بين أيدينا رسالة كتبها بطليموس الغنوصي (؟ - 180 ميلادي) إلى امرأة مسيحية اسمها فلورة. وتعتبر هذه الرسالة المحررة باللغة اليونانية من أقدم نصوص المذهب الغنوصي التي تناهت إلينا في تلك اللغة. وكانت الكنيسة احتفظت برسالة بطليموس كما احتفظت بغيرها من نصوص المذهب الغنوصي لأنها، أي الكنيسة، كانت ترى في نشر نصوص الهراطقة وتفنيدها أنجع طريقة لمحاربتهم. [1]
والغنوصية [2] (Gnosticism) أو مذهب العرفان هو مذهب نشأ مع نشأة المسيحية في القرن الأول للميلاد وانتشر انتشاراً واسعاً في القرن الثاني. وضع أصول هذا المذهب الشاعر المصري فالانسيوس (الإسكندرية: 110 - 175) الذي كان يرى أن "المعرفة الروحانية" أهم من الإيمان بحد ذاته، وأنه لا سبيل إلى قراءة الكتب المقدسة عموماً وأسفار العهد القديم خصوصاً قراءة ظاهرية بل لا بد من تأويلها تأويلاً ميتافيزيقياً لفهمها، محاولاً في الوقت نفسه التوفيق بين تعاليم المسيح من جهة والفلسفات اليونانية والشرقية من جهة أخرى. فكان نقد الكتاب المقدس ورفض تفسيره تفسيراً حرفياً أهم أصل من أصول مذهبهم. ولعل إمعان الغنوصيين في نقد الكتاب المقدس هو الذي جعل الكنيسة تعتبرهم هراطقة. أما هم فكانوا يعتبرون أنفسهم مسيحيين على الصراط المستقيم لأن إيمانهم مبني على "العرفان" وبالتالي على اليقين. [3]
والحقيقة أن مشكلة كتاب العهد القديم الذي اعتمدته الكنيسة كانت من التعقيد بمكان جعل حتى آباء الكنيسة يضطربون تجاهها. والمشكل اللاهوتي العويص كان في محاولة التوفيق بين صورة الإله التي يقدمها كتاب العهد القديم، وصورة الإله التي تقدمها الأناجيل، وهذا باد بجلاء من محاولة قيام بطليموس بالتدليل على التضاد بين الصورتين معتمداً في ذلك على أماكن بعينها من كتب العهد القديم، مبرهناً بطريقته على أن الإله الذي أوحى بالتوراة أو ببعض منها إلى موسى هو غير الإله الآب الرحيم الذي بعث عيسى وأوحى [4] بالأناجيل إلى الرسل، أي إن إله اليهودية ليس هو هو إله المسيحية!
وزاد الجدل في كتاب العهد القديم، وتدخلت الكنيسة لتحكم بين الآراء، فأدى تدخلها في الجدل إلى نشوء آراء كثيرة أدت بدورها إلى تفرع المذهب الغنوصي إلى فرعين رئيسيين: فرع شرقي ومركزه الإسكندرية، وفرع غربي ومركزه رومة. وكان بطليموس من أتباع الفرع الغربي للمذهب، وتعتبر رسالته إلى فلورة، وهي سيدة مسيحية حاول فيها اجتذابها إلى مذهبه، من أقدم نصوص الفرع الغربي للمذهب الغنوصي المحفوظة باللغة اليونانية. [5]
لم تترجم هذه الرسالة المهمة إلى اللغة العربية بعد. من ثمة اهتمامي بها والترجمة التي أنشرها أدناه. وسأردف الترجمة بدراسة مقارنة في معتقد بطليموس في الإله الحق كما يراه هو وكما تراه التوراة موضوع رسالته المهمة إلى فلورة.
2. النص:
1.3. "اعلمي يا أختي الكريمة فلورة أن التوراة التي بشَّر بها موسى لم يفهمها معظم الناس على حقيقتها لأنهم لا يعرفون شيئاً يذكر عن المُشرِّع الحق ولا عن حدوده.
2. فهي عند قوم من عند الإله الآب، وعند قوم آخرين يعتقدون اعتقاداً مختلفاً عن الأول، هي من عند العدو، الشيطان الرجيم، تماماً مثلما ينسبون إليه [الشيطان] خلق العالم بزعمهم أنه الآب وأنه خالق كل شيء.
3. ويبدو جلياً أن الفريقين على ضلال لأنهما متناقضان في الرأي ولأنهما لم يوفقا إلى معرفة الحقيقة وفهمها؛
4. إن التوراة ـ نظراً لعدم أهميتها ـ ليست من عند الإله الآب. فهي من جهة ناقصة وتحتاج إلى تكميل، وتحتوي من جهة أخرى على حدود لا تنسجم مع طبيعة الإله الآب وحقيقته.
5. أما الرأي الآخر فهو غير مقبول أيضاً، إذ لا يعقل أن يكون مصدرُ التوراة العدوَّ البغيضَ [= الشيطان] لأنها لا تبيح الظلم. وهذا رأي يعتقده هؤلاء الذين لا يستطيعون ـ وفقاً لكلام المخلص ـ أن يروا ببصيرتهم "أن المدينة المنقسمة على نفسها لا يمكن لها أن تعيش"، كما يقول مخلصنا. [6]
6. وفي تضاعيف ذلك يقول الرسول في مسألة الخلق إن ذلك [الخلقَ] خلقُه وإن "كُلٌّ به كُوِّنَ وبغيره لم يُكَوَّن شيء مما كُوِّن" [7] ـ بهذا يفند [الرسولُ يوحنا] حكمة الكذابين الضالة. ليس [خلقُ العالم] خلقَ الإله الشِّرِّير والمُرعِب، بل خلق [إله] عادل يبغض الشر. إن هذا رأي الجهلة الذين لا يأخذون بأسباب عناية الخالق، المصابين بعمى البصر والبصيرة معاً.
7. يبدو مما سبق أن الفريقين لم يوفقا إلى معرفة الحقيقة. ولقد فهم كلٌ منهما الأمر على طريقته، فالفريق لأول [فهمه هكذا] لأنه لا يعرف إله العدل، والفريق الثاني لأنه لا يعرف الإله الآب، وهو الإله الحق!
8. بقي لنا، نحن الذي وفقنا إلى معرفة [الإلهين] الاثنين ... أن نبين لك ماهية الشريعة [= التوراة] وماهية المشرع والجهة التي أوحت بها! ونريد في هذا المجال أن نبرهن لك على ذلك من خلال كلمات مخلصنا، وهي الكلمات التي تكفينا مؤونة اللجوء إلى مفهوم الكائنات. [8]
1.4. يجب أن تعلمي قبل كل شيء أن الشريعة الموجودة في كتب موسى الخمسة ليست من عند إله واحد! أعني أن هذه الشريعة ليست كلها واردة من عند إله واحد، لأن فيها حدوداً أضافها الناس إليها. وتعلمنا كلمات المخلص أن هذه الشريعة ذات ثلاثة مصادر.
2. فالمصدر الأول هو الله وشرعه، والثاني هو موسى ـ ليس بصفته نبياً يوحى إليه، بل بصفته إنساناً أضاف إلى الشريعة [الموحاة إليه] حدوداً من عندياته ـ، والثالث هو أحبار الأمة الذين ارتأوا إضافة حدود بعينها إلى الشريعة [الموحاة]
3. أما كيف يمكن لنا أن نبرهن على ذلك من خلال كلمات المخلص، فهو ما سوف تتعلمينه الآن!
4. تحدث المخلص ذات مرة مع أولئك الذين سألوه عن الطلاق المسموح به [في شريعة التوراة]، وقال: "إن موسى لأجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم ولم يكن من البدء هكذا"، "لأن الله"، حسب المخلص، "جمع بين الزوجين، وما جمعه الله فلا يفرقه إنسان". [9]
5. يبدو من ذلك أن شرع الله، الذي يحرم انفصال الزوج عن الزوجة، ليس هو شريعة موسى، التي تبيح الطلاق بين الزوجين، بسبب "عنت القلوب".
6. وهكذا أعلن موسى شريعة متناقضة مع شرع الله، لأن "الطلاق" ضد "عدم الطلاق"!
وإذا حاولنا فهم السبب الذي جعل موسى يقوم بذلك، اكتشفنا أنه لم يفعل ذلك بمحض إرادته هو، بل نتيجة للضرورة التي أملاها عليه ضعفُ أولئك الناس المعنيين بتلك الشريعة [= اليهود] ...
7. ... لأنه لم يكن بمقدورهم تحقيق إرادة الله بتحريم الطلاق، وهي الإرادة التي اعترض عليها بعض الناس الذين كانوا يعيشون [أشقياء] مع أزواجهم، ولكي يتم تفادي المزيد من الشقاء ومن ثم الضلال ...
8. ... فإن موسى أراد أن يتفادى هذا الاعتراض وهذا الشقاء والضلال الناتجين عنه؛ لذلك أضاف حكماً ثانياً [= إباحة الطلاق] إلى الحكم الأول [= تحريم الطلاق] مستبدلاً بذلك شراً كبيراً بشرٍ أصغر منه هو إباحة الطلاق! وقد فعل موسى ذلك بمحض إرادته ...
9. ... لأنهم، عندما لم يكن بمقدورهم احترام الحكم الأول، احترموا الحكم الثاني وبذلك لم ينتهوا إلى الظلم والغضب المؤديَيْن إلى الضلال.
10. إن هذا هو رأيه الذي جعلنا نصنفه رجلاً أضاف إلى شرع الله حكماً مضاداً له! ولقد بينا بأن شريعة موسى مغايرة لشرع الله، وهذا أمر واضح غير قابل للجدل حتى وإن اقتصرنا في البرهنة عليه على هذه النقطة الواحدة فقط!
11. أما بالنسبة إلى وجود أحكام قام الأحبار بإضافتها إلى الشريعة [الموحاة]، فهذا واضح من قول المخلص: "أَكْرِمْ أباك وأمك لكي يطول عمرك في الأرض [التي يعطيك الربُّ إلهُك]". [10]
12. ويضيف المخلص قائلاً: "لقد قلتَ [موسى]" لحكماء القوم: "من نعمة الله عليكم أنه بعثني إليكم لمساعدتكم؛ ولكنكم عطلتم شريعة الله من أجل سنن الأقدمين"! [11]
13. وهاهو إشعياء يصرخ: "إن هذا الشعب يكرمني بشفتيه وقلبه بعيد مني. إنما مخافته لي وصية بشر تعلموها". [12]
14. وبذلك نكون برهنا أن التوراة مكونة من ثلاثة أجزاء، لأننا نرى فيها شريعة موسى [نفسه]، والشريعة التي أضافها الأحبار، وشريعة الله! [13]
إن هذا التصنيف للتوراة، الذي برهنا عليه، قد أبان الحقيقة الكامنة فيها!
1.5. أما الجزء الإلهي من شريعة الله، فيُقسَّم بدوره إلى ثلاثة أجزاء: [أ] الشريعة الخالصة، التي لم تختلط بشر ـ والتي يصح تسميتها "بالشريعة الحقة" ـ والتي لم يأت المخلص من أجل حَلِّها بل من أجل إتمامها [14]، لأن ما أتمه المخلص منها لم يكن صادراً عن مصدر آخر لكنه أتمها لأنها كانت ناقصة. [15] [ب] الشريعة المختلطة بالشر والظلم، وهي الشريعة التي حَلَّها المخلص لأنها لا تنسجم مع طبيعته [اللاهوتية].
2. وأخيراً [ج] الشريعة الرمزية التي نشأت نتيجة للعالم الروحاني والغيبي. لقد حوَّل المخلص هذا الجزء من التوراة ونقله من العالم المادي الحسي إلى العالم الروحاني الغيبي. [16]
3. إن شريعة الله الخالصة الحقة، التي لم تمتزج بالشر والظلم، هي "الوصايا العشر"، التي أنزلت [على موسى] في لَوحَيْن لتحريم ما يجب على الإنسان تجنبه، والتحفيزِ على ما ينبغي على الإنسان فعله. مع ذلك احتاجت هذه الشريعة [الإلهية] إلى إتمام المخلص لها، لأنها لم تكن كاملة [17]!
4. إن الجزء الذي اختلط بالشر والظلم، هو تلك الشريعة التي تكافئ الخطيئة بالخطيئة! إنها تنص على مجازاة العين بالعين والسن بالسن، أي معاقبة القاتل بالقتل [18]. إذ يرتكب الذي يعاقب القاتل بالقتل خطيئة لا تقل ظلماً عن خطئية الفاعل الأول إذا تغير ترتيب [القتل]، لأن الفعل في الحالتين واحد! [19]
5. كان هذا الحد، ولا يزال، قصاصاً، لأنه سُنَّ بسبب ضعف هؤلاء، الذين أُنْزِلَتْ الشريعة من أجلهم، فارتكبوا بسَنِّهِ تجاوزاً بحق الشريعة الإلهية الخالصة. إنه حدٌّ لا ينسجم البتة مع طبيعة الإله الآب، ومع رحمته. [20]
6. ربما كان ذلك الحدُّ طبيعياً، وربما كان ضرورةً! لأن الذي لا يبيح القتل تطبيقاً لقوله "لا تَقتُلْ" [21]، يَسْتَنُّ ـ بإعطائه أمر قتل القاتل ـ شريعةً ثانيةَ، ويميز بين قَتلَيْن! بذلك أباح الذي حرَّمَ القتل لنفسه أن يصبح ضحية للضرورة! [22]
7. لذلك قام الابن [= المسيح]، الذي صدر عن [الإله] الآخر، بحلِّ هذا الجزء من الشريعة وذلك على الرغم من تسليمه بأن ذلك الحد [23] من عند الله، وذلك في الوقت الذي يحسب هذا الجزء مع الأجزاء التي تحسب من العهد القديم، خصوصاً عندما يقول: "من لم يكرم أباه أو أمه فليقتل قتلاً". [24]
8. أما الجزء الرمزي من الشريعة، والذي نشأ نتيجة للعالم الروحاني والغيبي، فهو الجزء الذي سُنَّ نتيجة لظروف وحالات معينة. وأعني بذلك الحدود المتعلقة بالقربان والختان والسبت والصوم والفصح والخبز الفطير وما أشبه ذلك من السنن. [25]
9. إن هذه السُّنَن رموزٌ تم تحويلها، بعد ظهور المخلص، تحويلاً؛ فأُلْغِيَتْ ظاهرياً، واحتُفِظَ بها روحانياً! بقيت الأسماء كما هي، ولكن المسميات تغيرت! [26]
10. أجل، أمرنا الله أمرنا بتقريب القرابين، ولكن ليس من خلال البهائم التي لا تعقل، وليس بحرق البخور، بل بواسطة الحمد الروحاني، والتمجيد، والشكر، وإيثار الآخرين والإحسان إليهم!
11. كما يريد الله منا أن نختتن، ولكن ليس بإزالة القُلْفَة عن الذكر ... بل بتطهير القلب بالروح. [27]
12. كما يريد بالسَّبْتِ منا أن نبتعد من كل الأعمال الشريرة!
13. أما بالصوم، فإن الله لا يريد منا أن نصوم صوماً جسدياً، بل يريد منا صوماً بالروح، أي الامتناع عن الشر وما إليه.
نعم، يصوم الناس عندنا صوماً جسدياً؛ وهذا الصوم مفيد للروح إذا أُعْمِلَ العقل في اتباعه، أي إذا لم يلتزم الناس به من أجل استفزاز الآخرين، أو من أجل العادة، أو إحياء لذكرى يوم ما، حتى وإن كان ذلك اليوم يستحق ذلك! [28]
14. نصوم نحن، في الوقت نفسه، [صوماً ظاهرياً] للتذكير بالصوم الحقيقي، لأن هؤلاء الذين لا يستطيعون أن يصوموا [صوماً حقيقياً]، يستذكرون بالصوم الجسدي الظاهري، ذلك الصوم الحقيقي الذي نعنيه!
15. الأمر نفسه ينطبق على الفصح والخبز الفطير. لقد أبان القديس بولص ضرورة اعتبارهما صورةً روحانيةً بوضوح حين قال: "فإنه قد ذُبِحَ فِصحُنا، المسيحُ، لكي تصبحوا فطيراً [حلواً] بدون خمير"! ولا يقصد القديس بولص بالخمير "الفطير الحلو" [كما يفهمه اليهود]، بل يقصد الشر! [29]
1.6. إذاً: بذلك تصبح التوراة مكونة من ثلاثة أجزاء مختلفة، أحدها الجزء الذي أكمله المخلص، لأن قوله "لا تقتل، لا تَزنِ ... لا تشهد شهادة الزور" [30]، متضمن في قوله "لا تغضب ... لا تَشْتَهِ ... لا تَحْلِف"! [31]
2. وثانيها هو ذلك الجزء الذي نُسِخَ بأكمله، لأن "العين بالعين والسن بالسن" تتضمن الظلم وفعل الظلم ... لذلك نسخه المخلص وأحلَّ محله نقيضه!
3. لأن "النقيض" ينسخ نفسه بالتساوي: "أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرير بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر"! [32]
4. وآخرها هو الجزء الذي حُوِّلَ من العالم الجسماني الظاهري، إلى العالم الروحاني الباطني، صورةً رمزيةً للأشياء الغيبة الخاصة.
5. لأن الصور والرموز تدل على أشياء أخرى، فكانت لها وظيفتها الجيدة في غياب الحقيقة! وبما أن الحقيقة حاضرة الآن، فإنه ينبغي اتباع نور الحقيقة، لا الصور والرموز! [33]
6. لقد أبان رسلُ المسيح، وكذلك بولص الرسول، هذه الحقائق، وذلك بتفسيره [بولص] معاني الفصح والخبز الفطير تفسيراً مجازياً. من ثمة وصفه جزءَ الشريعة الذي امتزج بالظلم بقوله: "وأبطلَ [المسيحُ] ناموسَ الوصايا ..." [34]، وكذلك وصفه جزءَ الشريعة التي لم تمتزح بالظلم بقوله: "فالناموس إذن مقدس والوصية مقدسة وعادلة وصالحة"! [35]
1.7. ويمكن القول باختصار إني أبنتُ لك بما فيه الكفاية بأن الشريعة [التوراة] التي أضافها الناس أو التي أنزلها الله، مكونة من ثلاثة أجزاء مختلفة!
2. والسؤال المطروح الآن هو: من هو ذلك الإله، الذي أنزل تلك الشريعة؟! وأعتقد بأني أجبت على هذا السؤال في ما تقدم من برهنة، هذا إذا كنتِ أصغيتِ لما تقدم بالتمعن المطلوب!
3. لأنه، إذا لم تكن التوراة من عند الإله الحق، ولم تكن من عند الشيطان [كما يعتقد بعضهم] ـ وهو رأي فاسد ـ فإن النتيجة الحتمية هي أن التوراة من عند شخص ثالث يكون غير الاثنين [= الإله الحق والشيطان]!
4. إنه [= الشخص الثالث] هو خالق هذا العالم وكل ما فيه. هو إله مختلف على الاثنين المذكورين أعلاه [= الإله الحق والشيطان]! إنه إله يكون بين الاثنين، ويقيم في الوسط، لذلك أطلق عليه اسم "الوسط"!
5. فإذا كان الإله الحق إلهاً رحيماً عادلاً بطبعه ـ وهو إله رحيم عادل بطبعه ـ لأن المخلص كان يسمي الإلهَ الحقَّ الرحيمَ "أباه"، وهو الإله الذي أراه بنفسه ...؛ وإذا كان الإله ذو الطبيعة المتناقضة إلهاً شريراً وظالماً، فإن الإلهَ الموجودَ في الوسط، والذي ليس عادلاً ولا ظالماً، الإلهُ الذي يمكن إطلاق اسم "العدل" عليه، الإلهُ الذي يجازي الإحسان بقدره!
6. إن هذا الإله [الذي في الوسط] أَقَلُّ مرتبةً من الإله الحق الكامل، وعدلَه أقلُّ من عدل الإله الحق، لأنه حادث وليس بقديم! إن الإله الحق ـ الآب ـ قديمٌ، وكلُّ شيء يحتاج إليه، لأن كل شيء صدر عنه. وإنه [الإلهُ الحق]، كذلك، أكبر من العدو [الشيطان]، وأَقْوَمُ منه! إن للإله الحق ذاتٍ أخرى غير ذات الاثنَيْن الآخَرَيْن [الإله الذي في الوسط والشيطان]، وطبيعةً أخرى غير طبيعتهما!
7. إن ذات العدو ذات شريرة ومظلمة، لأنه مادي تعتريه التجزئة والقسمة! أما ذات الإله القديم، أبي الكون، فهي بقاءٌ سرمديٌّ، ونورٌ بسيط ومتحد، قائم بذاته. لقد صدر عن طبيعته قوّتان اِثنتان. أما صورته هو، فتبقى خيراً من سائر الصور!
************
[align=center](ب) مفهوم الإله عند بطليموس[/align]
1. تمهيد:
نلاحظ من خلال استقراء النص أن بطليموس يجتهد اجتهاداً كبيراً ليبرهن لفلورة المسيحية أن إله المسيحية الرحيم إله مختلف عن إله اليهودية الجبار! إن وسم إله المسيحية بالرحمة وإله اليهود بالجبروت أمر لاهوتي لفت أنظار آباء الكنيسة منذ بداية العهد المسيحي، فحاولوا التوفيق بين الصورتين المختلفتين للإله المعبود بحق ولم يقدروا، ذلك لأن الفرق بين صورة الإله المعبود بحق كما وردت في أسفار اليهود، وصورته كما وردت في الأناجيل وأعمال الرسل، كبير جداً. لذلك اعتبر آباء الكنيسة ما كان قبل مجيء المسيح "عهداً قديماً" وفسروه على أنه حلقة مهمة من سلسلة التاريخ الديني للانسانية قبل ظهور المسيحية ينبغي أخذها "على علاتها"، ذلك لأن "العهد الجديد" الذي بشَّر به المسيح ألغى "العهد القديم" برمته، وألغى "علاته" معه. وكانت هاتان الصورتان للإله المعبود بحق عند اليهود والنصارى تكونتا نتيجة للجدل الشديد بين اليهود والنصارى بداية العهد المسيحي. ويبدو هذا الجدل جلياً في الأناجيل عموماً، وفي رسائل القديس بولص خصوصاً، وكذلك في أعمال الكتاب المسيحيين الأوائل ومنها رسالة بطليموس التي بين أيدينا، وهو الجدل الذي جعل القديس بولص يلغي جميع الشرائع اليهودية، بما فيها شريعة الختان، والذي جعل بطليموس الغنوصي وغيره من كتاب المسيحية الأوائل يعتقدون بوجود إلهين اثنين مختلفين اختلافاً جذرياً عن بعضهما كما نرى في رسالة بطليموس إلى فلورة.
إذا نحن الآن إزاء إلهين اثنين، واحد رحيم والآخر حقود، فمن هما هذان الإلهان الاثنان؟ ومن منهما إله المسيحية الرحيم، ومن منهما إله اليهودية الجبار؟!
قبل الإجابة على هذا السؤال ينبغي التمييز جيداً بين أمرين اثنين الأول لغوي والآخر لاهوتي. ويتعلق الأمر اللغوي باشتقاق الأسماء الدالة على الإله التي استعملها كل من اليهود والنصارى من جهة، بينما يتعلق الأمر اللاهوتي بحقيقة الإله المعبود في الديانتين من جهة أخرى. والتمييز بين هذين الأمرين جد مهم كما سيتبين لنا لاحقا!
2. أسماء الإله المعبود عند اليهود والنصارى:
إن الأسماء التي استعملها اليهود والنصارى للدلالة على الإله المعبود بحق عندهم هي أسماء سامية لأن اللغات التي نزل الوحي فيها هي لغات سامية هي العبرية الآرامية (أسفار العهد القديم) والسريانية (الإنجيل/الأناجيل) والعربية (القرآن الكريم). والأسماء التي استعملها اليهود في أسفار العهد القديم هي /إِلُوهِيم/ ويهوه/ و/إِيل/ و/شَداي/. وأتوقف قبل النظر في هذه الأسماء عند اشتقاق /إلوهيم/ دون التعرض لمعنى الجذر الأصلي له لأنه غير معروف.
لكلمة "إله" في اللغات السامية جذران اثنان هما:
أ) الجذر الأول: /أ ل ل/. ولقد ورد هذا الجذر في الأكادية: إِلُّم (ill-um)، وفي العبرية: אל (el)، والفينيقية والأوغاريتية: /إِلٌّّ/، والسريانية: ܐܠܐ (ellā). وفي العربية: /إلٌّ/ وهو الله سبحانه وتعالى. (انظر معنى إلٍّ في الآية الكريمة: لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذِمة (10:9)؛ وكذلك معنى قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه عندما تُلي عليه بعض من "وحي" مسيلمة الكذاب: "إن هذا لشيء ما جاء به من إلٍّ"). ويؤنث هذا اللفظ في السامية الأم على: /إِلَّـةٌ/ (illat-um)، وورد في البابلية /إِلْتُم/. ومن /إِلَّـةٌ/ السامية اسم الصنم "اللات" عند العرب. ومن الجدير بالذكر أن اسم مدينة "بابل" بالأكادية هو: /بابْ إِلّيم/ (Bāb Ill-īm) أي "باب الآلهة"، ولا علاقة له بخرافة "بلبلة الألسن" الواردة في التوراة. ويرد الاسم /إِلٌّ/ في العبرية كثيراً في أواخر الأسماء مثل اسماعيل وميكائيل وإسرائيل، وورد في العربية في أسماء مثل ياليل وشرحبيل.
ب) الجذر الثاني: /إ ل ه/ (بإضافة الهاء). ولقد ورد هذا الجذر في العبرية: אלוה (eloah<elāh)، وانحراف اللفظ في العبرية مصدره انقلاب ألف المد قبل حروف الحلق إلى (oa)، وهذا اللفظ نادر الورود في التوراة بالمفرد وكثير الورود فيها بصيغة الجمع هكذا: אלהים (elōhīm)، إِلُوهِيم؛ وفي الآرامية القديمة: אלה (elāh)، وفي السريانية: ܐܠܗܐ (elāhā) "الإله"، والألف نهاية الكلمة للتعريف. العربية: /إله/، /إلاه/. [36]
إذاً نحن إزاء جذرين اثنين الأول ثنائي والآخر ثلاثي. وربما يكون الجذر الثنائي هو الأصل فأضيفت إليه الهاء كما أضافوها إلى الأم /أم/ – /أمه/ في سائر الساميات، ولكن الهاء لا تظهر فيها إلا في حالة الجمع ـ "أمهات". والنظريات السائدة لدى علماء الاشتقاق في الساميات هي أن معنى الجذر /إ ل ه/ الأصلي موجود في الجذر السامي /وله/ بمعناه في العربية، أو في الجذر السامي /أول/ بمعناه في العربية والأكادية [37]، أو في /أ ل ه/ العبري بمعنى "قوي"، أو في الفعل العربي /أَلِهَ/. [38]
وأما /إلوهيم/، هو أكثر الأسماء الدالة على الإله المعبود بحق عند اليهود وروداً، فقد ورد مجرداً من أداة التعريف (هـَ / ها) للعلمية:
1. אלהים = /إلوهيم/.
و/إلوهيم/ هو جمع لفظة: אלוה = /إِلُوَه/ "إله" في اللغة العبرية. انظر الآية الأولى من سفر التكوين:
الترجمة الحرفية: "1. في البدء بَرَأَ/خَلَقَ اللهُ السماواتِ والأرضَ".
كما ورد في الآية الأولى من الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين محلى بأداة التعريف التي تخرجه كلياً من العلمية ـ ولو مجازاً ـ لتؤكد على كونه صيغة جمعٍ عادية:
الترجمة الحرفية: "1. وكان بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم وقال له يا إبراهيم، فقال [إبراهيم]: لبيك".
الترجمة الحقيقية: وكان بعد هذه الأمور أن الآلهة امتحنوا إبراهيم وقالوا له يا إبراهيم، فقال [إبراهيم]: لبيك".
ونرى في هذه الآية أن الكلمة الدالة على الإله المعبود بحق في التوراة ـ وهي أكثر الكلمات وروداً في التوراة للدلالة عليه ـ قد وردت بصيغة الجمع، مرة علماً وأخرى جمعاً عادياً كما تبين من الآيتين أعلاه. وقد شكَّل ذلك منذ البداية مشكلة لاهوتية عويصة لعلماء التوراة من النصارى واليهود، ما تركوا معها حيلة إلا وحاولوها لتفسير هذه الظاهرة التي تنقض عقيدة التوحيد الموحاة من الأساس، ففسروا /إلوهيم/ على أنه "جمع جلالة" (pluralis majestatis)، لكن هذا التخريج لم يقنع أحداً لاستحالته من الناحية الدينية والمنطقية. وأعتقد ـ وهذا اجتهاد شخصي ـ أن التفسير المنطقي الوحيد لهذه المشكلة اللاهوتية العويصة يجب أن يُبحَث عنه في ارتداد بني إسرائيل إلى الشرك بعد عبادتهم العجل في سيناء، لأنهم كانوا على التوحيد على زمان النبي إبراهيم عليه السلام، واستمروا عليه حتى زمان النبي موسى عليه السلام، ثم ارتدوا في سيناء، ثم عادوا إلى التوحيد من جديد، وهذا كله موجود في التوراة التي بأيدينا اليوم (سفر الخروج). وبما أن التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام غير موجودة اليوم بنصها الأصلي، وأن نص التوراة الحالي تم تقنينه ـ بإجماع اليهود والنصارى ـ بعد السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد، فإن شيئاً لا يحول دون الاعتقاد أن اليهود تشبعوا بالشرك في بلاد بابل وآشور إبان السبي البابلي، خصوصاً وأنهم كانوا ارتدوا إلى الشرك في حياة موسى عليه السلام، حينما كان على الطور في سيناء، فما الذي يمنع من ارتدادهم إلى الشرك بعد موته بألف عام؟! إن تشبعاً بالشرك كهذا الذي أراه وأعتقده هو الذي جعلهم يجمعون اسم الإله المعبود بحق عندهم على /إلوهيم/، إذ لا يعقل أن يُعتَقَد أن جمعاً كهذا كان على أيام كليم الله موسى عليه السلام. ومن الثابت قطعاً لا تخميناً أن النص العبري للتوراة كان في مرحلة ما إبان السبي البابلي يورد الأفعال التي كان جمعُ الإله على /إلوهيم/ يرد فاعلاً لها بصيغ الجمع مثل لغة "أكلوني البراغيث"، وأن الصفة في العبرية تتبع الموصوف في جميع حالاته (مثل العربية)، بحيث ينعت المفرد بالمفرد والجمع بالجمع. إلا أن التقنين الأول الذي أجري على نص العهد القديم في القرن الخامس قبل الميلاد استبدل باضطراد صيغة الجمع في الأفعال الواردة مع /إلوهيم/ بصيغة المفرد على أساس أن /إلوهيم/ لفظ مفرد، وجعل النعت الذي يجيء بعد /إلوهيم) مفرداً. ومن الجدير بالذكر أن نص العهد القديم خضع لتقنين ثان في نهاية القرن الأول بعد الميلاد وهو التقنين الذي أثبتت مخطوطات البحر الميت أنه تم نتيجة لظهور المسيحية التي فسرت زمان "العهد القديم" ـ وهو العهد الذي اصطفى الله فيه آل إسرائيل ـ على أنه عهد يمهد لظهور المسيح عليه السلام الذي بدأ بظهوره "عهداً جديداً" ألغى "العهد القديم" برمته! وعلى الرغم من تقنين أحبار اليهود نصَّ العهد القديم مرتين وأنهم في المرتين استبدلوا باضطراد صيغة الجمع في الأفعال الواردة مع /إلوهيم/ بصيغة المفرد على أساس أن /إلوهيم/ لفظ مفرد، وكذا النعت الذي يجيء بعد /إلوهيم/ وجعلوه مفرداً، فإنهم نسوا بعض الأفعال وكذلك بعض النعوت بصيغة الجمع لتبقى حتى يومنا هذا شاهدة على تناوب الأيدي على نصوص العهد القديم حذفاً وإضافةً وإقحاماً وتحويراً للفظ وذلك للحصول على معاني مختلفة تنسجم مع التغيرات الدينية والسياسية في تلك الأزمان (وأهمها ظهور المسيحية) كما سيتبين لنا من المثالين التاليين:
قال في سفر التكوين، الإصحاح العشرين، الآية الثالثة عشرة:
الترجمة الحرفية: "13. وكان عندما أتاهوني الآلهة [40] من بيت أبي أن قلت لها: هذا معروفك الذي تصنعين إلي في كل مكان ندخله: قولي عني هو أخي".
فورد الفعل هِتْعوا (= أتاهوا) بصيغة الجمع لأن الفاعل هو إلوهيم جمع /إِلُوَه/ "إله"! ولو كان هذا جمع جلالة لما استبدلوا باضطراد صيغة الجمع في الأفعال الواردة مع /إلوهيم/ بصيغة المفرد على أساس أن /إلوهيم/ لفظ مفرد.
وقال في سفر تثنية الاشتراع، الإصحاح الخامس الآية الثانية والعشرين (الآية الرابعة والعشرون في ترجمة فنديك):
الترجمة الحرفية: "22. كل البشر الذين سمعوا قول الآلهة الحية ...".
فنعتت هذه الآية إِلُوهِيم بـ حَيِّيم وهذا الثاني جمع وهذا محال في "جمع الجلالة" لأن جمع الجلالة يكون مثل "نحن، السلطان العظيم صلاح الدين الأيوبي" وليس "نحن السلاطين العظام صلاح الدين الأيوبي"! وليس بين جموع الجلالة المستعملة في اللغات الحامية السامية والهندية الأوربية لغة تبيح مثل ذلك.
2. יהוה = /يهوه/.
ورد اسم /يهوه/ اسمَ علم للإله المعبود بحق. ولأن لفظ /يهوه/ محرم على اليهود فإن أحداً لا يعرف كيف كان يلفظ، لذلك ينطق اليهود بدلاً عنه أثناء تلاوة التوراة بلفظين اثنين هما: השם = /هاشِّم/ أي "الاسم" أو אדני = /أدوناي/ أي "السيد، الرب". أما في أدبيات الكتاب المقدس فيشار إليه بـ Tetragrammaton من اليونانية Τετραγραμματον أي "الأحرف الأربعة". وأما نطق الاسم بـ جِهوفا (Jehovah)، فهو نطق يفترض أن /يهوه/ هو مضارع الفعل הוה = /هوى/ "كان" في العبرية، وهو الافتراض المبني بدوره على الآيتَيْن الثالثة عشرة والرابعة عشرة من سفر الخروج في التوراة وهما:
الترجمة الحرفية: "13. وقال موسى للإله هاأنذا الآن ذاهب لبني إسرائيل وقائل لهم إن إله أبيكم أرسلني إليكم. فإذا سألوني: ما اسمه، ماذا أقول لهم؟ 14. فقال الإله لموسى: [تقول لهم إن اسمي:] إِهْيِهْ أَشِرْ إِهْيِهْ. هكذا تقول لبني إسرائيل: إِهْيِهْ [أَشِرْ إِهْيِهْ] أرسلني إليكم".
3. אל = /إل/.
אל = /إل/ ويجمع على אֵלִים = /إِيلِيم/. انظر المزمور 29، الآية الأولى:
فالمزمور يخاطب المُخاطَبين هنا بـ "أبناء الآلهة" وليس بـ "أبناء الله" على المجاز في القول كما زعم مترجم العهد القديم إلى العربية [41]، ذلك لأن אֵלִים = /إِيلِيم/ هذه هي جمع אל = /إل/، وهذه الأخيرة تعني ـ حسب كل المعاجم العبرية والسامية ـ وببساطة "إله"، فيكون معنى בְּנֵי אֵלִים = /بْنِي إِيلِيم/ "أبناء الآلهة" وليس غير ذلك!
4. שַׁדַּי = /شَداي/.
ورد שַׁדַּי = /شَداي/ في أماكن كثيرة من العهد القديم منها الألاية الثالثة من الإصحاح الثامن والعشرين من سفر التكوين:
וְאֵל שַׁדַּי יְבָרֵךְ אתְךָ.
النقحرة: 3. وِإِلْ شَدايْ يِبارِكْ أوتْكَ ...
الترجمة الحرفية: "والإلهُ شَداي يُبارِكُكَ"!
وهذا يعني بوضوح لا يحتمل التأويل أن شداي اسم اله لأن النص يقول: "الإله شداي" مثلما نقول "الإله حداد" و"الإلهة عشتار" والإله جوبيتر" و"الإلهة أفروديت" ولا فرق. ولكن من يكون "الإله شَداي" هذا؟ لقد حار علماء التوراة بشأنه، فاعتبروه صفة غالبة وفسروه من الجذر العربي /شدد/ وقالوا بالتالي إن معناه "الإله الشديد/الجبار" ... إلا أن حقيقة هذا الإله الوثني يجب أن يبحث عنها لدى الأكاديين والبابليين والآشوريين الذين سَبَوا اليهود، لأن البابليين كانوا يعبدون إلاهاً اسمه /شَدُو/ وهو إله وثني أخذ اليهود عن البابليين عبادته زمان ردتهم مثلما عبدوا لفترة الإله الكنعاني الفينيقي /بعل/، مع فارق أن /شدو/ تهوَّد، بعكس /بعل/ الذي لم يكن بمقدور اليهود تهويده بسبب العداوة التي كانت بينهم وبين الفينيقيين الذين كانوا يعبدون الإله /بعل/.
أما مسيحيو الغرب فيستعملون God/Dieu/Theos في اللغات الجرمانية واللاتينية واليونانية للدلالة على الإله المعبود بحق عندهم وذلك بغض النظر عن الأصل العبري المستعمل في الكتاب المقدس (إل/إلوهيم/يهوه/شداي ...). وهذه الكلمات الثلاث ليست اسم علم للإله المعبود بحق نصارى الغرب، بل كلمات مجردة للدلالة عليه. ومع ذلك فلقد دأب مسيحيو الغرب الذين ترجموا العهد القديم إلى اللغات الأوربية على ترجمة كلمة /إلوهيم/ العبرية وغيرها من الكلمات الدالة على الإله المعبود بحق بـ God "الإله"، بينما ترجموا /يهوه/ بـ The Lord "الرب" وذلك في كل اللغات الأوربية. ودأبوا أيضاً على رسم هذه الكلمات بالحرف الكبير تمييزاً للإله المعبود بحق عندهم عن الأوثان، تماماً مثلما ميز العرب ذلك بإضافة الألف واللام إلى "إلاه" بعد حذف همزتها وتفخيم لامها. والفرق بين الطريقتين هو أن التمييز في العربية يكون نطقاً وكتابةً، أما في اللغات الأوربية فيكون كتابةً فقط إذ لا تمييز في اللفظ بين أحرف صغيرة وكبيرة.
3. حقيقة الإله المعبود في الملتين حسب بطليموس:
إذن نحن الآن إزاء ثلاثة آلهة: إله الحق والرحمة هو إله المسيحية، وإله الشر وهو الشيطان، وإله ثالث يكون بين إله الحق والرحمة من جهة، وإله الشر أو الشيطان الرجيم من جهة أخرى، لم يتشبع بالرحمة كلياً ولا بالشر كلياً، هو "إله العهد القديم"، إله اليهودية! إنه إله "لا عادل ولا ظالم" كما يقول بطليموس:
5.7. فإذا كان الإله الحق إلهاً رحيماً عادلاً بطبعه ـ وهو إله رحيم عادل بطبعه ـ لأن المخلص كان يسمي الإلهَ الحقَّ الرحيمَ "أباه"، وهو الإله الذي أراه بنفسه ...؛ وإذا كان الإله ذو الطبيعة المتناقضة إلهاً شريراً وظالماً، فإن الإلهَ الموجودَ في الوسط، والذي ليس عادلاً ولا ظالماً، الإلهُ الذي يمكن إطلاق اسم "العدل" عليه، الإلهُ الذي يجازي الإحسان بقدره!
وهذا الإله حادثٌ وليس قديماً مثل إله المسيحية:
6.7. إن هذا الإله [الذي في الوسط] أَقَلُّ مرتبةً من الإله الحق الكامل، وعدلَه أقلُّ من عدل الإله الحق، لأنه حادث وليس بقديم! إن الإله الحق ـ الآب ـ قديمٌ، وكلُّ شيء يحتاج إليه، لأن كل شيء صدر عنه. وإنه [الإلهُ الحق]، كذلك، أكبر من العدو [الشيطان]، وأَقْوَمُ منه! إن للإله الحق ذاتٍ أخرى غير ذات الاثنَيْن الآخَرَيْن [الإله الذي في الوسط والشيطان]، وطبيعةً أخرى غير طبيعتهما!
إن هذا الإله الثالث هو الذي أوحى بالتوراة إلى موسى:
3.7. لأنه، إذا لم تكن التوراة من عند الإله الحق، ولم تكن من عند الشيطان [كما يعتقد بعضهم] ـ وهو رأي فاسد ـ فإن النتيجة الحتمية هي أن التوراة من عند شخص ثالث يكون غير الاثنين [= الإله الحق والشيطان]!
لكنه لم يوح بكل التوراة إلى موسى، لأن للتوراة ثلاثة مصادر مختلفة:
1.4. يجب أن تعلمي قبل كل شيء أن الشريعة الموجودة في كتب موسى الخمسة ليست من عند إله واحد! أعني أن هذه الشريعة ليست كلها واردة من عند إله واحد، لأن فيها حدوداً أضافها الناس إليها. وتعلمنا كلمات المخلص أن هذه الشريعة ذات ثلاثة مصادر.
2. فالمصدر الأول هو الله وشرعه، والثاني هو موسى ـ ليس بصفته نبياً يوحى إليه، بل بصفته إنساناً أضاف إلى الشريعة [الموحاة إليه] حدوداً من عندياته ـ، والثالث هو أحبار الأمة الذين ارتأوا إضافة حدود بعينها إلى الشريعة [الموحاة]
وبهذا يبدو جلياً أن بطليموس يعتبر كل ما يتوافق في العهد مع تعاليم المسيح في الأناجيل من عند الإله الحق، إله الرحمة الذي بعث المسيح. أما شريعة التوراة التي تتعارض مع تعاليم المسيح في الأناجيل، مثل الطلاق مثلاً، فيعتبرها بطليموس إضافات أضافها موسى إلى التوراة لاسترضاء قومه:
4. تحدث المخلص ذات مرة مع أولئك الذين سألوه عن الطلاق المسموح به [في شريعة التوراة]، وقال: "إن موسى لأجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم ولم يكن من البدء هكذا"، "لأن الله"، حسب المخلص، "جمع بين الزوجين، وما جمعه الله فلا يفرقه إنسان". [42]
أما المصدر الثالث والأخير لشريعة التوراة فهو إضافات الأحبار إلى الشريعة:
11. أما بالنسبة إلى وجود أحكام قام الأحبار بإضافتها إلى الشريعة [الموحاة]، فهذا واضح من قول المخلص: "أَكْرِمْ أباك وأمك لكي يطول عمرك في الأرض [التي يعطيك الربُّ إلهُك]"
لكن بطليموس يميز جيداً بين إلهين اثنين هما الإله الأعلى، إله الرحمة، "إله العهد الجديد" الذي بعث عيسى، و"إله العهد القديم" الذي بعث موسى بالشريعة التي أضاف إليها موسى من عندياته، ثم الأحبار من عندياتهم، كما ورد أعلاه. وما يهم بطليموس من التوراة هو الجزء الإلهي، الجزء الحقيقي، الذي أوحى به "إله العهد القديم" لموسى. وتتمثل مهمة المسيح ـ عند بطليموس ـ بالحفاظ على الجزء الإلهي وإكماله لأنه كان ناقصاً، من جهة، وحل الجزئين المتكونين من إضافات موسى والأحبار، الممزوجين بالشر، من جهة أخرى:
أما الجزء الإلهي من شريعة الله، فيُقسَّم بدوره إلى ثلاثة أجزاء: [أ] الشريعة الخالصة، التي لم تختلط بشر ـ والتي يصح تسميتها "بالشريعة الحقة" ـ والتي لم يأت المخلص من أجل حَلِّها بل من أجل إتمامها، لأن ما أتمه المخلص منها لم يكن صادراً عن مصدر آخر لكنه أتمها لأنها كانت ناقصة. [ب] الشريعة المختلطة بالشر والظلم، وهي الشريعة التي حَلَّها المخلص لأنها لا تنسجم مع طبيعته [اللاهوتية].
2. وأخيراً [ج] الشريعة الرمزية التي نشأت نتيجة للعالم الروحاني والغيبي. لقد حوَّل المخلص هذا الجزء من التوراة ونقله من العالم المادي الحسي إلى العالم الروحاني الغيبي.
والجزء الإلهي الحقيقي في التوراة، هو الوصايا العشر فقط! مع ذلك يحتاج هذا الجزء إلى إكمال له لأنه ناقص:
3. إن شريعة الله الخالصة الحقة، التي لم تمتزج بالشر والظلم، هي "الوصايا العشر"، التي أنزلت [على موسى] في لَوحَيْن لتحريم ما يجب على الإنسان تجنبه، والتحفيزِ على ما ينبغي على الإنسان فعله. مع ذلك احتاجت هذه الشريعة [الإلهية] إلى إتمام المخلص لها، لأنها لم تكن كاملة!
أما سائر التوراة فهي شريعة "امتزجت بالشر والظلم" لا بد من نسخها:
4. إن الجزء الذي اختلط بالشر والظلم، هو تلك الشريعة التي تكافئ الخطيئة بالخطيئة! إنها تنص على مجازاة العين بالعين والسن بالسن، أي معاقبة القاتل بالقتل. إذ يرتكب الذي يعاقب القاتل بالقتل خطيئة لا تقل ظلماً عن خطئية الفاعل الأول إذا تغير ترتيب [القتل]، لأن الفعل في الحالتين واحد!
5. كان هذا الحد، ولا يزال، قصاصاً، لأنه سُنَّ بسبب ضعف هؤلاء، الذين أُنْزِلَتْ الشريعة من أجلهم، فارتكبوا بسَنِّهِ تجاوزاً بحق الشريعة الإلهية الخالصة. إنه حدٌّ لا ينسجم البتة مع طبيعة الإله الآب، ومع رحمته.
فلذلك نسخها المسيح:
7. لذلك قام الابن [= المسيح]، الذي صدر عن [الإله] الآخر، بحلِّ هذا الجزء من الشريعة وذلك على الرغم من تسليمه بأن ذلك الحد [23] من عند الله، وذلك في الوقت الذي يحسب هذا الجزء مع الأجزاء التي تحسب من العهد القديم، خصوصاً عندما يقول: "من لم يكرم أباه أو أمه فليقتل قتلاً".
يبدو من هذا كله أن بطليموس يوفق بين شريعة العهد القديم وتعاليم العهد الجديد باعتبار كل ما ورد في العهد القديم مناقضاً لتعاليم المسيح في العهد القديم شريعة "ناقصة" صادرة عن إله "ناقص" موجهة إلى شعب متعنت عنتاً اضطر موسى معه إلى إضافة أحكام جديدة إلى الشريعة لاسترضائهم ... كما يبدو أيضاً أن بطليموس يسلم بواقعة قيام الأحبار بإضافة أحكام ونصوص جديدة إلى التوراة التي أصبحت من حينه ثلاثية المصدر. وبذلك يسلم بطليموس ـ الذي تعبر رسالته عن اتجاه لاهوتي سائد في عصره ـ بالتحريف الذي تعرضت له التوراة، إلا أنه يفسره ـ يصفته غنوصياً متشبعاً بالفلسفة اليونانية ـ من خلال فلسفته العرفانية التي تسلم بوجود أكثر من إله واحد. فهو من جهة يسلم بوجود إله قديم رحيم هو إله عيسى، ويعتقد من جهة أخرى بوجود إله أقل قيمة من الإله الأول، ينسب إليه خلق العالم وإنزال الشريعة على موسى، ويعتبره حادثاً ليس قديماً قدم الإله الأول! إن الإله الأول إله كامل قائم بذاته، وإن الآخر ناقص وشريعته ناقصة مثله تحتاج إلى إكمال يقوم به المخلص الذي صدر عن الإله الأول. فجاء هذا المخلص، وهو المسيح عيسى، وأكمل الشريعة كما يلي: حافظ على الجزء الحقيقي منها، ونسخ الجزأين اللذين أضافهما موسى والأحبار إليها ناسخاًً أحكامهما بأحكام أكثر انسجاماً مع طبيعة إله الرجمة القديم. وبذلك يسلم بطليموس بالنسخ كما يعتقده المسلمون/ مع فارق كبير في المعتقدات المنسوخة! [/align][align=justify]
ـــــــــــــــــ
الحواشي
[1] وردت هذه الرسالة في كتاب "باناريون" للأسقف إبيفانوس صاحب سالاميس (؟ - 315 ميلادي)، وهو كتاب يحتوي على نصائح طبية لمن تلسعه الحية!
[2] الكلمة من اليونانية: γνώσις = gnosis ومن معانيها: "البحث؛ البصيرة؛ المعرفة؛ تحسس عالم الغيب (في اللاهوت المسيحي)".
[3] يقابل مذهب العرفان مذهب اللاأدرية (agnosticism) وهو مذهب يعتقد أصحابه أن وجود الله وطبيعته وإدراك خلق العالم أمور لا سبيل إلى معرفتها بالعقل.
[4] يلاحظ أن عقيدة الوحي في الإسلام والمسيحية واليهودية واحدة من حيث مصدر الوحي ومختلفة من حيث كيفية حدوثه. فبينما يكون الوحي في الإسلام عبر وسيط هو الملك جبرائيل، يكون في العقيدة اليهودية مباشرة أي أن الله سبحانه وتعالى مثل شاخصاً وسلم بنفسه ألواح التوراة إلى موسى. أما في العقيدة المسيحية فيكون الوحي بإلقائه في قلوب الرسل الذين دونوه في الأناجيل.
[5] تطور الفرع الشرقي للمذهب تطورا ملحوظا لأن الإسكندرية كانت مركزا لتيارات مسحية كثيرة كالمذهب الغنوصي ومذهب آريوس الذي ينفي صفة اللاهوت عن عيسى ويثبت له الناسوت فقط، وغيرهما من المذاهب. وقد عثر بين نصوص "نجع حمادي" في سيناء على طائفة كبيرة من نصوص المذهب الغنوصي مكتوبة باللغة القبطية. ويعتقد أن بعضها كان مترجما من اليونانية إلا أن الأصول اليونانية لمخطوطات "نجع حمادي" ضائعة فلا يثبت هذا الظن. وتعتبر النصوص التي عثر عليها سنة 1945 في "نجع حمادي" من أهم مصادر المذهب الغنوصي على الإطلاق. تتكون هذه النصوص من مجموعتين. تتكون المجموعة الأولى من النصوص التالية: صلاة الرسول بولص، إنجيل يعقوب، إنجيل الحقيقة، في يوم القيامة، ثلاث رسائل شتى. وتتكون المجموعة الثانية من إنجيل فيليبوس فقط.
[6] إنجيل متى، الإصجاح الثاني عشر، الآية الخامسة والعشرون: "فعلم يسوع أفكارهم فقال لهم إن كل مملكة تنقسم على نفسها تخرب وكل مدينة أو بيت ينقسم على نفسه لا يثبت". ويقصد بطليموس بالمخلص (من اليونانية Σωτηρ، ومعناها "المخلص، المنقذ) المسيح عليه السلام. وهي ترجمة مستعارة لاسم المسيح في العبرية: ישוע (= يِشُوَع)، المشتق بدوره من الجذر ישע (يَشَع) الذي يجانسه ـ اشتقاقيا ـ في العربية الجذر /وسع/ وفعله وَسِعَ لأن الأفعال التي فاءاتها ياءات في العبرية تجانس تأثيليا الأفعال التي فاءاتها واوات في العربية ولأن الشين العبرية تجانس السين في العربية. والخلاص يكون من الضيق وهذا هو المعني الأصلي (الإتيمولوجي) للجذر /وسع/ في السامية الأم وكذلك في العربية والعبرية. والتطور اللغوي ذاته شهدته لفظة "المسيح" في اليونانية ذاتها: Χριστος (= Christos)، لأنها ترجمة مستعارة لكلمة משיח (= مَشِيَح) في العبرية، المشتقة بدورها من الجذر السامي الأصلي /مسح / وفعله "مَسَحَ"، لأن العادة لدى أوائل الساميين كانت تقتضي مسح راس الملك المتوج بزيت الزيتون المبارك. من ثمة تسمية عيسى بن مريم، عليه السلام، مسيحاً. فكلمة مسيح/ משיח (= مَشِيَح) هي أصل، وكلمة Χριστος (= Christos) هي ترجمة مستعارة.
[7] إنجيل يوحنا، الإصحاح الأول، الآية الثالثة.
[8] بما أن فلورة مسيحية معتقدة فإن بطليموس يحاول إقناعها بمذهبه معتمدا في برهنته على النقل وليس على العقل. ويقصد "بمفهوم الكائنات" الأدلة العقلية.
[9] إنجيل متى، الإصحاح التاسع عشر، الآية الثامنة والسادسة. والطلاق مباح عند جميع النصارى ما عدا الكاثوليك الذين لا يبحون منه إلا ما كان قبل البناء.
[10] سفر الخروج، الإصحاح العشرون، الآية الثانية عشرة. واضح أن بطليموس هنا يقتبس من العهد القديم ويعزو ذلك إلى المخلص وهو المسيح عليه السلام. وهذا عائد إلى عقيدة "الكلمة" المسيحية التي تعتبر المسيح قديما غير حادث لأنه كلمة الله (انظر الآية الأولى من إنجيل يوحنا). وربما كانت هذه العقيدة ـ أي اعتبار كلمة الله قديمة ومن ثم اعتبارها أقنوما ثانيا يضاف إلى الله ليكون به وبالروح القدس ومعهما عقيدة الثالوث ـ هي التي جعلت المعتزلة عند المسلمين يعتقدون أن كلام الله حادث لأنهم أرادوا تفادي ذلك في الإسلام.
[11] يلاحظ أن المسيح عليه السلام يقصد بقوله "ولكنكم عطلتم شريعة الله من أجل سنن الأقدمين" استبدال أحبار اليهود التوراة المكتوبة بالتوراة المنقولة تواتراً شفهياً بعد تدوينها، وهي المسماة "بالمشناة" والتي تكون متن التلمود الذي استبدل في القرون الوسطى التوراة المدونة أي الكتب موسى الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام استبدالاً تاماً، الأمر الذي أدي إلى انتقاد النصارى لليهود واتهامهم بأنهم عطلوا شريعة الله باستبدالها بأعمال أحبارهم (سنن الأقدمين). ولكن هذه التهمة لم تبق حكراً على النصارى لأنها امتدت إلى أوساط اليهود وتسببت في أكبر شرخ عرفته اليهودية في تاريخها. فلقد أصبحت التوراة في القرن الثاني الهجري نسياً منسياً لدى جمهور اليهود بسبب طغيان التلمود البابلي عليها، فأدى هذا الوضع إلى نشوء فرقة "القرائيين" لدى اليهود (نسبة إلى كثرة قراءة "المِقْرَأ" وهو كتاب العهد القديم). أسسس هذه الفرقة في بغداد عنان بن داود الذي ظهر زعيماً للفرقة أيام أبي جعفر المنصور المتوفى سنة 158 هجرية (775 ميلادية). وتركز نقد عنان لأحبار اليهودية في مسائل كثيرة أهمها على الإطلاق رفضه القاطع لكتاب التلمود (التلمودين البابلي والمقدسي) واعتباره إياه بدعة ابتدعها الأحبار ونسبوها إلى موسى عليه السلام وهو منها براء حسب تعبيره، ومطالبته بالعودة غير المشروطة إلى كتاب العهد القديم مصدر الديانة اليهودية الوحيد حسب قوله. ولقد أدت حركة القرائين اليهود التي أسسها عنان هذا إلى الاهتمام بأسفار العهد القديم، فقام المسوريون، وهم من علماء القرائين، بإدخال نظامَي الإعجام والإشكال في عبرية العهد القديم معتمدين في ضبط نطقه على الآرامية اليهودية، وهي الآرامية التي دُوِّنَ كثير من الأدب اليهودي بها، والتي كان اليهود يتكلمون بها قبل استعرابهم بداية العصر العباسي.
[12] سفر إشعياء، الإصحاح التاسع والعشرون، الآية الثالثة عشرة [نسخة الترجمة السبعينية]!
[13] يقصد بطليموس بإضافة الأحبار "كتاب المشناة" (> משנה) الذي يقول اليهود فيه إنه التوراة التي أنزلها الله على موسى في سيناء "على شفته" (על שפתו = عَلْ سفتاه)، بعكس التوراة التي أنزلها في الألواح وتم تدوينها (الكتب الخمسة). إذا: يعتقد اليهود بوجود تواراتين: واحدة نزلت مكتوبة، وأخرى ألقاها الله في فم موسى فرواها ليهوشع الذي رواها بدوره لأحبار اليهود الذين دونوها قبل ظهور المسيحية بحوالي قرن من الزمان. وتشكل هذه المشناة (ومعناها الحرفي: "الثانية" أي التوراة الثانية") متن التلمود.
[14] انظر إنجيل متى، الإصجاح الخامس، الآية السابعة عشرة: "لا تظنوا أني أتيت لأُحلَّ الناموس والأنبياء؛ إني لم آت لأحل لكن لأتمِّم".
[15] يسلم بطليموس بأن هذا الجزء الإلهي من شريعة موسى، الذي أتمه المسيح عليه السلام، من عند الله. وفي الوقت نفسه يقول بأنه ناقص أتى المسيح عليه السلام لإتمامه. وهذا هو النسخ بعينه!
[16] درج القديس بولص وتبعه في ذلك أوائل علماء النصرانية على تفسير جميع ما لم يرق لهم من الشرائع اليهودية تفسيرا روحانيا وذلك بعد إبطال العمل بها. وفي الحقيقة كانت رومة وأعمالها إبان ظهور المسيحية تعاني من فراغ روحي كبير، ولم يكن الرومان يحبذون الشرائع اليهودية الكثيرة المتعلقة بالمأكل وغيره التي تتسم بالتعقيد، فكانوا يريدون دينا يشبعهم من الناحية الروحية بدون تكليفهم بشرائع وسنن لا يستسيغونها ... من ثمة الاعتقاد السائد بأن المسيحية "على قد رغبات الرومان" كانت من وضع القديس بولص (من ثمن كلمة: Paulinism أي "الديانة البولصية" وذلك تمييزاً لها من المسيحية كما بشر بها المسيح عليه السلام). وقد أدى اكتشاف مخطوطات البحر الميت إلى اكتشاف الخطوط العريضة للديانة المسيحية كما بشر بها المسيح عليه السلام. وأحيل المهتمين بهذا الموضوع إلى قراءة الكتاب التالي: Robert Eisenman & Michael Wise, The Dead See Scrolls Uncovered. Element Book Ltd., Dorset, England, 1992.
[17] تكون هذه المقولة وغيرها أساس الجدل الديني بين النصارى واليهود لأنه يتعلق بمفهوم النسخ الذي يأخذ به علماء النصرانية ويعملونه في جدلهم مع اليهود (فقط).
[18] انظر سفر اللاويين/الأحبار، الإصحاح الرابع والعشرين، الآية العشرين: "الكسر بالكسر والعين بالعين والسن بالسن، كالعيب الذي يحدثه في الإنسان يُحدث فيه"!
[19] ربما كان مرد اعتقاده إلى كون المسيحية في عهده دينا مضطهدا لأن الشريعة السارية آنذاك كانت شريعة رومة. وقد تغير الاعتقاد بعدما حكمت الكنيسة وكانت تقيم الحدود! وقول بطليموس إن الذي يقيم الحد على القاتل بقتله قاتل بدوره قول فاسد لإن إقامة الحد على القاتل من صلب عقيدة الوحي. صحيح إن إحدى الوصايا العشر التي تقول "لا تقتل" دون تقديم شرح كاف لها غير واضحة، لأن الإنسان قد يقتل خطأ أو دفاعا عن النفس أو إقامة لحد (وذلك من صلاحية السلطان فقط). وإذا سلمنا بأن القصد من هذه الوصية القتل العمدي، فإن القتل العمدي أعلى درجات الظلم بعد الشرك بالله لأن الله هو الذي خلق النفس البشرية وأمرنا بعدم قتلها بدون حق. فالذي يقتل نفسا بشرية بدون حق إنما يعتدي عداء سافرا على حق الله وبالتالي يسستحق القتل على فعلته. وهذا القتل، أي إقامة الحد على القاتل بقتله، ضروري وإلا فسد العالم ومن فيه!
[20] راجع الحاشية السابقة.
[21] سفر الخروج، الإصحاح العشرون، الآية الثالثة عشرة.
[22] راجع الحاشية 19.
[23] أي العين بالعين والسن بالسن.
[24] سفر الخروج، الإصحاح الواحد والعشرون، الآية السابعة عشرة: "ومن لعن أباه أو أمه فليقتل قتلا".
[25] بطليموس، بصفته يونانيا، يحيل كل ما لا يعجبه من القوانين اليهودية إلى عالم الغيبيات، متبعا بذلك سنة بولص الذي هذب المسيحية لتنسجم مع رغبات اليونانيين والرومان الروحية.
[26] يحتفل اليهود والنصارى بالفصح بطريقة مغايرة. ولكل من الطائفتين تفسير مخصوص بالفصح.
[27] انظر رسالة القديس بولص إلى أهل رومية، الإصحاح الثاني، من الآية الخامسة والعشرين حتى نهاية الإصحاح، حيث يلغي القديس بولص جميع نواميس اليهودية ذات الصلة بالختان بتفسيرها باطنيا. (انظر الحاشية 16).
[28] يرى الكثير من الناس، قديما وحديثا، في تشبث اليهود ببعض الطقوس ذات الطابع الشكلي، أنها "طريقة للاختلاف عن الآخرين"، ومن تفسير ذلك بأنه استفزاز. ولذلك علاقة بالعقيدة المسيحية الرئيسية وهي أن مجيء المسيح نسخ عهدا (عهد الله مع اليهود باصطفائهم) وبدأ عهدا جديدا. من ثمة كان وجود اليهود وممارستهم طقوسهم في الأصقاع المسيحية يمثل شوكة في عين المسيحية. ولعل تفسير النصارى الأوربيين في العصور الوسطى لوجود اليهود بأنه استفزاز لاهوتي مزعج جدا للمسيحية، هو الذي عرضهم للملاحقة والتقتيل في العصور المسيحية الوسطى.
[29] انظر رسالة القديس بولص الأولى إلى أهل كورنتس، الإصحاح الخامس، من الآية السادسة حتى الآية الثامنة.
[30] انظر سفر الخروج، الإصحاح العشرين، الآية الثالثة عشرة فما بعدها.
[31] انظر إنجيل متى، الإصحاح الخامس، الآية الحادية والعشرين فما بعدها. ويقصد بطليموس بأن قول المسيح عليه السلام في إنجيل متى أشمل من نصوص الوصايا العشر لأن أقواله في إنجيل متى جدل مع تلك الوصايا قصد إبطالها.
[32] إنجيل متى، الإصحاح الخامس، الآية التاسعة والثلاثون.
[33] يقصد بطليموس: لا تفيد الطقوس اليهودية، بصفتها رموزا ترمز إلى الحقيقة، شيئا مع وجود الحقيقة (ويقصد بها المسيح عليه السلام) ذاتها! فالطقوس، برأيه، رموز تشير إلى الحقيقة. فإذا ظهرت الحقيقة، انتفت الحاجة إلى وجود ما يشير إليها!
[34] انظر رسالة القديس بولص إلى أهل أفسس، الإصحاح الثاني، الآية الخامسة عشرة.
[35] انظر رسالة القديس بولص إلى أهل رومية، الإصحاح السابع، الآية الثانية عشرة.
[36] وأما لفظ الجلالة في الإسلام (الله) فأصله: الإله. وحذفت الهمزة وفخمت اللام في اللفظ للتوكيد الشديد على تفرد اللفظ في الدلالة على الإله المعبود بحق تمييزاً للفظ عن غيره من الأسماء التي تطلق على الأوثان. وعليه فإني أميل إلى الاعتقاد ـ والله أعلم ـ أن لفظ الجلالة لم يكن علماً في الأصل بل أصبح علماً للدلالة على الإله المعبود بحق وهو الاسم الذي يستعمله المسلمون والمسيحيون العرب واليهود المستعربون للدلالة على الإله المعبود بحق عندهم.
[37] ومنه /أويل/ في الأكادية وهو "الرجل" و"السيد" وكذلك /أَوَّل/ في العربية.
[38] لخص المستشرق الألماني نولدكة كل الآراء المتعلقة باشتقاق /إل/ و/إله/ في كتيبه Neue Beiträge zur semitischen Sprachwissenschaft. Straßburg, 1910 "بحث جديد في علم اللغات السامية".
[39] أوتي = إياي. إن الحرف את أداة نصب في العبرية ترد قبل المفعول به، وتجانس في العربية أداة النصب (أو ضمير النصب) "إي" في "إيّاك نعبد وإياك نستعين الآية"، مع فارق أنها لا تأتي في العربية إلا مع ضمائر النصب التي تكون بدلاً من الاسم المنصوب لتوكيده، بينما تستعمل في العبرية مع الضمائر: (א(ו)תנו = إيانا)، ومع الاسم المفعول به كما نقرأ في الآية الأولى من سفر التكوين: (בראשית ברא אלהים את־השמים ואת־הארץ: بِرِشِيت بَرَأ إِلُوهِيم إِتْ هاشَّمايْم وِإِتْ هاإِرِصْ "في البدء /خلقَ اللهُ السماوات والأرض"). فالمفعولان بهما (هاشمايم "السماوات" وهاأرص "الأرض") مسبوقان بأداة النصب את.
[40] هِتْعوا أوتي إلُوهِيم: "أتاهوا إيايَ/أتاهوني الآلهة" على لغة "أكلوني البراغيث" لأنها كانت ولا تزال القاعدة في اللغات السامية. وكانت العربية عطلتها لالتقاء الفاعِلَيْن، وهو تطور لغوي مخصوص بالعربية دون سائر الساميات.
[41] جاء في ترجمة فاندايك العربية: "قَدِّمُوا لِلرَّبِّ يَا أَبْنَاءَ اللهِ، قَدِّمُوا لِلرَّبِّ مَجْدًا وَعِزًّا" وهذه ترجمة بتصرف لغاية في نفس فاندياك لأن בְּנֵי אֵלִים = بْْنِي إِيلِيم تعني ببساطة مطلقة "أبناء الآلهة" وليس "أبناء الله". ولو كانت تعني "أبناء الله" لقال صاحب المزمور: בְּנֵי אֱלהִים = بْنِي إلوهيم، الذي يترجم باضطراد على أنه الله، أما בְּנֵי אֵלִים = بْْنِي إِيلِيم فلا تخريج لها إلا بـ "أبناء الآلهة"!
[42] انظر إنجيل متى، الإصحاح التاع عشر، الآية السادسة فما بعدها: 6إِذًا لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَالَّذِي جَمَعَهُ اللهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ». 7قَالُوا لَهُ:«فَلِمَاذَا أَوْصَى مُوسَى أَنْ يُعْطَى كِتَابُ طَلاَق فَتُطَلَّقُ؟» 8قَالَ لَهُمْ: «إِنَّ مُوسَى مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا نِسَاءَكُمْ. وَلكِنْ مِنَ الْبَدْءِ لَمْ يَكُنْ هكَذَا».[/align]
صرف المعلِّم والفيلسوف المسيحي العظيم فالنتينوس (حوالى 100-175 م) سنوات تأهيله في الإسكندرية، حيث اتصل أغلب الظن بباسيليدس. وقد غادر بعد ذلك إلى روما، حيث باشر سيرتَه في التعليم العام، الذي كان من النجاح بحيث أُتيحَتْ له فرصةٌ جدية لانتخابه أسقفًا لروما. على أنه خسر الانتخابات، وخسرت الغنوصيةُ بذلك فرصةً أن تصير مرادفة للمسيحية، وبالتالي دينًا عالميًّا. لكن هذا لا يعني أن فالنتينوس فشل في التأثير على تطور اللاهوت المسيحي – إذ إنه أثَّر قطعًا، كما سنرى أدناه. فعِبْرَ فالنتينوس، ربما أكثر من أيِّ مفكر مسيحيٍّ آخر معاصرٍ له، صار للفلسفة الأفلاطونية، والأناقة البلاغية، ولمعرفة تأويلية عميقة بالكتاب المقدس، أن تتسلل معًا إلى عالَم اللاهوت المسيحي. وقد بقي إنجاز فالنتينوس بلا نظير مدة حوالى قرن، حتى ظهور أوريجينس الذي لا يضاهى على الساحة. ومع ذلك، قد لا يجانب الصوابَ قولُنا بأن أوريجينس ما كان لـ"يحدث" لولا المثال الذي ضربه فالنتينوس.
لم تبدأ كوسمولوجيا فالنتينوس بوحدة، بل بثنوية أولية – زوجين – عبارة عن كيانين يُدعيان "اللاموصوف" و"الصمت". ومن هذين الكائنين الأصليين ولد زوجان ثانيان: "الوالد" و"الحقيقة". وعن هذه الكينونات تتولد أخيرًا رباعيةٌ هي "الكلمة" logos و"الحياة" zōē و"الإنسان" anthropos و"الكنيسة" ekklēsia. ويشير فالنتينوس إلى هذا الفريق الإلهي بـ"الثُمانية الأولى" (إيريناوس، 1.11.1)؛ وهذه الثُمانية تمخَّضت عن كائنات أخرى عديدة، منها واحد تمرَّد أو "عصى"، كما يخبرنا إيريناوس، وبذلك أطلق الدراما الإلهي الذي أنتج الكوسموس في المآل. وبحسب إيريناوس، الذي كَتَبَ بعد موت فالنتينوس بخمس سنوات فقط، والذي في رسالته ضد الزندقات حفظ الخطوطَ العريضة لكوسمولوجيا فالنتينوس، فإن الكيان المسؤول عن مباشرة الدراما يُشار إليه بوصفه "الأم"، التي ربما المقصود منها هي صوفيا (الحكمة)؛ ومن هذه "الأم" نشأ كلٌّ من الهيولى المادية hulē والمخلِّص، "المسيح". وقد وُصِفَ عالمُ المادة كـ"ظل"، مولود من "الأم"، باعَد المسيحُ بين نفسه وبينه و"سارع صاعدًا إلى الملأ" (إيريناوس، 1.11.1؛ قارن: بويماندرس، 5). وعند هذه النقطة قامت "الأم" بولادة "طفل" آخر، "الباري" dēmiourgos المسؤول عن خلق الكوسموس. وفي الرواية التي حفظها إيريناوس، لا يَرِدُ شيءٌ عن أيِّ دراما كوني تقع وفقه "الشراراتُ الإلهية" في شراك أجسام من لحم من خلال خطط الديميورغوس. إلا أنه يُفترَض أن فالنتينوس شَرَحَ أنثروبولوجيا شبيهة بأنثروبولوجيا أسطورة صوفيا الكلاسيكية (كما وردتْ، مثلاً، في كتاب يوحنا المنحول؛ راجع أيضًا: أقانيم الرؤساء ورؤيا آدم)، ولاسيما أن مدرسته، كما مثَّل لها تمثيلاً بالغ الأهمية تلميذُه اللامع بطليموس (انظر أدناه)، آلت إلى بَسْطِ أسطورة أنثروبولوجية غاية في التعقيد، لا بدَّ أنها تفرَّعتْ عن النموذج الأبسط الذي قدَّمه فالنتينوس نفسه. وتنتهي الرواية التي حفظها إيريناوس بوصفٍ لعقيدة مشوشة نوعًا ما عن مسيح سماويٍّ وأرضي، وبمقطع وجيز عن دور الروح القدس (إيريناوس، 1.11.1)، منه يخرج المرءُ بفكرة أن فالنتينوس كان يراود عقيدة بدائية للثالوث. وبالفعل، فبحسب لاهوتيِّ القرن الرابع ماركيلوس الأنقري، كان فالنتينوس "أول مَن استنبط مفهوم ثلاثة كيانات (أقانيم) في كتابه في الطبائع الثلاث" (فالنتينوس، مقطع ب، ليتون). كان فالنتينوس قطعًا هو المسيحي الأصرح بين الفلاسفة الغنوصيين في زمانه.
لقد رأينا كيف تخلَّل فكرَ باسيليدس ميلٌ رواقي، وكيف شعر مرقيون بالحاجة إلى تجاوُز الكتاب المقدس ليطرح إلهًا فاديًا "غريبًا". أما فالنتينوس، من ناحية أخرى، فيبدو أنه اطَّلع، كما يتبيَّن من آرائه، على الكتب والتفاسير اليهودية والمسيحية بالدرجة الأولى، وبالدرجة الثانية على الفلسفة "الوثنية"، وبخاصة الأفلاطونية. ويظهر هذا كأشد ما يكون في روايته الخاصة للمفهوم الثيولوجي المألوف عن "الاصطفاء" أو "التقدير المسبَّق"، الذي يَرِدُ فيه (على غرار بولس في الرسالة إلى الرومانيين 8: 29) أن الله اصطفى أفرادًا معينين، قبل بدء الأزمنة، للخلاص. وقد كَتَبَ فالنتينوس في نصٍّ يبدو وكأنه بقية من موعظة (فالنتينوس، مقطع و):
منذ البدء، وأنتم ["المصطفَوْن" أو المسيحيون الغنوصيون] خالدون، وأنتم أبناء الحياة الأبدية. تنشدون رَصْدَ الموت لأنفسكم بحيث يمكن لكم أن تنفقوه وتستنفدوه، وبحيث يموت الموتُ فيكم ومن خلالكم. إذ عندما تُعدِمون العالم من غير أن تفنوا أنتم، فأنتم السادة على الخلق وعلى كلِّ فساد.
هذا يبدو وكأنه ردُّ فالنتينوس على معضلة ديمومة الخلاص: بما أن صوفيا أو "الأم" الإلهية – وهي فَرْدٌ من الملأ الأعلى – قد سقطت في الضلال، كيف يمكن لنا التأكد من أننا لن نقترف الغلط نفسه أو غلطًا مماثلاً بعد أن نبلغ الامتلاء؟ فبإعلانه أن دورَ "المصطفى" (أو المسيحي الغنوصي) ومهمَّتَه هي استنفاد الموت و"إعدام" العالم، يوضح فالنتينوس موقفه الذي مفاده أن تلك النفوس المختارة نفوس مشارِكة في خلاص العالم، إلى جانب المسيح، الذي كان أول مَن حمل الخطيئة والفساد المتأصِّلين في العالم المادي (راجع: إيريناوس، 1.11.1؛ وليتون، ص 240). لذا، بما أن "أجرة الخطيئة هي الموت" (الرسالة إلى الرومانيين 6: 23)، فإن أيَّ كائن قادرٍ على تحطيم الموت لا بدَّ أن يكون معصومًا من الخطيئة. ففي نظر فالنتينوس، إذن، أن الفرد المقدَّر له أن يخلص مقدَّر له أيضًا نوعٌ من الخلافة الإلهية تتضمن دورًا فاعلاً في التاريخ، وليس مجرد راحة مع الله، أو حتى حياة غبطة من الخلق المحب، كما ذهب باسيليدس. طالب فالنتينوس مستمعيه – على غرار بولس – بالاعتراف بمخلوقيَّتهم؛ إلا أنهم – خلافًا لبولس – اعترفوا بخالقهم بوصفه "الوالد اللاموصوف"، وليس كإله الكتب المقدسة اليهودية. وبعد فالنتينوس، أضحت مهمةُ التأويل المسيحي إثباتَ الاستمرارية بين العهدين القديم والجديد. وفي هذا الصدد، كما وفي الروحانية العامة لتعاليمه – ناهيك عن عقيدته البدائية في التثليث – كان لفالنتينوس وَقْعٌ لا يُجارى على تطور المسيحية.
د. منظومة بطليموس
وصف إيريناوس بطليموس Ptolemaeus (حوالى 140 م) بـ"بزهرة مدرسة فالنتينوس" (ليتون، ص 276). لكننا لا نعرف شيئًا يُذكَر عن حياة بطليموس ما عدا الكتابين اللذين وصلانا: الأسطورة الفالنتينية الفلسفية المفصَّلة التي حفظها إيريناوس، والرسالة إلى فلورا، من وضع فالنتينوس، التي حفظها القديس أبيفانيوس حرفيًّا. نقع في الكتاب الأول على منظومة فالنتينوس، مفصَّلة تفصيلاً كبيرًا على يد بطليموس، التي تحتوي على أسطورة أنثروبولوجية مركَّبة تتمركز حول آلام صوفيا. كما نقع أيضًا، في كلٍّ من الأسطورة والرسالة، على محاولة بطليموس للتوفيق بين الكتب اليهودية وبين تعاليم الغنوصية والتأويل المجازي للعهد الجديد، في صورة غير مسبوقة بين الغنوصيين قبلئذٍ.
في النظام البطليموسي يَرِدُ في صراحة أن سبب سقوط صوفيا هو رغبتها في معرفة الآب الفائق الوصف. وبما أن سبب توليد الآب للأيونات (الذين صوفيا آخرهم) كان "رفعهم جميعًا إلى مرتبة الفكر" (إيريناوس، 1.2.1)، لم يكن مسموحًا لأيٍّ من الأيونات أن يبلغ معرفة تامة بالآب. لقد كانت الغاية من الملأ الأعلى أن يوجد كتعبير حيٍّ، جمعيٍّ، عن السعة العقلية للآب؛ فإذا قُيِّضَ لأيِّ كائن مفرد ضمن الملأ الأعلى أن يصل إلى الآب لتوقفت الحياة برمَّتها. تقوم هذه الفكرة على موقف إيجابي بالدرجة الأولى تجاه الكون، بمعنى أن الوجود، مفهومًا ككفاح، ليس من أجل نهاية مستكينة، بل من أجل مستوى متزايد أبدًا من البصيرة الخلاقة أو "التكوينية". والهدف، من هذه الوجهة، هو الإبداع من خلال الحكمة، وليس مجرد الوصول إليها كـغرض أو كغاية في حدِّ ذاتها. ومثل هذا الوجود لا يتَّسم بالرغبة في غرض ما، بل بالحري في القدرة على الإمعان في الانخراط الخلاق والتكويني مع "الظرف" (= الوضعية المعيَّنة أو الميدان الفردي) الخاص بالمرء. عندما رغبتْ صوفيا في معرفة الآب، فإن ما كانت ترغب فيه إذ ذاك، في المقام الأول، هو تلاشيها لصالح فنائها الخاص فيما جعل وجودها ممكنًا في الأصل. وهذا يعادل رفض هبة الآب، بمعنى هبة الوجود والحياة الفرديين. لهذا السبب لم يُسمَح لصوفيا بمعرفة الآب، بل رُدَّتْ إلى "الحد" horos الفاصل بين الملأ الأعلى وبين "السعة اللاموصوفة" للآب (إيريناوس، 1.2.1).
أما ما تبقَّى من رواية بطليموس فيتعلق بإنتاج الكوسموس المادي اعتبارًا من "آلام" صوفيا المُأقْنَمَة وفاعلية المخلِّص (يسوع المسيح) في ترتيب هذه الآلام الشواشية أصلاً في تراتبية منتظمة من الموجودات (إيريناوس، 5.4.1 وما بعدها، وقارن: الرسالة إلى القولوسيين 1: 16). إن ثلاثة صفوف من الكائنات البشرية تنوجد من خلال هذا الترتيب: "المادي" hulikos و"النفساني" psukhikos و"الروحاني" pneumatikos. البشر "الماديون" هم أولئك الذين لم يبلغوا الحياة العقلية، وبالتالي لا يعقدون آمالهم إلا على ما هو هالك – ولا أمل في الخلاص لهؤلاء. "النفسانيون" هم أولئك الذين ليس لديهم إلا تصور نصف متشكِّل عن الإله الحقيقي، وعليهم، بالتالي، أن يحيوا حياة منذورةً للأعمال المقدسة والثبات على الإيمان؛ وبحسب بطليموس، هؤلاء هم المسيحيون "العاديون". وأخيرًا، هناك البشر "الروحانيون"، الغنوصيون، الذين لا يحتاجون إلى الإيمان لأنهم على معرفة فعلية (غنوص) بالحقيقة العقلية، وبذلك هم ناجون بالطبيعة (إيريناوس، 2.6.1، 4.6.1).
يقوم المفهوم الفالنتيني البطليموسي للخلاص على فكرة أن الكوسموس هو التجلِّي العياني أو الأقْنَمَة لرغبة صوفيا في معرفة الآب و"الآلام" التي نجمتْ عن فشلها. إن تاريخ الخلاص للكائنات البشرية له، إذن، صفة التجلِّي الخارجي للسيرورة المثلَّثة لافتداء صوفيا نفسها: الاعتراف بآلامها؛ "رجوعها" epistrophē تاليًا؛ وأخيرًا، فعل توليدها الروحي، الذي انبثقتْ منه الإنسانيةُ الغنوصية (راجع: إيريناوس، 1.5.1). الخلاص، إذن، في شكله النهائي، يجب أن يتضمن نوعًا من الخلق الروحي من قِبَل الغنوصيين الذين يبلغون الملأ الأعلى. غير أن على البشر "النفسانيين"، المكوَّنين جزئيًّا من مادة قابلة للفساد وجزئيًّا من ماهية روحية، أن يظلوا مكتفين بوجود بسيط مريح مع "صانع" الكوسموس، بما أنه لا يمكن لعنصر ماديٍّ أن يدخل الملأ الأعلى (إيريناوس، 1.7.1).
في رسالته إلى فلورا (في أبيفانيوس، 1.3.33-10.7.33)، التي هي محاولة لهداية امرأة مسيحية "عادية" إلى مذهبه المسيحي الفالنتيني، صاغ بطليموس صياغة واضحة مذهبَه في العلاقة بين إله الكتب المقدسة العبرية، الذي هو "عَدْل" وحسب، وبين الآب اللاموصوف، الذي هو الخير الأسمى. وعوضًا عن مجرَّد إعلان أن هذين الإلهين غير متَّصلين، كما فعل مرقيون، بَسَطَ بطليموس قراءة مركَّبة، مجازية، للكتب المقدسة اليهودية فيما يتصل بالعهد الجديد بغية ترسيخ سلالة تربط الملأ الأعلى، صوفيا و"آلامها"، الديميورغوس، والنشاط الخلاصي ليسوع المسيح بعضها ببعض. إن مدى عمل بطليموس ودقَّته، والأثر الذي خلَّفه على المسيحية الأرثوذكسية الناشئة، يؤهِّله لكي يكون واحدًا من أهم اللاهوتيين المسيحيين الأوائل، الأرثوذكسيين الروَّاد منهم و"الزنادقة".
تعليق