[align=justify](( هذه المشاركة ملخص عدة أوراق بعنوان : " وظيفة الأسطورة فى المخيل الشرقى الحديث " قدمت كمشاركة عمل مع الباحث " باكير كموش أى" أحد باحثى البلقان .
وأقدامها هنا كوفاء لأميرة البحرين الأستاذة روان خليفة – لما ظهر منها من حرف أدب ووعى ورقى مسمى وفضل .
[align=center]النوروز
الأسطورة والحلقة التى ربطت بين الشعوب[/align]
الأسطورة قديماً كانت من افرازات الدين وربما هى من كانت تفرز الدين – وظلت الأسطورة ملتصقة بالوعى واللاوعى عند الإنسان – ورغم تغير نمطية تعامل المجتمعات الحديثة مع الدين أو مع الأسطورة إلا أنه لم يتخلى عنها ( الأسطورة ) لأنها فى القديم بنت إعتقاده - وفى الحديث هى أداته فى الحفاظ على تواصله مع الذهنية الجماعية وربما هى أحدى أدواته أيضاً لقراءة القديم.
وأسطورة النوروز احدى هذه الأساطير التى مازالت تنتفض فى الذهنية الجماعية لعدد من الشعوب كالفرس والبلوش والأكراد بل هى بين الذهنية العربية أيضاً بفعل أبناء التاريخ الأول كبنى سومر أو مازالت موجودة ، متشحة مسمى زي جديد كنيروز الأقباط أو شم النسيم أو عيد الدخول وغيرها من مسميات رسمتها الذهنية العربية بعد توظيف النوروز بشكل جديد على أراضيها العربية.
فعيد الــ" نوروز " كما في الفارسية والكردية والبلوشية، أو النيروز كما عرب فى العربية هو من أشهر الأعياد التي عرفتها بلاد الشرق وأقدمها.
ومايميزه انه يرتبط بأرض وسماء فهو يرتبط مع بدايات شهر الربيع ، ويرتبط بمظاهر سماء هذا الربيع من زهور وعطور وأضواء نهضة وايقاظ بعد ممات.
فهو معبأ فى احتفالياته بالبهجة والسرور والشعور بالأمل بعد إحياء الأرض من بعد موتها – وهذا الشعور تعايشه كافة الحواضر والثقافات الانسانية التى تقدر عظمة هذا المشهد وتحتفى به .
والنيروز قديما عاش متماشيا مع الذائقة الدينية الاسطورية فى ثقافات ابناء الشرق كالكرد والفرس والبلوش وأصحاب العقائد والاساطير القديمة.
وكان دور النيروز بين هذه الأخيلة الاسطورية أنه يمثل رمزية انتصار الخير على الشر والنور على الظلام ، فكان النيروز يمثل برمــزيته هذه ؛ أداة ربط بين هذه الشعوب .
و قد فسر االبعض هذا التقارب فى الأخيلة ، عن كونه نتاج التعايش المتقارب بين شعوب هذه الثقافات – ولكن فى الحقيقة ، دور هذا التقارب ليس أكثر من أداة اتصال . ولكون طوق الانسان واحدة كانت كافة الشعوب بمافيها الشعوب الغربية البعيدة عن الشرق كاليونان بل حتى الصين تبنت رمزية النيروز وهى رمزية الخير والشر والنور والظلام والانتصار للخير وللنور.
-فولدت اسطورة النيروز بين شعوب متقاربة..... وخرج لنا معنى اجتمعت عليه كافة هذه الشعوب –فالــ نوروز كما فى الأصل اللغوى تعنى اليوم الجديد والعهد الجديد – وبهذا الاسم اتضح الغرض من فلسفة الاحتفال بالنيروز فهو رمز لكل عهد غابر وميلاد عهد انتصار ، حتى أن بعض الشعوب كالكرد توظف هذا اليوم كيوم نشوة واشتياق لنور هذا العهد الغائب .
وملخص الأسطورة عند الفرس تتحدث عن : ملك اسمه " جمشيد بن طهمورث " احد ملوك الاسر الاسطورية القديمة ـ عاش فى ملك لم يكن لأحد من قبله – له قدرة على التنقل بين أطراف الأرض ببساط الريح ، والجن فى خدمته وحراسته - موكبه مرصع بالجواهر والزينة الفخيمة – صادف موكبه يوما حلول الشمس فى برج الحمل فى أول أيام السنة ـ فعلى ذلك سر سروره وابتهج ابتهاجاًعظيماً ، فاحتفل بذلك وصبت اقداح الخمر ومجالس السعادة – وعرف ذلك اليوم بـــ النوروز – وظل عهداً متعارف عليه عند الفرس رغم تغير ألوان صياغته.
وملخص الأسطورة الكردية تتحدث عن : ملك اسمه الضحاك – كان ظالماً وكان يذيح كل يوم عدداً من أبهى فرسان الشباب ؛ حتى يشفى من مرضه بعدما نصحه الحكماء بذلك .
ولما هم بذبح ابناءه – هب حداد كان يدعى كاوه بثورة على هذا الملك وبرفقته مجموعة من الشباب – ولما انتصروا عليه ، اضرموا النار على الجبال والوديان ليعلنوا نهاية حكم الملك الظالم – وتصادف هذا مع دخول الشمس ببرج الحمل وظهور الربيع واعتداله.
والاسطورة الكردية لها رافد كبير فى الثقافة الفارسية - فبعيدا عن حبكة الاحداث – مسميات وصفات الشخصيات فى الاسطورة الكردية توجد سمات وروافد لها تربطها بالاساطير الفارسية وهذا يتجلى لمن يراقب التاريخ الاسطورى للفرس فى حدث فريدون والضحاك وكاوه الحداد صاحب الراية.
ورمزية النيروز اى الخير والشر والنور والظلام والإحياء بعد الموت – لها رافد من حبث الرمزية عند كثير من الشعوب والثقافات كالبوذية والارمنية والبابلية والسومرية والمصرية القديمة والقبطية المصرية والفينيقية .
وفى الثقافة العربية كان النيروز لهذه الثقافة الحضارية أداة انتصار – رغم ان البعض ينقلب على هذه الأداة – فالنيروز عرفه العرب قبل الاسلام كما دل فى الرواية " (قدمت المدينة ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية هما يوم النيروز والمهرجان "
فعرفته الثقافة العربية من باب التواصل والجوار الحضارى – وليس من باب الفرضية الاجبارية وهذا يتضح فى فترة ماقبل الاسلام عند شعوب بلاد الشام و الحجاز نتيجة قنوات الاتصال .
وبعد الاسلام ظهر النيروز ايضاً نتيجة امتزاج العنصر العجمى مع العنصر العربى لبناء المكون الانسانى فى الاسلام.
والاسلام لم يعرف بالوجه الحضارى الاحادى كما رأينا فى القرن الواحد والعشرين من محاولات فرضية حضارة الاقوى على كل من ينتصر عليه .
فى حين ان الاسلام فى هذه الفترة التى مزج بها العنصر العربي والعجمى احترم خصوصية كل عنصر – ونجح اين يصنع شئ من العولمة تحترم خصوصية كل عنصر من مكون الانسانية - والأجمل أنه صنع نوع من الحوار الحضارى بين هذه الثقافات – والنيروز كان أحد هذه الأدوات التى استخدمت فى هذا الحوار وهذا المزج الحضارى.
دخل الفرس فى الاسلام ، وخشى البعض من هدمه لتراثهم فحاربوه - وتنازل البعض عن هذا التراث مقابل افراغ الساحة للاسلام وحده - ورأى البعض الأخر أن الاسلام يعالج ولايهدم – فرأى أن الإسلام يهدم وثنية النيروز ولايهدم رمزيته واعتبر الاحتفال بالنيروز علامة على احترام الاسلام لثقافات الشعوب طالما لاتنقض نظرية التوحيد .
فامتزج الوجه الاسلامى بالنيروز وظهرت مساعى تقرب القديم بالحديث – وحاول البعض التفتيش عن ادوات ربط بين القديم والجديد فاستخدموا مدلولات دينية مبنية على التشابه وحوادث زمنية لحدوث هذا الربط .
فربط البعض بين جمشيد والملك سليمان عليه السلام وبين النيروز – وبين مناظر الأرض فى النيروز وبين نصوص القرأن الكريم وحدبثه عن دلائل اعجاز الخالق فى أرضه فيحيي الأرض بعد موتها وتتجلى اسماءه تعالى فى كائناته.و تجلى نور الله فى الارض.
حتى ان مائدة النيروز التى يحتقل بها الفرس يوم النيروز صار تكوينها يقوم على وجود القرأن الكريم بين هذه مكونات هذه المائدة ، وأيات الحديث عن بدائع الله فى الأرض.
- وكل هذه المساعى للربط بين الدين السماوى والأسطورة – نتاج أن النيروز خرج أساساً من الدين الوثنى وبالطبع سيتعارض بعد ذلك مع الوجه الجديد وهو الدين السماوى – فحاول البعض البحث عن أدوات ربط بين الأسطورة والدين السماوى لينزع حالة الصراع هذه.
والثقافة الكردية رغم تشابه احتفالياتها بالنيروز الى حد كبير مع الثقافة الفارسية – إلا انه عندهم يركز على أحد رمزيات الاحتفال بالنيروز – وهى رمزية انتصار الخير على الشر واعلان أن النور هتك ستر الظلام .
فقديما ظهرت الاسطورة عندهم بانتصار "كاوه " رمز الخير على "الضحاك " رمز الشر – وهذا التوظيف مازال مستمرا حتى الان – فرغم ان الكردى مازال يخرج حتى الان الى الطبيعة يوم النيروز ليشاهد الحى بعد الميت ويرى تجليات الخالق فى كائناته.
إلا أنه مازال ينتظر اشتعال نيران انتصار كاوه فوق جبال كردستان – فالاكراد فى كافة بلادهم المنحصرة بين الفرس والعرب والترك يستخدمون هذا الاحتفال كدلالة على اصالتهم فى التاريخ والاعلان عن قضيتهم ومظلوميتهم . فالنوروز عندهم كيوم التعبير عن الإستقلال والثورة فى وجه الظلم والقهر.
فصار الاحتفال بالنيروز فى الثقافة الكردية - باليوم المقدس ولايمكن تركه لأنه يوم الهوية واعلان الوجود.
حتى أن الشعراء الكرد قاموا بالتغني بهذا اليوم كيوم قومى مجيد ، وأمتلأت ملاحمهم بصداه.
ويتخذون من النيروز مناسبة لنظم أشعارهم حيث مباهج الحياة وزهور الربيع والتعطش للحرية والاستقلال ، معتبراً اياه عظيماً متوارثاً عن التقاليد القومية، التي تمجد الانعتاق من الاستبداد والظلم.
فهو يوم لكسب حقوقهم المشروعة. فالنوروز لديهم يعبر عن حرية الطبيعة والحرية السياسية والاجتماعية للانسان بهدف العيش في آمان ووئام بعيدا عن الظلم والاظطهاد سواء كان من الطبيعة او من ذوي البشر.
وظهرت ملاحم شعرية عند الكرد تدور حول مناسبة الــ نوروز - وعبروا من خلالها عن شعورهم القومي واعتزازهم بهذه المناسبة. كما ظهر فى أشعار الشاعر الملا احمدي جزيري ، والشاعر احمدي خاني ، وغيرهم من الشعراء الذين استغلوا مناسية النيروز لإعلاء الحس القومى والتقريب من طبيعة كوردستان في فصل الربيع وإعلان مظلوميتهم .
فنجد جو الإحتفال بالنيروز يفرضه المناخ الذى يولد فيه – فعند الفرس بعد الاسلام يمزج النيروز بمسحة دينية حتى يتمكن من الاستمرار ومسايرة الذهن الجديد .
وعند الكرد يظهر بمسحة قومية بعثية ليعبر عن هويتهم وقوميتهم ، ويعلن حقهم فى وجودهم كأمم فى التاريخ.
وعند العرب يظهر بوجه آخر – فقبل الاسلام ظهر من خلال الاتصال الحضارى عبر قنوات الاتصال – وتقارب فى رمزيته من الاساطير السامية القديمة كاساطير سومر وبابل وفنيقيا وغيرهم من مكونى الحضارات السامية القديمة.
وبعد الاسلام عرفته الثقافة العربية من خلال الامتزاج بالعنصر الغير عربي - وظهر بسميات جديدة حتى تفرغ دائرة الصراع فظهر باسم عيد الدخول ، و عيد الشجرة ، وعيد الربيع ، وعيد المحيا ، وعيد الخضر ، وغيرها من مسميات ترمى لدلالة النيروز.
حتى أن بعض أصحاب الهوية الشيفونية دافعوا عن الاحتفال به ليس من باب أنه يتقارب مع الآخر – ولكن من باب أن له جذور فى تاريخهم وعقائدهم القديمة.
ونعود للنقطة الأهم وهى جمالية الثقافة العربية فى احتواءها للنيروز – فقد احتفت به كنوع من مشاركة الاخر والاعتراف به .
فنجد البحترى وهو من أشهر شعراء العصر العباسى - يرسم النيروز على انه دعوة للكافة على الاعتراف بانطلاق الربيع ووجوب الاحتفال به فيقول :-
[align=center]اتاك الربيع الطلق يختاك ضاحكا
من الحُسن حتى كاد ان يتكلّما
وقد نبه النوروز في غسق الدجى
اوائل ورد كُن بالامس نوما[/align]
ومع فسحة وسعة امتزاج العجم بالعرب – ومع ظهور الدويلات الإسلامية الجديدة فى بلاد العجم – ظهر النيروز بمراسمه بين العرب – واشتعلت النار ليلا ابتهاجا بيوم النيروز- وصنعت الحلوى والزينة.
وكل هذا لأن الحدود مفتوحة والقنوات أقرب – فنجد الشاعر : السلامى فى زمن عضد الولة يقول مستأنسا بنار هذا الاحتفال :-
[align=center]
ما زلت اشتاق نارا اوقدت لهباً حتى ظننت عذاب النار قد عذُبا
يعلو الدخان بسود من ذوائبها قد عط فيها قناعُ التبر واستُلبا
قد كلُلّت عنبراً بالمسك ممتزجاً وطُوقت جُلُناراً واكتست ذهبا
فالنور يلعب في اطرافها مرحا والجمرُ يرعد في اكنافها رهبا[/align]
ونخرج من ذاكرة العصر العباسى ففيه للعنصر العجمى نجم ساطع – ونصعد للعصر الحديث ونجد كيف الشعراء العرب يوظفون النيروز كأداة وصل مع أنفسهم ومع الآخر.
فنجد الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب ينظم عن النوروز ليعبر عن كون هذا العيد هو عيد البشر جميعاً فهو لكافة الأجناس البشرية كرد وعرب وترك وفرس – ففيه ميلاد ربيع أرض تتسع للجميع – فيقول ما مطلعه:-
حلوُ الشباب من الدنيا اوائله بدء الربيع من الايام نوروز
صباح الخير يا تاراً صباح الخير يا عبلة عبير النرجس عطر وزي الخلق استبرق
هنيئاً يا ابنة كاوة هنيئا يا ابنة عنتر فهذا العيد حيانا وذاك النور قد اشرق
وهبت من صبا نجد نسائم نحو اهلينا ولاقتها بأرض العز شمول غيمها ابرق
وينظم قصيدة أخرى يرسم فيها الوجه الآخر من رمزية النيروز وهو الانتصار على الظلم – وأن جنس البشر جميعاً يواجون التحدى مع هذا الظلم – فالظلم لايقع على جنس بعينه فيقول :-
[align=center]
يا شعب ( كاوه ) سل الحداد كيف هوى
صرح على الساعد المفتول ينهار
وكيف أهوت على الطاغي يد نفضت
عنها الغبار وكيف انقض ثوار
والجاعل ( الكير ) يوم الهول مشعله
ينصب منه على الآفاق أنوار
( شيرين ) يا جبل الأحرار ما غفلت
عن حقها الضائع المسلوب أحرار
( كاوه ) كـ ( يعرب ) مظلوم يمد يدا
إلى أخيه ، فما أن يهدر الثأر
والمستغلان في سهل وفي جبل
يدميهما بالسياط الحمر غدار
سالت دماؤهما في الوسط فآمتزجت
فلن يفرقهما بالدس أشرار
واغمد الظلم في الصدرين مخلبه
فجمعت بالدم الجرحين أظفارا
ووحد الجوع عزم الجائعين على إن
يقودهما ، والآ تخمد النار
وقرب القيد من شعبين شدهما
ووجهت من خطى الشعبين أفكار
يا فرحة العيد ما في العيد من فرحة
حتى تحرر من محتلها الدار ...[/align]
- وتستمر أسطورة النيروز كسلم ومرقى صعود عند كثير من الأمم – فكما الأكراد يقولون أنهم أحد أبناء الهضبة الايرانية وانهم من اوائل حاضريها – ويرى البعض الآخر منهم بوجه منقلب أن الأكراد لهم أصول عربية ويفرض عليهم هذا الأصل ؛ التعايش مع العرب كوحدة جنس.
ترى أقوام أخرى كالبلوش : أنهم أسبق هذه الحواضر والأصول وبنى اعتقادهم فى ذلك على قدم لغتهم عنى باقى المجموعة المحيطة لهم من الشعوب – فهم أحق بالمفردة ( النيروز ) وعليه هم أحق بأصل الاحتفال.
وهكذا ظلت أسطورة النيروز تستخدمها الأقوام لتعلن وجودها وأصالة حاضرتها – بل ظهر هذا التناقس بين أبناء الجنس الواحد ، وهذا ما وظفته أبناء الآزر والقزاق والشركس والتركمان والتتار داخل الجنس التركى الواحد ليعلنوا أسبقية عنصر على عنصر فى البناء الحضاري والأصالة.
فأسطورة النيروز مرقى فخر كما وظفها الفرس أو الترك أو راية إعلان وجود كما رأينا عند الأكراد بين مايحيطهم من أقوام – أو كما تفعل المجتمعات التركية فى بلاد البلقان.[/align]
وأقدامها هنا كوفاء لأميرة البحرين الأستاذة روان خليفة – لما ظهر منها من حرف أدب ووعى ورقى مسمى وفضل .
[align=center]النوروز
الأسطورة والحلقة التى ربطت بين الشعوب[/align]
الأسطورة قديماً كانت من افرازات الدين وربما هى من كانت تفرز الدين – وظلت الأسطورة ملتصقة بالوعى واللاوعى عند الإنسان – ورغم تغير نمطية تعامل المجتمعات الحديثة مع الدين أو مع الأسطورة إلا أنه لم يتخلى عنها ( الأسطورة ) لأنها فى القديم بنت إعتقاده - وفى الحديث هى أداته فى الحفاظ على تواصله مع الذهنية الجماعية وربما هى أحدى أدواته أيضاً لقراءة القديم.
وأسطورة النوروز احدى هذه الأساطير التى مازالت تنتفض فى الذهنية الجماعية لعدد من الشعوب كالفرس والبلوش والأكراد بل هى بين الذهنية العربية أيضاً بفعل أبناء التاريخ الأول كبنى سومر أو مازالت موجودة ، متشحة مسمى زي جديد كنيروز الأقباط أو شم النسيم أو عيد الدخول وغيرها من مسميات رسمتها الذهنية العربية بعد توظيف النوروز بشكل جديد على أراضيها العربية.
فعيد الــ" نوروز " كما في الفارسية والكردية والبلوشية، أو النيروز كما عرب فى العربية هو من أشهر الأعياد التي عرفتها بلاد الشرق وأقدمها.
ومايميزه انه يرتبط بأرض وسماء فهو يرتبط مع بدايات شهر الربيع ، ويرتبط بمظاهر سماء هذا الربيع من زهور وعطور وأضواء نهضة وايقاظ بعد ممات.
فهو معبأ فى احتفالياته بالبهجة والسرور والشعور بالأمل بعد إحياء الأرض من بعد موتها – وهذا الشعور تعايشه كافة الحواضر والثقافات الانسانية التى تقدر عظمة هذا المشهد وتحتفى به .
والنيروز قديما عاش متماشيا مع الذائقة الدينية الاسطورية فى ثقافات ابناء الشرق كالكرد والفرس والبلوش وأصحاب العقائد والاساطير القديمة.
وكان دور النيروز بين هذه الأخيلة الاسطورية أنه يمثل رمزية انتصار الخير على الشر والنور على الظلام ، فكان النيروز يمثل برمــزيته هذه ؛ أداة ربط بين هذه الشعوب .
و قد فسر االبعض هذا التقارب فى الأخيلة ، عن كونه نتاج التعايش المتقارب بين شعوب هذه الثقافات – ولكن فى الحقيقة ، دور هذا التقارب ليس أكثر من أداة اتصال . ولكون طوق الانسان واحدة كانت كافة الشعوب بمافيها الشعوب الغربية البعيدة عن الشرق كاليونان بل حتى الصين تبنت رمزية النيروز وهى رمزية الخير والشر والنور والظلام والانتصار للخير وللنور.
-فولدت اسطورة النيروز بين شعوب متقاربة..... وخرج لنا معنى اجتمعت عليه كافة هذه الشعوب –فالــ نوروز كما فى الأصل اللغوى تعنى اليوم الجديد والعهد الجديد – وبهذا الاسم اتضح الغرض من فلسفة الاحتفال بالنيروز فهو رمز لكل عهد غابر وميلاد عهد انتصار ، حتى أن بعض الشعوب كالكرد توظف هذا اليوم كيوم نشوة واشتياق لنور هذا العهد الغائب .
وملخص الأسطورة عند الفرس تتحدث عن : ملك اسمه " جمشيد بن طهمورث " احد ملوك الاسر الاسطورية القديمة ـ عاش فى ملك لم يكن لأحد من قبله – له قدرة على التنقل بين أطراف الأرض ببساط الريح ، والجن فى خدمته وحراسته - موكبه مرصع بالجواهر والزينة الفخيمة – صادف موكبه يوما حلول الشمس فى برج الحمل فى أول أيام السنة ـ فعلى ذلك سر سروره وابتهج ابتهاجاًعظيماً ، فاحتفل بذلك وصبت اقداح الخمر ومجالس السعادة – وعرف ذلك اليوم بـــ النوروز – وظل عهداً متعارف عليه عند الفرس رغم تغير ألوان صياغته.
وملخص الأسطورة الكردية تتحدث عن : ملك اسمه الضحاك – كان ظالماً وكان يذيح كل يوم عدداً من أبهى فرسان الشباب ؛ حتى يشفى من مرضه بعدما نصحه الحكماء بذلك .
ولما هم بذبح ابناءه – هب حداد كان يدعى كاوه بثورة على هذا الملك وبرفقته مجموعة من الشباب – ولما انتصروا عليه ، اضرموا النار على الجبال والوديان ليعلنوا نهاية حكم الملك الظالم – وتصادف هذا مع دخول الشمس ببرج الحمل وظهور الربيع واعتداله.
والاسطورة الكردية لها رافد كبير فى الثقافة الفارسية - فبعيدا عن حبكة الاحداث – مسميات وصفات الشخصيات فى الاسطورة الكردية توجد سمات وروافد لها تربطها بالاساطير الفارسية وهذا يتجلى لمن يراقب التاريخ الاسطورى للفرس فى حدث فريدون والضحاك وكاوه الحداد صاحب الراية.
ورمزية النيروز اى الخير والشر والنور والظلام والإحياء بعد الموت – لها رافد من حبث الرمزية عند كثير من الشعوب والثقافات كالبوذية والارمنية والبابلية والسومرية والمصرية القديمة والقبطية المصرية والفينيقية .
وفى الثقافة العربية كان النيروز لهذه الثقافة الحضارية أداة انتصار – رغم ان البعض ينقلب على هذه الأداة – فالنيروز عرفه العرب قبل الاسلام كما دل فى الرواية " (قدمت المدينة ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية هما يوم النيروز والمهرجان "
فعرفته الثقافة العربية من باب التواصل والجوار الحضارى – وليس من باب الفرضية الاجبارية وهذا يتضح فى فترة ماقبل الاسلام عند شعوب بلاد الشام و الحجاز نتيجة قنوات الاتصال .
وبعد الاسلام ظهر النيروز ايضاً نتيجة امتزاج العنصر العجمى مع العنصر العربى لبناء المكون الانسانى فى الاسلام.
والاسلام لم يعرف بالوجه الحضارى الاحادى كما رأينا فى القرن الواحد والعشرين من محاولات فرضية حضارة الاقوى على كل من ينتصر عليه .
فى حين ان الاسلام فى هذه الفترة التى مزج بها العنصر العربي والعجمى احترم خصوصية كل عنصر – ونجح اين يصنع شئ من العولمة تحترم خصوصية كل عنصر من مكون الانسانية - والأجمل أنه صنع نوع من الحوار الحضارى بين هذه الثقافات – والنيروز كان أحد هذه الأدوات التى استخدمت فى هذا الحوار وهذا المزج الحضارى.
دخل الفرس فى الاسلام ، وخشى البعض من هدمه لتراثهم فحاربوه - وتنازل البعض عن هذا التراث مقابل افراغ الساحة للاسلام وحده - ورأى البعض الأخر أن الاسلام يعالج ولايهدم – فرأى أن الإسلام يهدم وثنية النيروز ولايهدم رمزيته واعتبر الاحتفال بالنيروز علامة على احترام الاسلام لثقافات الشعوب طالما لاتنقض نظرية التوحيد .
فامتزج الوجه الاسلامى بالنيروز وظهرت مساعى تقرب القديم بالحديث – وحاول البعض التفتيش عن ادوات ربط بين القديم والجديد فاستخدموا مدلولات دينية مبنية على التشابه وحوادث زمنية لحدوث هذا الربط .
فربط البعض بين جمشيد والملك سليمان عليه السلام وبين النيروز – وبين مناظر الأرض فى النيروز وبين نصوص القرأن الكريم وحدبثه عن دلائل اعجاز الخالق فى أرضه فيحيي الأرض بعد موتها وتتجلى اسماءه تعالى فى كائناته.و تجلى نور الله فى الارض.
حتى ان مائدة النيروز التى يحتقل بها الفرس يوم النيروز صار تكوينها يقوم على وجود القرأن الكريم بين هذه مكونات هذه المائدة ، وأيات الحديث عن بدائع الله فى الأرض.
- وكل هذه المساعى للربط بين الدين السماوى والأسطورة – نتاج أن النيروز خرج أساساً من الدين الوثنى وبالطبع سيتعارض بعد ذلك مع الوجه الجديد وهو الدين السماوى – فحاول البعض البحث عن أدوات ربط بين الأسطورة والدين السماوى لينزع حالة الصراع هذه.
والثقافة الكردية رغم تشابه احتفالياتها بالنيروز الى حد كبير مع الثقافة الفارسية – إلا انه عندهم يركز على أحد رمزيات الاحتفال بالنيروز – وهى رمزية انتصار الخير على الشر واعلان أن النور هتك ستر الظلام .
فقديما ظهرت الاسطورة عندهم بانتصار "كاوه " رمز الخير على "الضحاك " رمز الشر – وهذا التوظيف مازال مستمرا حتى الان – فرغم ان الكردى مازال يخرج حتى الان الى الطبيعة يوم النيروز ليشاهد الحى بعد الميت ويرى تجليات الخالق فى كائناته.
إلا أنه مازال ينتظر اشتعال نيران انتصار كاوه فوق جبال كردستان – فالاكراد فى كافة بلادهم المنحصرة بين الفرس والعرب والترك يستخدمون هذا الاحتفال كدلالة على اصالتهم فى التاريخ والاعلان عن قضيتهم ومظلوميتهم . فالنوروز عندهم كيوم التعبير عن الإستقلال والثورة فى وجه الظلم والقهر.
فصار الاحتفال بالنيروز فى الثقافة الكردية - باليوم المقدس ولايمكن تركه لأنه يوم الهوية واعلان الوجود.
حتى أن الشعراء الكرد قاموا بالتغني بهذا اليوم كيوم قومى مجيد ، وأمتلأت ملاحمهم بصداه.
ويتخذون من النيروز مناسبة لنظم أشعارهم حيث مباهج الحياة وزهور الربيع والتعطش للحرية والاستقلال ، معتبراً اياه عظيماً متوارثاً عن التقاليد القومية، التي تمجد الانعتاق من الاستبداد والظلم.
فهو يوم لكسب حقوقهم المشروعة. فالنوروز لديهم يعبر عن حرية الطبيعة والحرية السياسية والاجتماعية للانسان بهدف العيش في آمان ووئام بعيدا عن الظلم والاظطهاد سواء كان من الطبيعة او من ذوي البشر.
وظهرت ملاحم شعرية عند الكرد تدور حول مناسبة الــ نوروز - وعبروا من خلالها عن شعورهم القومي واعتزازهم بهذه المناسبة. كما ظهر فى أشعار الشاعر الملا احمدي جزيري ، والشاعر احمدي خاني ، وغيرهم من الشعراء الذين استغلوا مناسية النيروز لإعلاء الحس القومى والتقريب من طبيعة كوردستان في فصل الربيع وإعلان مظلوميتهم .
فنجد جو الإحتفال بالنيروز يفرضه المناخ الذى يولد فيه – فعند الفرس بعد الاسلام يمزج النيروز بمسحة دينية حتى يتمكن من الاستمرار ومسايرة الذهن الجديد .
وعند الكرد يظهر بمسحة قومية بعثية ليعبر عن هويتهم وقوميتهم ، ويعلن حقهم فى وجودهم كأمم فى التاريخ.
وعند العرب يظهر بوجه آخر – فقبل الاسلام ظهر من خلال الاتصال الحضارى عبر قنوات الاتصال – وتقارب فى رمزيته من الاساطير السامية القديمة كاساطير سومر وبابل وفنيقيا وغيرهم من مكونى الحضارات السامية القديمة.
وبعد الاسلام عرفته الثقافة العربية من خلال الامتزاج بالعنصر الغير عربي - وظهر بسميات جديدة حتى تفرغ دائرة الصراع فظهر باسم عيد الدخول ، و عيد الشجرة ، وعيد الربيع ، وعيد المحيا ، وعيد الخضر ، وغيرها من مسميات ترمى لدلالة النيروز.
حتى أن بعض أصحاب الهوية الشيفونية دافعوا عن الاحتفال به ليس من باب أنه يتقارب مع الآخر – ولكن من باب أن له جذور فى تاريخهم وعقائدهم القديمة.
ونعود للنقطة الأهم وهى جمالية الثقافة العربية فى احتواءها للنيروز – فقد احتفت به كنوع من مشاركة الاخر والاعتراف به .
فنجد البحترى وهو من أشهر شعراء العصر العباسى - يرسم النيروز على انه دعوة للكافة على الاعتراف بانطلاق الربيع ووجوب الاحتفال به فيقول :-
[align=center]اتاك الربيع الطلق يختاك ضاحكا
من الحُسن حتى كاد ان يتكلّما
وقد نبه النوروز في غسق الدجى
اوائل ورد كُن بالامس نوما[/align]
ومع فسحة وسعة امتزاج العجم بالعرب – ومع ظهور الدويلات الإسلامية الجديدة فى بلاد العجم – ظهر النيروز بمراسمه بين العرب – واشتعلت النار ليلا ابتهاجا بيوم النيروز- وصنعت الحلوى والزينة.
وكل هذا لأن الحدود مفتوحة والقنوات أقرب – فنجد الشاعر : السلامى فى زمن عضد الولة يقول مستأنسا بنار هذا الاحتفال :-
[align=center]
ما زلت اشتاق نارا اوقدت لهباً حتى ظننت عذاب النار قد عذُبا
يعلو الدخان بسود من ذوائبها قد عط فيها قناعُ التبر واستُلبا
قد كلُلّت عنبراً بالمسك ممتزجاً وطُوقت جُلُناراً واكتست ذهبا
فالنور يلعب في اطرافها مرحا والجمرُ يرعد في اكنافها رهبا[/align]
ونخرج من ذاكرة العصر العباسى ففيه للعنصر العجمى نجم ساطع – ونصعد للعصر الحديث ونجد كيف الشعراء العرب يوظفون النيروز كأداة وصل مع أنفسهم ومع الآخر.
فنجد الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب ينظم عن النوروز ليعبر عن كون هذا العيد هو عيد البشر جميعاً فهو لكافة الأجناس البشرية كرد وعرب وترك وفرس – ففيه ميلاد ربيع أرض تتسع للجميع – فيقول ما مطلعه:-
حلوُ الشباب من الدنيا اوائله بدء الربيع من الايام نوروز
صباح الخير يا تاراً صباح الخير يا عبلة عبير النرجس عطر وزي الخلق استبرق
هنيئاً يا ابنة كاوة هنيئا يا ابنة عنتر فهذا العيد حيانا وذاك النور قد اشرق
وهبت من صبا نجد نسائم نحو اهلينا ولاقتها بأرض العز شمول غيمها ابرق
وينظم قصيدة أخرى يرسم فيها الوجه الآخر من رمزية النيروز وهو الانتصار على الظلم – وأن جنس البشر جميعاً يواجون التحدى مع هذا الظلم – فالظلم لايقع على جنس بعينه فيقول :-
[align=center]
يا شعب ( كاوه ) سل الحداد كيف هوى
صرح على الساعد المفتول ينهار
وكيف أهوت على الطاغي يد نفضت
عنها الغبار وكيف انقض ثوار
والجاعل ( الكير ) يوم الهول مشعله
ينصب منه على الآفاق أنوار
( شيرين ) يا جبل الأحرار ما غفلت
عن حقها الضائع المسلوب أحرار
( كاوه ) كـ ( يعرب ) مظلوم يمد يدا
إلى أخيه ، فما أن يهدر الثأر
والمستغلان في سهل وفي جبل
يدميهما بالسياط الحمر غدار
سالت دماؤهما في الوسط فآمتزجت
فلن يفرقهما بالدس أشرار
واغمد الظلم في الصدرين مخلبه
فجمعت بالدم الجرحين أظفارا
ووحد الجوع عزم الجائعين على إن
يقودهما ، والآ تخمد النار
وقرب القيد من شعبين شدهما
ووجهت من خطى الشعبين أفكار
يا فرحة العيد ما في العيد من فرحة
حتى تحرر من محتلها الدار ...[/align]
- وتستمر أسطورة النيروز كسلم ومرقى صعود عند كثير من الأمم – فكما الأكراد يقولون أنهم أحد أبناء الهضبة الايرانية وانهم من اوائل حاضريها – ويرى البعض الآخر منهم بوجه منقلب أن الأكراد لهم أصول عربية ويفرض عليهم هذا الأصل ؛ التعايش مع العرب كوحدة جنس.
ترى أقوام أخرى كالبلوش : أنهم أسبق هذه الحواضر والأصول وبنى اعتقادهم فى ذلك على قدم لغتهم عنى باقى المجموعة المحيطة لهم من الشعوب – فهم أحق بالمفردة ( النيروز ) وعليه هم أحق بأصل الاحتفال.
وهكذا ظلت أسطورة النيروز تستخدمها الأقوام لتعلن وجودها وأصالة حاضرتها – بل ظهر هذا التناقس بين أبناء الجنس الواحد ، وهذا ما وظفته أبناء الآزر والقزاق والشركس والتركمان والتتار داخل الجنس التركى الواحد ليعلنوا أسبقية عنصر على عنصر فى البناء الحضاري والأصالة.
فأسطورة النيروز مرقى فخر كما وظفها الفرس أو الترك أو راية إعلان وجود كما رأينا عند الأكراد بين مايحيطهم من أقوام – أو كما تفعل المجتمعات التركية فى بلاد البلقان.[/align]
تعليق