جوته... شاعر ألمانيا والإسلام
ابتهال محمد البار
كم أضاء القرآن من قلوب مظلمة، وكم هدى من أناس كانوا يتخبطون كالحيارى في الطريق بلا مرشد أو دليل! ولا يزال القرآن يعمل عمل السحر في النفوس، فيأسر الألباب ويأخذ بمجامع القلوب على مر الأزمان والدهور، فيجعل المرء يخبت صاغرا لله الذي أبدع هذ الكلمات المعجزة، وألقى بها على قلب مصطفاه صلى الله عليه وسلم، لتسعد بها البشرية وتنال بها كل خير ومقصود. ومن هذه القلوب التي أراد لها الله أن تقف على جلال القرآن وكماله، شاعر الألمان الأكبر (جوته) الذي اتصل بمعالم الشرق والإسلام اتصالا روحيا قويا.
ولد يوهان فولفغانغ جوته عام 1749م في فرانكفورت، وكان والده جامعيا مثقفا محبا للعلم والفنون متمسكا بالقيم والأخلاق. أما والدته، فيقال إنه أخذ عنها رحابة الخيال الإبداعي. وقد لفت انتباه أهله ورفاقه ومعلميه في طفولته بذكائه وقدرته الفريدة على الاستيعاب حفظا وإدراكا، وبموهبته المبكرة في الشعر والنثر وسائر الفنون. وحين بلغ الخامسة والعشرين من عمره كتب روايته الشهيرة "آلام فاوست" ومسرحية "ستيلا" وسيرته "من حياتي: شعر وحقيقة". كما نظم قصيدة مديح سماها "نشيد محمد" تضمنت ثناء ومديحا عظيمين للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد قام جوته بعدد من الرحلات إلى إيطاليا وسويسرا، بالإضافة إلى رحلات متفرقة في ألمانيا.
وفي الثلث الأول من القرن التاسع عشر، شهدت حياته تحولات كبيرة على المستوى الاجتماعي، كما شهدت حركات أدبية وفنية وفكرية ناشطة على المستوى الإبداعي، فقد عرف الكلاسيكية والرومانسية وتابع الحركة الواقعية واستفاد منها جميعا، حتى يمكن القول إنه وسم العصر بحضوره. إذ لا يمكن حصره بكونه شاعرا وكاتبا فحسب، لأنه كان شديد الولع بجميع جوانب المعرفة، واسع الأفق، درس عددا من اللغات القديمة والحديثة، منها العبرية التي بدأ بتعلمها وهو في الثانية عشرة من عمره، والعربية التي حاول أن يتعلمها، بالإضافة إلى بعض اللغات الأوروبية، كما تابع ثقافات بلدان العالم مؤمنا بأن الأدب العالمي نهر كبير تصب فيه روافد من كل صوب، لأن الآداب العالمية تصور العوامل الإنسانية المشتركة في مجالات المعرفة المختلفة، كالفلسفة والتاريخ والعلوم الاجتماعية والنفسية وغير ذلك. وتكمن أهمية الأدب العالمي في إخراج الآداب من محليتها ومساعدتها على على التحرر من القيود القومية التي توضع حول الأدب، ومن ثم يوسع دائرة التعارف الإنساني، كما يقوي روح التقارب بين البشرية، مما يؤدي إلى تفاهم أفضل.
ولم ينحصر اهتمامه بالغرب، بل طالع مختارات مترجمة من الأدب العربي والفارسي، وقرأ الترجمتين الألمانية واللاتينية للقرآن الكريم، وصهرها جميعا في قلمه وآلف بين الشرق والغرب في ديوانه "الديوان الشرقي الغربي"، كما قام بترجمة بعض المعلقات وكتب عنها يقول: "وعند العرب الذين يسكنون في بقعة أقرب إلى الشرق، نجد كنوزا رائعة في المعلقات، وهي قصائد نظمت في العصر السابق على مجئ النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكتبت بحروف من ذهب وعلقت على أبواب بيت الله في مكة، وتعطي فكرة عن شعب بدوي محارب يمتهن الرعي، تمزقه من الداخل المنازعات بين القبائل، وتعبر عن الشعور بالشرف والرغبة العارمة في الثأر، مع حزن في العشق وكرم وإخلاص.. وهذه القصائد تزودنا بفكرة وافية عن علوم الثقافة التي تميزت بها قبيلة قريش، التي منها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه أضفى عليها غلالة جادة من الدين، وعرف كيف ينتزع منها كل مطمع في تقدم مادي خالص..." وفي ختام هذا التقييم للمعلقات، يعرب عن أمله في أن يكون بهذه الكلمات قد أثار لدى قرائه الرغبة في قراءة هذه القصائد.
أما عن سبب اهتمامه بالثقافة العربية، فقد كان لفيلسوف التاريخ هردر أثر كبير في ذلك، فهو الذي وجهه لدارسة القرآن الكريم، يعود إليه الفضل في توجيه أنظاره صوب الشعر العربي. وقد كتب هردر عن العرب قائلا: "ألا ما أروع أشعار العرب.. إنها حقا مرآة لطريقتهم في التفكير وفي الحياة. إنهم يتنفسون الحرية والإباء، وتملأ صدورهم روح المغامرة والشرف والطموح والفروسية والشجاعة التي طالما استفزها الأخذ بالثأر من الأعداء وفاء منهم للأصدقاء وحفاظا على عهد الحلفاء..." ويواصل إشادته بالعرب ويسبغ عليهم أنفس الإطراء فيقول: "ولا يوجد شعب شجع الشعر وارتقى به إلى تلك المنزلة التي ارتقى إليها العرب في عصورهم الزاهية."
ومن المواقف الغريبة التي صنعتها إدارة الله لتكون سببا في إقباله على الشرق، أن تاجرا كان يعاني من مشاكل مادية اتصل به راجيا منه التوسط لدى مكتبة دوقية فايمار لكي يشتري منه مجموعة كبيرة من المخطوطات الشرقية، ولم ينتظر جوته طويلا، إذ سرعان ما طلب منه إحضارها. وتبين عند فحصها أنها تحتوي على عدد من المصاحف، مع شروح وتفاسير، بالإضافة إلى مخطوطات نفيسة اشتملت على ألوان من الأدب العربي والفارسي والتركي، وبحوث ودراسات وشروح في النحو وما شابه ذلك. ولما كان جوته يتولى الإشراف على مكتبة الدوقية، فقد كان اقتناء مثل هذه الكتب يتوقف إلى حد كبير على قراره. وبالفعل أوصى باقتنائها. وكانت حصيلة هذه المواقف أن توجه صوب الشرق وقام بدراسات واسعة، فطالع كتبا في السيرة النبوية، واطلع على ديوان الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي وتأثر به كثيرا واستلهم منه بعض القصائد، وقرأ مختارات أدبية مترجمة، وكتبا في النحو. وتشهد مذكراته اليومية على مساعيه المتكررة لتعلم العربية، إذ يقول: "هؤلاء الشعراء تحضرهم كل الأشياء ويربطون بسهولة بين أشد الأشياء بعدا وتباينا، ولهذا فإنهم يقتربون مما نسميه بالذكاء أو الروح أو الدعابة.. ومع ذلك فإن هذه المزايا ليست مقصورة على الشعراء وحدهم، فالأمة كلها تتميز بالفطنة والدعابة، كما يُستنتج من الحكايات والنوادر التي لا حصر لها."
هذا عن إعجابه واهتمامه بالأمة الشرقية، أما عن اهتمامه بالإسلام، فلعل السبب في إعجابه الشديد به هو تطابق بعض أفكاره الرئيسة مع معتقداته الشخصية، مما أيقظ في نفسه التعاطف العميق معه. فقد دوَّن عددا من الآيات تكشف عن جوانب من العقيدة الإسلامية كان مهتما بها، كقوله تعالى {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. فلم يكن من قبيل المصادفة أن يدون ترجمة لهذه الآية التي تؤكد أن التقوى والإيمان الحق لا يظهر من خلال الاعتقاد فحسب، بل لا بد أن يثبت وجوده عن طريق أعمال البر والإحسان للآخرين. ومن المواضيع التي استرعت انتباهه، موضوع تبليغ الرسالة الإلهية عن طريق العديد من الرسل إلى مختلف الأمم، إذ لم يكن مستعدا لأن يعترف بالمسيح عليه السلام فقط، وكان كثير الجدل والنقاش مع أصدقائه حول هذا الموضوع. ومن ذلك أيضا ما رآه في هذا الدين من فكرة التسليم، إذ يقول:" إن التفويض والتسليم هما القاعدتان الحقيقيتان لكل دين، وكذلك الخضوع لإرادة عليا تسيطر على مجرى الأمور، ولا نستطيع إدراكها..." كما أعجبه ما رآه في هذا الدين من الجانب إيجابي يميل إلى توكيد الفعل وتوكيد الحياة عن طريق الفعل ورفض الانهزامية والسلبية، ولهذا نراه في كتاب "الخلد" من "الديوان الشرقي" لا يعنيه من بين الذين دخلوا الجنة من المسلمين غير الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، ويفصل القول في وصف جنة الشهداء وصفا دقيقا كالوصف الذي ورد في سورتي الرحمن والواقعة على وجه التخصيص.
وقد كان اهتمامه بالإسلام في بادئ الأمر جزءا من تطلع الشباب المثقف لاتخاذ مواقف تتسم بسعة الأفق وعدم التحيز، وتنطوي على تسامح ديني، وانطلاقا من هذه المواقف أخذ يعارض وجهة النظر المسيحية المتشددة التي لم يكن لديها الاستعداد للاعتراف إلا بدين واحد. أما عن دراسته العميقة للقرآن، فقد كانت نابعة من ظمئه الشديد للتعرف على الدين الصحيح، إذ تشهد سيرة حياته على أنه منذ صباه كان يفتش عن ديانة تناسبه. ولا ريب في أن أحد الأسباب لإكبار جوته للقرآن كان يكمن في إحساسه بقيمته اللغوية، ويعبر عن رأيه في أسلوب القرآن: "إن أسلوب القرآن.. محكم، سام، مثير للدهشة وفي مواضع عديدة يبلغ قمة السمو حقا." ومن العجيب أنه يصف القرآن بهذا الإطراء وهو لم يقرأه إلا بالألمانية واللاتينية!!! فماذا كان سيقول لو قرأه بالعربية؟
وأخيرا، نسوق نماذج مترجمة من أعماله التي استلهم فيها بعض المعاني الإسلامية:
• في قصيدة "هجرة" التي أشار من خلالها إلى رغبته في أن يهاجر كما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة.. في المقطع الأول من القصيدة يهاجر الشاعر إلى الشرق الصافي، وتعني هذه الهجرة الروحية إلى أماكن بعيدة مرحلة جديدة في حياة الشاعر:
"إلى هناك حيث الطهر والحق والصفاء
أود أن أقود الأجناس البشرية
وأنفذ بها في أعماق الأصل السحيق
حين كانت تتلقى من لدن الرب
وحي السماء بلغة الأرض"
• وفي كتاب "الحكم" من ديوانه يربط بين موضوع التسليم بمشيئة الله والتسامح، فيقول:
"من حماقة الإنسان في دنياه
أن يتعصب كل منا لما يراه
إذا كان الإسلام معناه أن لله التسليم
فعلى الإسلام نحيا ونموت نحن أجمعين"
ويقول:
"إذا امتحنك القدر، فهو يعلم جيدا لماذا
إنه يريد منك القناعة. فأطع دونما اعتراض"
وبعد هذه المحاولات الجهيدة لوصل الشرق بالغرب، حاول جوته أن يتعرف على تأثير الفكر العربي في وجدان الجمهور الغربي، فاغتنم فرصة أتاحتها له رحلاته للتحدث مع بعض الأصدقاء والعلماء عن المؤلفات الشرقية، وإلقاء نصوص شعرية مترجمة عن العربية والفارسية، كما قرأ على عدد كبير من السيدات المثقفات ترجمة لبعض سور القرآن، وكانت منهم أرملة الشاعر "شلر".
ونختم هذا المقال بقصيدة "طابت ليلتكم" التي يودع فيها الشاعر الألماني قومه ومعاصريه، ويعلن فيها اعتزاله للحياة الأرضية. وتعبِّر الأبيات عن الصورة التي يود أن تتذكره بها الأجيال المقبلة:
"نامي الآن، أيتها القصائد العزيزة
على صدر شعبي
ولينشر جبريل
سحابة مسك
فوق الجسد المكدود
حتى يمضي الشاعر وهو معافى
فيشق الصخر
ويجوب سعيدا
مع أبطال كل العصور
جنات الخلد الواسعة"
المصدر: مجلة أهلا وسهلا، أغسطس 2002
تعليق