كتاب ـ قصة الإليزيه

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد زعل السلوم
    عضو منتسب
    • Oct 2009
    • 746

    كتاب ـ قصة الإليزيه

    كتاب ـ قصة الإليزيه ـ الحلقة (1)
    ديغول يرفض الذهاب إلى الإليزيه على متن مروحية عسكرية
    تأليف :فرانسوا دورسيفال



    يكشف هذا الكتاب عن أسرار كثيرة من خبايا السياسة الفرنسية في أعلى مستوياتها والتي ارتبطت بصورة مباشرة بمقر السلطة الفرنسية العليا ومطبخ سياستها الخارجية والداخلية في قصر الإليزيه. فخلف جدران قصر الإليزيه ينبض قلب فرنسا.




    هذا القصر الذي قالت عنه ذات يوم السيدة برناديت شيراك، زوجة رئيس الجمهورية الفرنسية السابق جاك شيراك، ما نصّه: «لا يمكن تصوّر ما سمعته جدران هذا القصر من أسرار». ويحكي هذا الكتاب «قصة القصر» لكنها قصة حقيقية للأحداث والخطط والمؤامرات التي حاكت تاريخ فرنسا الحديث من نابليون بونابرت حتى نهاية حكم جاك شيراك. ففي قصر الإليزيه واجه الجنرال شارل ديغول لحظات صعبة عام 1968 أثناء «ثورة الطلبة» في شهر مايو ، وفيه أقام فاليري جسكار ديستان مقر القوة الفرنسية النووية الضاربة وفيه انتحر فرانسوا دو جروسوفر. وفي قصر الإليزيه أيضا اتخذ جاك شيراك بعض القرارات التاريخية حيال حرب العراق في ربيع عام 2003.




    يطلق عليه البعض تسمية «القصر»، وهو قصر «صغير» لا يتعدّى بفخامته العديد من قصور مناطق بعيدة عن العاصمة باريس. بُني قصر «الإليزيه» من قبل أحد الأمراء في عصر لويس الخامس عشر قبل حوالي ثلاثة قرون. لكنه لم يتعرض خلال تاريخه كله لعمليات سلب أو حرق أو تخريب... لا من قبل الثورة الفرنسية الكبرى ولا من غيرها. تحتوي باريس على عدة قصور من بينها اللوفر ولكسمبورج (مقر مجلس الشيوخ حاليا) والبوربون (مقر الجمعية الوطنية الفرنسية) والقصرين الكبير والصغير (متحفين حاليا). لكن اثنين فقط من قصور العاصمة يطلق عليهما تسمية «القصر»، وهما «قصر العدالة وقصر الإليزيه» وكأنه يراد التأكيد على نفس القدر من الاحترام للعدالة وللسلطة.




    خلف جدران هذا القصر «يخفق قلب فرنسا»، هذا ما يقوله المؤلف في متن هذا الكتاب. كان قصر الإليزيه في البداية ملكا لأسرة كبيرة ثم للملك وللإمبراطور وأخيرا للجمهورية. اتخذ أسماءً عديدة كإليزيه بوربون وإليزيه نابليون والإليزيه الوطني قبل أن يصبح قصر «الإليزيه» فقط. يؤكد مؤلف هذا الكتاب أن قصر الإليزيه، رغم تاريخه الطويل، لم يصبح مقرّا للسلطة الحقيقية سوى في عام 1959 بعد أن أقام الجنرال شارل ديغول الجمهورية الفرنسية الخامسة عام 1958.وكان قد أقام به مقر قيادة أركان جيشه بما في ذلك سلطة التحكم ب«الأسلحة النووية».


    وباستمرار كان أمن القصر وأمن رئيس الدولة مناطين بالقائد العسكري للقصر وبحرسه الجمهوري. ويسهر على صحة الرئيس طبيب عام وأربعة أطباء عسكريين للطوارئ، وإذا اعتلّت صحة الرئيس، أو تعرّض لأي حادث، فإنه يتم نقله إلى المستشفى العسكري.


    ومن الأحكام المطبّقة على قصر الإليزيه أن الرئيس عندما يغادره للمرّة الأخيرة بعد نهاية فترته الرئاسية، التي لا يمكن أن تنقطع إلا بسبب الاستقالة أو المرض أو حدوث انقلاب عسكري، فلا يحق له بعد ذلك الدخول إليه مطلقا.


    والأمر نفسه مطبّق على زوجات الرؤساء، وكان الاستثناء الوحيد هو عودة دانييل متيران، زوجة الرئيس الراحل فرانسوا متيران إليه لمرّة واحدة ل«سبب قاهر». وإذا كان الرئيس الأسبق فاليري جسكار ديستان قد دخل من جديد إلى قصر الإليزيه بعد 24 سنة من خروجه منه لآخر مرة فإن ذلك بحكم «الواجب القانوني» الذي يفرضه انتخابه كعضو في الأكاديمية الفرنسية.


    كان قصر الإليزيه يحمي «أسراره» من عيون المارّة بقربه خلف سوره الذي لم يكن يسمح برؤية سوى بعض درجات مدخله. لكن في ربيع عام 1978 قرر الرئيس الفرنسي آنذاك فاليري جسكار ديستان فتحه للزائرين بينما كان دخوله في السابق مقتصرا على المدعوين. وينقل المؤلف عن الجنرال ديغول في مذكراته قوله: «من الطبيعي أن يكون قصر الرئيس هو إطار لقاءات ودعوات واحتفالات مستمرّة (...). كانت الأمور تتم بقدر كبير من الأبّهة والدقة. وكانت تلك هي إرادة سيدة البيت، أي زوجتي».


    وبمناسبة زوجات الرؤساء، فإن مؤلف هذا الكتاب يعتمد على السيدة برناديت شيراك، زوجة الرئيس السابق جاك شيراك، من أجل تعريف القارئ بقصر الإليزيه. كانت المرة الأولى التي دخلت فيها إليه عام 1967 عندما جرى تعيين زوجها سكرتير دولة للميزانية في حكومة جورج بومبيدو، رئيس الوزراء آنذاك. كان الجنرال قد دعا شيراك وزوجته لتناول طعام الغداء في القصر.


    وينقل المؤلف عن السيدة برناديت شيراك قولها بخصوص ذلك: «كان الجنرال ودودا جدا وعندما شعر أن السيدة التي تجلس بجانبه مضطربة فعل كل ما في وسعه من أجل تلطيف الجلسة. وقد جرى استقبالنا بعد ذلك برفقة أسرة بومبيدو على وجبات العشاء وكان ذلك يتم غالبا بوجود فنانين. وكان يتم أحيانا عرض فيلم سينمائي جديد».


    وتشرح السيدة برناديت شيراك أنه جرى تحويل إحدى صالات قصر الإليزيه الكبرى، التي كانت مكتب رؤساء الجمهورية الفرنسية الثالثة، إلى مكتبة. وأمام رفوف هذه المكتبة جرى التقاط الصور الرسمية لكل من الجنرال ديغول وخليفته جورج بومبيدو ثم فرانسوا متيران. وبجانب هذه الصالة يوجد «الصالون الفضي» الذي كان نابليون قد وقّع فيه «وثيقة تخلّيه عن العرش» بتاريخ 22 يونيو من عام 1815.


    وفي الطابق الأول من القصر الذي يمكن بلوغه عن طريق سلّم أو عن طريق المصعد الكهربائي «الوحيد» في القصر يوجد المسكن الخاص للرئيس وزوجته. أما «صالون السفراء» فقد أخذ هذه التسمية لأن الرئيس يتسلّم فيه أوراق اعتماد السفراء الأجانب في باريس. وقد كان قاعة للاستقبال في زمن نابليون الثالث. وكان الجنرال شارل ديغول قد ألغى ذلك التقليد وحوّله إلى مكتبه الخاص ثم أصبح بعده المكتب الخاص لجورج بومبيدو.


    لكن فاليري جيسكار ديستان رغب في «تغيير الحقبة» فاتخذ لنفسه مكتبا في قاعة أخرى. وعندما وصل فرانسوا متيران إلى الرئاسة أراد أن يحتل نفس المقعد الذي كان يشغله الجنرال ديغول فأعاد مكتبه الخاص إلى حيث كان بل وأعاد نفس الأثاث الذي كان يحتويه في ظل الجنرال ولم يغيّر هذ الأثاث إلا أثناء فترته الرئاسية الثانية. لكن عندما وصل جاك شيراك إلى قصر الإليزيه وجد نفس الأثاث الذي كان يشغله الجنرال.


    حاضنة الجمهورية


    بعد فصول عديدة يكرسها مؤلف هذا الكتاب لتاريخ قصر الإليزيه ما بين القرن الثامن عشر وما يزيد عن نصف القرن العشرين يتحدث عن الفترة الحديثة ابتداء من عام 1958، أي منذ تأسيس الجمهورية الفرنسية الخامسة التي لا تزال قائمة حتى اليوم حيث أن الرئيس الحالي نيكولا ساركوزي هو الرئيس السادس لهذه الجمهورية الخامسة. الفترة التي خطّ الجنرال ديغول فيها ملامح سياسة فرنسا على الصعيد الدولي لا تزال راهنة حتى اليوم ولا يزال قصر الإليزيه هو «حاضنتها» الرئيسية.


    في نهاية عام 1957 شهدت فرنسا أزمتين حكوميتين كبيرتين خلال فترة ستة أشهر فقط. كان رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك -الجمهورية الرابعة- هو «رونيه كوتي». بدا الطريق مسدودا تماما، الأمر الذي دفع «اوليفييه غيشار» رئيس مكتب الجنرال ديغول إلى القول له: «سيدي الجنرال، ينبغي الخروج من هذا المأزق، وربما ينبغي عليكم الذهاب لرؤية رونيه كوتي وإفهامه أن الوضع هو في الطريق المسدود. إنه رجل عاقل وسوف يستمع إليكم، وهو الذي سوف يغادر قصر الإليزيه بعد اللقاء».


    وينقل المؤلف عن «غيشار» قوله: «لقد رفع الجنرال نظّارتيه عن عينيه ورمقني بابتسامة رصينة وقال لي: أنت مخطئ تماما. إن كوتي سيكون مؤيداً لرأيي بالفعل. لكن الأمور لا تجري بهذا الشكل في الإليزيه، إذ هناك رجال الإدارة، وهؤلاء هم من أنصار المنظومة القائمة». ثم أردف الجنرال أنه «عندما لا يغدو أحد سيد اللعبة» فإن الإداريين والموظفين لا يعودوا يرون في الدولة سوى مجرد «ديكور». وأنهى الجنرال حديثه بالقول: «لن تعرف الجمهورية كيف تدافع عن نفسها إلا إذا عرفت كيف تصلح نفسها».


    وينقل المؤلف في هذا السياق عن أحد المحللين السياسيين لتلك الفترة واسمه «جان اندريه نوشيه» قوله: «يمكن المراهنة بقوة على أن رونيه كوتي سيكون آخر رئيس للجمهورية الرابعة. ولن تستطيع آلة النظام أن تقاوم لسبع سنوات قادمة (...). وعندما لا يعود المهرّجون يثيرون ضحك الجمهور، يغدو من الملحّ جدا إغلاق السيرك».


    بتاريخ 29 يناير 1958 كانت النقاشات تدور في قصر الإليزيه حول تونس التي جرى اتهامها أنها تخدم آنذاك كقاعدة خلفية ل«التمرّد الجزائري» أي لحرب التحرير التي اندلعت عام 1954. أبدى يومها «روبيرت لاكوست» الاشتراكي والوزير الفرنسي المقيم في الجزائر منذ عام 1956 قلقه الكبير لاسيما وأنه كان من المتحمسين لـ«الجزائر فرنسية».


    بنفس الوقت كانت موجة العنف تتصاعد في الجزائر وكانت نشاطات الثوار الجزائريين تتعاظم عبر الحدود الفرنسية حيث كانوا قد اتخذوا من قرية «ساقية سيدي يوسف» في تونس قاعدة خلفية لهم. وبتاريخ 8 فبراير 1958 قامت الطائرات الفرنسية بقصف تلك القرية مما أدى إلى تدمير منازل ومدرسة وسقوط 69 ضحية من بينهم 21 طفلا.


    أثار ذلك موجة استنكار وطنية ودولية. لكن من الذي أعطى الأمر بتلك الغارة؟ لم يكن رئيس الحكومة ولا حتى وزير الدفاع آنذاك جاك شابان دالماس وإنما الجنرال «جوهو» قائد سلاح الجو الفرنسي في الجزائر بموافقة من الجنرال «سالان» قائد الأركان ورأس حربة الداعين لبقاء الجزائر فرنسية.


    قدّمت تونس شكوى لمجلس الأمن في الأمم المتحدة الذي أصدر أمرا لفرنسا بقبول «وساطة حسن النوايا» التي قام بها دبلوماسي أمريكي كان قنصلا سابقا في الجزائر عام 1942 برفقة وزير انجليزي. رأت الجزائر بذلك مؤشرا على قبول فرنسا بتدويل الملف الجزائري. بالمقابل ثارت ذكريات «سيئة» لدى القيادات الفرنسية مثل «ندوة جنيف» التي كرّست هزيمة فرنسا الذليلة في «ديان بيان فو» في فيتنام عام 1954 أو مثل عملية السويس المجهضة عام 1956.


    وفي مثل ذلك السياق عرف الجيش الفرنسي حالة من الغليان بقيادة ضباط كانوا قد خدموا في فيتنام أو شاركوا في الحرب ببور سعيد مثل الجنرالات سالان وماسو وبيجار. كانت الأجواء ملبدة بالمؤامرات. ولم يكن رئيس الجمهورية «روني كوتي» يجهل ذلك أبدا إذ كانت له «شبكاته». بل وكانت المعلومات تصل إلى قصر الإليزيه بنفس الوقت الذي كانت تصل فيه إلى الجنرال ديغول.


    ارتفعت آنذاك أصوات لبعض البرلمانيين الذين طالبوا بتشكيل «حكومة إنقاذ وطني عام». وينقل المؤلف عن النائب «جاك سوستيل» الذي كان حاكما عاما للجزائر حتى عام 1956 قوله: «ليس هناك بين رجال الدولة اليوم إلا رجل واحد يمكنه أن يتمتع على المستوى الخارجي بالسلطة الضرورية لفرض احترام المصالح الحيوية لفرنسا وفي شمال إفريقيا. هذا الرجل هو الجنرال شارل ديغول». وفي المحصلة أصبح الكثيرون يعتقدون أن السؤال لم يكن يتعلق معرفة ما إذا كان الجنرال سيعود، أو لا يعود إلى السلطة وإنما هو معرفة متى.


    ألحّ الأمريكيون آنذاك على الحكومة الفرنسية من أجل قبول وساطة «حسن النوايا». بخصوص شكوى تونس لدى الأمم المتحدة، انقسمت الحكومة الفرنسية حول قبول الوساطة أو عدم قبولها بين من يؤيد القبول وبين من يعارض وصولا إلى قول أحد الوزراء أنه: «من الأفضل احتلال تونس».


    البقاء في الظل


    فضّل الجنرال ديغول البقاء في الظل و«عدم الظهور على المسرح السياسي» فترة طويلة من الزمن، وذلك إلى أن وصلته ذات يوم رسالة من رئيس أركان الجيش جاء فيها: «على مقامكم العالي أن يتدخل من أجل إنقاذ البلاد».


    اعتبر الجنرال عندها أنه لم يعد يحق له أن يلوذ بالصمت بعد أن جرى إخطاره بالانهيار القريب للنظام من قبل رئيس الجمهورية ومن قبل رئاسة أركان الجيش. وقد كتب الجنرال بعد ذلك في مذكراته، كما ينقل عنه المؤلف، ما يلي: «كان أمامي عدة ساعات فقط من أجل اتخاذ قراري. ذلك أن الثورات تتقدم بسرعة. لكن علي مع ذلك أن أحدد اللحظة التي أظهر فيها على خشبة المسرح».


    تسارعت الأحداث بعد ذلك والمظاهرات وعصيان الأوامر من قبل العسكريين. وتتالت الاجتماعات الحكومية في قصر الإليزيه حتى الساعات المتأخرة ليلا بينما بدا أن الجيش على وشك الاستيلاء على السلطة خشية أن تعمّ الفوضى. عندها قام الجنرال بنشر تصريح له جاء فيه: «لقد أولتني البلاد ثقتها كي أقودها إلى بر الأمان. اليوم وأمام التحديات التي تنتصب أمامها، فتدرك أنني مستعد كي أقوم بمسؤوليات السلطات الجمهورية».


    لكن مجلس الوزراء قرر العمل من أجل فرض حالة الطوارئ -الأحكام العرفية- لمدة ثلاثة أشهر كما يسمح القانون الصادر بتاريخ 3 أبريل 1955. في تلك الأثناء أعلن الحزب الشيوعي الفرنسي القوي آنذاك، دعمه للحكومة من أجل «الدفاع عن الجمهورية ضد الفاشية». الفاشية المقصودة كانت بنظرهم ممثلة بالجنرال ديغول.


    هذا ما رد عليه الجنرال بالقول: «دكتاتور؟ وهل يظنّون أنني وأنا بعمر 67 سنة سوف أبدأ مسيرة جديدة كدكتاتور»؟ كانت أفواج متزايدة من السياسيين تتقاطر نحو «كولومبي»، بلدة الجنرل، لتأكيد دعمها له تحت أنظار رجال وضباط الاستخبارات العامة. وقد عرض ضباط كبار عليه خطة يتم على أساسها استخدام جنود المظلات لحسم الأمور بالقوة لصالحه. لكن الجنرال أفهم الجميع أن لا ينوي الوصول إلى زقصر الإليزيه بطائرة مروحية عسكرية».


    في مثل ذلك الإطار أصبح الخيار المطروح أمام السلطة الشرعية هو بكل بساطة التالي: أما الجنرال أو التهديد بقيام حرب أهلية طاحنة. وينقل المؤلف عن الجنرال ديغول أنه أسرّ لابنه فيليب ديغول، الذي أصبح فيما بعد أميرالا في الجيش الفرنسي، ما مفاده: «عندما سادت أجواء الخوف أرغمت ردود فعل الجيش رجال السياسة على أن يفهموا بأن الجمهورية الرابعة قد ماتت حقيقة».


    دعا رئيس الجمهورية الجنرال ديغول للقدوم إلى قصر الإليزيه «من أجل البحث بتشكيل حكومة إنقاذ وطني» والعمل على «إصلاح عميق للمؤسسات». وصل الجنرال إلى القصر من الباب الخلفي عبر الحديقة تحاشيا للصحافة والمصورين. وكان الرئيس «رونيه كوتي» قد بعث رسالة للبرلمان وصف فيها الجنرال أنه الرجل «الأكثر شهرة بين الفرنسيين». وأضاف «إنه ذلك الشخص الذي كان قائدنا لاستعادة حريتنا في أحلك لحظات تاريخنا».


    التقى الرجلان على انفراد في إحدى قاعات قصر الإليزيه بدون أي شاهد. «لقد تفاهمنا في الحال» كما قال الجنرال لاحقا مشيرا إلى أنه طالب يومذاك تولّي سلطات كاملة لمدة ستة أشهر وحلّ البرلمان وتحضير دستور جديد. واعتبارا من تلك اللحظة لم يكن هناك رجلان على قمة السلطة، وإنما رجل واحد هو الجنرال ديغول، ذلك أن السلطة نفسها لا تقبل الانقسام. كان «رونيه كوتي» لا يزال في قصر الإليزيه ولكن لا يملك إمكانية اتخاذ أية مبادرة.


    وبتاريخ 21 ديسمبر 1958 جرى انتخاب الجنرال شارل ديغول رئيسا للجمهورية الفرنسية الخامسة بعد أن كان قد تمّ تبنّي دستور جديد باستفتاء شعبي عام أنهى الجمهورية الرابعة التي قامت أثناء الحرب العالمية الثانية. تسلّم الجنرال مهام منصبه كرئيس للجمهورية يوم 9 يناير 1959 لتبدأ إقامته في قصر الإليزيه. وكانت الخطوة الأولى التي قام بها هي تحويل الطابق الأول من القصر إلى مكاتب احتلّ هو نفسه واحدا منها وقد اختاره مطلاّ على الحديقة وعلى الأشجار التي تزيّن جادة الشانزيليزيه.


    ثورة الطلبة


    من بين الأحداث والأزمات الكبرى التي شهدها قصر الإليزيه في ظل الجنرال شارل ديغول يركز مؤلف هذا الكتاب على أزمة مايو 1968، أي الأزمة التي أثارتها الأحداث المعروفة باسم «ثورة الطلبة» التي كادت أن تسقط الجنرال. فبتاريخ 3 مايو 1968 كان الإليزيه «على بعد خطوات فقط» من المتظاهرين المتقدمين باتجاهه. يومها قال الجنرال: «إننا لن ندعهم يدوسون علينا ويسحقوننا بأقدامهم».


    تساءل الجنرال أمام عدد من مساعديه في قصر الإليزيه: «لكن ماذا يريدون»؟ ربما كانت المرة الأولى التي لم يفهم فيها ما كان يجري في الشارع. كان آنذاك يراقب مسلسل العنف وهو معزول في مكتبه بالقصر عبر المعلومات التي يقدمها له مستشاروه وعبر النشرات الإخبارية ب«الأسود والأبيض» على شاشات التلفزيون. كان رئيس وزرائه آنذاك جورج بومبيدو يقوم بزيارة رسمية لإيران وأفغانستان.


    وينقل المؤلف في هذا السياق ما جرى أثناء اجتماع مغلق في قصر الإليزيه بين الجنرال ديغول وثلاثة من وزرائه الرئيسيين والذين أفصحوا له أن «خير وسيلة لوقف التصعيد هي إطلاق سراح المعتقلين من المتظاهرين والوعد بإصدار عفو عام وإعادة فتح جامعة السوربون وسحب قوات الشرطة من الشوارع». كان الجنرال يريد أن يسمع منهم عكس ذلك تماما فقال: «لا يمكن الاستسلام أمام الشغب ولا يمكن التفاوض مع المشاغبين. السلطة لا تتراجع، فإذا تراجعت فهذا يعني أنها انهزمت».


    في تلك الأثناء عاد جورج بومبيدو على عجل من كابول بسبب تفاقم العنف الطلابي والعملي بعد أن قررت نقابات العمال اليسارية مؤازرة حركة الطلبة. وطلبت رئاسة الحكومة من سكرتير الدولة الشاب جاك شيراك التدخل لدى بعض القادة النقابيين الذين يعرفهم. وقد ذهب شيراك إلى المواعيد التي ضربها معهم و«هو يحمل سلاحا» بعد أن كان بومبيدو قد حذره قائلا: «خذ حذرك من أن ينصبوا لك فخّا، وهل تريد أن يأخذونني رهينة مع أحد الوزراء؟»


    لكن ديغول قرر اتخاذ مواقف حازمة وجمع حوله في قصر الإليزيه رئيس وزرائه وعددا من الوزراء ومحافظ شرطة باريس. تمّ ذلك الاجتماع في «الصالون الذهبي» وكان الجنرال غاضبا وقد قال للحضور: «لقد استمر ما يجري طويلا، وهذا لا يمكن السماح به. لقد اتخدت قراراتي وينبغي استرجاع المواقع التي سيطر عليها المتظاهرون. أي ساحة الاوديون اليوم وجامعة السوربون غدا.


    بالنسبة لدار الإذاعة لا بد من اتخاذ الإجراءات اللازمة لحمايتها». كانت أوامر الجنرال محددة وحازمة ولكن الطلبة كانوا أكثر إصرارا من أن يأبهوا لأوامر الحكومة التي «ترددت» من جهتها في تنفيذ أوامر ديغول فيما يتعلق باللجوء إلى استخدام القوة.


    وينقل المؤلف عن الجنرال ديغول قوله لمستشاره «جاك فوكار» ذات يوم في أواخر مايو 1968: «إذا كانت البلاد تريد أن تنام وأن تكون مشلولة فإنني لا أستطيع إنقاذها ضد إرادتها. لقد فعلنا ما باستطاعتنا. حسنا! سوف أرحل ففرنسا كالتي عرفناها هذا الشهر إنما هي فرنسا ميتة». وكان الجنرال آنذاك، كما ينقل المؤلف عن مصادر كانت على علم بالأمور، موزعا بين الإحساس بالإحباط وخيبة الأمل وبين هبّات من الأمل بامتلاك زمام الأمور من جديد عبر التوجه إلى الشعب مباشرة.


    بتاريخ 24 مايو أعلن للفرنسيين أنه سوف ينظّم استفتاءً شعبيا عاما. لكن النتيجة كانت عكس المتوقع إذ أن أحداث العنف وإقامة المتاريس والحرائق والهجمات ضد رجال الشرطة تضاعفت في باريس، خاصة في الحي اللاتيني، وتوسّع بنفس الوقت إطار الإضراب العام. بنفس الوقت حاولت الحكومة أن تُظهر حزمها إذ صرّح وزير الدفاع بيير ميسمير: «إن الدبابات ترابط في ساتوري وهي جاهزة للتحرك».


    أدرك الجنرال ديغول من خلال ردود الأفعال على اقتراح الاستفتاء العام أنه أخطأ الهدف. لقد اعترته حالة من القلق، وينقل المؤلف على لسان مستشاره جاك فوكار قوله له: «كان كل منهم يريد المساومة وقد أحاط نفسه بأساتذة ورؤساء جامعات ومستشارين من كل نوع كانوا يريدون في الواقع استمرار الحال على ما هو عليه. والنتيجة هي كما ترى، انفجر كل شيء فجأة لأنه ليس لدي رجال دولة وليس لدي حكومة».


    كذلك قال الجنرال لوزير ماليته آنذاك ميشيل دوبريه: «لا أتمنى أن يحظى الاستفتاء بموافقة أغلبية الفرنسيين. ذلك أن فرنسا والعالم في وضع لم يعد هناك ما يمكن فعله حياله. وأمام الشهيات المفتوحة والتطلعات وأمام واقع أن جميع المجتمعات غير راضية عن نفسها لا يمكن فعل أي شيء. إن العالم كله مثل نهر لا يريد لمجراه أن يواجه أية عقبة. ولم يعد لي ما أفعله وبالتالي عليّ أن أرحل، ومن أجل أن أرحل ليس أمامي أية صيغة سوى أن أجعل الشعب الفرنسي يقرر بنفسه مصيره».


    أما فيليب ديغول، الضابط آنذاك والأميرال لاحقا، فقد قال لوالديه أثناء اللقاء حول مائدة طعام عائلية: «لقد لاحظت البرود على الرسميين الذين قابلتهم عند مدخل الإليزيه بل وقد أشاحوا بنظرهم عني. وقد أخبرني البعض أن بعض الوزراء والموظفين الكبار أو حتى مستشاري الرئيس قد تركوا مراكزهم ولم يعد الاتصال بهم ممكنا حتى بواسطة الهاتف».


    فقالت له والدته السيدة ايفون: «لقد رأينا أشياء أخرى كثيرة من هذا النوع بل ما هو أسوأ، لكنني لن أخفي عنك أننا ننام بشكل سيء». وفي مثل ذلك السياق التقى الجنرال ديغول بابنه فيليب بانفراد ولم يعرف أحد ما دار بينهما. وهنا ينقل المؤلف عن الابن قوله فيما بعد في مذكراته عن أبيه أن الجنرال كرر أيضا القول: «لم تعد لي سلطة على أحد.


    ولقد فقدت عمليا السيطرة على الحكومة. بومبيدو يترك الأمور تتعفّن... فإلى متى؟ ويقول الابن فيليب أنه «أثار» أباه عن قصد عندما قال له: «ينبغي أن تدرك أن حكمك قد انتهى، وأن الفرنسيين لم يعودوا يريدونك». بل إنه دفعه لترك باريس التي أصبحت «فخّا». وفي هذا الإطار من الحديث جرى الاتفاق أن يذهب الجنرال «سرّا» للقاء الجنرال «ماسو»، قائد القوات الفرنسية المتواجدة في ألمانيا والذي قاد القوات الفرنسية أثناء حرب السويس 1956. وكان متواجدا في «بادن بادن». كان ذلك أحد الأسرار التي ضمتها جدران قصر الإليزيه.


    وقبل أن يسافر الجنرال اتصل هاتفيا برئيس وزرائه جورج بومبيدو. كان باردا معه وقد قال له فجأة: «أنا عجوز وأنت شاب وأنت المستقبل». غادر الجنرال القصر برفقة زوجته على متن إحدى الطائرات. كان الجميع يعتقدون أنه ذهب للاستراحة في عطلة نهاية الأسبوع ببلدته «كولومبي». لكن الطائرة لم تحط هناك، وانفقد كل أثر لها. لقد اختفى الجنرال ووقع الجميع في حيرة و«ارتجفت فرنسا خوفا».


    عاد الجنرال بعد غياب يومين فقط حيث كانت الحكومة تنتظره بكامل أعضائها في قصر الإليزيه. لقد أخبرهم أنه «اتخذ قراراته» وأنه سيكمل فترته الرئاسية ولن يغيّر الحكومة إنما سوف يحل البرلمان. ولن يسمح لمشروع شمولي «توتاليتاري» بمنع البلاد من العيش بشكل طبيعي. قرأ الجنرال نداءه عبر الإذاعة وما أن لفظ الجملة الأخيرة: «كلاّ إن الجمهورية لن تمت» حتى اجتاح المتظاهرون بالآلاف جادة الشانزيليزيه وهم يهتفون «عاش ديغول».


    وبتاريخ 27 أبريل 1969 اقترع الفرنسيون باستفتاء شعبي حول زيادة دور المحافظات وإصلاح مجلس الشيوخ. ولم تؤيد نسبة 4,56 بالمائة ذلك المشروع. وفيما بعد منتصف الليل بقليل، أي في الساعات الأولى من يوم 28 أبريل 1969 نشرت وكالة الصحافة الفرنسية تصريحا بسطرين جاء فيه: «أتوقف عن ممارسة مهام وظيفتي كرئيس للجمهورية... يتم تنفيذ هذا القرار اعتبارا من ظهر اليوم. التوقيع: شارل ديغول».


    عرض ومناقشة: محمد مخلوف
  • محمد زعل السلوم
    عضو منتسب
    • Oct 2009
    • 746

    #2
    كتاب ـ قصة الإليزيه ـ الحلقة (2)
    مرض بومبيدو يشكل أحد الأسرار الكبرى لقصر الإليزيه
    تأليف :فرانسوا دورسيفال



    يروي المؤلف لنا في هذه الحلقة أسراراً من قلب قصر الإليزيه حول الفترة الأخيرة من حكم الجنرال ديغول عندما كان جورج بومبيدو يشغل منصب رئيس الوزراء، حيث يشير إلى حادثة قتل وقعت في باريس لشاب يوغوسلافي ووجه فيها اصبع الاتهام إلى بومبيدو وزوجته، وكيف اضطر رئيس الوزراء إلى دخول الإليزيه من الباب الخلفي لكي يلتقي بديغول ويشرح له حقيقة الأمر.




    وهناك سر آخر احتضنته جدران الإليزيه وظل طي الكتمان لفترة طويلة وهو حقيقة مرض بومبيدو الخطير، حيث كان يعاني من «سرطان الدم» وقد أبقيت هذه المعلومات بعيدة عن متناول الجميع حتى المقربين من بومبيدو رغم الشائعات العديدة التي كان الإليزيه يصر على نفيها باستمرار، وحتى الأميركيين كانوا مهتمين بالموضوع لدرجة أنهم قاموا بتحليل عينة أخذت من مياه المرحاض الذي يستخدمه الرئيس الفرنسي فاكتشفوا حقيقة مرضه. لا يعرف قصر الاليزيه الكثير من الحالات التي شهد فيها رئيس الجمهورية الفرنسية المرض.




    فالرئيس يمكن أن يتعرّض للاغتيال كما حدث بالنسبة ل«سادي كارنو» أو «بول دومير»، ويمكن أن تصيبه ذبحة قلبية قاتلة مثل تلك التي أودت بحياة «فليكس فور»، لكن «ليس له الحق بأن يصاب بالمرض»، فالجمهورية «لا تستطيع» أن تمرض. لكن جورج بومبيدو، الذي خلف الجنرال ديغول في قصر الاليزيه، خالف تلك «القاعدة»، لقد كان مريضا وكان يعرف ذلك ولكنه حافظ على السر حتى النهاية. كان حبه للحياة أقوى من كل شيء بالنسبة له ثم إن الفكرة القائلة بتبعية سلطة رئيس الدولة لتشخيص طبّي كانت أشد وقعا عليه من المرض نفسه.


    وفي مطلع عام 1971 كان على الرئبس بومبيدو أن يقوم بتحاليل طبية معمّقة طلب منه طبيبه إذا كان سيتم إصدار نشرة عن حالته الصحية، كما جرت العادة بالنسبة لرؤساء الجمهورية فأجابه أنه هو نفسه سوف يتولى مهمة ذلك. جلب له الطبيب التشخيص وكانت النتيجة تقول إنه مصاب بمرض لا شفاء منه في الدم.


    عندها كانت أوامر بومبيدو واضحة: «قراري قاطع وهو أن لا يعرف أحد أي شيء عن مرضي، بما في ذلك زوجتي». هكذا أصبح مرض الرئيس أحد أسرار قصر الاليزيه الكبرى آنذاك. كانت إذن مأساة شخصية وليست «مأساة دولة». وينقل المؤلف عن السيدة بومبيدو نفسها قولها فيما بعد: « لم نعرف أبدا بالدقة المرض الذي كان زوجي يعاني منه».


    لكن مفاجأة الفرنسيين كانت كبيرة عندما رأوا رئيسهم على شاشات التلفزة يوم 31 مايو 1973 عندما كان عائدا من زيارة له إلى ايسلندة. كان وجهه متورما وتقاطيعه تنم عن ألم كبير. مع ذلك تابع وزير الإعلام آنذاك، التأكيد، بناء على الأوامر الصادرة، أن الرئيس يعاني من وعكة صحية عابرة.


    ويشير المؤلف إلى أن الأستاذ الفرنسي الكبير الدكتور برنار كان قد شخّص منذ عام 1968 إصابة بومبيدو ب«سرطان الدم». وقد قال يومها: ليست أعمال الشغب التي عرفها شهر مايو هي التي تركت آثارها على وجه جورج بومبيدو ـ كان آنذاك رئيسا للوزراء ـ ولا سهر الليالي فحسب، وإنما أيضا الأعراض الأولى لمرض لم يأبه به ولم يعطه الأهمية التي يستحقها.


    وينقل المؤلف أن أندريه مالرو، الكاتب الفرنسي الشهير، ووزير الثقافة في ظل ديغول حيث جرى الحديث عن لقاء القمّتين: القمة السياسية ممثلة بالجنرال والقمة الثقافية ممثلة بمالرو. لقد «شرب نخب» بومبيدو عندما استبدله الجنرال ديغول ب«كوف دوميرفيل» كرئيس للوزراء بعد فترة فقط من نهاية أحداث مايو.


    كان عمر بومبيدو آنذاك 57 سنة وينقل عنه المؤلف قوله: «لقد تصرفت دائما كما أملت علي طبيعتي العفوية (...) إنني أؤمن بها أكثر من إيماني بمحاكمتي العقلية». وكان قد عمل إلى جانب الجنرال مدة 25 سنة في مناصب شتى ابتداء من رئيس الديوان حتى رئاسة الحكومة. وبعد أن افترقت طريقاهما كان على بومبيدو أن يمسك زمام مصيره بيده.


    وينقل عنه المؤلف قوله آنذاك: «لقد تجاوزت مستوى الصدفة، إذ هناك لحظة يترك فيها المصير الصدفة وراءه». لاحظ أولئك الذين غادروا معه من مساعديه مقر رئاسة الحكومة إلى المكاتب الجديدة في باريس أن وزنه قد زاد وكان من بين هؤلاء ميشيل جوبير الذي كان مديرا لمكتبه منذ عام 1963، والذي أصبح فيما بعد وزيرا لخارجية فرنسا.


    وقد قال له جوبير ذات يوم أن الفرنسيين سوف «يتفاجأون» عندما يرونه على شاشات التلفزة، بعد غياب، بسبب «ما اكتنزه أثناء العطلة من زيادة ظاهرة في الوزن. فطمأنه بومبيدو قائلا: «لا تهتم بذلك. لقد كنت متعبا، ولكن انتهى الأمر بعد أن تناولت بعض العلاجات.


    فلا تقلق من هذه الناحية فالناس سوف يشاهدونني ـ على شاشة التلفزة ـ وقد استعدت مظهري الاعتيادي». وقد حدث ذلك بالفعل، ذلك أنه توقف عن تناول دواء «الكورتيزون» أثناء العطلة الصيفية. وينقل المؤلف عن ميشيل جوبير نفسه قوله فيما بعد: «لماذا كان علينا أن نقلق؟ لقد وجدناه كعادته رجلا قوي البنية يتمتع بشهية كبيرة للطعام وبقدرة هائلة على العمل، ينام قليلا وبشوشا باستمرار».


    وفي واقع الأمر لم يلاحظ أحد من المحيطين به أي شيء غير طبيعي، باستثناء أطبائه، وبالتالي «لم يكن مريضا». لقد كان يشغله آنذاك مظهره كثيرا بدافع حرصه على الاحتفاظ بشعبية مرتفعة لدى الفرنسيين في أفق أن تقوده طريقه ذات يوم إلى قصر الاليزيه.


    جريمة قتل


    يتوقف مؤلف هذا الكتاب عند حادثة قتل شغلت قصر الاليزيه في مطلع نوفمبر 1968. كان الجنرال ديغول لا يزال هو سيد القصر. وفي الأول من ذلك الشهر جرى إبلاغ الأمين العام لقصر الاليزيه بالعثور على جثة شخص يوغوسلافي شاب مرميّة في أحد أمكنة تجميع القمامة العامة بمنطقة «الايفلين» القريبة من باريس. فما علاقة قصر الاليزيه بذلك؟


    اسم القتيل هو «ستيفان ماركوفيتش» وكان يعمل حارسا شخصيا للممثل الفرنسي الشهير «آلان ديلون» وقد وجدت الشرطة بين أوراقه اسم أسرة بومبيدو. هكذا أخبروا الجنرال ورئيس وزرائه ووزير العدل، ولكن لم يخطر أحد المعني نفسه بأي شيء.


    بل وقد عرف ذلك بمحض الصدفة عندما سأل أحد أقاربه: «قل لي، من هو إذن ذلك السياسي الذي تتحدث عنه الصحافة وقد يكون متورطا في القضية»؟ كانت الإجابة صاعقة له، خاصة عندما علم أن الجنرال يعرف والحكومة تعرف وهو لا يعرف. كان جرحه عميقا.


    طلب بومبيدو مقابلة الجنرال ديغول على عجل، لاسيما وأنه كان عرف أن اجتماعا قد جرى عقده في الاليزيه بحضور الرئيس ورئيس الوزراء ووزيري العدل والداخلية حول تلك القضية ولم يدافع عنه وعن زوجته أحد. بقي أمر اللقاء مع الجنرال طي الكتمان ودخل بومبيدو إلى قصر الاليزيه من الباب الخلفي وصولا إلى «الصالون الذهبي».


    وينقل المؤلف عن جورج بومبيدو قوله للجنرال: «سيدي الجنرال أنتم تعرفون سبب طلبي اللقاء بكم. ولدي ثلاثة أمور أريد قولها لك وهي: أنت تعرف زوجتي إلى درجة تسمح لكم بالتأكد أنها لا يمكن أن تتورط بمثل هذه القضية. وربما هناك من يحاول زجّي في الأمر ولكنهم لن يتمكنوا من ذلك. ثم إنه لم يصدر أي رد فعل من وزارة الداخلية أو رئاسة الوزراء أو قصر الاليزيه حيال ما جرى».


    كان الجنرال يصغي وينظر له ثم قال: «لكنني لم أصدّق أبدا أي شيء من كل ما يقال. وقد طالبت إخطارك». انسحب عندها بومبيدو ثم كتب في إحدى يومياته: «كان عمل الشرطة والعدالة موجّها ليس للبحث عن فاعلي الجريمة وإنما للبحث عن شهادات ووثائق يمكنها أن تديننا أنا وزوجتي».


    شرع بومبيدو بتحقيق خاص من جهته وعاد في مطلع يناير 1969 ليعرض ما توصل إليه من نتائج. وهذا ما وصفه هو نفسه كالتالي: «لقد عرضت الوقائع بدقة على الجنرال الذي كان يصغي مدهوشا.


    وقد طلب أمامي من الأمين العام لقصر الاليزيه استدعاء وزير العدل. أعرف أن اللقاء قد تمّ وأن التحقيق اتجه نحو البحث عن القتلة، الأمر الذي كان يمثل الواجب الأساسي للمعنيين بذلك التحقيق. وعندما غادرت مكتب الجنرال نصحني أن أعامل المتقوّلين النمّامين باحتقار وقال لي أن التعرض للوشاية هو قدر رجال الدولة».


    ويذكر المؤلف أن جورج بومبيدو كتب يومها على مفكرة صغيرة محفوظة في وعاء جلدي أسود أسماء أولئك الذين «خانوه» ورددوا أقوالا مثل: «بومبيدو انتهى، لقد قتلته قضية ماركوفتش». كما كتب في نفس المفكرة عن وزرائه السابقين: «لم يمتلك أحدهم الشجاعة كي يذهب لرؤية الجنرال ويندد بفضيحة الهجمات الموجّهة ضد زوجتي وضدي».


    لم يذهب أحد منهم باستثناء شخص واحد يذكره بومبيدو بالجملة التالية: «الشخص الأكثر إخلاصا والأكثر شهامة والذي ساعدني حقا هو جاك شيراك». وكان سنده القوي الذي سمح له بمواجهة «الفضيحة» هو الفريق الذي يعمل معه وقد برز من بينه محامية شابة هي ماري فرانس غارو التي أصبحت وزيرة فيما بعد وقال عنها بومبيدو إنها كانت «ذات فعالية استثنائية وبفضلها استطعت أن أبرهن على مجريات التحقيق».


    ما يؤكده مؤلف هذا الكتاب هو أن تلك القضية، التي كان يراد منها هزّ مكانة جورج بومبيدو والنيل من مصداقيته، أعطت مفعولا معاكسا. ذلك أنها حررته، وبتحريره سارعت في رحيل الجنرال ديغول عن قمة السلطة.


    فبتاريخ 17 يناير 1969 عندما كان جورج بومبيدو يقوم بزيارة لروما أجاب على سؤال وجهه له مراسل وكالة الصحافة الفرنسية بالقول: «إذا انسحب الجنرال من الرئاسة فإنني سوف أرشح نفسي لخلافته، وهذا ليس سرا على أحد». وبعد أربعة أيام فقط أعلن الجنرال أنه سوف يذهب في فترته الرئاسية حتى نهايتها. ومع ذلك كان «حبل الود» الذي استمر أكثر من ربع قرن قد انقطع.


    استقالة ديغول


    بتاريخ 27 أبريل 1969 فشل الاستفتاء الذي طرحه الجنرال ديغول على الفرنسيين في نيل ثقة الأغلبية فاستقال مباشرة، ولم يتردد جورج بومبيدو في إعلان ترشيحه بعد يوم واحد من استقالة الجنرال. جرت الانتخابات الرئاسية في الأول من يونيو، وحصل بومبيدو على أعلى نسبة من عدد أصوات المقترعين في الدورة الأولى بواقع 5. 44 بالمئة مقابل 23 بالمئة نالها آلان بوهر رئيس مجلس الشيوخ ونائب رئيس الجمهورية بالنيابة.


    وفاز بومبيدو في الدورة الثانية ـ الانتخابات الرئاسية في فرنسا تجري حسب قوانين الجمهورية الخامسة النافذة على دورتين يفصل بينهما أسبوعان ويتنافس في الثانية الحاصلان على أعلى نسبة من عدد أصوات المقترعين في الدورة الأولى ـ بنسبة تزيد عن 58 بالمئة من الأصوات. وهكذا أصبح جورج بومبيدو هو «النزيل» الجديد في قصر الاليزيه.


    وينقل المؤلف عن جورج بومبيدو قوله آنذاك: «سوف لن أوقع بالطبع باسم الجنرال ديغول» ثم أضاف: «لقد ثبّت دستورنا بوضوح مبدأ أرجحية رئيس الدولة. بل وحول هذه النقطة بالتحديد تكمن المعارضة الأساسية مع الجمهوريتين الثالثة والرابعة.


    إن رئيس الدولة الذي تعطيه الأمة ثقتها مباشرة عبر الاقتراع العام يغدو، وينبغي أن يكون، الرئيس المطلق للسلطة التنفيذية. وعليه هو، مع حكومته، تحديد النهج السياسي الذي سوف يتّبعه وعليه أيضا تنفيذه. ومن سمة القيادة أن القرارات يتم اتخاذها من قبل شخص واحد فقط وإلا فإن الفوضى تعم».


    على أساس الموقع المتفرّد لرئيس الدولة في السلطة حرص جورج بومبيدو على أن يبقى خبر مرضه سرّا. ولو شاع مثل ذلك الخبر فإن ذلك كان سيعني انتقال السلطة الحقيقية نحو رئيس الوزراء. أي بتعبير آخر كان شيوع خبر مرضه يعني التشكيك بسلطته.


    وعندما وصل بومبيدو إلى قصر الاليزيه قال جملة «غريبة»، حسب تعبير المؤلف، لميشيل جوبير الذي عيّنه أمينا عاما للرئاسة، جاء فيها: «إذا لاحظت خلال السنوات القادمة أي توجه مني نحو الرغبة في تجديد انتخابي رئيسا للمرة الثانية، فإنني أعتمد عليك تماما كي تذكّرني بما أقوله لك اليوم وأن تذكّرني بذلك بطريقة حاسمة وحازمة جدا».


    فإلى أي شيء آخر غير «مرضه» كان بومبيدو يشير بذلك الطلب يتساءل المؤلف ثم يضيف أن بومبيدو كان يعرف منذ تلك اللحظة أن تطور مرضه قد يسمح له بممارسة مهامه الرئاسية لفترة من الزمن ولكن بالتأكيد لن يسمح له بسبع سنوات رئاسية ثانية.


    وكان بومبيدو قد حاول إجراء تعديل في دستور الجمهورية الخامسة بحيث تصبح المدة الرئاسية لخمس سنوات وليس لسبع. لكن مثل ذلك التعديل لم يحظ بالأغلبية البرلمانية المطلوبة لإقراره. لكن كان لرغبة التعديل دلالتها.


    وهذا ما عبّر عنه ميشيل جوبير لاحقا بالقول: «أعتقد أن السبب هو أنه كان يأمل بالبقاء خمس سنوات على رأس الدولة. وعندها كان يمكن أن يطبّق التعديل على نفسه إذا لم تساعده صحته للبقاء حتى نهاية ولايته الأولى المقررة بسبع سنوات».


    ويشير المؤلف أن جورج بومبيدو كان يؤكد باستمرار للمحيطين به في الاليزيه وأثناء الاجتماعات الرسمية في القصر على سلطة رئيس الدولة «حسب الدستور» وإنه «الحارس الضامن» لتطبيقه.


    وإنه لم يكن يريد بذلك التأكيد على سلطته أمام الجميع فحسب، وإنما أيضا الإشارة لرئيس الوزراء الذي عيّنه جاك شابان دالماس أن الجمهورية الرابعة ـ التي كان دستورها يعطي صلاحيات كبيرة لرئيس الحكومة ـ قد انتهت. وكان بومبيدو يكرر أمام زائريه: «السلطة هنا، في قصر الاليزيه».


    ويروي المؤلف أن جورج بومبيدو استدعى رئيس وزرائه جاك شابان دالماس إلى قصر الاليزيه بعد أن سمع حديثه المتكرر عن «المجتمع الجديد» وضرورة القطيعة مع «المجتمع القديم» وقال له: «جاك هل تريد زرع بذور الشقاق داخل الأغلبية؟ وهل تعتقد أنه ليس لدينا من الهموم ما يكفينا»؟ فأجابه شابان دالماس: «إذا لم نقم بالانفتاح باتجاه المعارضة فسوف ينتهي الأمر بالاشتراكيين إلى توقيع برنامج مشترك مع الشيوعيين قبل الانتخابات التشريعية لعام 1973».


    فعلّق بومبيدو: «هذا أمر مثير للضحك. فلدينا الوقت الكافي كي نراهم وهم يتقدّمون وثانيا أرى أنه من الصعوبة بمكان إمكانية أن يتوصل غي موليه، أو حتى فرانسوا ميتيران ـ من قادة الحزب الاشتراكي آنذاك ـ إلى توقيع أكثر من مجرد اتفاق انتخابي مع الحزب الشيوعي». عندها قال شابان غاضبا: «اسمع جورج إذا كنت ترى أن خطّينا السياسيين متباعدين كثيرا فإنني مستعد كي أقدّم لك استقالتي على الفور».


    انتهى الجدال عن ذلك الحد. لكن بومبيدو عاد بعد شهر واحد وقال ذات مرة عندما كان مع «آلان بريفيت» وزير التربية السابق في قصر الاليزيه: «ألم تلاحظ أن شابان دالماس يتحدث كثيرا في خطابه عن المجتمع ولم يتحدث مرة واحدة عن الأمة أو عن سلطة الدولة. هذا وفرنسا هي أمة قبل أن تكون مجتمعا. ولم تكن هناك أبدا صفحات بيضاء».


    ثم أضاف: «مع رفع أفكار الانفتاح هذه لا تفعل سوى إثارة تيارات الرياح ونحضّر عزلنا من حيث نحن. ثم إن إرادة جذب الأعداء وتخييب آمال الأصدقاء لا تؤدي إلى النصر أبدا. وعندما يتم تطبيق سياسة الخصوم على حساب سياسة الناخبين الذين أولونا ثقتهم،


    فإننا سوف نضيع هؤلاء (...). إن شابان يتمتع بأغلبية أربعة أخماس البرلمان، وهذا ما لم نره أبدا في ظل أية جمهورية. إنه يريد أن يدير ظهره للأربعة أخماس هذه ويعير انتباهه للخمس الباقي. وهذا أيضا ما لم نره أبدا في السابق».


    الظل الصامت


    استمر الرجلان، بومبيدو وشابان دالماس، في الحكم معاً، أولا بسبب التقارب الكبير في خياراتهما المالية والاقتصادية، وثانيا لأن رئيس الدولة كان يريد أن يقدّم البراهين على وجود حالة من الاستقرار على مستوى مؤسسات الدولة، هذا دون نسيان واقع أن «الظل الصامت» للجنرال ديغول، الذي انسحب للإقامة في بلدته الصغيرة «كولومبي»، الواقعة على بعد حوالي مائتي كيلومتر عن باريس، كان لا يزال «يخيم» فوق الاليزيه.


    وفي عشية 10 نوفمبر 1970 انطفأ نور الحياة في جسد الجنرال شارل ديغول. وقد عرف جورج بومبيدو الخبر في الاليزيه من رئيس أركان حربه الخاص في اليوم التالي. أحسّ بجرح آخر إذ لم يخبره أحد من أسرة الجنرال بوفاته رغم أنه كان يحمل الوصية السياسية الخاصة لمؤسس الجمهورية الخامسة.


    لكن ذلك لم يمنعه من أن يتوجه للفرنسيين عبر التلفزيون قائلا: «الجنرال ديغول مات، وفرنسا أرملة. فلنعد فرنسا بأننا لن نكون غير جديرين بالدروس التي تعلمناها. وليبق ديغول حيا إلى الأبد في الروح الوطنية».


    ذهب بومبيدو برفقة شابان دالماس إلى كولومبي لينحني أمام نعش ذلك الذي كان رئيسه وبطله. وكانوا قد أغلقوا النعش حسب رغبة السيدة ديغول، زوجة الجنرال، ولم يسمحوا لبومبيدو أن يلقي نظرة على جثمان الجنرال فوق سرير الموت.


    بعد عدة أشهر من وفاة الجنرال صدر الجزء الثاني من «مذكراته» وفي بداية الفصل الثاني و«الأخير»، إذ أن الموت لم يترك لصاحبها المجال إلا لاستكمال فصلين من الفصول السبعة التي كانت مقررة أصلا، تحدث ديغول عن جورج بومبيدو كلاما قاسيا اعتبره هذا الأخير بمثابة «إعدام» له.


    لقد روى الجنرال كيف أخرج من الظل يوم 14 أبريل 1962 ذلك الذي عيّنه رئيسا للوزراء. ونقرأ مما كتبه: «هكذا وجد نفسه هذا السياسي الغر -بومبيدو- والمجهول بالنسبة للرأي العام حتى سنوات الخمسينات مكلّفا بمهمة كبرى ويحتل مكانة مركزية في قلب الحياة العامة والأضواء».


    عندما وصل جورج بومبيدو إلى الاليزيه أعلن أن هدفه هو أن «يجعل من فرنسا بلدا صناعيا حقيقيا وأن يعطي للاقتصاد الفرنسي بعدا عالميا». وقد عرفت رئاسته أوج ازدهارها عام 1971ووطّد بومبيدو من علاقاته مع رئيس الوزراء البريطاني ادوارد هيث في أفق بناء «اتحاد الدول الأوروبية» المستقلّ عن القوتين العظميين السائدتين آنذاك، أي الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (السابق).


    وكان بومبيدو هو الذي امتلك «بعد الرؤية» آنذاك وطرح مسائل إيجاد السلطة الأوروبية المشتركة والبرلمان الأوروبي والعملة الأوروبية الموحّدة. كان نجاح بومبيدو كبيرا إلى درجة أنه نسي تماما مرضه. لكن المرض لم ينسه. ففي نهاية تلك السنة 1971 ظهرت عليه ملامح التعب والإعياء.


    ليس المرض فقط وإنما أُضيفت إليه خلافاته مع جاك شابان دالماس التي ظهرت على السطح وانتهت بإقالة الحكومة في يوليو من عام 1972 وتولّي «بيير ميسمير» رئاسة الحكومة الجديدة التي كان جاك شيراك فيها وزيرا للعلاقة مع البرلمان ثم وزيرا للزراعة بعد الانتخابات التشريعية لعام 1973 بينما تولّى ميشيل جوبير، مهندس السياسة الفرنسية إزاء العرب، منصب وزير الخارجية. وكان الرئيس قد طلب منه العمل على تأكيد الاستقلال السياسي لفرنسا.


    لقاء مع نيكسون


    ينقل المؤلف أن الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، بحضور وزير خارجيته هنري كيسنجر، قال في 1973 لجورج بومبيدو: «إذا انتهج كل طرف سياسة متزمتة ـ شوفينية- دون أن يأخذ باعتباره رؤية شاملة للعالم فإن المجموعة الأطلسية سوف تنهار وسوف يتلقفنا الاتحاد السوفييتي بلدا بعد الآخر وبالتالي سوف تصبح القطبية الثنائية السوفييتية-الأميركية مصدرا للتهديد».


    فقال بومبيدو: «يتم الحديث كثيرا عن مواجهة اقتصادية قادمة بين الولايات المتحدة وأوروبا. بالتأكيد سوف تقوم بيننا منافسة وهذا أمر جيد. بالمقابل إذا أدّى ذلك إلى مواجهة ولم يتم التوصل إلى اتفاق حول المسائل النقدية والتجارية فإن ذلك قد لا يؤدي إلى تخريب علاقاتنا الاقتصادية فحسب وإنما أيضا الحلف الأطلسي نفسه».


    كان لكل من الرئيسين الأميركي والفرنسي همّه الكبير. نيكسون كانت تلاحقه فضيحة «ووترجيت» وبومبيدو كان «يلاحقه» مرضه. وكان مرض الرئيس الفرنسي ، رغم التكذيب المتكرر، قد أصبح شبه علني.


    وقد كشف هنري كيسنجر لميشيل جوبير، وزير خارجية فرنسا، في وقت لاحق أن جهاز الاستخبارات المركزية الأميركية قد استطاع الحصول على عينة من «مياه» المرحاض الذي يستخدمه الرئيس بومبيدو في قصر الاليزيه وعرفت حقيقة مرضه الذي جرى إخفاؤه حتى آنذاك.


    وقد علّق جوبير على ذلك الوضع بالقول: «كان هناك من جهة التصريحات شبه الرسمية الصادرة عن حكومة فرنسا، ومن جهة أخرى التحليلات السرية التي قامت بها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية». وينقل المؤلف عن صحفي أمريكي قوله آنذاك لزميل فرنسي: «رئيسكم سوف يموت قريبا».


    زار بومبيدو في الأشهر الأخيرة من حياته الصين في ظل ماوتسي تونج في 12 سبتمبر 1973. وعندما وصل إلى بكين قال له ماو «لقد انتهى الأمر فالأمراض تهدّني». ثم سأله: «هل توفي نابليون بمرض السرطان أم بسبب قرحة»؟ أجاب بومبيدو: «إذا كان الأمر يتعلق بقرحة فإنها كانت قرحة خبيثة. إن أنصار نابليون قالوا بعد موته إن الانجليز سمموه».


    وكانت آخر زيارة له إلى الخارج هي إلى موسكو للقاء ليونيد بريجنيف، ويشير المؤلف اعتمادا على أقوال ميشيل جوبير الى أن الرئيس الفرنسي وجد يومذاك صعوبة كبيرة في النزول من الطائرة.


    وكانت آخر جملة قالها يومذاك للصحفيين الذين التقى بهم بخصوص زيارته القادمة للاتحاد السوفييتي: «لم أحدد موعدها بدقة. وكما تعرفون أن هذا متعلق بالظروف». كانت هذه الجملة «الحزينة» هي بمثابة الإعلان عن قرب نهايته.


    وفي 27 مارس 1974 قال بومبيدو لوزرائه المجتمعين حوله في قصر الاليزيه في نهاية الاجتماع الرسمي: «علي أن أتطرق الآن أمامكم لموضوع لم أتحدث عنه أبدا. وهو أنني أمرّ الآن بلحظات صعبة جدا. أنا بحاجة للراحة». ثم أضاف مازحا: «لدي الأمل الأكيد بأنني سوف أنكّد أيضا عيش الجميع».


    بعد ستة أيام فقط توفي جورج بومبيدو. فتحوا خزانته الخاصة في الاليزيه بحضور ابنه ومستشاره السياسي، لكنهم لم يجدوا وصية ولا أية مذكرات. فقط كلود بومبيدو زوجته قالت فيما بعد: «إنني أمقت الاليزيه (...) منذ وفاة زوجي لم أدخله ولن أدخله أبدا كائنا من يكون الرئيس. إنه منزل التعاسة بالنسبة لي».


    عرض ومناقشة: محمد مخلوف

    تعليق

    • محمد زعل السلوم
      عضو منتسب
      • Oct 2009
      • 746

      #3
      كتاب ـ قصة الإليزيه ـ الحلقة (3)
      كيسنجر يشترط على ديستان التزام السرية بشأن تعاونهما النووي
      تأليف :فرانسوا دورسيفال



      يتناول المؤلف في هذه الحلقة فترة رئاسة فاليري جيسكار ديستان وعلاقة الصداقة الحميمة التي ربطته بالمستشار الألماني هلموت شميت، وكذلك علاقته بشيراك الذي عينه في منصب رئيس الوزراء والخلافات التي نشبت بينهما بسبب ملف التجارب النووية الفرنسية.




      ثم يكشف المؤلف عن تفاصيل لقاء جمع بين ديستان وهنري كيسنجر في الإليزيه وتناول التعاون النووي بين البلدين وضرورة إبقائه سراً خاصة وأن أميركا لا تريد المجازفة بمواجهة تبعات الكشف عن وجود مثل هذه العلاقة بينهما في ظل تنامي المعارضة الدولية لإجراء التجارب النووية الفرنسية. وتتحدث الحلقة كذلك عن الأزمات التي واجهت ديستان في الإليزيه والإنجازات التي حققها خلال فترة رئاسته.عندما توفي جورج بومبيدو في 2 أبريل 1974 أصبح رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي «آلان بوهير» رئيسا للجمهورية بالنيابة، كما ينص الدستور في بنده السابع. وللمفارقة يكون «بوهير» بذلك قد خلف جورج بومبيدو بعد أن كان قد سبقه للرئاسة، أيضا كرئيس بالنيابة عندما تنحّى الجنرال شارل ديغول عن السلطة.


      وصل «آلان بوهير» إلى قصر الاليزيه بعد ثمانية أيام من وفاة جورج بومبيدو. وقد استقبله ادوار بالادور، الأمين العام للرئاسة، بالقول: «أنا تحت تصرفكم سيادة الرئيس وإننا سوف نجهد من أجل تأمين استمرارية عمل الدولة والمصالح العامة». بعدها جرى تسليمه مفاتيح الخزائن والأرقام السرية الخاصة بالقوة النووية الفرنسية.


      مارس رئيس الجمهورية الفرنسية بالنيابة «آلان بوهير» مهام منصبه إلى جانب الحكومة ودون أي طموح بالترشيح للانتخابات الرئاسية على عكس ما كان عليه الأمر عام 1969 عندما استقال الجنرال ديغول.


      كان وزير الداخلية في ظل الرئاسة الثانية ب«النيابة» لآلان بوهير هو جاك شيراك وكان حضوره دائما في كل صغيرة وكبيرة. لقد عرفت تلك الفترة الانتقالية توقيع قرارين هامين يقضي أحدهما بالانطلاق في برنامج تصنيع طائرات «إيرباص» وينص الثاني على البدء ببناء غواصة نووية فرنسية خامسة.


      لعب «آلان بوهير» آنذاك دور المسؤول عن احترام قواعد اللعبة الانتخابية. وكان يراقب معسكر اليسار «الموحّد» وراء فرانسوا متيران، المرشح باسم البرنامج المشترك مع الشيوعيين ومعسكر اليمين «المنقسم على نفسه» بوجود عدة مرشحين على رأسهم جاك شابان دالماس وفاليري جيسكار ديستان.


      أما بيير ميسمير، رئيس الحكومة فقد أعلن عن استعداده لخوض المعركة الانتخابية ك«مرشّح وحيد» إذا انسحب الآخرون. لكن شابان دالماس رفض الانسحاب بينما صمت جيسكار ديستان. رأى جاك شيراك أن شابان دالماس ليس مؤهلا لمواجهة فرانسوا متيران فأعلن دعمه لفاليري جيسكار ديستان.


      ويعتبر المؤلف أن «المناظرة التلفزيونية» التي شاهدها ملايين الفرنسيين قبل الدورة الانتخابية الرئاسية الثانية التي تواجه فيها فاليري جيسكار ديستان مع فرانسوا متيران حاسمة بالنسبة لاختيار الناخبين. وينقل من تلك المناظرة اللحظة «القوية» التالية:


      «متيران: - إن التغيير الذي تتحدث عنه لن يجر بالطبع مخاطر بالنسبة لأناس مثلك.


      جيسكار: - ماذا تقصد سيد متيران بتعبير «أناس مثلك»؟


      متيران: - أناس ينتمون إلى شريحة اجتماعية ما لم يواجهوا المصاعب مثل أغلبية النساء والرجال الذين صوتوا لي.


      جيسكار: سيد متيران لا يحق لك قول أشياء كهذه (...). ولا تمتلك احتكار القلب. فأنا لي قلب مثلك، لا تمتلك احتكار القلب وعليك أن لا تتحدث للفرنسيين بهذه الطريقة الجارحة للآخرين».


      فاز فاليري جيسكار في الانتخابات وأصبح الرئيس الثالث للجمهورية الفرنسية الخامسة. وصل الرئيس الشاب ذو ال48 عاما إلى قصر الاليزيه يوم 27 مايو 1974. وبعد تنصيبه رسميا قاد على الفور رئيس الأركان الخاص بالرئاسة إلى مكان تواجد خزانة تحتوي شاشات وكاميرات وأزرار للسيطرة. وهذه كلها مربوطة مباشرة مع مركز للقيادة موجود في منطقة «فال دواز» القريبة من باريس حيث يوجد مقر قيادة القوى النووية.


      ينقل المؤلف عن الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان قوله: «لقد قاموا بتشغيل الجهاز فظهر ضابط على الشاشة وقدّم اسمه وهو بحالة الاستعداد العسكري. بقيت مسألة التأكد من هوية المتحدث. هنا تبرز أهمية الأرقام السرية (الكود).


      ففي حالة انقطاع التواصل البصري المباشر أو عبر شاشة فإنه لا تبقى وسيلة للتعرف على الهوية سوى بواسطة الصوت أو بواسطة رسالة. هاتان الطريقتان ليستا مضمونتين بشكل كامل. من هنا تأتي أهمية اللجوء إلى كود التعرّف على الهوية».


      تلك هي آلية عمل السلاح النووي الموضوعة في ظرف يشبه الميدالية ويحمله رئيس الجمهورية بشكل دائم أو يكون على مقربة منه. وبواسطة هذا الظرف-الميدالية يمكن تحديد الشخص الوحيد الموجود على قمة سلسلة القيادة الذي يتمتع بصلاحية «إعطاء الأوامر باستخدام الأسلحة النووية».


      الصديق الحميم


      كان الشخص الأجنبي الأول الذي دعاه فاليري جيسكار ديستان لزيارته «دون إضاعة لحظة واحدة» هو هلموت شميت، المستشار الألماني آنذاك، وصديقه شبه الحميم وذلك الذي كان يحس بالثقة معه والذي كان جرى انتخابه مستشارا قبل فترة وجيزة فقط مثله.


      كان شميت اشتراكيا- ديمقراطيا ولكنه كان قبل كل شيء رجلا عمليا «براغماتيا» يهمّه العمل والفعل. تولّى شميت وزارة الدفاع في ألمانيا لمدة ثلاث سنوات ثم أصبح وزيرا للمالية وحينذاك تعرّف على زميله وزير المالية الفرنسي فاليري جيسكار ديستان وارتبطا بعلاقة صداقة وثيقة.


      وقد اكتشف الرجلان وجود تقارب كبير في وجهات النظر بينهما على صعيدي السياسة الاقتصادية والدبلوماسية في إطار نوع من نزعة العولمة «المبكّرة» حيث تلعب المبادلات التجارية الدور الأول في سبيل استقرار العلاقات الدولية.


      كما التقيا أيضا في إطار العمل من أجل تحقيق «الدول الأوروبية المتحدة» وواجها معا نتائج الصدمة البترولية لعام 1973 والتقهقر الأميركي في فيتنام وفقدان الثقة بالولايات المتحدة مقابل بروز قوة الاتحاد السوفييتي. كانا يتحدثان غالبا بالهاتف، وباللغة الانجليزية بعيدا عن «رقابة» المترجمين.


      لم يرد فاليري جيسكار ديستان أن يجعل مكتبه في «الصالون الذهبي» والجلوس على نفس «الأريكة» التي كان يجلس عليها الجنرال شارل ديغول، وإنما اختار مكتبا «متواضعا» يطل على الحديقة وتدخله أشعة الشمس طوال الجزء الأعظم من اليوم.


      وفي اللحظة التي بدأت فيها محادثات المستشار الألماني شميت مع مضيفه جيسكار ديستان في الاليزيه كان الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون «يترنّح» قبل السقوط النهائي بسبب فضيحة ووترجيت، وفي الوقت نفسه كان الاتحاد السوفييتي يتهيأ لنشر صاروخ إستراتيجي جديد يصل مداه إلى أربعة آلاف كيلومتر، أي يطال القسم الأكبر من أوروبا، باسم «اس. اس- 20» ويحمل ثلاثة رؤوس نووية.


      وينقل المؤلف عن جيسكار ديستان أن المستشار هلموت شميت قال له في نهاية الحديث إنه سوف يطلعه على أمر يؤرقه وقال: «لقد ترددت في الحديث عن ذلك معك ولكن أعتقد أنه من الأفضل أن أفعل ذلك. إن الأمر يتعلق بالقوات الفرنسية المتواجدة في ألمانيا. لقد كنت وزيرا للدفاع وأعرف جيدا حقيقة الأوضاع التي يعيشونها.


      وقد ينبغي عليكم عدم القبول بذلك. إن جنودكم جيدون، لكن أوضاعهم المادية ليست جيدة ولا تليق بكم، بل إنها صادمة بالنسبة للمواطنين الألمان المحيطين بهم. فثكناتهم سيئة الصيانة. ومن الواضح أنه ينقصهم المال ويستخدمون أعتدة قديمة وبالية لا تصلح للخدمة. ولا يمكنكم القبول بذلك».


      ثم أضاف: «إنكم تحتفظون بنفوذ عالمي أعلى من قوتكم الحقيقية وتعرفون كيف تستخدمونه ببراعة عندما تكون هناك صفقات ينبغي الحصول عليها. وحظوظكم كبيرة في أن تكونوا القوة الأولى في أوروبا. وربما كان ينبغي أن تكونوا كذلك. لكنكم لا تفعلون ما هو مطلوب من أجل بلوغ مثل هذا الهدف».


      هكذا إذن ذكّر ألماني فرنسيا ب«واجباته العسكرية، لقد فهم جيسكار ديستان الرسالة جيدا، لكنه لم يعلّق بكلمة واحدة على ما قاله المستشار الألماني. وفي عالم يمكن لأوروبا أن تعزز قوتها وتحتل فيها فرنسا المرتبة الأولى ها هي تتراجع وينحسر نفوذها. واعتبر جيسكار نفسه مسؤولا جزئيا عن ذلك إذ كان وزيرا للاقتصاد وساهم في تطويرالترسانة النووية ولكن على حساب الباقي.


      كان انتخاب فاليري جيسكار ديستان رئيسا يعود الفضل فيه جزئيا لجاك شيراك الذي ناصره ضد جاك شابان دالماس. كان جيسكار وشيراك يشتركان بأنهما طويلا القامة - 981 سنتمترا لكل منهما- وخريجا المدرسة الوطنية الفرنسية العليا للإدارة التي تخرّج منها العديد من القادة السياسيين الفرنسيين.


      عند هذا الحد يقف التشابه بين الرجلين بينما كانا يتمايزان من حيث اهتماماتهما الفكرية والسياسية وأسلوبهما في الحياة والتصرف. مع ذلك أعلن جيسكار لجاك شيراك أنه سوف يعينه رئيسا للوزراء فأجابه قائلا: «يمكنك أن تعتمد علي».


      ثم أضاف «لكنك سوف تأسف على ذلك» كما ينقل المؤلف عن أحد حضور الحديث. ومنذ البداية بدا أن هناك غيوم في الأجواء، ذلك أن جيسكار و«ذراعه الأيمن» ميشيل بونياتوفسكي، شرعا بإعداد التشكيلة الحكومية دون استشارة شيراك تقريبا.


      كان فاليري جيسكار ديستان قد أعلن مسبقا أنه ليس من مؤيدي الشروع في تعزيز السلاح النووي وذلك على اعتبار أن التحدّي الحقيقي أمام العالم الحديث لم يعد ذو طبيعة عسكرية، وإنما هو ذو طبيعة اقتصادية واجتماعية وإنسانية.


      ولكن جاك شيراك أمر، من موقعه كرئيس للوزراء، باستئناف التجارب النووية، مما أثار اعتراض أحد وزرائه وهو «جان جاك سرفان شرايبر» ممثل الحزب الراديكالي في الحكومة.


      وقد عرف هذا الوزير عبر خبر وزّعته وكالة الصحافة الفرنسية أنه أقيل من منصبه الوزاري، الأمر الذي برره جيسكار له عندما التقاه في اليوم التالي بالقول: «كان علي أن أتخذ مثل هذا القرار حيالك بناء على طلب من رئيس الوزراء -شيراك- أو أنه كان سيستقيل وبالتالي تستقيل الحكومة».


      خلاف ديستان وشيراك


      لكن الأزمة انفجرت بين جيسكار ديستان وجاك شيراك حول التجارب النووية. فعندما قدم رئيس الوزراء وبصحبته وزير الدفاع إلى قصر الاليزيه من أجل توقيع مرسوم من الرئيس ينص على منع الملاحة حول جزيرة موروروا


      حيث تجري التجارب النووية في هذه المنطقة من المقاطعات الفرنسية فيما وراء البحار قال لهما الرئيس: «لقد قررت تعليق التجارب النووية في المحيط الهادئ، فالعالم كله ينتقدنا، ثم إن فرنسا بتوقيفها التجارب هذه السنة تقوم بحركة باتجاه السلام».


      فأردف شيراك غاضبا: «لك الحق تماما في اتخاذ مثل هذا القرار سيادة الرئيس. لكنني لا أستطيع القبول بذلك إنه بنظري يتعارض مع المصالح الوطنية، وإذا تمسّكت به فإنني سوف لن أستطيع تطبيقه. وسيكون عليك البحث عن رئيس وزراء آخر».


      هكذا قام الرئيس بتوقيع المرسوم الذي اقترحه رئيس الوزراء وجرى الإعلان عن استئناف التجارب النووية ووجد الوزير «المقال» نفسه أمام الأمر الواقع. وعلى عكس ما كان قد ردده الرئيس سابقا حول فترة من «الصمت النووي» استؤنفت مسيرة تعزيز الترسانة النووية الفرنسية أمام أسماع العالم وناظريه.


      وفي مجال آخر، بعد ستة أسابيع فقط من وصول فاليري جيسكار ديستان إلى قصر الاليزيه أعلنوا له أن «أحد نجوم السياسة الدبلوماسية الدولية» موجود في باريس بطريقه إلى الشرق الأوسط. والمقصود هنا هو هنري كيسنجر الذي دعاه الرئيس الفرنسي لتناول إفطار الصباح معه في حديقة قصر الاليزيه وعلّق قائلا: «هذه الزيارة تثيرني كثيرا».


      وكان مصدر «الإثارة» كما يقول المؤلف هو شخصية الزائر وموضوع البحث أيضا. كان كيسنجر خريج جامعة هارفارد وأحد أساتذة الإستراتيجية الكبار. بدأ مسيرته السياسية بالقرب من أسرة كيندي ثم انتقل إلى خدمة خصمها ريتشارد نيكسون. إنه رجل الأسرار والمناورات في خدمة فكرته عن المصالح الأميركية.


      وكان محاطا دائما بالصحافيين والنساء الجميلات ويجيد استخدام التعابير الجميلة مثلما يجيد الحسابات الإستراتيجية. وكان كيسنجر قد ساهم في إعادة الصين إلى جوقة الأمم وفاوض على السلام في فيتنام وساهم في ترتيب الأمور في الشرق الأوسط. لكنه كان منذ سنة على صدام مع الفرنسي ميشيل جوبير حول العلاقات الأطلسية.


      كان البيت الأبيض في واشنطن قد رأى بانتخاب فاليري جيسكار ديستان رئيسا لفرنسا مؤشرا إيجابيا على أمل الوصول إلى تطبيع لعلاقات كانت قد وصلت إلى نقطة «المواجهة الوشيكة».


      وينقل المؤلف عن كيسنجر قوله: «إن جيسكار الذي لم يشارك في كوارث سنوات الثلاثينات والأربعينات ولا في مثالب الحرب الجزائرية، كان أقل حرصا من الذين سبقوه بتسجيل النقاط لصالح مكانته. وكان أول رئيس فرنسي يتحدث اللغة الانجليزية بطلاقة. وكان قد تلقى تعليمه في مدرسة البوليتكنيك...».


      وقال جيسكار عن كيسنجر: «يظل هنري كيسنجر شابا وسعيدا بالمسؤولية الكبرى التي يمارسها». في ذلك الإفطار الصباحي وبعد تبادل بعض الجمل قال كيسنجر لجيسكار: «أريد أن أتحدث معك عن علاقاتنا الخاصة». ثم دقق القول أكثر: «علاقاتنا الخاصة في الميدان النووي.


      أنت على اطلاع بالموضوع حتما وأريد أن أعرف عمّا إذا كنتم ترغبون الاستمرار بهذه العلاقات»؟ هنا اكتشف جيسكار نقطة بعد نقطة تفاصيل التعاون القائم بين الفرنسيين والأميركيين، رغم المجابهات الشفهية العلنية، في الميدان الأكثر حساسية والأكثر حرصا على حمايته أي ميدان الأسلحة النووية.


      كان ذلك التعاون «النووي» طي الكتمان المطلق لا لأنه كان يخالف التشريعات الأميركية الخاصة بمنع تصدير مثل ذلك النوع من التقنيات فحسب وإنما أيضا لأنه كان «يحمل مخاطر كبيرة» من وجهة النظر السياسية بالنسبة لهذا الطرف وذاك.


      وكان ذلك التعاون يقوم على أساس مفهوم «المعلومات السلبية»، وذلك بمعنى أن الباحثين الأميركيين لم يكونوا يعطون نظراءهم الفرنسيين أية معلومة ولكنهم كانوا بالمقابل يجعلونهم «يكسبون الوقت» عبر إرشادهم إلى سبل البحث التي لا تؤدي إلى طريق مسدود.


      وكانت الصلات تقوم على الأرض الأميركية نفسها ولكن بسرية تامة بحيث أنه لم يكن يعرف بها سوى رئيس أركان الجيش ورئيس الدولة نفسه. وينقل المؤلف عن هنري كيسنجر قوله للرئيس الفرنسي: «إذا كنتم ترغبون استمرار هذا التعاون فإننا مستعدون لذلك.


      لكن ينبغي المحافظة على نفس القواعد». فأجاب جيسكار: «لم أكن أعرف أنك سوف تحدثني اليوم عن هذه المسألة. ولم أتمعّن إلى حد كاف بهذا الملف. وأنا مستعد للخوض به ثانية بعد فترة. وحتى آنذاك أنا موافق على المحافظة على القواعد المطبقة بحذافيرها الآن». كرر كيسنجر: «أنا ألحّ على مسألة الاحترام التام للسرية إذ لا يمكننا المخاطرة أبدا».


      ما يؤكده المؤلف هو أنه قد تمّت المحافظة على السر إلى أن انتهى مفعوله. وقد سمح ذلك التعاون لمهندسي إدارة التطبيقات العسكرية في مفوضية الطاقة الذرية بالتقدم سريعا في ميدان تصنيع الأسلحة النووية وفي التوصل إلى التزود بأسلحة ذات رؤوس متعددة.


      لم يكن فاليري جيسكار ديستان يفهم الكثير عن آلية عمل «جوبيتر»، أي المقر النووي الموجود في الاليزيه، هكذا دعا جنرالين معروفين بانتمائهما إلى مدرستين «فكريتين» متعارضتين حول المسائل الإستراتيجية لتناول طعام الغداء معه في قصر الاليزيه، وكان يرافقه رئيس أركانه الخاص. وقد قال لهم: «لقد جمعتكم كي أحسّن معارفي حول ميدان تعرفونه جيدا».


      كانت هناك أسئلة كثيرة تطرح عليه حول «العقيدة» التي ينبغي تبنيها فيما يخص الأسلحة النووية. وخاصة كان هناك سؤالان جوهريان: هل تنبغي المحافظة على نفس القدر من الميزانية بالنسبة للأسلحة النووية ومتابعة تصنيع غواصة نووية خامسة، كان الرئيس «بالنيابة» آلان بوهير قد وقّع قرار إنشائها؟


      على أي مسرح يمكن نشر القوات المزودة بالصواريخ النووية التكتيكية التي يبلغ مداها 120 كيلومترا مما يعني أنها سوف تسقط على أراضي الحلفاء الألمان في حالة قيام أي نزاع مع السوفييت؟ كان جيسكار ديستان رجلا «متمدنا»، كما يصفه المؤلف ومحاميا يدافع عن حالة الوفاق مع الاتحاد السوفييتي، لكنه كان يجيد الحساب أيضا ويتعلم بسرعة.


      وقد عرف سريعا أن رؤساء الدول لا يتحدثون فيما بينهم سوى عن الطائرات والصواريخ والغواصات. وينقل المؤلف أن ليونيد بريجنيف قد سأل جيسكار أثناء لقائه به في فرنسا عام 1974: «إلى من توجهون الأسلحة النووية الفرنسية»؟ وكانت إجابة جيسكار محسوبة وسريعة: «إن دفاعنا يبقى وطنيا».


      قام فاليري جيسكار ديستان أثناء فترة رئاسته بتحويل قبو أرضي في قصر الاليزيه لم يكن قد دخله أحد قبل سنوات طويلة تقارب الأربعة عقود إلى «مقر القيادة النووية» اعتبارا من عام 1977. وكان الرئيس قد طلب من مجموعة من المهندسين تحويل ذلك المكان الرطب إلى مقر حقيقي للقيادة؟


      وذات صباح من مايو 1978 عقد فاليري جيسكار اجتماعا سريا في قبو الاليزيه بحضور ستة من كبار الشخصيات الفرنسية بينهما جنرالان أحدهما قائد أركان الجيوش والآخر هو رئيس أركان الرئاسة. كان موضوع الاجتماع هو قضية «كولويزي» في الكونغو (البلجيكي)، زائير حاليا.


      وكان عدة آلاف من المتمردين قد سيطروا على مدينة «كولويزي» حيث كان يعمل حوالي ثلاثة آلاف أوروبي نصفهم على الأقل من الفرنسيين العاملين في مناجم النحاس واليورانيوم. وكان شبح المذابح يلوح في الأفق.


      الضوء الأخضر


      ينقل المؤلف عن جيسكار ديستان قوله حول تلك القضية في نهاية اجتماع له مع وزراء حكومته: «هذه قضية خطيرة وبلادنا متورطة بها وكذلك مختلف العالم الناطق باللغة الفرنسية. إن مواطنينا المتواجدين هناك في خطر».


      وكان التدخل العسكري الفرنسي يلوح في الأفق القريب. لكن رئيس أركان الجيش حذر قائلا: «إنها عملية دقيقة جدا من وجهة النظر التقنية. إذ لا توجد قاعدة للتراجع إليها في المناطق القريبة».


      مع ذلك أشار رئيس أجهزة الاستخبارات الخارجية الفرنسية أن المعلومات المتوفرة لديه تدل على أن «كل شيء يشير إلى أن الأوروبيين قد يتعرضون لمجزرة». ثم جاء قرار فاليري جيسكار ديستان، أعطيكم الضوء الأخضر للقيام بالعملية».


      لم يتسرّب أي شيء مما كان يدور داخل جدران قصر الاليزيه إلى الخارج. ولم يكن أحد يعرف ما يتم تحضيره في فرنسا. فقط كانت هناك بعض الإشاعات عن إمكانية التحضير للقيام بعملية. وفي نفس مساء انطلاق عملية التدخل العسكري الفرنسي في «كولويزي» جرى تنظيم حفلة استقبال في قصر الاليزيه تكريما للرئيس السنغالي الراحل ليوبولد سنجور.


      وقد حاول الرئيس الفرنسي أن يبدو بأفضل حالة نفسية كي لا يتنبّه أحد للأمر الذي كان يشغل باله. أحد الجنرالات أعطاه في تلك السهرة ورقة صغيرة أخبره فيها أن الطائرة الفرنسية الأولى قد حطت في «كنشاسا» وعلى متنها جنود من المظليين.


      أمضى الرئيس الليلة كلها إلى جانب جهاز الهاتف. وقد أخبره السفير الفرنسي في زائير أن مذابح الأوروبيين قد بدأت في «كولويزي». وعندما وصل الجنود الفرنسيون إلى المدينة كان أكثر من مئة أوروبي قد لقوا حتفهم بينما قاموا بتخليص الباقي وقُتل ستة من الجنود الفرنسيين.


      وقضية إستراتيجية أخرى عرفتها فترة رئاسة فاليري جيسكار ديستان، وهي تخص الصواريخ التكتيكية التي يبلغ مداها 120 كيلومترا والمعروفة باسم «بلوتون». وكان جيسكار قد أمر أن تشارك محمولة على دبابات في العرض العسكري المكرّس للاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي بتاريخ 14 يوليو 1975. كان يريد أن يقول للرأي العام أن هذه الصواريخ موجودة وأنها «عملياتية» أيضا.


      أزمة الصواريخ النووية


      لكن هذه الصواريخ أثارت أزمة حقيقية بين فرنسا وألمانيا ذلك أن وجودها على حدود فرنسا الشرقية يعني أنها لا تطال سوى الأرض الألمانية بينما كان يريد الفرنسيون وضعها، كما قالوا، على الحدود الشرقية للحليف الألماني كي تكون جاهزة لمواجهة العدو «السوفييتي» بأقصى سرعة ممكنة.


      لكن المستشار الألماني آنذاك هلموت شميت قال للرئيس الفرنسي جيسكار ديستان، كما ينقل المؤلف، أثناء لقاء معه في قصر الاليزيه: «لكن في نفس اللحظة التي سيضرب فيها صاروخ نووي الأرض الألمانية سوف ترفع قواتنا الرايات البيضاء. أعرف أن توقيف هذا البرنامج التسليحي صعب عليكم، ولكن بصراحة لا معنى له أبدا».


      وكان جيسكار نفسه في حيرة من أمره بشأن الدور الذي يمكن لصواريخ «بلوتون» أن تلعبه في أي سيناريو حربي. وينقل عنه المؤلف قوله: «كنت مدركا دائما أنه في حالة نشوب نزاع نووي سيتم تدمير فرنسا». لكن بعيدا عن القناعات والنقاشات المجرّدة كان يبحث عن حل لمسألة تلك الصواريخ على أرض الواقع الملموس.


      وضمن هذا السياق قام رئيس أركان الجيوش الفرنسية بتنظيم «مناورات كبرى» خلال شهر مايو من عام 1980. وكان الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان يلتقي في تلك اللحظة مع نظيره السوفييتي ليونيد بريجنيف في وارسو عاصمة بولندا بعد دخول القوات السوفييتية إلى أفغانستان. وقد بدت تلك الزيارة آنذاك بمثابة «محاباة» للسوفييت.


      كان الموضوع الذي قامت حوله «المناورات المعنية» هو غزو سوفييتي مفترض لأوروبا بحيث أن الجيش الأحمر يخترق دفاعات الحلفاء ويجتاز السهول الألمانية باتجاه فرانكفورت. وقد قال رئيس الأركان الفرنسي للرئيس جيسكار: «سوف أطلب منكم سيادة الرئيس ـ أثناء المناورات ـ إعطاء الأوامر التي تسمح لقادة الجيش الأول الذي ستكون تحت أمرته كتيبتان مسلّحتان بصواريخ بلوتون باتخاذ قرار استخدام السلاح النووي».


      فقال له جيسكار: «لماذا تقول لي أنك تطلب مني السماح؟ أنت تطرح علي السؤال وسوف أعطيك الجواب. ولكن لن يعرف أحد هذا الجواب بشكل مسبق». بدأت «المناورات» ونزل جيسكار في ساعة متفق عليها إلى قبو الاليزيه حيث يوجد مقر قيادة الأسلحة النووية.


      كانت جدران المقر مغطاة بالخرائط التي تبيّن مواقع الجيوش في المعركة ـ كما جرى تخيّلها ـ وكان كبار الضباط يتحلقون في «الميدان» حول رئيس الأركان الذي قال للرئيس على الطرف الآخر: «سيادة الرئيس، إن قائد الجيش الأول يطلب منكم السماح له أن يستخدم، إذا دعت الضرورة، أسلحته النووية التكتيكية، أي صواريخ بلوتون».


      أجاب جيسكار: «ينبغي أن لا ننسى أبدا أن هناك دائما احتمال أن يرد الخصم». وكان يرى أن إعطاءه الضوء الأخضر لاستخدام مثل تلك الأسلحة في بداية المناورة سوف يرد عليه الخصم وقد يدمّر قواته المسلحة، وبذلك قرر إذن عدم السماح. وقال لقائد أركان جيوشه: «عندما تستأنف القوات السوفييتية الهجوم وتلتحم مع وحداتنا ستطرح علي السؤال من جديد».


      بعد يومين جلس رئيس الدولة في مقر القيادة بقبو الاليزيه للتعرف على سير العمليات. كانت القوات السوفييتية( المفترضة) تتقدم وتقترب من الأراضي الفرنسية. تذكر جيسكار: «كان يُفترض أن يطرحوا علي من جديد السؤال حول السماح باللجوء إلى السلاح النووي،


      لكنهم لم يطرحوه لأن قيادة الجيش رأت أنه لا ينبغي اتخاذ مثل تلك المخاطرة». فهل كان ذلك يعني الاختيار بين الاستسلام أو الموت؟ وما فائدة صواريخ بلوتون إذن؟ سؤالان فرضا نفسيهما على ذهن الرئيس في ذلك الوقت ولم يجدا إجابة.


      كان20 مايو 1981 آخر يوم لفاليري جيسكار ديستان في الاليزيه. ها هو الرجل الذي دخل القصر «مبتدئا» بالشؤون العسكرية يغادره وقد ترك لخليفته فرانسوا متيران جيشا معافى بميزانية محترمة واعتمادات دفاعية زادت بنسبة 30 بالمئة تقريبا أثناء رئاسته.


      عرض ومناقشة: محمد مخلوف

      تعليق

      • محمد زعل السلوم
        عضو منتسب
        • Oct 2009
        • 746

        #4
        كتاب ـ قصة الإليزيه ـ الحلقة (4)
        ميتران وريغان يقرران معاقبة حزب الله والأميركيون يغيرون رأيهم
        تأليف :فرانسوا دورسيفال



        تكشف هذه الحلقة من عرض الكتاب عن أسرار من فترة حكم فرانسوا ميتران منها مثلاً أن الرئيس فاليري جيسكار ديستان سلم ميتران الميدالية التي تحوي الأرقام السرية الخاصة بالأسلحة النووية الفرنسية وعندما فتحها الأخير وجد أنها فارغة وهو ما اعتبره دلالة على أن سلفه في الحكم ترك له سلطة شاغرة.




        ويكشف لنا المؤلف كذلك تفاصيل تتعلق بكاتم أسرار ميتران وهو فرانسوا دو جروسوفر، الذي كان يعرف حقيقة علاقته الغرامية بآن بينجو، والذي لعب دوراً أساسياً في إقناع الرئيس ميتران بإرسال قوات فرنسية إلى لبنان في 1982، حيث يروي لنا كيف تصرف الرئيس بعد وقوع تفجيري بيروت اللذين استهدفا القوات الفرنسية والأميركية وأوقعا عدداً كبيراً من القتلى. وصل فرانسوا ميتران إلى الاليزيه ذات صباح من شهر مايو 1981 حيث كان فاليري جيسكار ديستان ينتظره عند أولى درجات المدخل الرئيسي للقصر. أمضى الرئيسان «الخارج من القصر» فاليري جيسكار ديستان و«الداخل إليه» فرانسوا ميتران 45 دقيقة على انفراد، كي يتبادلا «أسرار الدولة».




        غادر ميتران الاجتماع متوجها إلى حيث كان يتواجد عدد من أصدقائه المقرّبين. سأله أحدهم: «السيد الرئيس، هل يمكن أن تخبرنا ما قاله لك هذا الصباح». كانت «هاء» الغائب تعني جيسكار ديستان. عدّل ميتران عندها من جلسته وبدا في عينيه بريق من يعرف ما لا يعرفه الآخرون. لكنه تحدث، مع ذلك، عن بعض ما دار الحديث عنه مثل الموت القريب لليونيد بريجنيف ومشاريع الرئيس المصري آنذاك أنور السادات ضد النظام الليبي والتعاون النووي السري بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية. ثم توقف فرانسوا ميتران فجأة عن الحديث وأخذ يفتش جيوبه. وأخرج من جيب سترته مغلّفا أبيض اللون إنما أصبح لونه أصفر قليلا وكأنه قد بقي لفترة طويلة في أحد الدروج أو في جوف خزانة. لكنه كان مغلقا بأوراق لاحقة متصالبة.


        وقال: «هذه هي الأرقام السرية للأسلحة النووية. لقد أعطاني هذه الأرقام». ثم رفع يده إلى صدره حيث كانت توجد «الميدالية» وأخرجها كي يُريها لأصدقائه. كان جيسكار قد أعطاها له فهي تحتوي على المعلومات السرية للدلالة على هويته والتي لا بد منها من أجل إصدار أو استخدام القوى النووية إذا اقتضت الحاجة.


        كان ينبغي فتحها، فأخذها ميتران بيديه وحاول ذلك. وعندما لم يفلح حاول أن يستخدم أسنانه. ومع ذلك قاومت فما كان منه سوى أن نادى على أحد الموظفين الجاهزين للخدمة وقال له: «هل تستطيع أن تجلب لي كمّاشة، من فضلك».


        يمكن طلب كل شيء من موظف الخدمة في الاليزيه. لكن تلك كانت هي المرة الأولى التي يطلب فيها رئيس الجمهورية أن يجلبوا له أداة من هذا النوع في أحد صالونات القصر. ومع ذلك عاد الموظف بعد حين ومعه المطلوب. أخذ ميتران الكماشة وفتح تلك «الميدالية السحرية» لقد كانت فارغة.


        فهل كان الرئيس «الخارج» يعرف ذلك؟ وهل كان هو نفسه قد تملكه الفضول؟ هل لم يتم تغيير المعلومات السرية الخاصة بالتعرف على هوية الرئيس الجديد ووضعها في الميدالية؟ هل فكّروا أنه سوف يقوم هو نفسه بذلك؟ هذه الأسئلة كلها ظلّت دون أية إجابة، كما يشير المؤلف. المهم أن ميتران المولع بالرموز اعتبر دلالة ذلك أنهم تركوا له «سلطة شاغرة».


        كان آخر رئيس جمهورية اشتراكي قبله، أي فانسان أورويل، قد ترك الاليزيه منذ 27 سنة ولم يدخل إلى ذلك القصر أي وزير يساري منذ 23 سنة. هذا يعني أن اليسار عاد من «المنفى» مع انتخاب فرانسوا ميتران رئيسا للجمهورية في مطلع مايو من عام 1981.


        كان ميتران يعرف أيضا أن عملا كبيرا ينتظره. وعندما تأكد له فوزه في الانتخابات الرئاسية ضد فاليري جيسكار ديستان قال: ومن هو صاحب العبارة التالية: اليوم بدأت المشاكل»؟ ثم دعا مجموعة الأصدقاء الذين كانوا إلى جانبه طيلة الحملة الانتخابية الرئاسية للتحلّق حوله من أجل كتابة أول تصريح له بصفته الجديدة كرئيس للجمهورية الفرنسية.


        كانت معركته الانتخابية الأولى ضد شارل ديغول عام 1965، لكن الجنرال هو الذي فاز في الجولة الحاسمة «الثانية» بفارق عشرة نقاط عن منافسه ميتران. وكانت الجولة الانتخابية الرئاسية الثانية عام 1974 ضد فاليري جيسكار ديستان وفاز هذا الأخير أيضا وإنما بفارق 4,1 نقطة فقط. وبالتالي كان على ميتران أن ينتظر حتى عام 1981.


        المناظرة الحاسمة


        ينقل المؤلف بعض ما دار أثناء المناظرة التلفزيونية التي جرت بين المتنافسين على المنصب الرئاسي في تلك السنة -1981-، أي فاليري جيسكار ديستان وفرانسوا ميتران. تلك المناظرة التي ارتكب فيها جيسكار خطأ فادحا ربما كلّفه الرئاسة. إذ في لحظة ما قال لميتران: «-إن الفرنك الفرنسي قد هبط سعره كثيرا أمام المارك الألماني، فهل يمكن أن تقول الأرقام المتعلقة بهذا الموضوع بدقة»؟


        فأجاب ميتران: «أعرف جيدا أن الفرنك قد بدأ بالهبوط قياسا للمارك الألماني منذ عام 1974.


        جيسكار: «لكن ما هو الوضع اليوم بالتحديد»؟


        ميتران: «هل تريد رقم النهار أم الليل»؟ ثم أضاف: «لقد ازداد الوضع خطورة بالنسبة للفرنك. سوف أقول لك الأرقام ولكنني لا أحب كثيرا مثل هذه الطريقة. أنا لست تلميذا عندك وأنت لست رئيس الجمهورية الآن. أنت مجرد منافس لي».


        جيسكار: «لقد طرحت عليك سؤالا».


        ميتران: «كلا. كلا. ليس بهذه الطريقة. إنني لا أقبل مثل هذه الطريقة في الكلام». قبل أن يتفوّه جيسكار بسؤاله تذكّر أن السيدة فرانسواز جيرو، وكانت مرشحة لرئاسة الجمهورية عام 1974 قد طرحت عليه السؤال التالي: «كم هو ثمن بطاقة المترو«؟ وقد علّق فيما بعد على سؤاله لميتران، بظروف مشابهة، قائلا إن ميتران قد بحث عن «ثغرة» ما كي يرد له ما كان قد قاله له أثناء المناظرة التلفزيونية الأولى وجاء فيه: «سيد ميتران، أنت لا تمتلك احتكار القلب».


        وقد وجد تلك الثغرة. يقول جيسكار: «لقد أدركت خطأي، لكن وقت تحاشيه كان قد ولّى ومضى». هكذا فاز ميتران في انتخابات عام 1981 وبزيادة 1,1 مليون صوت عن فاليري جيسكار ديستان، كان من بينها أكثر من نصف مليون صوت، كما يقول المؤلف، من أنصار جاك شيراك الذي كان يريد «الانتهاء» من جيسكار.


        كان من أول الأعمال التي قام بها ميتران بعد وصوله إلى قصر الاليزيه إصداره قراراً بحل الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) وإجراء انتخابات جديدة أعطاه فيها الفرنسيون أغلبية كبيرة إذ حصل معسكره على 285 مقعدا من أصل ال485 مقعدا التي كان ينص عليها الدستور الفرنسي آنذاك.


        وإذا كان الشيوعيون قد خسروا الكثير من المقاعد فإن فرانسوا ميتران قد وفى بوعده وضمّت الحكومة الجديدة أربعة وزراء شيوعيين. كان رد فعل البورصة قويا وكذلك رد فعل البيت الأبيض. مع ذلك كان الكرملين هو الذي لا يريد وجود رئيس جمهورية اشتراكي في فرنسا.


        أوفد رونالد ريغان، الرئيس الأميركي آنذاك، نائبه جورج بوش (الأب) للتعرف على «الأجواء الجديدة» في فرنسا قبل أن يأتي هو شخصيا للقاء فرانسوا ميتران. وكان بوش، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية يمثل أيضا العائلات البترولية الأميركية. وشاءت الصدفة أن يكون يوم زيارته للاليزيه هو يوم الاجتماع الأول للحكومة الفرنسية بوجود الوزراء الشيوعيين.


        جرى تحاشي أي لقاء بينهم وبين نائب رئيس الولايات المتحدة الأميركية. ولم ينس الرئيس ميتران أن يقول يومها لجورج بوش: «عندما سيخرج الشيوعيون من الحكومة سوف تهبط شعبيتهم إلى 10 بالمئة فقط».


        انتحار في الاليزيه


        لم تُسمع أبدا طلقات النيران في الاليزيه، ولم يسمع أحد في ذلك اليوم طلقة نارية. لكنهم وجدوا رصاصة معلّقة في سقف أحد مكاتب القصر في الطابق الأول. إنه المكتب الذي كان يحتلّه «فرانسوا دو جروسوفر» المكلّف بمهمة لدى رئيس الجمهورية للشؤون الخاصة وشؤون الصيد. كان ميتران مولعا بالصيد مثله مثل سابقه فاليري جيسكار ديستان.


        كانت الأبواب كلّها مغلقة. ولا أحد في الرواق فالموظفون العاديون قد غادروا عند نهاية يوم عملهم. وفي ذلك اليوم السابع من أبريل 1994 كان الحارس الشخصي لفرانسوا دو جروسوفر ينتظره كما كان يفعل منذ سنوات طويلة حيث كان يخرج حوالي الساعة الثامنة مساء. وكان جروسوفر يلتحق كل مساء برئيس الجمهورية ثم يرافقه إلى مقرّه السكني التابع للاليزيه والموجود على الضفة اليسرى لنهر السين. لكن العلاقة بين الرجلين كانت قد تغيّرت منذ فترة.


        تأخر فرانسوا دو جروسوفر بالخروج من مكتبه، على غير عادته، فدق حارسه الشخصي على باب مكتبه. لكن لا جواب. كرر القرع على الباب ولا شيء غير الصمت المطبق. فتح الباب فوجد «فرانسوا دو جروسوفر» مضرّجا بدمه على أريكة وبيده مسدس ماغنوم عيار 357 والحياة قد فارقته. أخطر الحارس مسؤوليه وحضر الأطباء ورجال الشرطة. أُصيب فرانسوا ميتران بنوع من «الهلع» عندما سمع بالخبر. ذلك أن الموت دخل إلى الاليزيه، وكان المرض الفتّاك قد اشتدّ به هو الآخر.


        أغلقت الشرطة المداخل المؤدية إلى قصر الاليزيه في ذلك اليوم حتى حضور الشرطة الجنائية وإجراء العمليات المطلوبة في مثل هذه الحالات مثل أخذ البصمات ومعاينة الجثّة وطرح الأسئلة على الذين كانوا على صلة مباشرة مع صاحبها مثل سائقه وحارسه الشخصي.


        ولكن ما هي علاقة فرانسوا دو جروسوفر بفرانسوا ميتران؟


        تعود الحكاية إلى عام 1959 عندما قدّم بيير مندس فرانس، أحد أشهر الشخصيات السياسية الفرنسية في القرن العشرين، فرانسوا دو جروسوفر لصديقه فرانسوا ميتران الذي كان يبحث عن توسيع علاقاته لخوض معركة انتخابية قادمة ضد الجنرال شارل ديغول. وقد وجد ميتران في دو جروسوفر النموذج «الديناميكي» الذي يبحث عنه.


        ويروي المؤلف في هذا السياق «حادث الاعتداء» الذي تعرّض له فرانسوا ميتران في شهر أكتوبر من عام 1959 والمعروف ب«حادث المرصد». وكانت سيارة ميتران قد تعرّضت عندما كان يقودها في شارع المرصد «الاوبزرفاتور» لرشقة نيران حيث أصيبت بسبع رصاصات.


        خرجت جميع الصحف في اليوم التالي وعلى صدر صفحاتها الأولى عناوين عن الحادث وبدأت الشرطة تحقيقاتها. لكن بعد أسبوع فقط كشف أحد النوّاب عن أن الحادث مفتعل وأن الأمر كله جرى تدبيره بالاتفاق مع «الضحية». ومن جديد تحدثت عناوين الصحف عن «المزوّر» الكبير.


        هكذا وقع فرانسوا ميتران، الذي كان وزيرا سابقا للداخلية ، في أحابيل مؤامرة كادت أن تودي بمصيره السياسي كله. لقد تخلّى عنه الجميع واقترع العديد من النواب المقرّبين منه لصالح رفع الحصانة البرلمانية عنه. وتساءل كثيرون: هل هذه هي نهايته السياسية؟ ينقل المؤلف عن أحد أصدقائه المقرّبين قوله: «كانت تلك هي المرّة الوحيدة التي رأيته فيها مستعدا للانتحار». أما ميتران نفسه فقد قال: «لقد تعبت من هذه الهجمات كلها».


        كان فرانسوا دو جروسوفر من بين القلائل الذين ظلّوا مخلصين بصداقتهم لفرانسوا ميتران. وقد رافقه في يناير 1961 في رحلة إلى الصين للقاء ماوتسي تونغ وكان رولان دوما، وزير الخارجية الفرنسي لاحقا هو الذي نظّم تلك الزيارة. واعتبارا من تلك الزيارة أصبح فرانسوا دو جروسوفر «رجل الظل وكاتم أسرار» فرانسوا ميتران.


        وليس أسراره السياسية فقط وإنما أيضا أسراره العاطفية حيث كان ميتران قد وقع آنذاك في حب «آن بينجو» التي كانت من نفس منطقة «دو جروسوفر» وهي والدة «مازارين» ابنتها غير الشرعية من ميتران التي كشف عنها خلال السنوات الأخيرة من حياته.


        وقف فرانسوا دو جروسوفر بقوة إلى جانب ميتران ضد الجنرال ديغول، وغدا مستشاره الفعلي في العديد من القضايا بما في ذلك إستراتيجية السيطرة على الحزب الاشتراكي. وكانت مهمته بالتحديد هي العمل على «تجنّب الضربات السيئة» و«تحضير الضربات الجيدة». لقد كان باختصار «أخرس وأعمى وأصم ومخلص في جميع الامتحانات»، كما يتم وصفه.


        هكذا كان فرانسوا دو جروسوفر هو الشاهد و«العرّاب» لولادة «مازارين» يوم 18 ديسمبر 1974 وكان هو الذي يرتب جميع لقاءات «العائلة» في بلدة «لوزيني» حيث كان قد كرّس بيتاً في ملكيته الواسعة لفرانسوا ميتران وعشيقته آن بينجو وابنتهما مازارين، أطلق عليه تسمية «بيت ميتران». كما قدّم العديد من الخدمات الأخرى المختلفة.


        لكن في الوقت نفسه لم ينس فرانسوا دو جروسوفر هوايته حيال المسائل العسكرية والاستخباراتية. وعندما أصبح فرانسوا ميتران رئيسا للجمهورية عام 1981 عهد لصديقه بالميادين المتعلقة بالصيد وبمراقبة الأجهزة السرية، أي عهد إليه بالنشاطات التي يحبها وحيث غدا بنفس الوقت شخصية «رسمية» من شخصيات الجمهورية ويتمتع بحرّاس شخصيين وسكرتيرات ومكتب في الاليزيه.


        مع ذلك من الصعب كثيرا أن يفقد المرء عاداته، وهكذا حرص فرانسوا دو جروسوفر على اتخاذ أسماء «حركية» و«شيفرات» و«أرقام سرية». بل احتفظ بحق حمل السلاح بشكل استثنائي وبعد تدخل شخصيات كبيرة في الدولة، وخاصة تدخل رولان دوما، وزير الخارجية آنذاك. بنفس الوقت أخذ فرانسوا دو جروسوفر بتوسيع علاقاته في جميع الاتجاهات خاصة مع بعض شخصيات معسكر اليمين الذين ساعدوا «بطله» على الفوز بالانتخابات.


        حماية الرئيس


        مع وصول فرانسوا ميتران إلى الاليزيه أصبحت مهمات «الحماية» ملحّة أكثر فأكثر. إذ كانت تنبغي الإحاطة برئيس الجمهورية وبأهله أيضا، أي أسرته «الرسمية» ممثلة بزوجة الرئيس دانييل وولديهما، وبالأسرة «الأخرى» التي كان ينبغي «تجنيبها» أي حادث طارئ قد يكشف عن وجودها ويسيء بالتالي للرئيس ولسلطته.


        وينقل المؤلف في هذا السياق عن كتاب صدر عام 2006 عن سيرة حياة «دانييل ميتران» أن أختها، وزوجة الممثل الفرنسي الشهير روجيه هانان، قد حملت باقة من الورد يوم فوز ميتران لأختها دانييل وحملت أيضا لها الرسالة الدقيقة التالية: «دانييل، عزيزتي، ينبغي الآن رحيل جان. إن رئيس الجمهورية هو الذي يطلب منك ذلك».


        وكما تعرفين أن فرانسوا ـ الرئيس فرانسوا ميتران- قد تعوّد عليه وهو يعامله كصديق ويتعايش معه بهدوء على هذا الأساس. لكن الأمر لم يعد ممكنا اليوم. وعشيقك لم يعد باستطاعته السكن في المنزل الخاص لزوجك رئيس الجمهورية».


        جان المقصود هو أستاذ للرياضة وكان يسكن في غرفة فوق شقة ميتران منذ عشرة سنوات، وقد كان ميتران وزوجته قد اتفقا على ذلك «التوزيع الغرامي». لكن بعد أن أصبح الزوج رئيسا للجمهورية غدت المخاطر أكبر من «الأصداء» المحتملة التي قد تثار.


        أما المخاطر فقد كانت من نوع آخر بالنسبة لرئيس الجمهورية ول«أسرته السرية». كان الرئيس الأميركي رونالد ريغان وبابا الفاتيكان قد تعرّضا منذ فترة وجيزة لمحاولتي اغتيال. واعتبروا في قصر الاليزيه أنه قد حان الوقت لإعادة تنظيم حماية أمن رئيس الدولة حسب توجيهات الأجهزة السرية التي كانت تجد أن مثل هذا الأمن «غير موجود» فعليا.


        هكذا عهد فرانسوا دو جروسوفر بالمهمة لقائد «مجموعة تدخل الشرطة الوطنية، التي تأسست عام 1973 وكلّفوها بالقيام بمهمتها على مدار الساعة وطوال أيام السنة وفي كل مكان. وقد قال ميتران للمكلّفين بحراسته الدائمة: «سوف تضايقونني كثيرا»، ذلك أن مهمتهم كانت تعني أيضا بشكل طبيعي، حماية آن ومازارين.


        أما دو جروسوفر فقد اختصر تعليماته بالقول: «السرية التامة والكاملة». هذه «السرية» أرغمت الأم والابنة ذات الثمانية سنوات على مغادرة شقتهما المؤلفة من ثلاث غرف التي تصعب حمايتها للسكن في بيت «مغلق» ولا يمكن رؤيته من الخارج وتحيط به «الكاميرات».


        هذا المسكن الجديد موجود في الموقع الذي بناه نابليون الثالث وأصبح سابقا «إسطبل» قصر الاليزيه ثم جرى تحويله إلى بناية للمكاتب الإدارية وبناية للشقق السكنية لبعض أعضاء ديوان الرئيس الذين كان من بينهم رئيس الديوان ورئيس الأركان الخاص للرئاسة وفرانسوا دو جروسوفر.


        وحيث احتلت مازارين وأمها شقة مؤلفة من خمس غرف في الطابق الخامس. وإلى هذه الشقة بالتحديد كان يرافق ميتران كل مساء صديقه فرانسوا دو جروسوفر حيث يلتقي بابنته وأمها «المرأة التي أحبّها». هكذا لم يكن ميتران يمضي في قصر الاليزيه سوى الوقت المطلوب للقيام ب«الواجبات» الرئاسية.


        لقاء مهم


        التقى الرجلان فرانسوا ميتران وفرانسوا دو جروسوفر على حب لبنان. فرانسوا دو جروسوفر بسبب والده «موريس» الذي أسس بنك فرنسا في لبنان ونقل لأبنائه حبّه وولعه بالشرق. وفرانسوا ميتران بسبب «الإنجيل» الذي كانت أمه تقرأ له منه عندما كان صغيرا وحكاياتها التي بقيت آثارها محفورة في أعماقه عن ذكرياتها على جانبي نهر الليطاني.


        في شهر فبراير 1981 ذهب فرانسوا دو جروسوفر بمهمة إلى بيروت، ضمن وفد من رجال السياسة الفرنسيين. فقد كانت له علاقات جيدة مع أسرة الجميّل. هناك زار بلدة الدامور واستمع للقادة المسيحيين وهم يطالبون بجلاء القوات الأجنبية عن لبنان. عندما عاد إلى باريس تحدث مع فرانسوا ميتران عن «واجب مساعدة الشعب اللبناني» وعن خطر تدخل عسكري إسرائيلي.


        ويشير المؤلف إلى أن فرانسوا ميتران كان يعتقد منذ وصوله إلى الاليزيه بوجود خطر قيام حرب شاملة في تلك المنطقة. وكان دو جروسوفر قد جذب إليه أحد عناصر الاستخبارات الخارجية هو العقيد «روندو» الأخصائي بشؤون الشرق الأوسط والذي يتحدث اللغة العربية بطلاقة.


        في 2 مارس 1982 قام فرانسوا ميتران بزيارة إسرائيل حيث ألقى أمام «الكنيست» خطابه الشهير الذي دعا فيه الإسرائيليين للاعتراف بدولة فلسطينية ودعا الفلسطينيين للاعتراف بإسرائيل. وقد قوبل هذا ب«عدم الفهم» من الجانبين. وفي 12 يونيو من نفس السنة زحف الجيش الإسرائيلي باتجاه بيروت من أجل طرد الفلسطينيين منها محطما بذلك الجهود الدبلوماسية التي كانت فرنسا تقوم بها منذ فترة طويلة.


        ويؤكد المؤلف في هذا الإطار أن فرانسوا دو جروسوفر وبيير ماريون، رئيس أجهزة الاستخبارات الخارجية الفرنسية، قد التقيا خلال تلك الفترة مع شقيق الرئيس السوري رفعت الأسد وبعده مع مبعوثين من مجموعة أبو نضال. بنفس الفترة (سبتمبر و أكتوبر 1982) توجهت السفينة الفرنسية «مونتكالم» إلى المياه اللبنانية بأوامر من فرانسوا ميتران، وهذه السفينة مزودة بطائرات عمودية وأجهزة تجسس واتصال «مشفّرة».


        ويشير المؤلف إلى أن ميتران، من أجل تجنب أن يؤدي التدخل الإسرائيلي إلى مجابهة بين الشرق-الغرب، على أساس أن سوريا كانت قد عقدت اتفاقية تعاون عسكري متبادل مع الاتحاد السوفييتي، اتفق مع رونالد ريغان على إرسال كتيبة فرنسية إلى لبنان في إطار «قوة متعددة الجنسيات». كذلك تتم الإشارة إلى أن فرانسوا دو جروسوفر قد التقى طيلة صيف 1983 بمبعوثين عن أطراف النزاع اللبناني، خاصة مبعوثي جنبلاط والجميّل في أفق القيام بوساطة.


        انفجاران في بيروت


        في 23 أكتوبر 1983 عرفت بيروت انفجارين كبيرين أدى أحدهما إلى قتل 58 جنديا فرنسيا والآخر 239 من جنود المارينز الأميركيين. جمع ميتران حوله مباشرة عددا من المقرّبين منه في قصر الاليزيه بينهم فرانسوا دو جروسوفر وقال لهم: «أنوي الذهاب إلى بيروت فما رأيكم»؟


        كان في الحقيقة قد أرسل وزير دفاعه قبله وقرر هو الذهاب أيضا لكنه جمعهم من أجل «الشكل» فقط. رافقه في الرحلة رئيس أركانه الخاص ومستشاره الدبلوماسي هوبير فيدرين وفرانسوا دو جروسوفر. لم يكن أحد في بيروت يعلم بتلك الزيارة سوى الرئيس أمين الجميّل، صديق جروسوفر.


        تحركات سرية


        أحيطت التحركات في لبنان بكثير من السرية والإجراءات الأمنية. لكن كانت المشكلة الأكبر هي إقلاع الطائرة من بيروت إذ كانت ستمر مباشرة فوق منطقة خطيرة. وكان الجنرال، رئيس الأركان الخاص للرئيس الفرنسي. قد أعطى أوامره كي ترافق طائرات «سوبر اتندارد» المنطلقة من حاملة الطائرات الفرنسية «كليمنصو» طائرة «فالكون-5» التي يستقلها الرئيس ميتران.


        ذلك على أساس أن تعدد مصادر الحرارة يؤدي إلى «تيهان» مسار الصواريخ أرض ـ جو في حالة إطلاقها. وينقل المؤلف عن هوبير فدرين قوله إنه سمع ميتران يسأل الجنرال رئيس أركانه: «جنرال متى سنعرف أن نساءنا سيكنّ أرامل»؟ فأجابه الطيار: «ستكون طائراتنا معرضة لأن تصاب بالنيران لفترة ثلاث دقائق أخرى، سيادة الرئيس».


        وينقل المؤلف عن جاك اتالي قوله: «لقد اعترف لي فرانسوا ميتران لاحقا أن لحظة قراءة أسماء الجنود القتلى كانت من أسوأ لحظات فترتيه الرئاسيتين. كان يعرف أنهم قد ذهبوا إلى الموت بقراره وحده، وأنه كان مصمما على معاقبة الفاعلين. لكن كان ينبغي التعرّف عليهم وتحديد مواقعهم». هنا يؤكد المؤلف أن الفرنسيين والأميركيين اتخذوا قرارا مشتركا بالرد على من اعتبروهم مسؤولين عن التفجيرين من حزب الله وجرى تحديد موعد 17 نوفمبر للقيام بذلك.


        وفي صباح ذلك اليوم أخبر جاك اتالي الرئيس ميتران أن الأميركيين قد غيّروا رأيهم وتخلّوا عن الرد. لكن ميتران قرر عدم التخلي وقال لأتالي: «عليك أن تحتفظ بهذه الحكاية سرا لفترة طويلة. ولا أريد أن يعرف أحد قبل زمن مديد أن الأميركيين قد تخلّوا عنا في اللحظة الأخيرة».


        لقد قامت الطائرات الفرنسية بإلقاء قنابلها فوق معسكر في بعلبك وعادت كلها إلى قواعدها. وهذا ما اعتبره مسؤولو حزب الله «عملية استعراضية». كان غضب فرانسوا دو جروسوفر كبيرا. وقال: من أين جاءت عملية الكذب والتضليل؟ وزادت شكوكه بالجو المحيط بالرئيس «معلّمه».


        ارتبط اسم فرانسوا دو جروسوفر بالعديد من القضايا الخاصة ب«عمولات» حول صفقات لبيع الأسلحة مما جعل القضاء «يهتم به» ويحرمه ميتران من لقب «مكلّف بمهمة» لديه واحتفظ فقط بصفة «مسؤول الصيد». وهي الصفة التي مثّلت «خير غطاء» لمتابعة صلاته مع إفريقيا والشرق. وهذا ما جلب له أيضا الكثير من اهتمام «القضاة» به.


        وضاقت الدائرة عليه أكثر وصولا إلى دفعه ل«الانتحار». وهكذا دفن معه الكثير من أسرار الاليزيه في ظل فرانسوا ميتران. ثم «دفن» ميتران كل أثر لموته في الاليزيه بما في ذلك مكتبه إذ أمر بهدم جدرانه لينشئ صالة اجتماعات كبيرة.


        عرض ومناقشة: محمد مخلوف

        تعليق

        • محمد زعل السلوم
          عضو منتسب
          • Oct 2009
          • 746

          #5
          كتاب ـ قصة الإليزيه ـ الحلقة (الأخيرة)
          شيراك يستشيط غضباً بعد رؤيته لجنوده مقيدين بالسلاسل في البوسنة
          تأليف :فرانسوا دورسيفال



          يتناول المؤلف في هذه الحلقة، وهي الأخيرة من عرض الكتاب، الأزمات التي عايشها الإليزيه خلال فترة رئاسة جاك شيراك، حيث تصادف وصول شيراك إلى القصر ليتسلم مقاليد الحكم خلفاً للرئيس السابق ميتران مع حادثة مذلة وهينة للجنود الفرنسيين الذين كانوا منتشرين في البوسنة ضمن قوات حفظ السلام التي تشكلت بقرار من الأمم المتحدة للفصل بين المتحاربين الصرب والكروات والمسلمين.




          وينقل لنا المؤلف هنا ردة فعل شيراك على ما جرى للجنود حيث استشاط غضباً وأجرى اتصالاته الدولية بالأمين العام للأمم المتحدة وبالرئيس الأميركي آنذاك بيل كلينتون من أجل ضمان التحرك بتشكيل قوة للرد السريع تكون مزودة بأسلحة ثقيلة. أما الأزمة الثانية فتمثلت في قيام طائرة تابعة لسلاح الجو في ساحل العاج بإسقاط قنبلة على جنود فرنسيين فقتلت سبعة منهم. وفي هذه المرة كان رد شيراك حازماً حيث أمر بتدمير طائرات سلاح الجو العاجي جميعها.




          ويتحدث المؤلف كذلك عن زوجة الرئيس شيراك وإعجابها الكبير بهيلاري عقيلة الرئيس الأميركي السابق كلينتون وبلورا بوش عقيلة الرئيس الحالي. يوم وصل جاك شيراك إلى قصر الاليزيه عام 1995 عرفت فرنسا «إهانة» كبيرة. ففي ذلك اليوم قام الصرب في البوسنة بنزع سلاح الجنود الفرنسيين وتقييدهم بالسلاسل وتصويرهم وهم يحملون بأيديهم الأعلام البيضاء. عرضت شاشات التلفزة في العالم كله تلك الصور وكان يراد منها أن «تصدم» المشاهدين وقد «صدمتهم» بالفعل خاصة في فرنسا.


          وكان الصرب يبعثون أيضا عبر ذلك ب«رسالة» للرئيس الجديد جاك شيراك عند تولّيه مهام منصبه ليقولوا له إنهم يريدون أن «يلعبوا» معه نفس اللعبة التي مارسوها مع فرانسوا ميتران. هذا ما علّقت عليه الناطقة باسم الاليزيه آنذاك كاترين كولونا بالقول للمؤلف في مقابلة له معها عام 2005: «كانت مثل تلك الإهانة غير مقبولة بأي شكل من الأشكال بالنسبة لجاك شيراك».


          كان فرانسوا ميتران في صباح «دخول» جاك شيراك إلى الاليزيه كرئيس للجمهورية قد قام بجولة أخيرة في حدائق القصر برفقة طبيبه الخاص وحارسه الشخصي بانتظار عودة الرئيس الجديد من بلدة «كولومبي» حيث كان قد ذهب لوضع باقة من الزهور على قبر الجنرال شارل ديغول.


          عندما دخل جاك شيراك إلى المكتب الذي كان يوجد فيه الرئيس فرانسوا ميتران، وهو المكتب الذي يعرفه جيدا إذ دخله مئات المرّات عندما كان رئيسا للوزراء أثناء فترة التعايش الأولى التي جمعت على رأس السلطة رئيس جمهورية اشتراكيا ورئيس وزراء يمينيا، أي من 1986-1988، وجد أن أشياء كثيرة قد تغيّرت.


          كان التغيير الأول هو ميتران نفسه الذي أصبح أصلع الرأس إثر العلاج الكيميائي الذي خضع له بسبب إصابته بمرض سرطان المثانة. ثم إن الأثاث نفسه قد تغيّر. قال ميتران لشيراك: «لقد حرصت على أن أُعيد هذا المكتب إلى الحالة التي كان عليها عندما غادره الجنرال شارل ديغول». وهذا ما علّق عليه شيراك بالقول لمؤلف هذا الكتاب أثناء لقاء له معه: «كانت حركة شديدة الأناقة وقد أدهشتني عندما جاءت منه، أي من فرانسوا ميتران».


          أمضى الرئيسان «الخارج من الاليزيه والداخل إليه» حوالي ساعة كاملة على انفراد. وقد حرصا، كلاهما، فيما بعد على عدم البوح فيما تحدثا به يومذاك. كل ما عُرف هو أن ميتران أبدى قلقه على مصير مدير مكتبه وعلى «طيور البط» الموجودة في حديقة القصر. أما جاك شيراك فقد أعلن عن نواياه باستئناف التجارب النووية.


          وينقل المؤلف عن الرئيس جاك شيراك قوله له بصدد صور الجنود الفرنسيين في البوسنة وهم يحملون الأعلام البيضاء عند دخوله إلى قصر الاليزيه كرئيس للجمهورية: «إن صور جنودنا أثارت فيّ غضبا شديدا». وقد حرص شيراك على أن يجمع مباشرة حوله مجلسا «مصغّرا» يضم رئيس الوزراء ووزيري الدفاع والخارجية ورئيسي أركان الجيوش وأركان الاليزيه.


          السؤال الذي جرى طرحه يومذاك هو التالي: كيف ترك العسكريون الفرنسيون أنفسهم ـ في البوسنة ـ ينجرّون نحو ذلك الوضع؟ كانت فرنسا هي التي قدّمت أكبر عدد من الجنود لقوات الأمم المتحدة في البوسنة حسب قرار أصدرته منظمة الأمم المتحدة بتاريخ 21 فبراير 1992 بعد ستة أشهر من تفكك يوغسلافيا. كانت مهمة تلك القوات هي الفصل بين المتقاتلين من الصرب والكرواتيين والبوسنيين.


          هكذا انتشر 22 ألف جندي في البوسنة، لم يكن بينهم أميركيون وفي ظل قيادة تحتاج من أجل اتخاذ أصغر القرارات إلى موافقة الأمين العام للأمم المتحدة والأمين العام للحلف الأطلسي. ونتيجة مثل ذلك الوضع ساد «الشلل الكامل» صفوف قوات الأمم المتحدة «الضائعة» بين مهمات المحافظة على الأمن والمهمة الإنسانية واستخدام القوة؟ بنفس الوقت فشلت جميع محاولات وزير الخارجية الفرنسية آنذاك آلان جوبيه في الحصول من مجلس الأمن الدولي على قرار أكثر «واقعية».


          لم يشأ أحد أن يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. من هنا تفرّق الجنود «أصحاب القبعات الزرقاء»، أي التابعين للأمم المتحدة في مناطق منوّعة حيث أصبحت مهمتهم عمليا هي حراسة مستودعات أسلحة الصرب والبوسنيين على حد سواء.


          قام الصرب برفع مستوى التصعيد عندما استولوا على عدة مدافع من أحد المستودعات في سراييفو. وكرد على مثل هذا الاعتداء الذي اعتبره الجنرال سميت، قائد قوات الأمم المتحدة في البوسنة، تجاوزا للخطوط الحمراء طالب بضربات جوية كانت تشكّل، برأيه، العقاب الوحيد المجدي.


          لم يلق طلبه أذنا صاغية، فأعاد طلبه من جديد لتقوم الطائرات بعد ثلاثة أيام بتدمير عدة مستودعات للذخائر تابعة للصرب في البوسنة. فرد الصرب على قصف الطيران بالاعتداء على 300 من جنود قوات الأمم المتحدة من الفرنسيين الذين عرضت محطات التلفزة صورهم أيضا مرّة أخرى مثلما فعلت في المرّة الأولى.


          وتلا المجلس المصغّر الأول، مجلس آخر بعد ظهر نفس اليوم. وينقل المؤلف عن أحد حضوره أن أجواءه كانت مكفهرّة والمزاج سوداوي حيث كان على رئيس الأركان الجنرال جاك لانكساد أن يقدم عرضا للوضع العسكري الذي اعتبره الرئيس شيراك مأساويا.


          وقال الجنرال: «نحن مجبرون على احترام قواعد السلوك التي حددتها منظمة الأمم المتحدة. وجنودنا ليسوا في حالة ضعف على صعيد ميزان القوى فحسب وإنما أيضا لا يملكون سوى أسلحة خفيفة».


          وتتالت أسئلة الرئيس على الفور. هل هذا يعفي من المسؤولية؟ من الذي ترك الأمور تتردّى إلى هذا الحد؟ أي قادة عسكريين وأية سلطات؟ هل هي الحكومة السابقة؟ هل جنودنا مجرّد أرانب يطلقون عليها الرصاص أم نعاج يتم ربطها بالحبال؟ وأين الشرف الوطني وشرف الجيش؟ هذا أمر غير مقبول وغير مسؤول، أضاف شيراك.


          آراء متعارضة


          كانت هناك آراء متعارضة لدى رئيس الجمهورية ورئيس أركان الجيش حول السلوك الذي ينبغي اتباعه. قال الجنرال لانكساد: «إننا لسنا في حالة حرب ونحن لا نمتلك الإمكانيات وبالتالي لا يمكننا خوضها». ثم سأله شيراك: «لكن ألا يقوم بها الآخرون»؟ فرد عليه قائلاً: «إن مبدأ الفصل يضع قواتنا في موقف هش منذ البداية».


          قال شيراك عندها: «أنتم عسكريون ولستم دبلوماسيين». وكان يعني بقوله: «أنتم عسكريون» ما مفاده: «مارسوا مهنتكم». كان الأمر جافا، إذ كان شيراك يريد خطة للتحرك العسكري مباشرة. هكذا فهم الجميع حول تلك الطاولة أنه لم يكن أمامهم رئيس الدولة فقط إنما أيضا رئيس الجيوش، ليس بقوة الدستور فحسب، ولكن كذلك بفضل مزاجه وحديثه إلى «رجاله» مثل قائد سرب.


          ويصف المؤلف الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك على أنه كان ينظّم عمله في الاليزيه ويحضّر مذكراته الإدارية ويرتّب مكتبه ودفاتره وأقلامه مثل جندي. وإنه يمقت جدا الفوضى ويؤمن بالنظام ويحترم التراتبية.


          أما أهم صفاته فتكمن في حبه للعمل، إذ كانت أسوأ شتيمة يوجهها لآخر هي أنه «كسول». ثم إنه كان فعليا ضابط احتياط لدى مصلحة قيادة الأركان. باختصار أصبح هو المرجع الوحيد في قصر الاليزيه وإذا أعطى أمرا فإن على الآخرين تنفيذه.


          كان جاك شيراك قد تولّى في الواقع مسؤولية وحدة عسكرية تضم 32 جنديا يخضعون لقيادته في إحدى مناطق الغرب الجزائري عندما كانت الجزائر مستعمرة فرنسية وكان هو ضابط صغير. لقد أحبّ رجاله وقادهم وشاركهم أمور حياتهم. وينقل عنه المؤلف قوله عندما كان رئيسا لبلدية مدينة باريس بعد أن كان رئيسا للوزراء: «كانت الجزائر بالنسبة لي هي الفترة الأكثر إثارة للمشاعر في حياتي.


          وقد كانت وحدتي العسكرية معزولة عمليا عن أي اتصال مع الخارج. لم تكن هناك أجهزة مذياع محمولة -ترانزيستور- وكان التموين يصلنا عن طريق طائرة عمودية- هيلوكبتر. هكذا عشت لأشهر طويلة حياة مليئة بالأحاسيس والحماسة».


          كان شيراك قد وصل إلى الجزائر مع وحدته الجاهزة للقتال في شهر أبريل من عام 1956، وذلك بعد شهر فقط من زواجه ببرناديت شوردون دو كورسيل التي التقاها في كلية العلوم السياسية بباريس عندما كانا طالبين فيها. وكان شيراك قد تخرّج أيضا من المدرسة الوطنية الفرنسية العليا للإدارة التي تخرّج منها العديد من قادة فرنسا.


          كان عمر جاك شيراك سبع سنوات في عام 1940، عندما اجتاح الألمان فرنسا، و21 سنة عندما سقطت «ديان بيان فو» بيد الثوار الفيتناميين وانهزمت الجيوش الفرنسية و24 سنة عندما خاض هو نفسه الحرب في الجزائر. هكذا إذن عرفت مسيرة حياته الهزيمة تلو الأخرى.


          لكن ما يؤكده جاك شيراك نفسه هو أنه أثناء تجربته «العسكرية» في الجزائر وقيادته لرجاله أحس ب«نفوذه على تغيير مجريات الأمور». وبالطبع كانت، كما يقول، أموراً «متواضعة» ولكنها كانت أساسية بالنسبة لأولئك الذين كانوا تحت أمرته وبالنسبة لإحساسه ب«معنى القيادة».


          شعر بهذا الإحساس بالقيادة، إنما الكاملة هذه المرة، من منصب رئاسة الجمهورية وهو يرى الجنود الفرنسيين يتعرّضون للإهانة في البوسنة وهو القائد الأعلى للجيوش. وتبعا لمطالب الرئيس جاك شيراك صدرت الأوامر لقيادة قوات الأمم المتحدة في زغرب وسراييفو بالرد القوي والحازم على أي اعتداء.


          واتصل جاك شيراك شخصيا بصديقه بطرس بطرس غالي، الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، كي يطلب منه إعادة النظر بالوضع في البوسنة وأخطره بضرورة تشكيل قوة رد سريع جديدة على الفور إذا كانت هناك إرادة وضع حد للفوضى. كما اتصل شيراك بالحلفاء الأطلسيين وتحدد موعد للقاء 16 وزير دفاع من البلدان المشاركة في القوة الأممية بالبوسنة في باريس.


          عندما تحرك الرئيس


          وينقل المؤلف عن شيراك قولهإ الرجل الذي درّبه وقاده إلى الحياة السياسية وأدخل في ذهنه مفهوم «واجب الدولة» هو الرئيس الفرنسي الذي خلف الجنرال ديغول أي جورج بومبيدو. وقد تعلّم منه أيضا أن الكلمات لها في عالم السياسة وظيفة أخرى غير جلب أصوات الناخبين وهو أنها يمكن أن تغيّر الأمور أيضا وأن «إرادة الإنسان» هي التي تقرر مسيرة أعماله.


          تعرّض الجنود الفرنسيون لاعتداء جديد من الصرب في البوسنة عندما كانوا يحرسون الجسر الرئيسي في سراييفو. وكانت تعليمات الرئيس الفرنسي واضحة ويمكن اختصارها بالجملة التالية: «انتهى زمن الإذلال».


          وفي صباح اليوم التالي قامت وحدة عسكرية بالهجوم واستعادت المواقع بينما قُتل جنديان فرنسيان وجُرح حوالي العشرين. ولم تتردد قناة «سي.ان.ان» الأميركية يومها في توجيه التحية إلى «الرئيس الفرنسي النشيط» الذي كان وراء المنعطف الذي عرفته الأوضاع في البوسنة.


          قرر جاك شيراك أنه لا بد من إصدار قرار جديد من الأمم المتحدة يقضي بانتشار قوة رد سريع مؤلفة من عشرة آلاف جندي ومجهّزة بأسلحة ثقيلة. كان رئيس الوزراء البريطاني جون ميجر داعما للموقف الفرنسي بينما بقيت موافقة بيل كلينتون. وعندما التقى جاك شيراك بالرئيس الأميركي بعد أيام على هامش قمة أميركية-أوروبية في كندا قال له انه لا يمكن ترك الأمور على ما هي عليه فـ «إما حماية جنودنا وإمكانية التحرك وإما علينا أن نغادر».


          أجاب كلينتون: «أريد دعمك ولكنني لا أستطيع عمل شيء، فنحن نعيش فترة تعايش كما تقولون، فسيّد الموقف هو الكونغرس»، الذي كانت الأغلبية فيه للجمهوريين. «ولكن ينبغي عليك الدفاع عن قضيتي».


          هنا ينقل المؤلف عن مادلين اولبرايت التي كانت آنذاك ممثلة للولايات المتحدة في الأمم المتحدة قولها في مذكراتها الصادرة عام 2003 ما يلي: «عندما سمعت الرئيس جاك شيراك يصرّح أن مقعد زعيم العالم الحر شاغر أحسست بالدم يتجمد في عروقي. ذلك أن الإستراتيجية التي تبنيناها دفعت إلى الاعتقاد أن رئيس الولايات المتحدة ضعيف. وكنا بحاجة لاستعادة موقعنا المتميّز».


          لقد أصابت جملة جاك شيراك الهدف، فما كان من الرئيس كلينتون سوى أن اتصل هو شخصيا بالزعيمين الجمهوريين في الكونغرس، أي السيناتور بوب دول والنائب نيوت جينجريتش. لقد طلب منهما تقديم موعد لقائهما مع الرئيس الفرنسي والاستماع إلى ما سيقوله لهما عن البوسنة.


          عندما التقى الرئيس شيراك والوفد المرافق له بالزعيمين الجمهوريين بادر نيوت جينجريتش بالقول: «نحن نعرف موقفكم. هل تريدون قرارا جديدا من الأمم المتحدة؟ الأمم المتحدة ليست ذات أهمية. وكل ما هو ليس تحت قيادة أميركية لن يكون فاعلا. ما عدا ذلك ليس سوى دعابة». قاطعه جاك شيراك باللغة الانجليزية: «هل يمكنك شرح وجهة نظركم»؟


          فأجاب الأميركي وهو يعدّ على أصابع يديه: «هناك ثمانية أسباب تدعوني كي أقول لكم كلاّ». ثم ذكر أربعة منها بالتفصيل مضيفا: «أولا البوسنة ليست جزءا من مصالحنا الكبرى، وسوف لن نرسل إليها جنديا أميركيا واحدا. ثانيا، سوف نرفع الحظر عن الأسلحة الموجّهة للبوسنيين المسلمين من أجل إقامة توازن في القوى. ثالثا، إننا نشجع عبر السياسة الحالية التصفية الاثنية والمساس بحقوق الإنسان. رابعا، نحن الآن بصدد أن نؤلب العالم الإسلامي ضدنا، بما في ذلك حلفاؤنا».


          قام جاك شيراك بتفنيد الحجج المذكورة واحدة بعد الأخرى. قال: «هل الأمم المتحدة عاجزة؟ لهذا السبب بالتحديد اقترح إنشاء قوة رد سريع تحت قيادة وطنية وتتحرك فورا على الأرض. هل تريدون رفع الحظر عن السلاح؟ هذا يعني أنكم تولعون النار في البلاد ونحن سنرحل.


          وماذا ستفعلون بالروس؟ وهل ستتركون الصرب يهاجمون البوسنيين؟ إنكم لا تريدون التدخل لكنكم ستجدون أنفسكم مرغمين على ذلك. فإمّا أنكم سوف تتدخلون مباشرة أو سوف تبدون وكأنكم قد تخليتم عن المسلمين. فهل هذا هو ما تريدونه؟ إن كل يوم يمر دون فعل أي شيء هو يوم ضائع بالنسبة لنا، ويوم ربحه خصمانا ميلوسيفتش وكارازيتش القائدان الصربيان المتشددان».


          وينقل المؤلف عن أحد حضور ذلك الاجتماع قوله ان جاك شيراك قد فاوض وكأنه في منطقته ـ الكوريز- بفرنسا وهو يناقش رئيسي بلدين عنيدين. استمر اللقاء مع الأميركيين ساعة ونصف الساعة. انتهى الأمر بالنائب الأميركي إلى القول: «حسنا، نحن موافقون وسوف نعطيكم الضوء الأخضر وسوف ندعم قراركم. لكن لن ندفع لكم أية أموال».


          تساءل شيراك: «الأموال سوف نرى هذا فيما بعد. فلنبدأ حيث ينبغي أن تكون البداية». فتابع الأميركي قائلا: «سيادة الرئيس سوف أقول لك بصراحة إنني لست مقتنعا تماما بما سمعته. لكنكم أصبحتم رئيسا للجمهورية منذ فترة قريبة ولمدة سبع سنوات وسوف يكون لديكم الوقت لرد الجميل لنا. وأضيف لو أنني كنت أحد الذين أعطوكم صوتهم وثقتهم فإنه كان ليسعدني أن أراكم رئيسا لي، أنت زعيم حقا».


          لم يكن شيراك يريد أكثر من ذلك. معه الضوء الأخضر، إذن ينبغي التحرك بسرعة. وموعده في اليوم التالي مع بطرس بطرس غالي في نيويورك مع تحضير مشروع قرار جرت قراءته من قبل كلينتون وجون ميجر والآخرين من قادة قمة الدول الصناعية السبع. ثم قال شيراك للدبلوماسيين الذين برفقته: «لا تضيّعوا الوقت، لقد وافقت عليه القوى السبع الأكبر في العالم وينبغي الاقتراع عليه غدا. هذا ما ينبغي أن تقولوه لسفيرنا في الأمم المتحدة».


          جرى تبني القرار بسرعة فائقة بينما كان جاك شيراك في طريقه إلى باريس. هكذا أصبحت قوة الرد السريع «شرعية»، لقد أثبتت الدبلوماسية أنها ليست محكوم عليها بالجمود وعدم الفعالية. وفي هذا السياق جرى التمهيد للقيام بعمليات القصف الجوي لقوات الحلف الأطلسي على صربيا. لقد فهم الصرب عندها أنهم قد خسروا الرهان ولم يعد أمامهم سوى التفاوض.


          انجاز المهمة


          فكّر شيراك أنه قد «تمّ إنجاز المهمة»، وأن فرنسا التي لم تعد بعد إلى البنية العسكرية المتكاملة للحلف الأطلسي قد أخذت قيادته في أوروبا من خلال العملية ضد صربيا. وينقل المؤلف عن الرئيس الفرنسي السابق قوله: «إن جورج بومبيدو الذي علّمني الكثير


          كان يحب أن يكرر القول أنه عندما تكون هناك عقدة مشدودة جدا مما يجعل فكّها في غاية الصعوبة يصبح من الأفضل قطعها، وهذا ما أردت أن أفعله». ومثل هذا الأسلوب هو الذي عرفه قصر الاليزيه خلال عهد شيراك فيما يخص معالجة أية أزمة خارجية.


          وبنفس الطريقة حسم جاك شيراك مسألة استئناف التجارب النووية التكتيكية بعد أن كان سابقه فرانسوا ميتران قد جعل من وقف هذه التجارب النووية أحد أولوياته الإستراتيجية. وقد كتب شيراك بصدد تلك التجارب: «إن بلادنا على موعد مع التاريخ مرة أخرى».


          لقد نزل شيراك إلى قبو الاليزيه حيث تتواجد قيادة القوة النووية التي كان ميتران قد جمع فيها أركان قيادة جيوشه من أجل تحديد الأهداف الجديدة للصواريخ النووية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. ثم إن هذا المقر يشكل المكان الوحيد في قصر الاليزيه الذي يمكن الاطمئنان فيه بأنه لا يمكن لأي قمر تجسس الاستماع إلى ما يقال فيه.


          كان شيراك يريد أن يأخذ قراره في مكان آمن. كانت آراء الخبراء تقول بضرورة «استئناف التجارب النووية من أجل الانتقال بعدها إلى مرحلة الاكتفاء بالتجارب المخبرية». واعتبر شيراك أن تحديث التكنولوجيا النووية الفرنسية يتطلب السماح باستئنافها، فلم يتردد في السماح بذلك.


          بدأت سلسلة التجارب النووية الجديدة يوم 5 سبتمبر 1995 واستمرت بواقع تجربة كل شهر في مركز التجارب بالمحيط الهادئ بحيث كانت التجرية الأخيرة بتاريخ 29 يناير 1996. يومها قال جاك شيراك عبر تصريح تلفزيوني: «أحس أنني أنجزت اليوم أحد الواجبات الملقاة على عاتقي إذ أعطيت فرنسا لفترة العقود القادمة ضمان استقلالها وأمنها». وقّعت فرنسا اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية.


          بعد إجراء سلسلة التجارب النووية اعتبر جاك شيراك أن «فصلا جديدا قد بدأ». لقد أعلن بعد شهر فقط جعل الجيوش الفرنسية «محترفة» ونهاية الخدمة العسكرية الإلزامية. ولم ينس آنذاك أن يطمئن صديقه المستشار الألماني هلموت كول أن الصواريخ الفرنسية التكتيكية لن تسقط بعد الآن فوق الأراضي الألمانية، لسبب بسيط هو أنه قد جرى تدميرها.


          أزمة ساحل العاج


          أزمة أخرى أظهرت آلية عمل قصر الاليزيه في ظل جاك شيراك. في يوم السبت 6 نوفمبر 2004 هبطت الطائرة التي كانت تقل الرئيس جاك شيراك في مطار رواسي بعد حضوره مؤتمرا أوروبيا. عندها رن هاتفه ليسمع على الطرف الآخر رئيس أركان الرئاسة يقول له: «سيادة الرئيس لقد قال رئيس أركان الجيوش منذ لحظة أن طائرة تابعة لساحل العاج ألقت قنبلة على إحدى وحداتنا وقتلت سبعة جنود».


          كان رد فعل الرئيس سريعا إذ أعطى الأوامر بتدمير الطائرات المقاتلة الأربع والطائرات العمودية الخمس التابعة لجيش تلك البلاد. أي ما يعني الأسطول الجوي الحربي لساحل العاج كله. وعندما صعد شيراك إلى سيارته تأكّد هاتفيا من أنه قد تمّ نقل أوامره بل وتمّ تنفيذها. كما اتصل بـ ميشيل اليوت ماري، وزيرة الدفاع آنذاك ليتأكد من أنه قد جرى تنفيذ الأوامر. وكان بالفعل قد جرى تنفيذ الأوامر.


          ولا ينسى مؤلف هذا الكتاب أن يتحدث عن الدور الذي لعبته برناديت شيراك في الاليزيه بجانب زوجها. وينقل عنها قولها عن السيدة لورا بوش، زوجة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، أنها كانت بنظرها «رائعة ودقيقة الملاحظة».


          أما المرأة التي تركت لديها أقوى الانطباعات فقد كانت السيدة هيلاري كلينتون، زوجة الرئيس بيل كلينتون والتي قالت عنها: «إنها تتمتع بشخصية حديدية وبذاكرة قوية، ذكية وجميلة. ولا يمكن لأحد أن يصبح «سيناتورا» عن ولاية نيويورك دون أن يكون ذا صفات استثنائية. إن صفاتها على مستوى طموحاتها».


          بالمقابل ينقل المؤلف عن هيلاري كلينتون قولها عن برناديت شيراك في مذكراتها الصادرة عام 2003 قولها: «رغم بعض الخلافات السياسية الخطيرة حول هذه القضية أو تلك بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، فإننا أقمنا حوارا رائعا مع أسرة شيراك خلال السنوات الثماني التي أمضيناها في البيت الأبيض».


          ما أكّدته السيدة برناديت شيراك لمؤلف هذا الكتاب هو أنها عرفت في قصر الاليزيه إحساسا ب«الهشاشة» وأنها لم تكن قد عرفت مثل ذلك الإحساس خلال ال18 سنة التي شغل فيها زوجها منصب رئيس بلدية باريس أو خلال الفترتين اللتين أمضاهما رئيسا للوزراء ما بين 1974 و1976 ثم بين 1986 و1988.


          وينقل المؤلف عن السيدة شيراك قولها عن الاليزيه: «هذا قصر السلطة. ولا يمكن لأحد أن يتصور ما سمعته هذه الجدران وساعات الحائط هذه من أقوال». وخلف جدران هذا القصر ينبض قلب فرنسا وفيه حيكت الأحداث الكبرى التي شهدها تاريخها.


          وفي هذا القصر كتب نابليون قرار تخليه عن العرش بعد هزيمته قي معركة واترلو الشهيرة وأقام فيه القيصر الاسكندر مع جنوده. باختصار إنه القصر الذي عرف أسرار ثلاثة قرون كانت فيها فرنسا أحد أهم مراكز الإشعاع في العالم.


          عرض ومناقشة: محمد مخلوف

          تعليق

          يعمل...
          X