولة مقابل 52 دولة فقط عام 1913. وبلغ عدد الدول الأوروبية (بما في ذلك روسيا وتركيا) 43 دولة مقابل 25 دولة عشية الحرب العالمية الأولى. وكانت دولة واحدة مستقلة في أوروبا هي «الجبل الأسود» قد اختفت، لكنها عادت للظهور عام 2006، مقابل ولادة 18 دولة جديدة.
العولمة المعاصرة
يؤكد مؤلف هذا الكتاب أن العولمة الراهنة عرفت بداياتها خلال التجزئة التي عرفتها فترة 1914-1989. وإن الحرب نفسها كانت وراء ولادة بعض «الحوامل» الأكثر دفعا نحو العولمة وخاصة ثورة المعلومات. ويتم هنا تحديد مصدرين أساسيين للعولمة، ومن طبيعتين مختلفتين تماما، هما: مؤسسات بريتون وودز وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من جهة، وثورة المعلوماتية من جهة أخرى.
كانت منظومة بريتون وودز قد تأسست عام 1944، وكانت تمتلك إلى جانب بعدها المالي والنقدي (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) بُعدا تجاريا تمثّل في اتفاقية ال«الجات» الخاصة بالمبادلات التجارية والتعرفة الجمركية، نجم عن ذلك «تحريرا» تدريجيا للتجارة الدولية عبر اتفاقية ال«الجات» حتى عام 1994 حيث حلّت محلّها منظمة التجارة العالمية. وخدم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كضامنين ل«الأمن المالي العالمي».
وكان ذلك الجمع بين الإجراءات الليبرالية وتنظيم المبادلات الدولية قد سمح بتجنب بروز أزمات اقتصادية هائلة مثل تلك التي عرفها العالم الاستعماري منذ عام 1929 وحتى عام 1935. كانت هناك فقط فترات «ركود» اقتصادي كتلك التي عرفتها البلدان المصنعة خلال عامي 1973 و1975 إثر الزيادة الكبيرة في أسعار البترول. كما استجدّت بعض الأزمات الإقليمية الخطيرة في المكسيك عام 1994 وفي آسيا ما بين 1997 و1999 وفي روسيا والبرازيل. لكن لم يكن لتلك الأزمات الإقليمية كلها أي صدى حقيقي على المستوى العالمي، وبالتالي لعبت المؤسسات الدولية الدور المطلوب منها.
وكانت ثورة تكنولوجيات المعلومات قد ساهمت كثيرا في تثبيت أركان العولمة المعاصرة، وذلك من خلال «اللقاء» منذ حوالي ثلاثين سنة تقريبا، بين استخدام الإلكترونيات والحاسوب والشبكات. فالتكنولوجيا الإلكترونية جرى استخدامها كوسيلة لإنتاج المعلومات ونقلها وليس كقوّة وطاقة فقط. ويشير مؤلف الكتاب في هذا السياق إلى أن اللجوء للإلكترونيات من أجل «معالجة» المعلومات وليس فقط نقلها حديث جدا نسبيا. فالآلة الحاسبة الإلكترونية الأولى تعود إلى عام 1946 وقام بتصنيعها الجيش الأمريكي من أجل حسابات خاصة بالمتفجرات. أما التقدم الأساسي فقد تحقق مع اختراع أول مذياع محمول «ترانزستور» في مخابر شركة «بيل» عام 1948.
وبعد خمسين سنة من تصنيع «الترانزستور» جرى التوصل إلى صناعة «برغوث إلكتروني» يضم حوالي 14 مليون «ترانزستور» على مساحة تعادل قطعة طولها 5 سنتمترات. وغيّرت بالتالي اللغة الرقمية آلية التعامل مع المعلومات لتحدث ثورة حقيقية على مستوى التلفزة والإذاعة ووسائل الإعلام كلها. وكان إيقاع التقدم سريعا جدا خلال العقود الثلاثة المنصرمة إلى درجة قول مؤلف الكتاب أنه: «إذا جرى تطبيق إيقاع التقدم ـ الحاصل في ميدان المعلومات ـ على ميادين أخرى، فإن تصنيع سيارة جديدة سوف يكلّف أقل من يورو واحد وسوف تسير عدة مئات من الكيلومترات بليتر واحد من البنزين». ويضيف: «تتمثل إحدى سمات ثورة المعلومات في أنها لا تكتفي بالمبالغة في فرض نفسها أو أنها تأتي بعد موجات أخرى من التصنيع، وإنما هي تندمج داخل المنتوجات التقليدية».
أما بالنسبة للحاسوب فإن المؤلف يعيد ظهور مفهوم الحسابات المعقّدة والذاكرة والبرمجة إلى سنوات الثلاثينات من القرن التاسع عشر حسب نظرية المدعو «ميشيل باباج». لكن كان لا بد من انتظار سنوات التسعينات في القرن الماضي (العشرين) لكتابة أول برنامج معلوماتي بينما كان البريطانيون والأمريكيون قد استخدموا منذ سنوات الأربعينات، وتحديدا أثناء الحرب العالمية الثانية، بعض الحواسيب «البدائية» في التشويش على الرسائل الألمانية «المشفّرة».
ويشير المؤلف هنا إلى أن أي حاسوب حديث يمتلك استطاعة حسابية أعلى من مجموع حواسيب العالم التي كانت في الخدمة خلال منتصف سنوات الخمسينات المنصرمة. واليوم هناك مئات ملايين الحواسيب الشخصية بينما لم يكن هناك آنذاك سوى عدة عشرات من «الوحدات المركزية». ثم كانت هناك «الشبكات» وخاصة شبكة «الانترنت». كانت الشبكة الأولى تحمل اسم «اربانيت» التي أُقيمت تحت إشراف وزارة الدفاع الأميركية من أجل التواصل مباشرة من حاسوب إلى آخر لمؤسسات جامعية وغيرها، كانت تعمل مع الوزارة.
لقد بدأت الشبكة بالعمل عام 1972 بوجود أربعين موقعا. ويشير المؤلف في هذا السياق إلى روايات أكّدت أن الباعث الأساسي وراء قيام شبكة الانترنت كان تأمين اتصالات يمكنها أن تعمل حتى في حالة قيام حرب نووية. ما يؤكده المؤلف، بعيدا عن مثل تلك الرواية، هو أن الانترنت» وليدة» الحرب الباردة.
في المحصلة يحدد مؤلف الكتاب ثلاث خصوصيات تميّز العولمة الراهنة وكلّها لها علاقة مباشرة بثورة المعلوماتية. الخصوصية الأولى تتمثل في المباشرة وبنقل المعلومات خلال «الزمن الحقيقي»، أو «شبه الحقيقي» بواسطة اللغة الرقمية. الخصوصية الثانية هي تمكّن الجميع دون تمييز في الوصول إلى المعلومات. والخصوصية الثالثة تتمثل في تجاوز الحدود الجغرافية والديموغرافية بالنسبة لأغلبية شبكات المعلومات.
القطيعة مع التدويل
إن العولمة الحالية تشكل قطيعة مع عملية «التدويل» التي سبقتها. فذلك التدويل كان أوروبيا من حيث القائمين عليه وأوروبيا من حيث تقسيم العالم إلى مناطق استعمارية مرتبطة بأوروبا وأوروبيا من حيث القيم التي حملها. وكان مستعمرو الأمس قد حملوا معهم بعض القيم ذات النزعة الكونية فالحديث عن الإرث الثوري وحقوق الإنسان شكّل أحد عناصر الخطاب الإمبريالي الفرنسي، وكانت الديمقراطية إحدى موضوعات البلاغة الإمبريالية البريطانية. مثل هذه المقولات في الخطاب النظري وجدت بالطبع حدودها الضيّقة في الواقع. ذلك أن القائلين بها كانوا يُخضعون آخرين لسيطرتهم ولم يكن بإمكانها أن تطمس الواقع الاستعماري.
لا شك أن عملية «التدويل» تلك قد خلقت أشكالا من التداخل على الصعيد العالمي. لكن كان لا بد لذلك النموذج «الإمبريالي» من «العولمة» كي يعمل، من افتراض وجود روابط سياسية وليس فقط اقتصادية أو ثقافية بين من يسيطر ومن يقع تحت السيطرة. ثم من المعروف أن أوروبا لم تكن هي المهيمنة فعليا خلال ثلاثة أرباع الفترة التي فصلت بين قيام الحرب العالمية الأولى (1914) وسقوط جدار برلين (1989) ذلك أن الولايات المتحدة كانت قد غدت زعيمة المعسكر الغربي والمهيمنة فيه اقتصاديا ثم سياسيا وإستراتيجيا.
لقد اتسم القرن العشرون عامة بوجود إيديولوجيتين متعارضتين، انتهت إحداهما بالسقوط أمام امتحان الوقائع. وبدت تسود في العالم الغربي ليبرالية مزدوجة. فهي من جهة ليبرالية سياسية تحت شعار التأكيد أن الديمقراطية هي مستقبل العالم وليس فقط هي «الأقل سوءا» بين الأنظمة حسب مقولة ونستون تشرشل. ومن جهة أخرى ليبرالية اقتصادية قادرة وحدها على «تحرير» قوى الإنتاج بما في ذلك من أشكال القسر التي تفرضها الدولة والتي غدت لا تتلاءم مع متطلبات العولمة الجديدة.
إن المعسكر الذي يقول بمثل تلك القيم بدا منتصرا. وانتصاره هذا هو الذي استلهم منه المفكر الأمريكي ذو الأصل الياباني فرانسيس فوكوياما كتابه المعروف «نهاية التاريخ» والذي يندرج، حسب توصيف المؤلف، في النهج المستقيم لأفكار هيغل وماركس الخاصة ب«الحتمية التاريخية». ذلك أن» فوكوياما» قد أعطى الانتصار لليبرالية كما كان ماركس قد أعطاه للطبقة العاملة» بروليتاريا» زاعما أنه جعل خطاب «هيجل» يمشي على قدميه وليس على رأسه.
وتتم الإشارة في هذا السياق إلى فكرة انتشرت ومفادها أن المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للعولمة الجديدة ليست هي نتاج علاقات سيطرة تمارسها أمريكا بمقدار ما هي نتيجة مباشرة للتكنولوجيات الجديدة. ومن جهة أخرى كانت سنوات التسعينات المنصرمة قد شهدت نقاشات واسعة حول» القيم الآسيوية» أثارها رئيس وزراء ماليزيا آنذاك مهاتير محمد . بل وكانت الولايات المتحدة نفسها قد عرفت منذ عام 1993 الإعلان عن «صدام الحضارات» كما جاء في أطروحة صموئيل هنتجتون الشهيرة.
ويشير المؤلف إلى أن «الحرب الأهلية العالمية» ما بين 1914 و1989 قد قامت على خلفية استقطاب إيديولوجي متطرف نتيجة للنقاشات التي عرفها القرن التاسع عشر وقسط كبير من القرن العشرين وكان لها آثارها السياسية والعسكرية الكبيرة. لكنه يرى أن النقاش الحالي الدائر حول «صدام الحضارات» لن يؤدي بالضرورة إلى مواقف جذرية «راديكالية» كالسابق وإنما إلى تعميم القيم الغربية لكن دون أن يسيطر الغرب على صعيد موازين القوة العالمية. ذلك على غرار اليونان القديمة التي فقدت مواقع قوتها العسكرية والسياسية والاقتصادية وإنما سادت ثقافتها في مجال جغرافي امتد من اسبانيا حتى نهر الغانج بعد انهيار الإمبراطورية المقدونية العابرة التي أشادها الاسكندر الأكبر.
وكانت تلك الثقافة اليونانية القديمة «الكونية» قد ولّدت، عبر امتزاجها مع ثقافات المجتمعات الإقليمية المحيطة، نوعا من الثقافة «العامّة» التي وحّدت، عشية انتصار الإمبراطورية الرومانية، العالم المتوسطي ومنطقة غرب آسيا. على نفس الطريقة يمكن للقيم التي حملتها الديمقراطيات الغربية أن تمتزج مع الثقافات غير الغربية. وعبر هذا ستصبح القيم الغربية، حسب شروحات المؤلف، منذئذ قيما ذات تطلع كوني على غرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من قبل منظمة الأمم المتحدة عام 1948 كوريث لإعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عن الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789 أو ربما كوريث لما جاء في مقدمة الإعلان عن استقلال أمريكا عام 1776، وحيث كانت تلك المقدّمة مكرسة للبحث عن «السعادة الإنسانية».
وإذا كان المحافظون الأمريكيون الجدد يؤيدون مقولة التقدّم نحو «عولمة سعيدة» فإن تفجيرات 11 سبتمبر 2001 والحرب في العراق تؤكدان واقع أن مسيرة التاريخ لا يمكن رسم خطوطها المستقبلية حسبما جاء في الإيديولوجيات التي ترسم تلك المسيرة على أساس «قوانين» من الماركسية حتى المحافظة الجديدة. وما يؤكده المؤلف هو أن القرن الحادي والعشرين زاخر بالرهانات ذات المصير المجهول في ظل حقيقة واضحة هي صعود آسيا.
محصلة قرن
شهد القرن العشرون حالتين متقدمتين من عالمية العلاقات الدولية. كانت الأولى في بدايته أثناء ذروة «التدويل» الذي أنتجته الثورة الصناعية واستجدّت الثانية في نهايته مع العولمة الحالية. وما بين هاتين الحالتين قامت «حرب أهلية عالمية»، حسب تعبير مؤلف هذا الكتاب. هكذا تحدث البعض، مثل المؤرخ البريطاني الشهير «اريك هوبسباوم» عن قرن عشرين «قصير» ابتدأ يوم 28 يونيو 1914 في سراييفو وانتهى في برلين ليلة 9 إلى 10 نوفمبر 1989، وبتعبير آخر كان قرنا من النزاعات الكونية مما مثّل تراجعا فيما يتعلق ب«عولمة» المبادلات الاقتصادية والإنسانية والثقافية بالقياس إلى العقود التي سبقت عام 1914.
لكن المؤلف يشير إلى ضرورة عدم الفصل بين فترة النزاعات الكبرى والسنوات التي سبقتها أو تلتها مباشرة. ذلك أنه لا يمكن فصل الحرب الأهلية العالمية عن العقود السابقة للتدويل، ولا عن مظاهر الدورة الجديدة من العولمة المرتبطة بتطور تقنيات المعلومات، وخاصة اختراع الحاسوب. ويرى المؤلف أيضا أن الحربين العالميتين اللتين شهدهما القرن الماضي لم تكونا فترتين «معترضتين» طويلتين وقاتلتين بين حالتين من العولمة فحسب وإنما كانتا أيضا أحد مكونات المنظومة العالمية التي خلّفها القرن التاسع عشر. بهذا المعنى تغدو العولمة والنزاعات جزء من «الواقع نفسه».
ذلك أن» النزاعات الماضية والحالية والقادمة مدانة كلها، لكنها ليست عنصرا خارجيا بالعلاقة مع مسار العولمة. وإذا استعرنا بعض تعابير القاموس الطبي، فإن هذه النزاعات لا تمثل جرحا طارئا بسبب حدث ما وإنما بالأحرى هي سرطان ينتشر بفضل المنظومة التي يتولّد بداخلها ويتغذى منها.
وتتم الإشارة هنا إلى أن الحرب العالمية «الأولى» عام 1914 لم تكن» الأولى» حقيقة فحرب الخلافة في اسبانيا (1701-1714) وفي النمسا (1740-1748) وحرب السنوات السبع (1756- 1763) شهدت معارك في جميع البحار والقاراّت المسكونة. مع ذلك تتميز الحرب الكبرى لعام 1914 بأنها كانت «حربا شاملة» خاضتها المجتمعات أيضا، وحربا قاتلة مع ما يزيد عن 15 مليون ضحية أغلبيتهم الساحقة من الشباب. وكانت الحرب العالمية الثانية قد شهدت استخدام السلاح النووي للمرة الأولى في التاريخ بينما زاد عدد ضحاياها عن 50 مليون نسمة، أربعة أخماسهم في أوروبا وحدها.
هكذا كان القرن العشرون هو الذي امتلكت فيه الإنسانية وسائل تدميرها. ويرى المؤلف أن نجاتها من «الإبادة النووية» تعود إلى الحظ بدرجة لا تقل عما تعود إلى حكمة البشر، كما يشير مضيفا «أن ما نعرفه اليوم عن أزمة الصواريخ الكوبية - عام 1962- لا يبعث أبدا على الاطمئنان».
وكان القرن العشرون قد شهد كوارث هائلة مصدرها البشر أنفسهم، فحوالي 20 مليون إنسان فقدوا حياتهم في الاتحاد السوفييتي (السابق) ما بين 1930 و1940 بسبب الجوع أو القمع الستاليني. وهلك 30 مليون صيني على الأقل أثناء» القفزة الكبرى إلى الأمام» التي قررها ماوتسي تونج ما بين 1957 و1963.
ويقدم المؤلف رقم 170 مليونا من البشر فقدوا حياتهم من جرّاء أفعال مباشرة قامت بها الدول. بالمقابل ما بين عام 1900 وعام 2000 ازداد عدد سكان المعمورة من 6. 1 مليار نسمة إلى 6 مليارات. هذه الزيادة التي لا سابق لها تطرح أيضا تساؤلات حول المصادر الطبيعية المتوفرة وتحديات كبيرة وحاسمة حول البيئة. هذا الواقع الجديد سيكون أحد مفاتيح تحولات العولمة نفسها خلال العقود القادمة.
عرض ومناقشة: محمد مخلوف
تعليق