من هو جان پول سارتر؟
جان پول سارتر Jean-Paul Sartre فيلسوف وأديب فرنسي، وُلد في 21 حزيران 1905 في باريس، وعاش في طفولته حياة باذخة. بعد مولده بعام واحد فَقَد والده الذي توفي في الهند الصينية، فتزوجت أمه مرة أخرى من مهندس في البحرية، وانتقل للعيش معهما في مدينة لاروشيل، وفيها خَبِرَ حياة البورجوازية التي انتقدها لاحقًا. ثم عاد إلى باريس، وحصل فيه على شهادة البكالوريا، وتخرج في العام 1925 من دار المعلمين العليا École Normale Supérieure، ثم نال شهادة الـAgrégation في الفلسفة. عُيِّن أستاذًا في مدرسة Lycée le Havre الثانوية في العام 1931.
وهنا نلحظ كيف بدأت حياة سارتر الراشدة في فترة ما بين الحربين، وإبانها بدأت حياته الأدبية أيضًا. إذ اتصل بپول نيزان، ونشر بعض المقالات والكتب والروايات، ومنها رواية الغثيان ومسرحيتا الذباب والجلسة المغلقة. وقد جعل من الأدب وسيلةً لطرح أفكاره الفلسفية، وكان هدفه تقريب أفكاره من الجمهور. وله كتاب شهير بعنوان ما الأدب؟ يتكشف فيه اطلاع سارتر على مختلف المذاهب الأدبية ونقده لها.
حاول سارتر الاضطلاع بالعمل السياسي سنة 1948، فأسَّس حزب "التجمع الديموقراطي الثوري"، ثم اختلف مع الحزب. وحدثت هنا القطيعة بينه وبين ألبير كامو، فيما التقى مع مارتن هيدغِّر.
ثم تقرَّب من الماركسية والشيوعية، واحتج على تعذيب الشرطة الفرنسية للثوار الجزائريين. وفي سنة 1964، مُنح جائزة نوبل للآداب، لكنه رفض استلامها، زاعمًا أن هدفه من الكتابة ليس التشريفات الرسمية والجوائز، بل ينبع من التزامه الأدبي بحمل آلام العصر على كتفيه، وتحمَّل مأساة الجيل بفكره اللاذع وحسِّه الأخلاقي الشجاع.
كان سارتر شخصية محورية في احتجاجات أيار 1968 التي اجتاحت الجامعات الفرنسية وبعض الجامعات الأوروبية. وقد توفي في العام 1980 في مستشفى في فرنسا، وأُحرِقَتْ جثته تنفيذًا لطلبه.
فلسفتة
الوجود يسبق الماهية:
تنادي الوجودية بمبدأ أسبقية الوجود existence على الماهية essence. ونقصد بالماهية مجموعة ثابتة من الخصائص والصفات. وهي بهذا تُعارِضُ ما كان سائدًا في التفكير السابق عليها (الذي يعود إلى أصل ديني) حول أسبقية الماهية على الوجود.
ويعدُّ سارتر أن الطبيعة الإنسانية توجد عند جميع البشر: أي أن كلَّ فرد من الناس هو مثال جزئي لتصور كلِّي هو الإنسان. وتقول الوجودية بأن الإنسان يوجد أولاً، ثم يكوِّن ماهيته بعد ذلك ويبني مشروعه الحر الذي يكوِّن وجوده؛ وبذلك فهو الذي يختار ماهيته.
يميِّز سارتر بين الماهية الإنسانية، التي تعطي الإنسانَ صفةَ الإنسانية وتميِّزه عن باقي الكائنات، وبين الماهية الفردية التي تميِّز فردًا بعينه عن غيره من الأفراد. فالإنسان يوجد وليست له أية صفة محددة، ثم يحاول بأفعاله أن يكوِّن شخصيته في المستقبل. وبذا لا تكون لدى الإنسان في البدء أية طبيعة إنسانية، لكنه يكوِّنها بأفعاله واختياراته. ولقد أفضى هذا البحث بسارتر إلى نتائج تتناقض حتى تبلغ درجة المحال واللامعقول إذا أخذناها على محمل الحرف:
الإنسان هو كائن أولاً، ثم يتحول فيصير هذا الإنسان أو ذاك؛ وعلى الإنسان أن يخلق ماهيته الخاصة.
ولكن الذي نخلقه ليس الماهية الشاملة، إنما الماهية التي تميِّزنا كأفراد.
ومع ذلك، فقد جعل سارتر فلسفته مزيجًا من الوجود والماهية. لذا لا يجوز اتهام فلسفته بأنها اهتمت بالوجود وأهملت الماهية، على أن نفهم هذه الثنوية القائمة بين الوجود في ذاته lʼêtre-en-soi (وهو العالم الموضوعي) المؤلَّف من سلسلة من الظواهر، وهو وجود مُعتم ليس له داخل، وبين الوجود لذاته lʼêtre-pour-soi الذي يمثِّل وجود الشعور أو الحكم. وإن العلاقة بينهما هي علاقة حضور: إذ إن وجود المادة (الوجود في ذاته) وجود مستقل، ولها شخصيتها المستقلة؛ وهو وجود عصي ينفر من الذات، وهو، في الوقت ذاته، مغاير للوجود ويقاومه. وإن التوتر الذي يسود هذه العلاقة إنما يرجع عند سارتر إلى هذه المقاومة التي تقوم بها المادة تجاه الشعور.
الحرية
إن من نتائج القول بأسبقية الوجود على الماهية فكرة الحرية، لأن الإنسان لم يكن شيئًا في بدء وجوده. فهو الذي سيصمِّم نفسه، لأنه حر، بل هو الحرية ذاتها. ونحن وُجِدْنا مع هذه الحرية، ولا مهرب لنا منها، وبها يخلق الإنسان نفسه بنفسه. ويعد سارتر الحرية حكمًا فُرِضَ على الإنسان؛ فهي بمثابة المكوِّن الأساسي لوجوده. ومن الواجب على الفلسفات أن تصبح فلسفة للحرية، وبذلك تكون فلسفة للوجود، أي وجود الوعي والقيم والفكر.
إن الحرية تتحقق في اختيارها وممارستها. وعندئذٍ يكون الإنسان مسؤولاً عنها. ولكنها ليست مجرد اختيار إمكانية بين إمكانيات عدة، بل هي خلق للذات، ولا شيء يعيِّنها إلا ذاتها.
الإنسان الحر هو الذي تحرَّر من المؤثرات الخارجية كلها. والحرية هي أساس المعرفة. إن الحرية عند سارتر لا تخضع لأيِّ قانون سوى أن تكون هي هي: إنها تحمل ذاتها. ولذلك يقصد أن الحرية هي الله، وذلك في قوله:
أن أكون إنسانًا، هذا يعني أن أنحو لكي أكون الله.
وبما أن الإنسان أُلقي في هذا الوجود بلا سبب ولا مبرِّر فهو لم يخترْ هذا الوجود. وبذا فهو يشارك في العبث الكلِّي. فالحرية، إذن، عبث. ومن هنا كان قول سارتر:
إنني مَقضيٌّ عليَّ بأن أكون حرًّا.
لقد أُعطِيَ الوجودُ للإنسان من دون إرادته، وهو مجبر على تقبُّله. وهذا يحمِّل الإنسان مسؤولية حمل عبء العالم كلِّه، فيكون مسؤولاً عن نفسه وعن العالم. ومن هنا تكون مسؤوليته بمثابة استرداد لحريته.
هنا يأتي دور الحرية في هذه المهمة الصعبة كأساس فريد للقيم كي لا تنقلب إلى هدم، على اعتبار أن الحرية ليست سوى اسم آخر للوجود لذاته. فالإنسان هو الموجود الذي توجد به القيم.
ويتساءل سارتر عن إمكانية أداء الحرية مع هذه القيود التي تحيط بالقيم، مع أن هذه القيم من صنع الحرية ذاتها. ويجيب سارتر على هذا التساؤل في كتابه الوجود والعدم:
إن الإنسان هو الكائن الذي به جميع القيم، وتضطرب حريته وتتألم إذ ترى أنها الأساس الذي لا أساس له لهذه القيم.
وهنا يبدو الإنسان كمبدع للقيم، وتبدو الحرية وكأنها العدم، فيظهر الوجود مكتفيًا بذاته. ومن ذلك يبرز الإنسان بوصفه حرية: هو القيمة المطلقة، وكل اختيار يقوم به ذو قيمة.
الوعي والاختيار والمسؤولية
بما أن الوجود عند سارتر يسبق الماهية فإن الإنسان يوجد أولاً، ثم يصنع وجوده ومستقبله بيده تبعًا للأفعال التي يؤديها في حياته؛ وبذا يكون مسؤولاً مسؤولية تامة عن اختياره، ليس لكونه فردًا، إنما يمتد ذلك إلى جميع الناس، وذلك لأن القرار الذي اختاره بنفسه قد اختاره لجميع الناس. فهو يؤكد ذاته باختياره الحر، ويرسم تصوُّره للإنسان كما يريد أن يكون، ويؤكد في الوقت نفسه قيمة ما يختاره.
وهذه المسؤولية الهائلة التي تمس جميع الناس تثير القلق حول صحة القرار الذي اتخذه. ويضع سارتر لهذه المسؤولية معنيين: أحدهما طبيعي، بأن ينظر الإنسان إلى نفسه كمؤلِّف لجميع الأشياء؛ والثاني أخلاقي يؤكد على حرية الإنسان وقدرته على الاختيار، مما يجعله مسؤولاً عن الأعمال التي لم يفعلها ولم يرتكبها، وحتى عن المواقف التي لم يوجِدها ولم يتخذها، لأنه بمقدار ما هو حر حرية كاملة فهو مسؤول كذلك مسؤولية كاملة، وكأنه يحمل عبء العالم على كتفيه. فأنا موجود بلا سبب، وقد أُلقي بي في هذا العالم دون أن أعرف لماذا. والحقيقة أنني مسؤول عن كلِّ شيء، ولكنني لست مسؤولاً عن مسؤوليتي، لأنني لست أساس وجودي.
إن القول بأنني "مَقضيٌّ عليَّ بأن أكون حرًّا"، والقول بأنني "مرغم على أن أكون مسؤولاً" – إن مؤدى هذين القولين واحد. فأنا وحدي في قلب العالم، وأنا أتحمل مسؤولية هذا العالم دون أن أستطيع التنصل من هذه المسؤولية: إذ إنني، مهما فعلت، ينبغي لي أن أختار نفسي؛ ولا أستطيع أن أختار نفسي إلا بوصفي وجودًا في العالم.
الإنسان
إن الإنسان، برأي سارتر، قد قُذِفَ في عالم لا يريده ووضع لم يخترْه. يقول:
كل موجود يولد بلا سبب، ويستطيل به العمر عن ضعف منه، ويموت بمحض المصادفة.
ويشعر الإنسان أنه يفقد نفسه من حيث هو إنسان. ويعبِّر سارتر عن ذلك بقوله:
إن الإنسان حماسة لا فائدة منها.
يجد الإنسان نفسه دومًا في مصاعب الحياة التي تُشعِرُه بالقلق. فإذا أراد الانتصار، عليه الاستمرار في طلب الحياة واختيارها بحريته – وكأن سارتر يقصد بذلك رفض جميع القيم القَبْلية a priori، زاعمًا أن من واجب الإنسان أن يخلقها بنفسه. وهذا دليل على أن الإنسان هو كاتب عصر ينفصل عن فكرة التقاليد، ليجعل من الحضارة تجددًا، لا حفظًا للقوانين ومراعاة لها، ومن الحياة مغامرة، لا نظامًا قائمًا. فالإنسان السارتري إنسان متحلِّل من كلِّ إلزام قَبْلي، وهو لا يقبل أيَّ تصور مسبَّق ولا أيَّ نموذج. فهو، إذن، حر كلَّ الحرية مادام يعتبر أن ليس ثمة شيء مكتسب.
ولكن سارتر، مع ذلك، يمجِّد الإنسان، وذلك لعدم وجود عالم غير العالم الإنساني، الذي يحاول دومًا أن يحقق به ذاته وأن يعلو عليها لتحقيق إمكانات خارج نطاقها. وهذا ما يسميه سارتر باسم النزعة الإنسانية الوجودية humanisme existentialiste؛ وهي "إنسانية" لأنه ليس ثمَّ مشروع غير الإنسان، ولأنها تدعوه إلى أن يحقِّق نفسه خارج نفسه.
ولن يكون الإنسان إنسانًا، برأي سارتر، إذا لم يكوِّن وجوده الشخصي الخاص، بعيدًا عن مهزلة الحياة وأوضاعها. وهكذا فإن فلسفة سارتر تدور حول الإعلاء من مكانة الإنسان.
وتبرز هنا نقطة هامة في فلسفة سارتر، وهي الصلة بين الذات والآخر، الذي هو إنسان، تنتظم حوله الأشياء. هذا الآخر ينظر إليَّ باستمرار بحيث أُصبح موضوعًا بنظره، مما يجعلني أعلو فوق ذاتي. وهكذا تبدو نظرة الآخر إلي هي التعالي عن علوِّي الخاص. ومن هنا ينشأ قلقي على نفسي، وكأن الآخر عدوي؛ إذ إنه يهددني، ويهدد إمكاناتي. لكنني، في المقابل، عندما أنظر إليه، أشلُّه، ويصبح الآخر موضوعًا بنظري. ومن هنا كانت عبارة سارتر الشهيرة في مسرحية الجلسة المغلقة:
الجحيم هو الآخرون.
ولكن سارتر يعود ليُعنى بالآخر: فنحن محتاجون إلى الآخرين لنكوِّن شخصيتنا، كوننا في نظرهم كالأشياء، وحياتنا تقوم على أساس الصورة التي يأخذونها عنا. لذا نحن نسعى وراء الأهمية في عيون الآخرين التي هي أسهل تحصيلاً من موافقة وعينا. وبهذا تبرز قيمة أخرى، بالإضافة إلى قيمة الحرية عند سارتر، هي قيمة التضامن الإنساني عبر التاريخ: التضامن مع المظلومين (من هنا المقدمة التي عقدها على كتاب فرانتز فانون ملعونو الأرض). بذا يكون ما هو خير للفرد خير للمجموع. وهذا ما كرَّس سارتر أدبه وحياته لخدمته من خلال المقاومة والثورة.
أهم مؤلَّفاته:
1936: التصور. 1937: الحائط (قصة). 1943: الذباب (دراما من ثلاثة فصول)؛ الوجود والعدم: محاولة أونطولوجية ظاهراتية؛ دروب الحرية؛ الجلسة المغلقة. 1946: الوجودية فلسفة إنسانية؛ موتى بلا قبور؛ المومس الفاضلة. 1947: بودلير؛ مواقف؛ الشيطان والله؛ الأيدي القذرة؛ سجناء التونا. 1960: نقد العقل الجدلي. 1962: ماركسية ووجودية.
جان پول سارتر Jean-Paul Sartre فيلسوف وأديب فرنسي، وُلد في 21 حزيران 1905 في باريس، وعاش في طفولته حياة باذخة. بعد مولده بعام واحد فَقَد والده الذي توفي في الهند الصينية، فتزوجت أمه مرة أخرى من مهندس في البحرية، وانتقل للعيش معهما في مدينة لاروشيل، وفيها خَبِرَ حياة البورجوازية التي انتقدها لاحقًا. ثم عاد إلى باريس، وحصل فيه على شهادة البكالوريا، وتخرج في العام 1925 من دار المعلمين العليا École Normale Supérieure، ثم نال شهادة الـAgrégation في الفلسفة. عُيِّن أستاذًا في مدرسة Lycée le Havre الثانوية في العام 1931.
وهنا نلحظ كيف بدأت حياة سارتر الراشدة في فترة ما بين الحربين، وإبانها بدأت حياته الأدبية أيضًا. إذ اتصل بپول نيزان، ونشر بعض المقالات والكتب والروايات، ومنها رواية الغثيان ومسرحيتا الذباب والجلسة المغلقة. وقد جعل من الأدب وسيلةً لطرح أفكاره الفلسفية، وكان هدفه تقريب أفكاره من الجمهور. وله كتاب شهير بعنوان ما الأدب؟ يتكشف فيه اطلاع سارتر على مختلف المذاهب الأدبية ونقده لها.
حاول سارتر الاضطلاع بالعمل السياسي سنة 1948، فأسَّس حزب "التجمع الديموقراطي الثوري"، ثم اختلف مع الحزب. وحدثت هنا القطيعة بينه وبين ألبير كامو، فيما التقى مع مارتن هيدغِّر.
ثم تقرَّب من الماركسية والشيوعية، واحتج على تعذيب الشرطة الفرنسية للثوار الجزائريين. وفي سنة 1964، مُنح جائزة نوبل للآداب، لكنه رفض استلامها، زاعمًا أن هدفه من الكتابة ليس التشريفات الرسمية والجوائز، بل ينبع من التزامه الأدبي بحمل آلام العصر على كتفيه، وتحمَّل مأساة الجيل بفكره اللاذع وحسِّه الأخلاقي الشجاع.
كان سارتر شخصية محورية في احتجاجات أيار 1968 التي اجتاحت الجامعات الفرنسية وبعض الجامعات الأوروبية. وقد توفي في العام 1980 في مستشفى في فرنسا، وأُحرِقَتْ جثته تنفيذًا لطلبه.
فلسفتة
الوجود يسبق الماهية:
تنادي الوجودية بمبدأ أسبقية الوجود existence على الماهية essence. ونقصد بالماهية مجموعة ثابتة من الخصائص والصفات. وهي بهذا تُعارِضُ ما كان سائدًا في التفكير السابق عليها (الذي يعود إلى أصل ديني) حول أسبقية الماهية على الوجود.
ويعدُّ سارتر أن الطبيعة الإنسانية توجد عند جميع البشر: أي أن كلَّ فرد من الناس هو مثال جزئي لتصور كلِّي هو الإنسان. وتقول الوجودية بأن الإنسان يوجد أولاً، ثم يكوِّن ماهيته بعد ذلك ويبني مشروعه الحر الذي يكوِّن وجوده؛ وبذلك فهو الذي يختار ماهيته.
يميِّز سارتر بين الماهية الإنسانية، التي تعطي الإنسانَ صفةَ الإنسانية وتميِّزه عن باقي الكائنات، وبين الماهية الفردية التي تميِّز فردًا بعينه عن غيره من الأفراد. فالإنسان يوجد وليست له أية صفة محددة، ثم يحاول بأفعاله أن يكوِّن شخصيته في المستقبل. وبذا لا تكون لدى الإنسان في البدء أية طبيعة إنسانية، لكنه يكوِّنها بأفعاله واختياراته. ولقد أفضى هذا البحث بسارتر إلى نتائج تتناقض حتى تبلغ درجة المحال واللامعقول إذا أخذناها على محمل الحرف:
الإنسان هو كائن أولاً، ثم يتحول فيصير هذا الإنسان أو ذاك؛ وعلى الإنسان أن يخلق ماهيته الخاصة.
ولكن الذي نخلقه ليس الماهية الشاملة، إنما الماهية التي تميِّزنا كأفراد.
ومع ذلك، فقد جعل سارتر فلسفته مزيجًا من الوجود والماهية. لذا لا يجوز اتهام فلسفته بأنها اهتمت بالوجود وأهملت الماهية، على أن نفهم هذه الثنوية القائمة بين الوجود في ذاته lʼêtre-en-soi (وهو العالم الموضوعي) المؤلَّف من سلسلة من الظواهر، وهو وجود مُعتم ليس له داخل، وبين الوجود لذاته lʼêtre-pour-soi الذي يمثِّل وجود الشعور أو الحكم. وإن العلاقة بينهما هي علاقة حضور: إذ إن وجود المادة (الوجود في ذاته) وجود مستقل، ولها شخصيتها المستقلة؛ وهو وجود عصي ينفر من الذات، وهو، في الوقت ذاته، مغاير للوجود ويقاومه. وإن التوتر الذي يسود هذه العلاقة إنما يرجع عند سارتر إلى هذه المقاومة التي تقوم بها المادة تجاه الشعور.
الحرية
إن من نتائج القول بأسبقية الوجود على الماهية فكرة الحرية، لأن الإنسان لم يكن شيئًا في بدء وجوده. فهو الذي سيصمِّم نفسه، لأنه حر، بل هو الحرية ذاتها. ونحن وُجِدْنا مع هذه الحرية، ولا مهرب لنا منها، وبها يخلق الإنسان نفسه بنفسه. ويعد سارتر الحرية حكمًا فُرِضَ على الإنسان؛ فهي بمثابة المكوِّن الأساسي لوجوده. ومن الواجب على الفلسفات أن تصبح فلسفة للحرية، وبذلك تكون فلسفة للوجود، أي وجود الوعي والقيم والفكر.
إن الحرية تتحقق في اختيارها وممارستها. وعندئذٍ يكون الإنسان مسؤولاً عنها. ولكنها ليست مجرد اختيار إمكانية بين إمكانيات عدة، بل هي خلق للذات، ولا شيء يعيِّنها إلا ذاتها.
الإنسان الحر هو الذي تحرَّر من المؤثرات الخارجية كلها. والحرية هي أساس المعرفة. إن الحرية عند سارتر لا تخضع لأيِّ قانون سوى أن تكون هي هي: إنها تحمل ذاتها. ولذلك يقصد أن الحرية هي الله، وذلك في قوله:
أن أكون إنسانًا، هذا يعني أن أنحو لكي أكون الله.
وبما أن الإنسان أُلقي في هذا الوجود بلا سبب ولا مبرِّر فهو لم يخترْ هذا الوجود. وبذا فهو يشارك في العبث الكلِّي. فالحرية، إذن، عبث. ومن هنا كان قول سارتر:
إنني مَقضيٌّ عليَّ بأن أكون حرًّا.
لقد أُعطِيَ الوجودُ للإنسان من دون إرادته، وهو مجبر على تقبُّله. وهذا يحمِّل الإنسان مسؤولية حمل عبء العالم كلِّه، فيكون مسؤولاً عن نفسه وعن العالم. ومن هنا تكون مسؤوليته بمثابة استرداد لحريته.
هنا يأتي دور الحرية في هذه المهمة الصعبة كأساس فريد للقيم كي لا تنقلب إلى هدم، على اعتبار أن الحرية ليست سوى اسم آخر للوجود لذاته. فالإنسان هو الموجود الذي توجد به القيم.
ويتساءل سارتر عن إمكانية أداء الحرية مع هذه القيود التي تحيط بالقيم، مع أن هذه القيم من صنع الحرية ذاتها. ويجيب سارتر على هذا التساؤل في كتابه الوجود والعدم:
إن الإنسان هو الكائن الذي به جميع القيم، وتضطرب حريته وتتألم إذ ترى أنها الأساس الذي لا أساس له لهذه القيم.
وهنا يبدو الإنسان كمبدع للقيم، وتبدو الحرية وكأنها العدم، فيظهر الوجود مكتفيًا بذاته. ومن ذلك يبرز الإنسان بوصفه حرية: هو القيمة المطلقة، وكل اختيار يقوم به ذو قيمة.
الوعي والاختيار والمسؤولية
بما أن الوجود عند سارتر يسبق الماهية فإن الإنسان يوجد أولاً، ثم يصنع وجوده ومستقبله بيده تبعًا للأفعال التي يؤديها في حياته؛ وبذا يكون مسؤولاً مسؤولية تامة عن اختياره، ليس لكونه فردًا، إنما يمتد ذلك إلى جميع الناس، وذلك لأن القرار الذي اختاره بنفسه قد اختاره لجميع الناس. فهو يؤكد ذاته باختياره الحر، ويرسم تصوُّره للإنسان كما يريد أن يكون، ويؤكد في الوقت نفسه قيمة ما يختاره.
وهذه المسؤولية الهائلة التي تمس جميع الناس تثير القلق حول صحة القرار الذي اتخذه. ويضع سارتر لهذه المسؤولية معنيين: أحدهما طبيعي، بأن ينظر الإنسان إلى نفسه كمؤلِّف لجميع الأشياء؛ والثاني أخلاقي يؤكد على حرية الإنسان وقدرته على الاختيار، مما يجعله مسؤولاً عن الأعمال التي لم يفعلها ولم يرتكبها، وحتى عن المواقف التي لم يوجِدها ولم يتخذها، لأنه بمقدار ما هو حر حرية كاملة فهو مسؤول كذلك مسؤولية كاملة، وكأنه يحمل عبء العالم على كتفيه. فأنا موجود بلا سبب، وقد أُلقي بي في هذا العالم دون أن أعرف لماذا. والحقيقة أنني مسؤول عن كلِّ شيء، ولكنني لست مسؤولاً عن مسؤوليتي، لأنني لست أساس وجودي.
إن القول بأنني "مَقضيٌّ عليَّ بأن أكون حرًّا"، والقول بأنني "مرغم على أن أكون مسؤولاً" – إن مؤدى هذين القولين واحد. فأنا وحدي في قلب العالم، وأنا أتحمل مسؤولية هذا العالم دون أن أستطيع التنصل من هذه المسؤولية: إذ إنني، مهما فعلت، ينبغي لي أن أختار نفسي؛ ولا أستطيع أن أختار نفسي إلا بوصفي وجودًا في العالم.
الإنسان
إن الإنسان، برأي سارتر، قد قُذِفَ في عالم لا يريده ووضع لم يخترْه. يقول:
كل موجود يولد بلا سبب، ويستطيل به العمر عن ضعف منه، ويموت بمحض المصادفة.
ويشعر الإنسان أنه يفقد نفسه من حيث هو إنسان. ويعبِّر سارتر عن ذلك بقوله:
إن الإنسان حماسة لا فائدة منها.
يجد الإنسان نفسه دومًا في مصاعب الحياة التي تُشعِرُه بالقلق. فإذا أراد الانتصار، عليه الاستمرار في طلب الحياة واختيارها بحريته – وكأن سارتر يقصد بذلك رفض جميع القيم القَبْلية a priori، زاعمًا أن من واجب الإنسان أن يخلقها بنفسه. وهذا دليل على أن الإنسان هو كاتب عصر ينفصل عن فكرة التقاليد، ليجعل من الحضارة تجددًا، لا حفظًا للقوانين ومراعاة لها، ومن الحياة مغامرة، لا نظامًا قائمًا. فالإنسان السارتري إنسان متحلِّل من كلِّ إلزام قَبْلي، وهو لا يقبل أيَّ تصور مسبَّق ولا أيَّ نموذج. فهو، إذن، حر كلَّ الحرية مادام يعتبر أن ليس ثمة شيء مكتسب.
ولكن سارتر، مع ذلك، يمجِّد الإنسان، وذلك لعدم وجود عالم غير العالم الإنساني، الذي يحاول دومًا أن يحقق به ذاته وأن يعلو عليها لتحقيق إمكانات خارج نطاقها. وهذا ما يسميه سارتر باسم النزعة الإنسانية الوجودية humanisme existentialiste؛ وهي "إنسانية" لأنه ليس ثمَّ مشروع غير الإنسان، ولأنها تدعوه إلى أن يحقِّق نفسه خارج نفسه.
ولن يكون الإنسان إنسانًا، برأي سارتر، إذا لم يكوِّن وجوده الشخصي الخاص، بعيدًا عن مهزلة الحياة وأوضاعها. وهكذا فإن فلسفة سارتر تدور حول الإعلاء من مكانة الإنسان.
وتبرز هنا نقطة هامة في فلسفة سارتر، وهي الصلة بين الذات والآخر، الذي هو إنسان، تنتظم حوله الأشياء. هذا الآخر ينظر إليَّ باستمرار بحيث أُصبح موضوعًا بنظره، مما يجعلني أعلو فوق ذاتي. وهكذا تبدو نظرة الآخر إلي هي التعالي عن علوِّي الخاص. ومن هنا ينشأ قلقي على نفسي، وكأن الآخر عدوي؛ إذ إنه يهددني، ويهدد إمكاناتي. لكنني، في المقابل، عندما أنظر إليه، أشلُّه، ويصبح الآخر موضوعًا بنظري. ومن هنا كانت عبارة سارتر الشهيرة في مسرحية الجلسة المغلقة:
الجحيم هو الآخرون.
ولكن سارتر يعود ليُعنى بالآخر: فنحن محتاجون إلى الآخرين لنكوِّن شخصيتنا، كوننا في نظرهم كالأشياء، وحياتنا تقوم على أساس الصورة التي يأخذونها عنا. لذا نحن نسعى وراء الأهمية في عيون الآخرين التي هي أسهل تحصيلاً من موافقة وعينا. وبهذا تبرز قيمة أخرى، بالإضافة إلى قيمة الحرية عند سارتر، هي قيمة التضامن الإنساني عبر التاريخ: التضامن مع المظلومين (من هنا المقدمة التي عقدها على كتاب فرانتز فانون ملعونو الأرض). بذا يكون ما هو خير للفرد خير للمجموع. وهذا ما كرَّس سارتر أدبه وحياته لخدمته من خلال المقاومة والثورة.
أهم مؤلَّفاته:
1936: التصور. 1937: الحائط (قصة). 1943: الذباب (دراما من ثلاثة فصول)؛ الوجود والعدم: محاولة أونطولوجية ظاهراتية؛ دروب الحرية؛ الجلسة المغلقة. 1946: الوجودية فلسفة إنسانية؛ موتى بلا قبور؛ المومس الفاضلة. 1947: بودلير؛ مواقف؛ الشيطان والله؛ الأيدي القذرة؛ سجناء التونا. 1960: نقد العقل الجدلي. 1962: ماركسية ووجودية.