الكتابة والحديث بها تعود إلى أكثر من 4500 سنة
(الحلقة الأخيرة) حقائق جديدة مدهشة ...أين توارت اللغة الكوردية كل هذه السنين ؟
أنقرة- خاص الكردية نيوز- من الباحث محمد روني المراني
يقدم الباحث في الدراسات الشرقية محمد روني المراني في هذه المقالة خلاصة بحثه المدهش عن اللغة الكوردية والتي أثبت فيه أنها لغة حية موجودة قبل الاسلام ومتقدمة على لغات أعرق الشعوب كاليونانيين والمصريين وكشف عن الأحرف المستخدمة منذ آلاف السنسن وفقا لما جاءت في كتاب "شوق المستهام" لابن وحشية.
بقلم محمد روني المراني
بقدر ما كشفت المقالات الماضية المستندة إلى كتاب ابن وحشية التاريخي والذي يعد وثيقة من أروع وثائق التاريخ الإنساني وحضاراته الممتدة بقدر ما أثارت الكثير من التساؤلات، وقلبت بعض الآراء السائدة رأساً على عقب كما ذكرنا حول اكتشافه لرموز الهيروغلوفية قبل شامبليون، وكذلك الأمر بكل ما يرد في الكتاب لو تناوله المحققون بالبحث والتحليل مثل الحديث عن قلم آدم عليه السلام! وغير ذلك من المواضيع، بقدر ما أثار تساؤلات لا تنتهي .
ولما كنا نتناول ما يخص التاريخ والكتابة الكردية فسنقتصر في الحديث عن هذا الموضوع وأتمنى أن أجد يوماً من يتناول هذا الكتاب كله بالبحث والتفصيل.
خلصنا في المقالات السابقة اعتماداً على ما ورد في كتاب " شوق المستهام" من إشارات إلى أن اللغة الكردية من أقدم اللغات الحية المستمرة إلى الآن، وأن الكتابة بها ربما تكون سابقة زمنياً على الكتابة المصرية الفرعونية وكذلك على الكتابة اليونانية، وبهذا يمتد عمر الكتابة والحديث بهذه اللغة إلى أكثر من خمسة وأربعين قرناً أي أكثر من (4500) سنة، ثم إنها لم تكن مجرد لغة محكية أو حتى مكتوبة فحسب، بل إنها كانت كذلك لغة علم منتشرة في المنطقة على الأقل في الشرق الأوسط بين كردستان وبغداد والشام حتى نهاية القرن الثالث الهجري/ العاشر الميلادي حيث كان هناك العشرات من الكتب والمخطوطات العلمية المكتوبة بهذه اللغة وقد ترجم بعضها للعربية لتساهم اللغة الكردية في رفد الحضارة العربية الإسلامية والتي كان لها دور بارز في مسيرة الحضارة الإنسانية العالمية.
ونستطيع أن نضيف هنا أدلة أخرى على قدم اللغة الكردية دون اللجوء هذه المرة إلى كتاب ابن وحشية إلا مرة واحدة ستأتي بعد قليل.
- الناظر للغة الكردية ينبهر بالكلمات العلمية الموجودة في اللغة الكردية وربما هي من الكلمات التي أفلتت من تلك الحقبة فكلمات علمية مجردة مثل: قرأ ودرس وألف وحفظ وكلمات مثل الاقتصاد والعلم موجودة بجذورها الأصلية وليست مشتقة من جذور معاني أخرى كما هو حال الكثير من اللغات العريقة اليوم وحتى في العربية لا توجد كلمات مجردة تدل على هذه المعاني وإنما ربما ستتفاجأ إذا علمت أن كلمة "دَرَسَ" مثلاً من درْس القمح أي أن القارئ يجول ذهاباً وإياباً على القراءة حتى يدرسه كالقمح، وأن كلمة "حَفِظَ" من الصيانة، ولولا خشية الإطالة لأكثرت من الأمثلة من العربية وغيرها من اللغات أيضاً.
- هناك أبجدية موغلة في القدم ومغرقة في السرية حتى اليوم تسمى بـ "أبجدية الأشجار الكاملة" وهي ذات اثنين وعشرين حرفاً، تعتمد على أسماء الأشجار ورسومها في الكتابة، هذه الأبجدية تسمى أيضاً بالأبجدية (الدرويدية drudic) فحرف الدال مثلاً ينطق فيها "ديوري" وهذه الكلمة تعني في اللغة التي وضعت الأبجدية لها الشجرة، وتعني شجرة سنديان أيضاً، كما أنها تعني الباب والجدار؛ لذلك اختاروا لحرف الدال صورة شجرة سنديان تشبه الباب والجدار، أي يجمعون أكبر عدد ممكن تبدأ بالحرف المطلوب ثم يصورون الحرف على شكل شجرةٍ مشابهةٍ لهذه المعاني(1) ، والآن أليست معنى الشجرة في الكردية (dar) والباب في الكردية (deri) والجدار في الكردية (diwar)!! هل تلاحظون مشابهة المعاني الواردة في هذه الأبجدية بالكردية إلى حدٍ قريب من التطابق، لقد حاولت أن أعرف عن هذه الأبجدية أكثر ولم أفلح بالعثور على الكثير من المعلومات في الموسوعات والمراجع التي بين يدي.
من المعروف أن الرسومات القديمة للحيوانات في الكهوف التي تعود إلى أكثر من عشرين ألف سنة تدل على رموزٍ تعني راسميها ولو أخذنا مثلاً رسوم الثور فهي كانت تدل على الجنس والخصوبة الجنسية، وإذا جئنا نتأمل معنى كلمة الثور في الكردية فإنها تعني (ga) هذه الكلمة في الكردية في الوقت عينه تدل على الفعل الجنسي!!
أليست هذه الأمثلة تدل على جذور عميقة تعود لآلاف السنين للغة الكردية، هذه اللغة التي تنتظر أبنائها العاقين لكشف تاريخها وأسرارها، وأنا أقول عنهم أنهم أبناء عاقّون ولا استثني نفسي، فلو كتبت هذه المقالة بلغتي الكردية لاستغرقت ثلاثة أضعاف الوقت الذي قضيته في الكتابة بالعربية أو حتى بغيرها، وكذلك ما كانت لتصل إلا لحوالي عُشر الذين سيقرأونها من الكرد لو كتبتها بالكردية ومع الأسف.
نعود -للاستئناس فقط- وللمرة الأخيرة إلى كتاب ابن وحشية ففي كتابه "شوق المستهام" (طبعة دار الفكر. ص: 203- 204) : "وإنما كانت براعة الأكراد الأول في صناعة الفلاحة وخواص النبات ويدعون أنهم من أولاد بينوشاد، وقد وصل إليهم سفر الفلاحة لآدم عليه السلام ..."
ذكرتني هذه الجملة قبل سنوات برجلٍ اتصل بقناة (me tv) الكردية، ولما سألته المذيعة عن اسمه أجاب: اسمي "إبراهام" ابتسمت المذيعة وهي تقول له: ومن أين يا إبراهيم؟ أجابها بصلافة الكردي وبكردية فصيحة: أنا إبراهام ولست إبراهيم وأتكلم معك من إسرائيل؟!! هنا ارتبكت المذيعة وكان واضحاً أنها تستنجد بالمخرج من خلال حركات عيونها.
ولكن إبراهام الكردي من إسرائيل أكمل قائلاً: وأنا حاخام وقد قمت بترجمة التوراة للكردية!
إلى هنا كان الأمر يبدو وكأنه دعابة، لكنه كان يتحدث بثقة وبطريقة علمية عن نزول آدم عليه السلام إلى الأرض، مضيفاً أنه أثبت أن لغة آدم كانت هي الكردية، فاسمعيني أكمل، لكن المذيعة - مع الأسف ربما خضوعاً لسياسات الجهة التي تنتمي إليها القناة ونتيجة انحيازها ضد الامبريالية لم تسمعه ولم تدعه يكمل –- قائلة: لو أردت أن تحكي لنا قصة الخليقة فهذا أمر طويل ولن ينتهي للغد، ثم انقطعت المكالمة .
أنا لا أدري إلى الآن إن كان هذا الأمر جاداً أم لا، لكن تحمسه الشديد والحديث الذي كان يطلقه بموضوعية وثقة جعلتني أحاول البحث عنه إلى الآن، وأتمنى أن أعرف عنه وأستفيد منه في هذا المجال، ولا أعتقد أن في هذا غضاضة فهذا علم ولا مَعابة فيه، فقد كان الدكتور المصري حسن ظاظا (وهو من أصل كرديٍ أيضاً) أفضل من كتب عن اليهود واليهودية والصهيونية بالعربية ولم يقدح في شأنه أنه تلقى العلم ودرس على عدد كبير من الحاخامات اليهود حتى في إسرائيل.
هذه الحادثة المؤسفة تزيدني يقيناً بعقوق أبناء هذه اللغة لأمهم العظيمة، وربما لأن شدة القرب حجاب، وكذلك تجيب على بعض التساؤلات التي تثيرها هذه المقالات، ومن هذه التساؤلات المشروعة:
طالما كانت للكردية هذه الميزات والعراقة وربما الأسبقية، فأين ذهبت كل تلك المخطوطات؟! ولماذا استفقنا على عصرٍ كنا نتمنى أن نرى كتاباً بالكردية؟!!
صحيح أن هناك عوامل خارجية كثيرة سنذكرها لكن العامل الداخلي هو الأهم وهو السبب الأكبر في إضعاف هذه اللغة، وقد ذكرت قبل قليل ما جرى في مقابلة مي تي في، وسأضيف أمثلة أخرى.
أتذكر حين كان أستاذ اللغة الكردية يعاني الأمرّين والثلاثة وهو يحاول تعليمنا لغتنا في الوطن ويكابد من أجل ذلك من كل النواحي الاقتصادية والمعيشية والأمنية السياسية وضيق ذات اليد والمكان وتأمين المصادر بتصويرها لنا رغم الحظر، ورغم كل ذلك كنا نبدأ عشرة طلاب لننتهي بواحد أو بدون طلاب حتى.
هنا في تركيا ومنذ سنوات يوجد معهد كردي بإستانبول يدّرس اللغة الكردية وآدابها بأسعار رمزية جداً، ورغم وجود بضعة ملايين كردي يعيشون في إستانبول، الكثير منهم مثقفون ذو شهادات عليا أو طلاب، ومع ذلك فإن أعداد الطلبة يمكن عدهم بالعشرات فقط.
لكن الأدهى من ذلك أنه يدور حديث عند المهتمين باللغة الكردية بتركيا أن قرابة 11 مليون كردي بتركيا قد نسوا لغتهم الأصلية، وهناك عدد يدور حول المليون أو أقل بقليل أو أكثر بكثير في عواصم البلدان التي تحكم كردستان كالعراق وإيران وسوريا، وكذلك عشرات الآلاف في المدن غير الكردية في تلك البلدان أيضاً نسوا لغتهم الكردية بشكل كامل.
وليست السياسة هي السبب الوحيد لهذا الإهمال فهذا هو الحال أيضاً عند كرد المهجر، يذكر "د. محمد زينو" معاناته بهذه الصدد بذكر أمثلة مأساوية حيث يقول: أن دولاً أوربية عديدة قدمت تسهيلات كبيرة لأولاد الكرد حيث قدمت حكومات الولايات الألمانية إمكانيات مادية ضخمة للكرد كي يتابعوا تعليمهم بالكردية، فعينت مدرّسين كرد، وأعفت العائلة الكردية من التكاليف، ورغم اعتراضات القنصلية التركية اعتُبرت اللغة الكردية مادةً مدرسيةً رسميةً كغيرها من اللغات الأجنبية في مدارس بعض الولايات التي يكثر فيها الكرد، ولكن في النهاية لم يسجل سوى العشرات من آلاف العائلات الكردية أطفالهم، وفضل الكثير منهم المدرسة التركية أو العربية على الكردية!(2)
لذلك لم يكن اعتباطاً المثل الكردي السائر " لا تموت الشجرة إذا لم يكن دائها منها" ولكن رغم ذلك لم تمت اللغة الكردية وبقيت حية صامدة رغم أن "شرف خان البدليسي" ومنذ قرون ألف كتابه عن التاريخ الكردي "الشرفنامة" بالفارسية! وألف أحد علماء دياربكر باسم والي دياربكر منذ أكثر من قرن "الهدية الحميدية في اللغة الكردية" بالعربية!! وحتى "جلادت بدرخان" وهو الذي وضع وأسّس للأبجدية الكردية اللاتينية حين ألف "قواعد الكرمانجية" ألفه بالفرنسية!!! فلم يكن غريباً أن يكون أكبر قاموس كردي إنجليزي اليوم من تأليف الأمريكي اليهودي: "مايكل تشايات" طالما أن أبناءها عازفون عنها، وإذا كتبوا عنها كتبوا بغير لغتها!
وإذا التفتنا إلى حلقات التعليم بالمساجد الكردية ومدارسها القديمة نجد أنها وإن كانت لها دور في الحفاظ على اللغة الكردية حيث كانت كل المواد تدرس بالكردية حتى المواد العلمية كمبادئ الرياضيات والمنطق والفلسفة وعلوم الفلك لكنهم كانوا يتحاشون ويتجنبون تدريس الكردية كلغة مع أنه كان من مقرراتهم اللغة الفارسية كلغة أجنبية، فحفظوا الكردية كلغة علم من جانب ولكنهم في الوقت نفسه ساهموا بخمودها، وكان جل عذابهم في تعليم العربية ومعرفة قواعدها وباعتباري مطلعاً ودرَست في بعض هذه المدارس ومختص باللغة العربية لا أبالغ إذا قلت أن الذين يدرسون في حلقات التعليم الباقية لليوم رغم تراجعها الكبير لا يوجد من يوازيهم بقواعد النحو والصرف والبلاغة وحتى العروض والشعر في العالم كله ولا أستثني العالم العربي، ولكن كل ذلك في اللغة العربية مع أنه ربما لا يستطيع أن يفرق بين فعلين بالكردية، ولا يحسن الحديث بالعربية.
وفي هذا المقام نقول أخيراً أنني استغربت جداً أن يتحدث بعض أساتذة التاريخ الكرد وفي جامعة كردية بإقليم كردستان عن تشكيكٍ بكتاب "ابن وحشية، شوق المستهام" كما راسلني بعض طلبتها بهذا الشأن، وقد ذكروا لي أن هذا الأستاذ قد نشر مقالاً منذ سنوات يشكك فيه بهذا الكتاب وبوجوده الفعلي أصلاً ، وقلت ربما كان معذوراً فلم تكن قد اكتُشفت نسخة طهران بعد، كما أن نسخة هامر المطبوعة في متحف لندن لم يكن يسمح حتى بالاطلاع عليها فضلاً عن تصويرها، وكذلك كانت نسخة باريس غير أنها كانت تسمح بالاطلاع على صورتها، ولا أعرف عن النسخة المحفوظة بألمانيا الكثير إلى الآن، وإن كنت سمعت بوجود نسخة خامسة للمخطوط، ولكن صديقي أكَّد لي أن الأستاذ لا يزال مصراً على رأيه (كردي يا أخي)، ولم أشأ أن أرد على هذا التشكيك حتى أحصل على نص المقال لأعرف عباراته بالضبط.
هذا عن العوامل الداخلية الماضية والحاضرة فماذا عن العوامل الخارجية.
لا نبرئ العوامل الخارجية أيضاً فقد بدأ عصر الطباعة في المنطقة حين كانت الكلمة الكردية بل مجرد الحديث بالكردية ممنوعة وتعتبر جريمة يعاقب عليها القانون (..) في الكثير من البلدان، وكانت الطامة أن النسبة الكبرى من المخطوطات موجودة بهذه البلدان (تركيا وإيران وسوريا والعراق) وقد كانت هذه المخطوطات حتى وقت قريب ممنوعة من المطالعة أيضاً، لذلك فالكتب الكردية الموجودة هناك تصنف على أنها فارسية أو عثمانية، كما أن الكثير من مخطوطات المنطقة الموجودة في أوربا وأمريكا لم تمسها يد التصنيف بعد.
والكثير الكثير من هذه المخطوطات التي كانت موجودة في البيوت أحرقت أو أتلفت تماماً أمام ناظري أصحابها، وإن كانت رواية "دلشاد" لسليم بركات تتناول هذا الموضوع بما يشبه الخيال، فقد حدثني أحد أشراف عشيرة (الكويان) الكردية المتواجدة بين منطقتي (الجزيرة ووان) من الواقع، فقد كان أحد أعمامه ويدعى "ملا محمد أمين الكوياني" قاضياً لإستانبول في أواخر العهد العثماني كما كان خطيباً لجامع "آياصوفيا" أكبر جامع بتركيا، ولما نفي في أواخر العهد العثماني لبلدته نقل معه كتبه التي كانت تتجاوز (4000) مجلد معظمه مخطوط، ثم وفي العهد الكمالي وبالتحديد سنة (1948) قررت الشرطة أن تحرق مكتبته أمام ناظريه!! حتى أنه عرض عليهم إحراقه هو حياً بشرط أن تسلم المكتبة، ولكنهم أبوا، فأصيب بشلل تام أماته بعد أربع وعشرين ساعة على الحادث، ترى كم كتاباً كردياً كان يمكننا أن نجد في هذه المكتبة الخاصة التي لا تملك الكثير من الدول هذه الكمية من المخطوطات في مكتباتها الوطنية، وبخاصة إذا علمنا أنه نفي بسبب انضمامه للمطالبين بالحقوق الكردية.
حدثني صديق آخر أن باحثاً تركياً من أصل شيشاني اسمه "رمضان ججن" قدّم في الثمانينات رسالة دكتوراه إلى جامعة إستانبول حول "السلطان صلاح الدين الأيوبي" ولما كانت عشرات المصادر والمواضع في رسالته تشير للكرد هددته اللجنة العلمية في الجامعة بإحالته إلى محكمة أمن الدولة ما لم يغير كل كلمة تدل أو تشير إلى الكرد بكلمة تدل وتشير إلى الترك، وهكذا كان، فكانت هذه الأطروحة المهزلة الدليل على أن صلاح الدين الأيوبي من أصل تركي حتى عند الكثير من طلبة وأساتذة الجامعة الذين ناقشت بعضهم شخصياً، ترى كم من هذا التزوير حصل قبل ذلك وبعد ذلك.
كما أذكر أنني قرأت ليلماز غونيه أو ياشار كمال عن حادثة وقعت في وزارة الثقافة التركية حين كانوا يترجمون رواية من لغة أجنبية إلى اللغة التركية وكانت من شخصيات القصة حمال تركي، استقر الأمر أخيراً أن يجعلوه حمالاً كردياً؟!
سمعت بعض الأهالي في المنطقة الجنوبية من كردستان تركيا والممتدة من "جبل الجودي إلى الرها -أورفة-" يقولون أنهم كانوا يرون كثيراً من الأحجار الأثرية الضخمة وعليها كتابات ورموز قديمة، وأن كبار السن كانوا يقولون عنها أنها صحف النبي إبراهيم وهي مكتوبة بالكردية، وأن البعض منهم كان يستطيع قراءتها أيضاً، ولكن أين هي هذه الأحجار؟ يقال أن بعضاً منها نقلت إلى متاحف أوربية ولكن أكثرها نسفت الديناميت!! هل عرفنا الآن إصرار الأتراك على إقامة السدود في أقدم الأماكن الأثرية لتغمرها المياه، ولو كانت مدينة "حصن كيف" المغرقة في القدم والتي تغرق اليوم بالمياه يوماً بيوم في أفغانستان أو في أية دولة أخرى لأقامت المنظمات الإنسانية الدنيا ولم تقعدها.
ورغم هذه الصورة المأساوية فهناك الكثير من الأمل والتفاؤل فحركة التأليف المستقلة بالكردية لا يتعدى عمرها عقدين من السنوات ورغم ذلك فقد رفدوا المكتبة الكردية بآلاف الكتب حتى إنني لا أبالغ لو قلت أن كتاباً واحداً يصدر بالكردية كل يوم تقريباً، وإذا كانت هذه الحالة طبيعية في إقليم كردستان العراق شبه المستقل، لكنه في تركيا ليس بطبيعي فرغم أن هذه اللغة غير موجودة حسب القانون التركي ولكن الدولة التركية أطلقت قناة فضائية كردية وأعداد الجامعات التي قررت افتتاح أقسام للغة الكردية في تزايد مضطرد وهناك عشرات دور النشر الكردية ومثلها من الدوريات ومواقع الإنترنت، والملاحظ أن هذا التطور ملحوظ ليس بالكم فقط بل حتى بالنوع وبمختلف الفروع الأدبية وألوان الفنون .
لذلك فالأمل أن يعود الكرد إلى إنعاش –ولا أقول إحياء- لغتهم وأن يتم تشكيل لجان لمراجعة كل الأوابد والمخطوطات التاريخية القديمة الشهيرة لمقابلتها بالمطبوعات والموجودات لنرى كيف أن الكثير منهم يحرف الكلم عن مواضعه في هذا الشأن.
لقد وجدت وقيدت الكثير مما وجدته في هذا الشأن ووجدت في الكثير من المخطوطات من يسمي الدولة الأيوبية بالدولة الكردية أو دولة الأكراد، وكذلك عن الكثير من الدول والإمارات التي ظهرت في كردستان أيام الأمويين والعباسيين وبعد ذلك أيضاً، ولم نكن نجد شيئاً منها في كتبنا المدرسية أو الجامعية أو حتى الثقافية.
عسى أن تبرز هذه الحقائق في القرن الحادي والعشرين حيث سرعة وسهولة الاتصالات وأن نجد أولادنا يعرفون هذه الاكتشافات كمسلّمات واستناداً إلى نصوص صريحة ثابتة لا لبُس فيها ولا …. تزوير.
المراجع
---------------------------------------------------
[1] ينظر: الإنسان وقواه الخفية، ص:63-64 وص: 125 للمبدع كولن والسن، ترجمة سامي خشاب، دار الآداب العربية، بيروت، ط 2، تشرين الثاني 1978، ومن مصادره فيها : محاضرة حول (الربة البيضاء، خمسة أقلام في اليد ) ص 54.
[2] من مقال للدكتور محمد زينو : العائلة الكردية في المهجر – اللغة الكردية من موقع berbang.net
(الحلقة الأخيرة) حقائق جديدة مدهشة ...أين توارت اللغة الكوردية كل هذه السنين ؟
أنقرة- خاص الكردية نيوز- من الباحث محمد روني المراني
يقدم الباحث في الدراسات الشرقية محمد روني المراني في هذه المقالة خلاصة بحثه المدهش عن اللغة الكوردية والتي أثبت فيه أنها لغة حية موجودة قبل الاسلام ومتقدمة على لغات أعرق الشعوب كاليونانيين والمصريين وكشف عن الأحرف المستخدمة منذ آلاف السنسن وفقا لما جاءت في كتاب "شوق المستهام" لابن وحشية.
بقلم محمد روني المراني
بقدر ما كشفت المقالات الماضية المستندة إلى كتاب ابن وحشية التاريخي والذي يعد وثيقة من أروع وثائق التاريخ الإنساني وحضاراته الممتدة بقدر ما أثارت الكثير من التساؤلات، وقلبت بعض الآراء السائدة رأساً على عقب كما ذكرنا حول اكتشافه لرموز الهيروغلوفية قبل شامبليون، وكذلك الأمر بكل ما يرد في الكتاب لو تناوله المحققون بالبحث والتحليل مثل الحديث عن قلم آدم عليه السلام! وغير ذلك من المواضيع، بقدر ما أثار تساؤلات لا تنتهي .
ولما كنا نتناول ما يخص التاريخ والكتابة الكردية فسنقتصر في الحديث عن هذا الموضوع وأتمنى أن أجد يوماً من يتناول هذا الكتاب كله بالبحث والتفصيل.
خلصنا في المقالات السابقة اعتماداً على ما ورد في كتاب " شوق المستهام" من إشارات إلى أن اللغة الكردية من أقدم اللغات الحية المستمرة إلى الآن، وأن الكتابة بها ربما تكون سابقة زمنياً على الكتابة المصرية الفرعونية وكذلك على الكتابة اليونانية، وبهذا يمتد عمر الكتابة والحديث بهذه اللغة إلى أكثر من خمسة وأربعين قرناً أي أكثر من (4500) سنة، ثم إنها لم تكن مجرد لغة محكية أو حتى مكتوبة فحسب، بل إنها كانت كذلك لغة علم منتشرة في المنطقة على الأقل في الشرق الأوسط بين كردستان وبغداد والشام حتى نهاية القرن الثالث الهجري/ العاشر الميلادي حيث كان هناك العشرات من الكتب والمخطوطات العلمية المكتوبة بهذه اللغة وقد ترجم بعضها للعربية لتساهم اللغة الكردية في رفد الحضارة العربية الإسلامية والتي كان لها دور بارز في مسيرة الحضارة الإنسانية العالمية.
ونستطيع أن نضيف هنا أدلة أخرى على قدم اللغة الكردية دون اللجوء هذه المرة إلى كتاب ابن وحشية إلا مرة واحدة ستأتي بعد قليل.
- الناظر للغة الكردية ينبهر بالكلمات العلمية الموجودة في اللغة الكردية وربما هي من الكلمات التي أفلتت من تلك الحقبة فكلمات علمية مجردة مثل: قرأ ودرس وألف وحفظ وكلمات مثل الاقتصاد والعلم موجودة بجذورها الأصلية وليست مشتقة من جذور معاني أخرى كما هو حال الكثير من اللغات العريقة اليوم وحتى في العربية لا توجد كلمات مجردة تدل على هذه المعاني وإنما ربما ستتفاجأ إذا علمت أن كلمة "دَرَسَ" مثلاً من درْس القمح أي أن القارئ يجول ذهاباً وإياباً على القراءة حتى يدرسه كالقمح، وأن كلمة "حَفِظَ" من الصيانة، ولولا خشية الإطالة لأكثرت من الأمثلة من العربية وغيرها من اللغات أيضاً.
- هناك أبجدية موغلة في القدم ومغرقة في السرية حتى اليوم تسمى بـ "أبجدية الأشجار الكاملة" وهي ذات اثنين وعشرين حرفاً، تعتمد على أسماء الأشجار ورسومها في الكتابة، هذه الأبجدية تسمى أيضاً بالأبجدية (الدرويدية drudic) فحرف الدال مثلاً ينطق فيها "ديوري" وهذه الكلمة تعني في اللغة التي وضعت الأبجدية لها الشجرة، وتعني شجرة سنديان أيضاً، كما أنها تعني الباب والجدار؛ لذلك اختاروا لحرف الدال صورة شجرة سنديان تشبه الباب والجدار، أي يجمعون أكبر عدد ممكن تبدأ بالحرف المطلوب ثم يصورون الحرف على شكل شجرةٍ مشابهةٍ لهذه المعاني(1) ، والآن أليست معنى الشجرة في الكردية (dar) والباب في الكردية (deri) والجدار في الكردية (diwar)!! هل تلاحظون مشابهة المعاني الواردة في هذه الأبجدية بالكردية إلى حدٍ قريب من التطابق، لقد حاولت أن أعرف عن هذه الأبجدية أكثر ولم أفلح بالعثور على الكثير من المعلومات في الموسوعات والمراجع التي بين يدي.
من المعروف أن الرسومات القديمة للحيوانات في الكهوف التي تعود إلى أكثر من عشرين ألف سنة تدل على رموزٍ تعني راسميها ولو أخذنا مثلاً رسوم الثور فهي كانت تدل على الجنس والخصوبة الجنسية، وإذا جئنا نتأمل معنى كلمة الثور في الكردية فإنها تعني (ga) هذه الكلمة في الكردية في الوقت عينه تدل على الفعل الجنسي!!
أليست هذه الأمثلة تدل على جذور عميقة تعود لآلاف السنين للغة الكردية، هذه اللغة التي تنتظر أبنائها العاقين لكشف تاريخها وأسرارها، وأنا أقول عنهم أنهم أبناء عاقّون ولا استثني نفسي، فلو كتبت هذه المقالة بلغتي الكردية لاستغرقت ثلاثة أضعاف الوقت الذي قضيته في الكتابة بالعربية أو حتى بغيرها، وكذلك ما كانت لتصل إلا لحوالي عُشر الذين سيقرأونها من الكرد لو كتبتها بالكردية ومع الأسف.
نعود -للاستئناس فقط- وللمرة الأخيرة إلى كتاب ابن وحشية ففي كتابه "شوق المستهام" (طبعة دار الفكر. ص: 203- 204) : "وإنما كانت براعة الأكراد الأول في صناعة الفلاحة وخواص النبات ويدعون أنهم من أولاد بينوشاد، وقد وصل إليهم سفر الفلاحة لآدم عليه السلام ..."
ذكرتني هذه الجملة قبل سنوات برجلٍ اتصل بقناة (me tv) الكردية، ولما سألته المذيعة عن اسمه أجاب: اسمي "إبراهام" ابتسمت المذيعة وهي تقول له: ومن أين يا إبراهيم؟ أجابها بصلافة الكردي وبكردية فصيحة: أنا إبراهام ولست إبراهيم وأتكلم معك من إسرائيل؟!! هنا ارتبكت المذيعة وكان واضحاً أنها تستنجد بالمخرج من خلال حركات عيونها.
ولكن إبراهام الكردي من إسرائيل أكمل قائلاً: وأنا حاخام وقد قمت بترجمة التوراة للكردية!
إلى هنا كان الأمر يبدو وكأنه دعابة، لكنه كان يتحدث بثقة وبطريقة علمية عن نزول آدم عليه السلام إلى الأرض، مضيفاً أنه أثبت أن لغة آدم كانت هي الكردية، فاسمعيني أكمل، لكن المذيعة - مع الأسف ربما خضوعاً لسياسات الجهة التي تنتمي إليها القناة ونتيجة انحيازها ضد الامبريالية لم تسمعه ولم تدعه يكمل –- قائلة: لو أردت أن تحكي لنا قصة الخليقة فهذا أمر طويل ولن ينتهي للغد، ثم انقطعت المكالمة .
أنا لا أدري إلى الآن إن كان هذا الأمر جاداً أم لا، لكن تحمسه الشديد والحديث الذي كان يطلقه بموضوعية وثقة جعلتني أحاول البحث عنه إلى الآن، وأتمنى أن أعرف عنه وأستفيد منه في هذا المجال، ولا أعتقد أن في هذا غضاضة فهذا علم ولا مَعابة فيه، فقد كان الدكتور المصري حسن ظاظا (وهو من أصل كرديٍ أيضاً) أفضل من كتب عن اليهود واليهودية والصهيونية بالعربية ولم يقدح في شأنه أنه تلقى العلم ودرس على عدد كبير من الحاخامات اليهود حتى في إسرائيل.
هذه الحادثة المؤسفة تزيدني يقيناً بعقوق أبناء هذه اللغة لأمهم العظيمة، وربما لأن شدة القرب حجاب، وكذلك تجيب على بعض التساؤلات التي تثيرها هذه المقالات، ومن هذه التساؤلات المشروعة:
طالما كانت للكردية هذه الميزات والعراقة وربما الأسبقية، فأين ذهبت كل تلك المخطوطات؟! ولماذا استفقنا على عصرٍ كنا نتمنى أن نرى كتاباً بالكردية؟!!
صحيح أن هناك عوامل خارجية كثيرة سنذكرها لكن العامل الداخلي هو الأهم وهو السبب الأكبر في إضعاف هذه اللغة، وقد ذكرت قبل قليل ما جرى في مقابلة مي تي في، وسأضيف أمثلة أخرى.
أتذكر حين كان أستاذ اللغة الكردية يعاني الأمرّين والثلاثة وهو يحاول تعليمنا لغتنا في الوطن ويكابد من أجل ذلك من كل النواحي الاقتصادية والمعيشية والأمنية السياسية وضيق ذات اليد والمكان وتأمين المصادر بتصويرها لنا رغم الحظر، ورغم كل ذلك كنا نبدأ عشرة طلاب لننتهي بواحد أو بدون طلاب حتى.
هنا في تركيا ومنذ سنوات يوجد معهد كردي بإستانبول يدّرس اللغة الكردية وآدابها بأسعار رمزية جداً، ورغم وجود بضعة ملايين كردي يعيشون في إستانبول، الكثير منهم مثقفون ذو شهادات عليا أو طلاب، ومع ذلك فإن أعداد الطلبة يمكن عدهم بالعشرات فقط.
لكن الأدهى من ذلك أنه يدور حديث عند المهتمين باللغة الكردية بتركيا أن قرابة 11 مليون كردي بتركيا قد نسوا لغتهم الأصلية، وهناك عدد يدور حول المليون أو أقل بقليل أو أكثر بكثير في عواصم البلدان التي تحكم كردستان كالعراق وإيران وسوريا، وكذلك عشرات الآلاف في المدن غير الكردية في تلك البلدان أيضاً نسوا لغتهم الكردية بشكل كامل.
وليست السياسة هي السبب الوحيد لهذا الإهمال فهذا هو الحال أيضاً عند كرد المهجر، يذكر "د. محمد زينو" معاناته بهذه الصدد بذكر أمثلة مأساوية حيث يقول: أن دولاً أوربية عديدة قدمت تسهيلات كبيرة لأولاد الكرد حيث قدمت حكومات الولايات الألمانية إمكانيات مادية ضخمة للكرد كي يتابعوا تعليمهم بالكردية، فعينت مدرّسين كرد، وأعفت العائلة الكردية من التكاليف، ورغم اعتراضات القنصلية التركية اعتُبرت اللغة الكردية مادةً مدرسيةً رسميةً كغيرها من اللغات الأجنبية في مدارس بعض الولايات التي يكثر فيها الكرد، ولكن في النهاية لم يسجل سوى العشرات من آلاف العائلات الكردية أطفالهم، وفضل الكثير منهم المدرسة التركية أو العربية على الكردية!(2)
لذلك لم يكن اعتباطاً المثل الكردي السائر " لا تموت الشجرة إذا لم يكن دائها منها" ولكن رغم ذلك لم تمت اللغة الكردية وبقيت حية صامدة رغم أن "شرف خان البدليسي" ومنذ قرون ألف كتابه عن التاريخ الكردي "الشرفنامة" بالفارسية! وألف أحد علماء دياربكر باسم والي دياربكر منذ أكثر من قرن "الهدية الحميدية في اللغة الكردية" بالعربية!! وحتى "جلادت بدرخان" وهو الذي وضع وأسّس للأبجدية الكردية اللاتينية حين ألف "قواعد الكرمانجية" ألفه بالفرنسية!!! فلم يكن غريباً أن يكون أكبر قاموس كردي إنجليزي اليوم من تأليف الأمريكي اليهودي: "مايكل تشايات" طالما أن أبناءها عازفون عنها، وإذا كتبوا عنها كتبوا بغير لغتها!
وإذا التفتنا إلى حلقات التعليم بالمساجد الكردية ومدارسها القديمة نجد أنها وإن كانت لها دور في الحفاظ على اللغة الكردية حيث كانت كل المواد تدرس بالكردية حتى المواد العلمية كمبادئ الرياضيات والمنطق والفلسفة وعلوم الفلك لكنهم كانوا يتحاشون ويتجنبون تدريس الكردية كلغة مع أنه كان من مقرراتهم اللغة الفارسية كلغة أجنبية، فحفظوا الكردية كلغة علم من جانب ولكنهم في الوقت نفسه ساهموا بخمودها، وكان جل عذابهم في تعليم العربية ومعرفة قواعدها وباعتباري مطلعاً ودرَست في بعض هذه المدارس ومختص باللغة العربية لا أبالغ إذا قلت أن الذين يدرسون في حلقات التعليم الباقية لليوم رغم تراجعها الكبير لا يوجد من يوازيهم بقواعد النحو والصرف والبلاغة وحتى العروض والشعر في العالم كله ولا أستثني العالم العربي، ولكن كل ذلك في اللغة العربية مع أنه ربما لا يستطيع أن يفرق بين فعلين بالكردية، ولا يحسن الحديث بالعربية.
وفي هذا المقام نقول أخيراً أنني استغربت جداً أن يتحدث بعض أساتذة التاريخ الكرد وفي جامعة كردية بإقليم كردستان عن تشكيكٍ بكتاب "ابن وحشية، شوق المستهام" كما راسلني بعض طلبتها بهذا الشأن، وقد ذكروا لي أن هذا الأستاذ قد نشر مقالاً منذ سنوات يشكك فيه بهذا الكتاب وبوجوده الفعلي أصلاً ، وقلت ربما كان معذوراً فلم تكن قد اكتُشفت نسخة طهران بعد، كما أن نسخة هامر المطبوعة في متحف لندن لم يكن يسمح حتى بالاطلاع عليها فضلاً عن تصويرها، وكذلك كانت نسخة باريس غير أنها كانت تسمح بالاطلاع على صورتها، ولا أعرف عن النسخة المحفوظة بألمانيا الكثير إلى الآن، وإن كنت سمعت بوجود نسخة خامسة للمخطوط، ولكن صديقي أكَّد لي أن الأستاذ لا يزال مصراً على رأيه (كردي يا أخي)، ولم أشأ أن أرد على هذا التشكيك حتى أحصل على نص المقال لأعرف عباراته بالضبط.
هذا عن العوامل الداخلية الماضية والحاضرة فماذا عن العوامل الخارجية.
لا نبرئ العوامل الخارجية أيضاً فقد بدأ عصر الطباعة في المنطقة حين كانت الكلمة الكردية بل مجرد الحديث بالكردية ممنوعة وتعتبر جريمة يعاقب عليها القانون (..) في الكثير من البلدان، وكانت الطامة أن النسبة الكبرى من المخطوطات موجودة بهذه البلدان (تركيا وإيران وسوريا والعراق) وقد كانت هذه المخطوطات حتى وقت قريب ممنوعة من المطالعة أيضاً، لذلك فالكتب الكردية الموجودة هناك تصنف على أنها فارسية أو عثمانية، كما أن الكثير من مخطوطات المنطقة الموجودة في أوربا وأمريكا لم تمسها يد التصنيف بعد.
والكثير الكثير من هذه المخطوطات التي كانت موجودة في البيوت أحرقت أو أتلفت تماماً أمام ناظري أصحابها، وإن كانت رواية "دلشاد" لسليم بركات تتناول هذا الموضوع بما يشبه الخيال، فقد حدثني أحد أشراف عشيرة (الكويان) الكردية المتواجدة بين منطقتي (الجزيرة ووان) من الواقع، فقد كان أحد أعمامه ويدعى "ملا محمد أمين الكوياني" قاضياً لإستانبول في أواخر العهد العثماني كما كان خطيباً لجامع "آياصوفيا" أكبر جامع بتركيا، ولما نفي في أواخر العهد العثماني لبلدته نقل معه كتبه التي كانت تتجاوز (4000) مجلد معظمه مخطوط، ثم وفي العهد الكمالي وبالتحديد سنة (1948) قررت الشرطة أن تحرق مكتبته أمام ناظريه!! حتى أنه عرض عليهم إحراقه هو حياً بشرط أن تسلم المكتبة، ولكنهم أبوا، فأصيب بشلل تام أماته بعد أربع وعشرين ساعة على الحادث، ترى كم كتاباً كردياً كان يمكننا أن نجد في هذه المكتبة الخاصة التي لا تملك الكثير من الدول هذه الكمية من المخطوطات في مكتباتها الوطنية، وبخاصة إذا علمنا أنه نفي بسبب انضمامه للمطالبين بالحقوق الكردية.
حدثني صديق آخر أن باحثاً تركياً من أصل شيشاني اسمه "رمضان ججن" قدّم في الثمانينات رسالة دكتوراه إلى جامعة إستانبول حول "السلطان صلاح الدين الأيوبي" ولما كانت عشرات المصادر والمواضع في رسالته تشير للكرد هددته اللجنة العلمية في الجامعة بإحالته إلى محكمة أمن الدولة ما لم يغير كل كلمة تدل أو تشير إلى الكرد بكلمة تدل وتشير إلى الترك، وهكذا كان، فكانت هذه الأطروحة المهزلة الدليل على أن صلاح الدين الأيوبي من أصل تركي حتى عند الكثير من طلبة وأساتذة الجامعة الذين ناقشت بعضهم شخصياً، ترى كم من هذا التزوير حصل قبل ذلك وبعد ذلك.
كما أذكر أنني قرأت ليلماز غونيه أو ياشار كمال عن حادثة وقعت في وزارة الثقافة التركية حين كانوا يترجمون رواية من لغة أجنبية إلى اللغة التركية وكانت من شخصيات القصة حمال تركي، استقر الأمر أخيراً أن يجعلوه حمالاً كردياً؟!
سمعت بعض الأهالي في المنطقة الجنوبية من كردستان تركيا والممتدة من "جبل الجودي إلى الرها -أورفة-" يقولون أنهم كانوا يرون كثيراً من الأحجار الأثرية الضخمة وعليها كتابات ورموز قديمة، وأن كبار السن كانوا يقولون عنها أنها صحف النبي إبراهيم وهي مكتوبة بالكردية، وأن البعض منهم كان يستطيع قراءتها أيضاً، ولكن أين هي هذه الأحجار؟ يقال أن بعضاً منها نقلت إلى متاحف أوربية ولكن أكثرها نسفت الديناميت!! هل عرفنا الآن إصرار الأتراك على إقامة السدود في أقدم الأماكن الأثرية لتغمرها المياه، ولو كانت مدينة "حصن كيف" المغرقة في القدم والتي تغرق اليوم بالمياه يوماً بيوم في أفغانستان أو في أية دولة أخرى لأقامت المنظمات الإنسانية الدنيا ولم تقعدها.
ورغم هذه الصورة المأساوية فهناك الكثير من الأمل والتفاؤل فحركة التأليف المستقلة بالكردية لا يتعدى عمرها عقدين من السنوات ورغم ذلك فقد رفدوا المكتبة الكردية بآلاف الكتب حتى إنني لا أبالغ لو قلت أن كتاباً واحداً يصدر بالكردية كل يوم تقريباً، وإذا كانت هذه الحالة طبيعية في إقليم كردستان العراق شبه المستقل، لكنه في تركيا ليس بطبيعي فرغم أن هذه اللغة غير موجودة حسب القانون التركي ولكن الدولة التركية أطلقت قناة فضائية كردية وأعداد الجامعات التي قررت افتتاح أقسام للغة الكردية في تزايد مضطرد وهناك عشرات دور النشر الكردية ومثلها من الدوريات ومواقع الإنترنت، والملاحظ أن هذا التطور ملحوظ ليس بالكم فقط بل حتى بالنوع وبمختلف الفروع الأدبية وألوان الفنون .
لذلك فالأمل أن يعود الكرد إلى إنعاش –ولا أقول إحياء- لغتهم وأن يتم تشكيل لجان لمراجعة كل الأوابد والمخطوطات التاريخية القديمة الشهيرة لمقابلتها بالمطبوعات والموجودات لنرى كيف أن الكثير منهم يحرف الكلم عن مواضعه في هذا الشأن.
لقد وجدت وقيدت الكثير مما وجدته في هذا الشأن ووجدت في الكثير من المخطوطات من يسمي الدولة الأيوبية بالدولة الكردية أو دولة الأكراد، وكذلك عن الكثير من الدول والإمارات التي ظهرت في كردستان أيام الأمويين والعباسيين وبعد ذلك أيضاً، ولم نكن نجد شيئاً منها في كتبنا المدرسية أو الجامعية أو حتى الثقافية.
عسى أن تبرز هذه الحقائق في القرن الحادي والعشرين حيث سرعة وسهولة الاتصالات وأن نجد أولادنا يعرفون هذه الاكتشافات كمسلّمات واستناداً إلى نصوص صريحة ثابتة لا لبُس فيها ولا …. تزوير.
المراجع
---------------------------------------------------
[1] ينظر: الإنسان وقواه الخفية، ص:63-64 وص: 125 للمبدع كولن والسن، ترجمة سامي خشاب، دار الآداب العربية، بيروت، ط 2، تشرين الثاني 1978، ومن مصادره فيها : محاضرة حول (الربة البيضاء، خمسة أقلام في اليد ) ص 54.
[2] من مقال للدكتور محمد زينو : العائلة الكردية في المهجر – اللغة الكردية من موقع berbang.net
تعليق