الإصلاح اللغوي بنكهة ألمانية
د زهير سوكاح
المصدر: https://goo.gl/FhCGBu
سرعان ما يلاحظ المتأمل لتاريخ ألمانيا أوجه التشابه المتعددة بين الماضي القاسي لهذه الدولة، التي صارت الآن من أقوى دول العالم، وواقع الوطن العربي بتمظهراته المقلقة. فمثلما يعيش الآن وطننا العربي تشرذما سياسيا، بل وتناحرا شرسا بين بعض دوله وتخلف معظمها في مختلف مناحي الحياة، ممّا عمق الهوة الحضارية بين هاته المنطقة وبقية دول العالم المتقدمة، لم تتمكن ألمانيا تاريخيا من الارتقاء إلى مصاف هاته الدول المتقدمة إلا بعد طريق شاق تخللته محطات تاريخية عسيرة، ولا أقصد هنا بالضرورة تجاربها المريرة مع الحربين العالميتين الأولى والثانية، بل وضعيتها الحرجة ابتداء من القرن السابع عشر، وتحديدا بعد حرب الأربعين سنة (1618-1648)، والتي مزّقت ألمانيا ومعها أجزاء كبيرة من أوروبا، وكان من بين عواقبها انقسام ألمانيا سياسيا إلى دويلات وممالك ومناطق متعددة، بل ومتناحرة فيما بينها بصورة تكاد تتطابق مع الانقسام السياسي الراهن في الوطن العربي وتداعياته السلبية الماثلة أمامنا جميعا.
وهكذا انعكس التشتت السياسي في ألمانيا على التطور الاقتصادي وعلى الواقع المجتمعي برمته في مختلف مناطقها، لكن ظهرت أيضا عواقبه على المشهد اللغوي بشكل لافت ولفترة زمنية طويلة، فقد ساهم هذا التشتت في تكريس حضور اللهجات الألمانية المتنوعة وبخاصة لدى الطبقات الفقيرة على حساب اللغة الألمانية الجامعة، التي كانت مُثقلة بالمفردات الأجنبية بصورة مبالغ فيها. يُضاف إلى هذا، طغيان استعمال اللغة الفرنسية، وبخاصة في القرن الثامن عشر لدى الطبقات الألمانية الغنية، حيث صارت الفرنسية لغة التعليم والاقتصاد والإدارة في تبعية لغوية غير مسبوقة للجارة الفرنسية. ولا يكاد يختلف الوضع اللغوي هذا، عن واقعنا اللغوي المتردي، ابتداء من طغيان استعمال العاميات المُنهكة بدورها بالمفردات الأجنبية، مرورا باستعمال اللغة الإنجليزية في معظم الدول العربية، بالإضافة إلى الفرنسية في مجمل الدول المغاربية، وانتهاء بتضييق مساحات استعمال اللغة العربية الفصحى بل وحتى باقي اللغات الوطنية مثل الأمازيغية والكردية كجزء من هوية الوطن العربي.
وإزاء ذاك المشهد اللغوي المُزري في المناطق الألمانية، انبرى آنذاك العديد من المثقفين الألمان إلى محاولة تصحيح هذا المشهد في إطار جمعيات حماية اللغة الألمانية أسسها مصلحون لغويون أو عن طريق مجهودات فردية، ولعل من أهمهم على الإطلاق المصلح اللغوي والناشر الألماني "يُواخيم كامبه" Campe Joachim، الذي فُوجئ، أثناء زيارته لباريس سنة 1789، أي في عام الثورة الفرنسية، بالمستوى اللغوي المتين للطبقة الفقيرة هناك، والتي ساهمت في إنجاح الثورة الفرنسية، مما دفعه إلى تأمل الظروف السياسية والاجتماعية في بلده وتداعياتها على لغته الأم، حيث تفطّن إلى أنَّ أي تغيير داخل ألمانيا هو رهين بإصلاحات جذرية في مختلف مناحي الحياة وأولها الإصلاح اللغوي.
لهذا سعى كامبه عن طريق الإصلاح اللغوي إلى إيجاد لغة ألمانية مفهومة ومشتركة بين ناطقيها رغم اختلافاتهم الطبقية على غرار الفرنسية، وكان هذا يقتضي في نظره "تنقية" اللغة الألمانية من كل المفردات والمصطلحات الأجنبية واستبدالها ببدائل ألمانية مفهومة عن طريق توظيف سمة التركيب، المميزة للغة الألمانية، وبتعبير آخر: أراد كامبه "ألمنة" اللغة الألمانية. وهكذا نذر نفسه، ولسنوات طوال، لإيجاد بديل ألماني لكل مفردة أجنبية، ولا سيما في الميدانين السياسي والعلمي، حتى يتسنى - في نظره - للطبقات المهمشة إدراك هويتها والتعبير عنها لغوياً كخطوة أولى نحو الإصلاح السياسي، وفي سنة 1801 أصدر كامبه معجماً يضم مفردات ألمانية بديلة عن المفردات الأجنبية، لم يتجاوز عددها آنذاك مائة مفردة، والذي جرَّ عليه آنذاك نقدا، بل وسخرية من مفكرين وأدباء معاصرين له، من أمثال غوته وشيلر والأخوين جريم.
بعد اثني عشرة سنة ظهر معجمه هذا مجددا في طبعة جديدة، وقد أصبح يحتوي على ما يقارب مائة ألف مفردة بديلة في مختلف المجالات، لَقِيَ بعد ذلك ترحيبا واسعا. لكن رغم هذا، لم يحقق كامبه هدفه، أي "ألمنة" اللغة الألمانية، لأخطاء منهجية متعددة، بينما ظلت المفردات الأجنبية حاضرة في اللغة الألمانية، التي كانت آنذاك رغم ذلك حاملة لأدب رفيع، وأما الازدواجية اللغوية فقد استمرت بعد ذلك لفترة طويلة، إلا أن هذا المجهود الفردي أسهم في زيادة الوعي باللغة الألمانية لدى الناطقين بها بوصفها مُكونا من مكونات هويتهم الجمعية، بل وأثرى المعجم الألماني ذاته بعدد لا يُستهان به من المفردات الجديدة، والتي لا يزال كثير منها مُتداولا إلى يومنا هذا، مثل Erdgeschoss (طابق أرضي) وtatsächlich (فعلا) وHochschule (مدرسة عليا)، لكن دون أي معرفة من طرف أغلبية ناطقي هاته اللغة أن هذه المفردات ما هي إلا نتاج شخصي لمثقف ملتزم بقضايا وطنه، سعى لتغيير الواقع المتردي عن طريق إصلاح المشهد اللغوي.
أيضا على الصعيد العربي، وفي ظل غياب سياسات لغوية رسمية، والتي من المفترض أن تكون مشتركة بين دول الوطن العربي، تابعنا منذ سنوات كيف تمكن مدونون شباب من دول عربية مختلفة من إحلال بدائل عربية للعديد من المفردات الأجنبية وبخاصة في ميدان المعلوميات والإنترنت، عن طريق الاستفادة من الميزة الاشتقاقية والتي تعكس القوة التوليدية للغة العربية، حيث فرضت هاته البدائل نفسها في عالم الإنترنت العربي بثبات، بل ودفعت بالجهات والمؤسسات العربية الرسمية إلى تبنيها، مثل: المتصفح (Browser)، والبريد الإلكتروني (Email) والتطبيق (App)، والتغريدة (Tweet) بل ومفردة المدونة (Blog) نفسها، وهذا ما لا نجده في مُجمل لغات العالم التي أذعنت مُكرهة لسطوة المصطلحات الإنجليزية في هذا الميدان. وإذ نُحَيّ المجهودات الشخصية لهؤلاء الشباب، والتي عجزت عنها حتى الجهات الرسمية، فلا يحق لنا في الوقت نفسه أن ننتظر منهم حلولا متكاملة لمختلف مظاهر الفجوة اللغوية العربية، فهذه مهمة المؤسسات العربية المعنية، ولعل هاته المجهودات المثمرة تكون دافعا لخروج المجامع العربية من سباتها الذي طال أمده في عصر "الانفجارات" المعرفية المتوالية.
د زهير سوكاح
المصدر: https://goo.gl/FhCGBu
سرعان ما يلاحظ المتأمل لتاريخ ألمانيا أوجه التشابه المتعددة بين الماضي القاسي لهذه الدولة، التي صارت الآن من أقوى دول العالم، وواقع الوطن العربي بتمظهراته المقلقة. فمثلما يعيش الآن وطننا العربي تشرذما سياسيا، بل وتناحرا شرسا بين بعض دوله وتخلف معظمها في مختلف مناحي الحياة، ممّا عمق الهوة الحضارية بين هاته المنطقة وبقية دول العالم المتقدمة، لم تتمكن ألمانيا تاريخيا من الارتقاء إلى مصاف هاته الدول المتقدمة إلا بعد طريق شاق تخللته محطات تاريخية عسيرة، ولا أقصد هنا بالضرورة تجاربها المريرة مع الحربين العالميتين الأولى والثانية، بل وضعيتها الحرجة ابتداء من القرن السابع عشر، وتحديدا بعد حرب الأربعين سنة (1618-1648)، والتي مزّقت ألمانيا ومعها أجزاء كبيرة من أوروبا، وكان من بين عواقبها انقسام ألمانيا سياسيا إلى دويلات وممالك ومناطق متعددة، بل ومتناحرة فيما بينها بصورة تكاد تتطابق مع الانقسام السياسي الراهن في الوطن العربي وتداعياته السلبية الماثلة أمامنا جميعا.
وهكذا انعكس التشتت السياسي في ألمانيا على التطور الاقتصادي وعلى الواقع المجتمعي برمته في مختلف مناطقها، لكن ظهرت أيضا عواقبه على المشهد اللغوي بشكل لافت ولفترة زمنية طويلة، فقد ساهم هذا التشتت في تكريس حضور اللهجات الألمانية المتنوعة وبخاصة لدى الطبقات الفقيرة على حساب اللغة الألمانية الجامعة، التي كانت مُثقلة بالمفردات الأجنبية بصورة مبالغ فيها. يُضاف إلى هذا، طغيان استعمال اللغة الفرنسية، وبخاصة في القرن الثامن عشر لدى الطبقات الألمانية الغنية، حيث صارت الفرنسية لغة التعليم والاقتصاد والإدارة في تبعية لغوية غير مسبوقة للجارة الفرنسية. ولا يكاد يختلف الوضع اللغوي هذا، عن واقعنا اللغوي المتردي، ابتداء من طغيان استعمال العاميات المُنهكة بدورها بالمفردات الأجنبية، مرورا باستعمال اللغة الإنجليزية في معظم الدول العربية، بالإضافة إلى الفرنسية في مجمل الدول المغاربية، وانتهاء بتضييق مساحات استعمال اللغة العربية الفصحى بل وحتى باقي اللغات الوطنية مثل الأمازيغية والكردية كجزء من هوية الوطن العربي.
وإزاء ذاك المشهد اللغوي المُزري في المناطق الألمانية، انبرى آنذاك العديد من المثقفين الألمان إلى محاولة تصحيح هذا المشهد في إطار جمعيات حماية اللغة الألمانية أسسها مصلحون لغويون أو عن طريق مجهودات فردية، ولعل من أهمهم على الإطلاق المصلح اللغوي والناشر الألماني "يُواخيم كامبه" Campe Joachim، الذي فُوجئ، أثناء زيارته لباريس سنة 1789، أي في عام الثورة الفرنسية، بالمستوى اللغوي المتين للطبقة الفقيرة هناك، والتي ساهمت في إنجاح الثورة الفرنسية، مما دفعه إلى تأمل الظروف السياسية والاجتماعية في بلده وتداعياتها على لغته الأم، حيث تفطّن إلى أنَّ أي تغيير داخل ألمانيا هو رهين بإصلاحات جذرية في مختلف مناحي الحياة وأولها الإصلاح اللغوي.
لهذا سعى كامبه عن طريق الإصلاح اللغوي إلى إيجاد لغة ألمانية مفهومة ومشتركة بين ناطقيها رغم اختلافاتهم الطبقية على غرار الفرنسية، وكان هذا يقتضي في نظره "تنقية" اللغة الألمانية من كل المفردات والمصطلحات الأجنبية واستبدالها ببدائل ألمانية مفهومة عن طريق توظيف سمة التركيب، المميزة للغة الألمانية، وبتعبير آخر: أراد كامبه "ألمنة" اللغة الألمانية. وهكذا نذر نفسه، ولسنوات طوال، لإيجاد بديل ألماني لكل مفردة أجنبية، ولا سيما في الميدانين السياسي والعلمي، حتى يتسنى - في نظره - للطبقات المهمشة إدراك هويتها والتعبير عنها لغوياً كخطوة أولى نحو الإصلاح السياسي، وفي سنة 1801 أصدر كامبه معجماً يضم مفردات ألمانية بديلة عن المفردات الأجنبية، لم يتجاوز عددها آنذاك مائة مفردة، والذي جرَّ عليه آنذاك نقدا، بل وسخرية من مفكرين وأدباء معاصرين له، من أمثال غوته وشيلر والأخوين جريم.
بعد اثني عشرة سنة ظهر معجمه هذا مجددا في طبعة جديدة، وقد أصبح يحتوي على ما يقارب مائة ألف مفردة بديلة في مختلف المجالات، لَقِيَ بعد ذلك ترحيبا واسعا. لكن رغم هذا، لم يحقق كامبه هدفه، أي "ألمنة" اللغة الألمانية، لأخطاء منهجية متعددة، بينما ظلت المفردات الأجنبية حاضرة في اللغة الألمانية، التي كانت آنذاك رغم ذلك حاملة لأدب رفيع، وأما الازدواجية اللغوية فقد استمرت بعد ذلك لفترة طويلة، إلا أن هذا المجهود الفردي أسهم في زيادة الوعي باللغة الألمانية لدى الناطقين بها بوصفها مُكونا من مكونات هويتهم الجمعية، بل وأثرى المعجم الألماني ذاته بعدد لا يُستهان به من المفردات الجديدة، والتي لا يزال كثير منها مُتداولا إلى يومنا هذا، مثل Erdgeschoss (طابق أرضي) وtatsächlich (فعلا) وHochschule (مدرسة عليا)، لكن دون أي معرفة من طرف أغلبية ناطقي هاته اللغة أن هذه المفردات ما هي إلا نتاج شخصي لمثقف ملتزم بقضايا وطنه، سعى لتغيير الواقع المتردي عن طريق إصلاح المشهد اللغوي.
أيضا على الصعيد العربي، وفي ظل غياب سياسات لغوية رسمية، والتي من المفترض أن تكون مشتركة بين دول الوطن العربي، تابعنا منذ سنوات كيف تمكن مدونون شباب من دول عربية مختلفة من إحلال بدائل عربية للعديد من المفردات الأجنبية وبخاصة في ميدان المعلوميات والإنترنت، عن طريق الاستفادة من الميزة الاشتقاقية والتي تعكس القوة التوليدية للغة العربية، حيث فرضت هاته البدائل نفسها في عالم الإنترنت العربي بثبات، بل ودفعت بالجهات والمؤسسات العربية الرسمية إلى تبنيها، مثل: المتصفح (Browser)، والبريد الإلكتروني (Email) والتطبيق (App)، والتغريدة (Tweet) بل ومفردة المدونة (Blog) نفسها، وهذا ما لا نجده في مُجمل لغات العالم التي أذعنت مُكرهة لسطوة المصطلحات الإنجليزية في هذا الميدان. وإذ نُحَيّ المجهودات الشخصية لهؤلاء الشباب، والتي عجزت عنها حتى الجهات الرسمية، فلا يحق لنا في الوقت نفسه أن ننتظر منهم حلولا متكاملة لمختلف مظاهر الفجوة اللغوية العربية، فهذه مهمة المؤسسات العربية المعنية، ولعل هاته المجهودات المثمرة تكون دافعا لخروج المجامع العربية من سباتها الذي طال أمده في عصر "الانفجارات" المعرفية المتوالية.
تعليق