التركمان ومدينتهم "كركوك"
الدكتور صبحي ناظم توفيق
(دكتوراه في التأريخ العربيّ الإسلامي)
بعضٌ من تأريخ كركوك
"قلعة كركوك" المقدّر عمرها بآلاف السنين ، الدائريّة الشكل ، العالية المُتّسعة ، ذات الأحياء والشوارع والأزقّة والأبنية المتنوعة في طُرُزها وأحجامها ، هي أصل "مدينة كركوك" التي إنبثقت حوالي قلعتها وعلى جانبي نهر "خاصة صو"، وعلى مرّ القرون ، أحياء سكنية أحدث ، أمثال (مُصلّى، بِرْيادي، جُقُور، إمام قاسم ) شرقيّ النهر.. و(قُورْيه ، صاري كَهْيَه ، نَفْطْجِلَر، تِكْريتْلِلَر، قِشْله ، تِسِنْ) في غربيّ النهر.
توالت على "قلعة كركوك" الحضارات بأعراقها ودياناتها ومقدّساتها ومذاهبها ، فورثت عنها عمرانها ودورعباداتها ومقابرها ومقاماتها المتنوعة ، قبل أن تُبنى جوامعها الإسلامية العديدة في العهود الأموية ، العباسية ، السلجوقية ، آقْ قُويُنْلُو ، قَرَه قُويُنلُو وغيرها ، فضلاًعن العهد العثماني.
أما العثمانيون ، وقد حكموا العراق (بحدوده الدولية الحالية) طيلة أربعة قرون متواصلة ، فقد جعلوا من "كركوك" -من الناحية الإدارية- ((لواءً)) أُتبِع إلى "ولاية بغداد" ، إلاّ أنها تم رُبِطَت إدارياً ببعض الفترات بـ"ولاية شهرزور" ، وأن "كركوك" لم تصبح "لواء/محافظة" إلاّ بعد الإحتلال البريطاني للعراق (1918) وترسيخ حدوده الدولية بعد تأسيس دولة العراق الملكي (1921) حيث تألّفت من أربعة أقضية هي (مركز كركوك ، طوزخورماتو ، كفري - ذوات الأغلبيةالتركمانية - والحويجة ذات الأغلبية العربية) ، وقبل أن يُفْصَل قضاء "جمجمال" – ذو الأغلبية الكردية – من "لواء السليمانية" عام (1946) ويُضَمّ إلى "كركوك" لأسباب ما زالت مُبهمة حتى يومنا هذا ... ذلك الذي جعل من هذا اللواء/المحافظة ذات ديموغرافية من ثلاث قوميات رئيسة ،إلى جانب أقليات أخرى كـ"المسيحيين" بطوائفهم ومذاهبهم العديدة ، وكذلك "اليهود" حتى عام (1954).
رؤية التركمان نحو مدينتهم "كركوك"
يصرّ تركمان من أهالي مدينة "كركوك" وإخوتهم الآخرون المُنتشرون في عموم العراق ، على كون هذه المدينة هي مسكنهم منذ العهد العباسي على أقل تقدير، وما تبعته من حضارات بعد إنهياره ، حتى أن "مسيحيي القلعة" الأصيلون لم تكن لديهم لغة سوى التركمانية ، في حين لاتجد فيها
أو حواليها أية آثار كردية أو عربية ، حتى أنهم يتحدّون بأن المقابرالعديدة بالقلعة نفسها والأحياء المتاخمة لها لا تحتوي -عموماً-على رفات سواهم من الأعراق لغاية عقد العشرينيات من القرن العشرين ... وما المقابرالمحدودة وأصحابها الأكراد إلاّ من أولئك الذين نزحوا من قرى قريبة وأنشأوا في "كركوك" دورعبادة (تكايا) للدراويش بمباركة السلطات العثمانية في عقودها الأخيرة ، أمثال عائلتي (خانقاه ، والطالبانيين) خلال القرن/19 أو أوائل القرن/20... أما العرب فلم يكن لهم وجود بالمدينة - في حينه- إلاّ على شكل عوائل منفردة.
بقيت ديموغرافية "كركوك" محافِظةً على حالها بشكل عام حتى بعد تفكّك الدولة العثمانية ولحين إكتشاف الثروة النفطية في أكثر من بقعة على مقربة من ضواحي المدينة خلال عقد العشرينيات وتأسست شركة (I.P.C) البريطانية وإستقرّت في قلب المدينة ، حين تهافتت للعمل في منشآتها المتعددة الآلاف من أهالي شماليّ العراق بشكل خاص ، ضمّت أكراداً وعرباً وآثوريين وأرمن وغيرهم ، فيما قدم إليها آخرون لينشئوا فيها مصالح تجارية وإقتصادية مالبثت وأن تطورت بشكل هائل وسط "كركوك" بعد ربطها مع "بغداد وأربيل" بسكة حديد ، وبطرق مبلّطة مع خمسة ألوية (محافظات) ، فيما تأسست القيادة العسكرية للمنطقة الشمالية بعقد العشرينيات وأُنشئ العديد من المعكسرات في ضواحي المدينة بعد تأسيس الجيش العراقي الذي إنخرط في صفوفه الآلاف من الشباب الأكراد وغيرهم من سكنة البعض من القرى النائية التابعة لـ"كركوك" ومدينتي "السليمانية ، وأربيل" وأقضيتها ونواحيها.
لم يتواجد الأكراد- ببعض الكثافة- في مدينة "كركوك" حتى عقد الخمسينيات إلاّ ضمن حيّين سكنيّين ، أولهما "إمام قاسم"، وثانيهما "شورجة" اللذان إحتويا- بشكل عام- مساكن متواضعة لعمال بناء وخدمات وجنود ، في حين لم تكن نسبة الطلاّب الأكراد - وكذلك العرب - في مدارس مدينة "كركوك" التي درسنا في صفوفها تزيد على (10%) من مجموع الطلاب ، على الرغم من إفتقارجميع أقضية اللواء (المحافظة) لأية مدرسة متوسطة وثانوية في ذلك العقد.
تنعّمت "مدينة كركوك" بهدوء وأمان وإطمئنان ، فتعايش فيها التركمان والأكراد والعرب وسواهم متآخين متلاحمين مبتعدين عن الإضطرابات ، حتى شاءت الأقدار أن يُقضى على العهد الملكي يوم (14 تموز1958) ، لتنقلب موازين العراق في جميع مناحيها على أعقابها ، وبالأخص في المناحي السياسية والإجتماعية ، فإنخرط العديد من الأكراد في صفوف الحزب الشيوعي- الذي أحكم قبضته على معظم العراق- وبالأحزاب القومية اليسارية الكردية التي عمّت المنطقة الشمالية من العراق وبالأخص "الحزب الديمقراطي الكردستاني" بزعامة "ملاّ مصطفى البارزاني" ، حتى نُفِّذَتْ بحقّ التركمان منتصف شهر تموز1959 مجزرة قُتِل خلالها عشرات التركمان سحلاً بالحبال وتمثيلاً بالجثث ، كانت غايتها الأساس إجبارهم على هجر مدينتهم وتركها لسواهم من الدُخلاء ، في حين ترك آلاف الأكراد قراهم ليستوطنوا "كركوك" حيث أنشأوا أحياءً جديدة لهم على عجل قرب محلّتي "إمام قاسم وشورجه" قبل أن يضيفوا إليهما أحياءً أخرى بمباركة حكومة "عبدالكريم قاسم" أو بغضّ الطرف عن توجّهاتهم ... إلاّ أن الهجرة الكردية نحو "كركوك" حُدّدت بشكل ملحوظ منذ عام ( 1963 ) عند تسلّم "حزب البعث" مقاليد الحكم ، وإستمر كذلك في عهديّ الرئيسين "عبدالسلام وعبدالرحمن عارف".
تعريب "كركوك"
لم تبدأ الخطوات العملية الحقيقية التي إستهدفت "تعريب" محافظة كركوك بشكل مدروس وعملي إلاّ بعد سيطرة حزب البعث على سدّة السلطة إثر نجاحهم في حركة ( 17 -30 تموز 1968) ، لتشمل غالبية الأقضية والنواحي التي كانت مرتبطة بها ... ففي عقد السبعينيات من القرن الماضي أُتبع " قضاء كفري" إلى "محافظة ديالى" ، فيما ضُمَّ " قضاء طوز" إلى "محافظة صلاح الدين"، وفُصِل "قضاء جمجمال" لترتبط بـ"محافظة السليمانية" ، في حين صدرت توجيهات مركزية - حزبية وحكومية – تقضي بترغيب المواطنين العرب في جميع محافظات العراق للهجرة إلى "كركوك" مقابل مُغرَيات مادية ووظيفية ودرجات حزبية ، فأُنْشِئَتْ لهم أحياء عربية عديدة وسط المدينة على نفقة الدولة ، بينما حُورب "التركمان" خصوصاً وكذلك الأكراد والآخرون في رزقهم اليومي ومستقبل عائلاتهم وأولادهم ومصالحهم ، قبل أن يُجبَرُوا – في بعضهم - وبأساليب متنوّعة ، على ((تغيير)) قوميتهم إلى "العربية" طيلة ما يربو على عقدين ، مما إضطرعشرات الألوف من التركمان والأكراد وسواهم من غير العرب ، لترك "كركوك" بُعداً عن الإذلال والمَهانة وطلباً للأمان ولقمة العيش سواءً داخل العراق أوخارجه ، ولغاية إنهيارالنظام إثر إحتلال العراق عام (2003) .
أما "التهجير القسريّ الحكوميّ " للأكراد فإنه لم يشمل إلاّ أولئك الذين لم يُولَدوا في "كركوك" أو لم يُسجّلوا لدى دوائرها المُخْتصّة بالأحوال الشخصية فيها ، وأن ذلك لم يُنفّذ بحقّ أولئك إلاّ بعد عام (1991) حين أخلت الحكومة المركزية المناطق الكردية عند شمولها بما سمّي "المنطقة الآمنة لأكراد العراق" ، ولكن العدد الكلّي للمُرَحّلين جميعاً لم يتجاوز أحد عشرألفاً- إستناداً لوثائق الأمم المتحدة-.
إستبشر التركمان بأن معاناتهم في "كركوك" وسواها قد حُلَّتْ بإنهيار النظام السابق ، ولكنهم فوجئوا بقوات "البيشمركه" الكردية وهي تستحوذ بقوة السلاح على مفاصل مركز محافظة "كركوك" ونواحيها ، إلى جانب القوات الأمريكية أثناء إحتلالها للمدينة أواسط نيسان (2003) ، وتُـنْصِبُ مُحافظاً وكبارالموظفين التنفيذيين ، في حين إندفع إليها سراعاً وخلال بضعة أسابيع بضعة آلاف من المدنيين الأكراد بدعوى أنهم هُجِّروا من المدينة ، فتمّ إسكانهم أمام أنظار قوات الإحتلال بمخيّمات أنْشِئَتْ على أنقاض قواعد ومعسكرات القوات المسلحة العراقية التي نُهِبِتْ كلياً وفي بقاع أخرى من المدينة ونواحيها ... وفي ظلّ غياب سطوة الدولة والقانون ، رُبطت مؤسسات "محافظة كركوك" ودوائرها الحكومية عملياً بإقليم "كردستان العراق" ، فتمّ تعيين آلاف الأكراد موظفين فيها ونُقل آخرون بالجملة إليها من المحافظات الكردية ، وهم مزوّدون- في معظمهم - بوثائق ومستمسكات يُصرّ التركمان أنها مزوّرة بإتقان ، تُشير إلى كونهم أصلاً من أهالي محافظة كركوك !!!
وأخيراً تُوِّجَتْ القساوة على "تركمان العراق"، ليس بهجرة الأكراد وفق خطة مبرمجة وبهذه الأعداد الضخمة إلى مناطق كان جميع العراقيين يعلمون أن التركمان يشكّلون فيها الأغلبية، بل ما نصّ عليه "دستورالعراق الإتحاديّ " حول ((تطبيع)) الأوضاع بتلك البقاع، والذي يبدو جليّاً أنه سيؤول لصالح الأكراد بهذه الظروف لما يمتلكونه من أدوات وتنظيم ونفوذ سياسي وقوات مسلحة وتحالف مضمون مع الأمريكيين، وأغلبية تلي "الكتلة الشيعية" بالبرلمان العراقيّ ، وفيدرالية "الأمر الواقع" بالمنطقة الشماليةمن العراق التي تطمع في "كركوك" بشكل خاص كونها تُؤمّن ميزانية ضخمة لإقليم كردستان فضلاً عن موقعها الإستراتيجي.
ويرى تركمان "كركوك والمدن ذات الأغلبية التركمانية" أنهم لا يمتلكون قوة مسلحة منظمة، مثلما حال الأكراد والعرب، وهم على غير وئام مع المحتلّ الأمريكي، لذا فإن الضرورة إستوجبتْ تحالفاً وطيداً مع "عرب الحويجة" وحتى العرب والآخرين الوافدين إلى " كركوك " وإستثمار مشاعر "العرب السنّة" وكذلك "الشيعة" المُناوئِين للفيدرالية أو التقسيم في عموم العراق ، وخصوصاً حيال سَوق "كركوك" للإنضمام عنوةً إلى الفيدرالية الكردية، فضلاً عن الإعتماد على توجّهات "الجمهورية التركية" التي طالما أعلنت أن (( تعرّض "تركمان العراق" إلى الخطر، وضمّ "كركوك" إلى "إقليم كردستان" )) هما خطّان أحمران ضمن أخطار مُحْدِقَة حيال الأمن القومي التركي ... وأن لاضير في ذلك ـ حسب قناعة التركمان ـ مادام الأكراد متحالفين مع المحتلّ الأمريكيّ، و"الشيعة"،بشكل عام، يستندون على "إيران" ويَتَقَوَّوْنَ بها, فيما يعتمد "العرب السّنة" على أكثر من دولة جوار.... فهل من مَلامَة يمكن أن تُقذف نحو التركمان بموقفهم الإستراتيجي للحفاظ على مستقبلهم في خضمّ هذه الفوضى الذي يعمّ العراق؟؟ .
إن الذي قد يخّفف من وطأة التوجّه الكردي لضم مدينة "كركوك" والمناطق المختلف عليها إلى "إقليم كردستان" هو أن دولتي الجوار "إيران وسوريا" كذلك لا ترغبان - إلى جانب تركيا - أن تكون هناك فيدرالية كردية قوية في شمال العراق ، والتي من المؤكد أنها ستُهيّج مشاعر أكرادهم في المناطق المتاخمة للعراق وتدفعهم بالمستقبل المنظور للمطالبة بحقوق قومية مشابهة قد تزعزع الإستقرار السياسي والأمني لديهما .... وقد إستبشر التركمان مؤخراً ، وكذلك المناهضون لفصل "كركوك" من سلطة العراق المركزية ، من الموقف القويّ للحكومة التركية حيال متمرّدي حزب العمال الكردي- التركي (PKK) المتمركزين في أقاصي شماليّ العراق الذين كان "مسعود بارزاني" يدعمهم جهاراً معتبراً ذاته زعيماً لعموم أكراد العالم المعاصر، ذلك الموقف والقصف الجوي والتدخل البرّي اللذان أدّيا إلى لصم العديد من الأفواه التي كانت تتبجّح بآمال عظيمة واحلام وردية تتمحور بأن "كركوك" لا بد أن تُضَمَّ بالترهيب أو حتى بإستخدام القوة المسلحة وبالقريب العاجل إلى ما يسمّى بـ"كردستان العراق".
ماذا عن المستقبل ؟؟
ربما لا يختلف إثنان حيال أهمية "كركوك" ، سواء كمدينة أو محافظة ، وكونها حالة خاصة ، بل وإستثنائية بمستوى العراق وسط أوضاعه المتفاقمة أمنيّاً وسياسياً ، وأن هناك خلافات وآراء متباينة بأعماق معظم العراقيين أزاءها تفضّل بقاءها إما مرتبطة بالسلطة المركزية أو تتشكّل منها فيدرالية لها خصوصيتها لتتعايش في ربوعها جميع القوميات ، فضلاً عمّا يجول في نفوس مواطنيها الأصيلين ، المُستقرين منهم والوافدين ، المُهجَّرين من بينهم والمُهاجِرين ، سواء أولئك الذين إستطاعوا العودة إلى ديارهم أو مازالوا مُغتربين ، ووفق رؤى متعاكسة تنصب على حقوقهم التأريخية والإنسانية والسياسية والإجتماعية والثقافية المتنوعة - في معظمها- بين مكوّنات "كركوك" السكّانية الرئيسة من "التركمان ، الأكراد ، والعرب والمسيحيين بطوائفهم" وسواهم ، ناهيك عن أهمّيتها النابعة من ثروتها النفطية ، وكونهاعقدة طرق مواصلات إستراتيجية تلتقي فيها تربط شمالي الوطن بوسطه وبواقع (6) محافظات ببعضها ، لذا فإن مشكلاتها العديدة المتوارَثة والمتراكِمة على مرّ القرون المنصرمة وعقود القرن الماضي تحديداً ، وتلك التي إنبثقت مجدّداً سواء في عهد النظام السابق أو بُعيد إحتلال العراق (2003) وتعقّدت تباعاً مع تفاقم أوضاع البلد ، حتى بدا لكل ناظر ومتتبّع أنها باتت حالة مُستعصية يصعب معها إيجاد حلول عملية وواقعية تُرضي الجميع أو الأغلبية وتُهدّئ من روع أصحاب المرامي المتضادّة ، وناراً مشتعلة تختبئ تحت الرماد وهي مرشّحة للإنفلاق والإنفلات كلما إنقضت الأيام وسط حكومة عراقية مركزية حائرة بأمن ذاتها تختبئ بالمنطقة المسمّاة بـ"الخضراء" في قلب "بغداد" وهي تُقصف بقذائف الهاون وصواريخ الكاتيوشا بمعدّلات يومية.
وترد في الأذهان نقطة أخطر على مستقبل "كركوك" والبقاع ذات الأغلبية أو التواجد التركماني، فالأمريكيون المحتلون للعراق يبدون بالمرحلة الراهنة قد أخفقوا بإستتباب الأمن في ربوع العراق عموماً وعدد من المحافظات على وجه الخصوص، ومن بينها "كركوك"، وقد إتخذ الرئيس الأمريكي الجديد "باراك أوباما" قرار سحب قوات بلده من العراق في غضون العامين القادمين، بمعنى أن الأمور قد تفلت بصورة أخطر في العراق إذا تحقق الإنسحاب وذلك ما قد يمهّد لحرب أهليّة ضروس أعظم من تلك التي فرضت أوزارها قبل سنتين، حيث لا نظن أن "واشنطن" ستفكّر في حلّ مشكلات العراق المستعصية منذ ست سنوات قبل أن تترك هذا البلد المنكوب تحت رحمة المتصارعين على كراسي الحكم والجاه والنفوذ، وذلك ما يتيح المجال لمن يحمل سلاحاً أقوى وقوات عسكرية أو شبه عسكرية منظّمة أفضل أن يتدخّل لفرض إرادته على "كركوك" والمناطق المختلف عليها.
ولكن من ناحية ثانية أو ثالثة ورابعة، فإنّ "تركيا" – حسب مواقفها وخطوط حمرائها المُعلَنة – سوف لا تقف مكتوفة اليدين إنّ حصل مكروه لـ"كركوك" والتركمان، وقد تصطف "إيران و سوريا" إلى جانبها، ليس حبّاً بكركوك أو إعجاباً بسواد عيون التركمان العراقيّين، بل لرؤىً إستراتيجية ومصالح معروفة تلتقي ببعضها وتتشابك ضمن هذه المنطقة الساخنة المُبتلى بالثروة النفطية منذ أوائل القرن الماضي، والتي لولاها لما ترسّخ لا العراق ولا كركوك ببال أحد من المتحكّمين بأمور العالم المعاصر... ولذلك ينبغي إيضاح مايمكن إيضاحه للقادة الأكراد، وهم أكثر المعنيّين بالأمر، بأن طروحاتهم التأريخية بشأن "كركوك" ونواحيها تبدو ضعيفة الأُسس والمرتكزات حيال معاكساتها التركمانيات، وأن إثارة آراء وإدعاءات تستند على التأريخ الموغل بالقدم ودولة "ميديا" وتحريف تفاصيلها عن مساراتها - حتى في حالة كونها قوية على سبيل الإفتراض - ستُثير آراءً متضادّة أقوى، سوف تتمخّض عنها مشكلات لا يمكن أن تُوصل فئات الشعب الواحد الى نتائج محمودة، كما أن مزاعمهم الجغرافية أضعف كثيراً من التأريخ، فضلاً عن أن الإصرار على مثل هذهِ الأمور والمواقف ستُعاظِم بالتأكيد مشاعر معظم العراقيين حيال الأكراد الذين يمكن أن تُؤخَذ نحوهم نظرة الرغبة المشكوك فيها بالإنفصال عن العراق، وهذا مالا يصُبّ في مصلحتهم القومية بالوقت الراهن والمستقبل القريب في ظلّ الوطن الواحد – إنْ كانوا في حقيقتهم راغبين أن يظلّ وطناً واحداً - وكذلك لدى العديد من دول الجوار التي تتعاكس توجّهاتها السياسية والإقليمية مع رؤى الأكراد، وتذكيرهم أن الأمريكيّين راحلون مهما طال بقاؤهم والذي مُستقرّ في هذا الوطن هم العراقيون بمختلف طوائفهم ومهما طال عذابهم وعدم إستقرارهم ونكباتهم وكوارثهم، وأن "إسرائيل" لا يمكن أن تكون ظهيراً للأكراد إلاّ لمصالحها الذاتية الخبيثة، وأن "واشنطن" وأصحاب القرار في عواصم الدول الكبرى وحلف (NATO) والإتحاد الأوروبي سوف لا تفضّل "حكومة إقليم كردستان" المتواضعة والمنحصرة بين أربع دول من غير منفذ بحري أو برّي على تحالفاتها الإستراتيجية وعلاقاتها الإقتصادية المتعددة والمتشابكة والمتصاعدة مع "آنقرة" وموقعها الإستراتيجي العظم وقواتها المسلّحة التي تشكل ثاني أضخم جيش في الحلف المذكور.
الدكتور صبحي ناظم توفيق
عمّــان في 3-3-2009
الدكتور صبحي ناظم توفيق
(دكتوراه في التأريخ العربيّ الإسلامي)
بعضٌ من تأريخ كركوك
"قلعة كركوك" المقدّر عمرها بآلاف السنين ، الدائريّة الشكل ، العالية المُتّسعة ، ذات الأحياء والشوارع والأزقّة والأبنية المتنوعة في طُرُزها وأحجامها ، هي أصل "مدينة كركوك" التي إنبثقت حوالي قلعتها وعلى جانبي نهر "خاصة صو"، وعلى مرّ القرون ، أحياء سكنية أحدث ، أمثال (مُصلّى، بِرْيادي، جُقُور، إمام قاسم ) شرقيّ النهر.. و(قُورْيه ، صاري كَهْيَه ، نَفْطْجِلَر، تِكْريتْلِلَر، قِشْله ، تِسِنْ) في غربيّ النهر.
توالت على "قلعة كركوك" الحضارات بأعراقها ودياناتها ومقدّساتها ومذاهبها ، فورثت عنها عمرانها ودورعباداتها ومقابرها ومقاماتها المتنوعة ، قبل أن تُبنى جوامعها الإسلامية العديدة في العهود الأموية ، العباسية ، السلجوقية ، آقْ قُويُنْلُو ، قَرَه قُويُنلُو وغيرها ، فضلاًعن العهد العثماني.
أما العثمانيون ، وقد حكموا العراق (بحدوده الدولية الحالية) طيلة أربعة قرون متواصلة ، فقد جعلوا من "كركوك" -من الناحية الإدارية- ((لواءً)) أُتبِع إلى "ولاية بغداد" ، إلاّ أنها تم رُبِطَت إدارياً ببعض الفترات بـ"ولاية شهرزور" ، وأن "كركوك" لم تصبح "لواء/محافظة" إلاّ بعد الإحتلال البريطاني للعراق (1918) وترسيخ حدوده الدولية بعد تأسيس دولة العراق الملكي (1921) حيث تألّفت من أربعة أقضية هي (مركز كركوك ، طوزخورماتو ، كفري - ذوات الأغلبيةالتركمانية - والحويجة ذات الأغلبية العربية) ، وقبل أن يُفْصَل قضاء "جمجمال" – ذو الأغلبية الكردية – من "لواء السليمانية" عام (1946) ويُضَمّ إلى "كركوك" لأسباب ما زالت مُبهمة حتى يومنا هذا ... ذلك الذي جعل من هذا اللواء/المحافظة ذات ديموغرافية من ثلاث قوميات رئيسة ،إلى جانب أقليات أخرى كـ"المسيحيين" بطوائفهم ومذاهبهم العديدة ، وكذلك "اليهود" حتى عام (1954).
رؤية التركمان نحو مدينتهم "كركوك"
يصرّ تركمان من أهالي مدينة "كركوك" وإخوتهم الآخرون المُنتشرون في عموم العراق ، على كون هذه المدينة هي مسكنهم منذ العهد العباسي على أقل تقدير، وما تبعته من حضارات بعد إنهياره ، حتى أن "مسيحيي القلعة" الأصيلون لم تكن لديهم لغة سوى التركمانية ، في حين لاتجد فيها
أو حواليها أية آثار كردية أو عربية ، حتى أنهم يتحدّون بأن المقابرالعديدة بالقلعة نفسها والأحياء المتاخمة لها لا تحتوي -عموماً-على رفات سواهم من الأعراق لغاية عقد العشرينيات من القرن العشرين ... وما المقابرالمحدودة وأصحابها الأكراد إلاّ من أولئك الذين نزحوا من قرى قريبة وأنشأوا في "كركوك" دورعبادة (تكايا) للدراويش بمباركة السلطات العثمانية في عقودها الأخيرة ، أمثال عائلتي (خانقاه ، والطالبانيين) خلال القرن/19 أو أوائل القرن/20... أما العرب فلم يكن لهم وجود بالمدينة - في حينه- إلاّ على شكل عوائل منفردة.
بقيت ديموغرافية "كركوك" محافِظةً على حالها بشكل عام حتى بعد تفكّك الدولة العثمانية ولحين إكتشاف الثروة النفطية في أكثر من بقعة على مقربة من ضواحي المدينة خلال عقد العشرينيات وتأسست شركة (I.P.C) البريطانية وإستقرّت في قلب المدينة ، حين تهافتت للعمل في منشآتها المتعددة الآلاف من أهالي شماليّ العراق بشكل خاص ، ضمّت أكراداً وعرباً وآثوريين وأرمن وغيرهم ، فيما قدم إليها آخرون لينشئوا فيها مصالح تجارية وإقتصادية مالبثت وأن تطورت بشكل هائل وسط "كركوك" بعد ربطها مع "بغداد وأربيل" بسكة حديد ، وبطرق مبلّطة مع خمسة ألوية (محافظات) ، فيما تأسست القيادة العسكرية للمنطقة الشمالية بعقد العشرينيات وأُنشئ العديد من المعكسرات في ضواحي المدينة بعد تأسيس الجيش العراقي الذي إنخرط في صفوفه الآلاف من الشباب الأكراد وغيرهم من سكنة البعض من القرى النائية التابعة لـ"كركوك" ومدينتي "السليمانية ، وأربيل" وأقضيتها ونواحيها.
لم يتواجد الأكراد- ببعض الكثافة- في مدينة "كركوك" حتى عقد الخمسينيات إلاّ ضمن حيّين سكنيّين ، أولهما "إمام قاسم"، وثانيهما "شورجة" اللذان إحتويا- بشكل عام- مساكن متواضعة لعمال بناء وخدمات وجنود ، في حين لم تكن نسبة الطلاّب الأكراد - وكذلك العرب - في مدارس مدينة "كركوك" التي درسنا في صفوفها تزيد على (10%) من مجموع الطلاب ، على الرغم من إفتقارجميع أقضية اللواء (المحافظة) لأية مدرسة متوسطة وثانوية في ذلك العقد.
تنعّمت "مدينة كركوك" بهدوء وأمان وإطمئنان ، فتعايش فيها التركمان والأكراد والعرب وسواهم متآخين متلاحمين مبتعدين عن الإضطرابات ، حتى شاءت الأقدار أن يُقضى على العهد الملكي يوم (14 تموز1958) ، لتنقلب موازين العراق في جميع مناحيها على أعقابها ، وبالأخص في المناحي السياسية والإجتماعية ، فإنخرط العديد من الأكراد في صفوف الحزب الشيوعي- الذي أحكم قبضته على معظم العراق- وبالأحزاب القومية اليسارية الكردية التي عمّت المنطقة الشمالية من العراق وبالأخص "الحزب الديمقراطي الكردستاني" بزعامة "ملاّ مصطفى البارزاني" ، حتى نُفِّذَتْ بحقّ التركمان منتصف شهر تموز1959 مجزرة قُتِل خلالها عشرات التركمان سحلاً بالحبال وتمثيلاً بالجثث ، كانت غايتها الأساس إجبارهم على هجر مدينتهم وتركها لسواهم من الدُخلاء ، في حين ترك آلاف الأكراد قراهم ليستوطنوا "كركوك" حيث أنشأوا أحياءً جديدة لهم على عجل قرب محلّتي "إمام قاسم وشورجه" قبل أن يضيفوا إليهما أحياءً أخرى بمباركة حكومة "عبدالكريم قاسم" أو بغضّ الطرف عن توجّهاتهم ... إلاّ أن الهجرة الكردية نحو "كركوك" حُدّدت بشكل ملحوظ منذ عام ( 1963 ) عند تسلّم "حزب البعث" مقاليد الحكم ، وإستمر كذلك في عهديّ الرئيسين "عبدالسلام وعبدالرحمن عارف".
تعريب "كركوك"
لم تبدأ الخطوات العملية الحقيقية التي إستهدفت "تعريب" محافظة كركوك بشكل مدروس وعملي إلاّ بعد سيطرة حزب البعث على سدّة السلطة إثر نجاحهم في حركة ( 17 -30 تموز 1968) ، لتشمل غالبية الأقضية والنواحي التي كانت مرتبطة بها ... ففي عقد السبعينيات من القرن الماضي أُتبع " قضاء كفري" إلى "محافظة ديالى" ، فيما ضُمَّ " قضاء طوز" إلى "محافظة صلاح الدين"، وفُصِل "قضاء جمجمال" لترتبط بـ"محافظة السليمانية" ، في حين صدرت توجيهات مركزية - حزبية وحكومية – تقضي بترغيب المواطنين العرب في جميع محافظات العراق للهجرة إلى "كركوك" مقابل مُغرَيات مادية ووظيفية ودرجات حزبية ، فأُنْشِئَتْ لهم أحياء عربية عديدة وسط المدينة على نفقة الدولة ، بينما حُورب "التركمان" خصوصاً وكذلك الأكراد والآخرون في رزقهم اليومي ومستقبل عائلاتهم وأولادهم ومصالحهم ، قبل أن يُجبَرُوا – في بعضهم - وبأساليب متنوّعة ، على ((تغيير)) قوميتهم إلى "العربية" طيلة ما يربو على عقدين ، مما إضطرعشرات الألوف من التركمان والأكراد وسواهم من غير العرب ، لترك "كركوك" بُعداً عن الإذلال والمَهانة وطلباً للأمان ولقمة العيش سواءً داخل العراق أوخارجه ، ولغاية إنهيارالنظام إثر إحتلال العراق عام (2003) .
أما "التهجير القسريّ الحكوميّ " للأكراد فإنه لم يشمل إلاّ أولئك الذين لم يُولَدوا في "كركوك" أو لم يُسجّلوا لدى دوائرها المُخْتصّة بالأحوال الشخصية فيها ، وأن ذلك لم يُنفّذ بحقّ أولئك إلاّ بعد عام (1991) حين أخلت الحكومة المركزية المناطق الكردية عند شمولها بما سمّي "المنطقة الآمنة لأكراد العراق" ، ولكن العدد الكلّي للمُرَحّلين جميعاً لم يتجاوز أحد عشرألفاً- إستناداً لوثائق الأمم المتحدة-.
إستبشر التركمان بأن معاناتهم في "كركوك" وسواها قد حُلَّتْ بإنهيار النظام السابق ، ولكنهم فوجئوا بقوات "البيشمركه" الكردية وهي تستحوذ بقوة السلاح على مفاصل مركز محافظة "كركوك" ونواحيها ، إلى جانب القوات الأمريكية أثناء إحتلالها للمدينة أواسط نيسان (2003) ، وتُـنْصِبُ مُحافظاً وكبارالموظفين التنفيذيين ، في حين إندفع إليها سراعاً وخلال بضعة أسابيع بضعة آلاف من المدنيين الأكراد بدعوى أنهم هُجِّروا من المدينة ، فتمّ إسكانهم أمام أنظار قوات الإحتلال بمخيّمات أنْشِئَتْ على أنقاض قواعد ومعسكرات القوات المسلحة العراقية التي نُهِبِتْ كلياً وفي بقاع أخرى من المدينة ونواحيها ... وفي ظلّ غياب سطوة الدولة والقانون ، رُبطت مؤسسات "محافظة كركوك" ودوائرها الحكومية عملياً بإقليم "كردستان العراق" ، فتمّ تعيين آلاف الأكراد موظفين فيها ونُقل آخرون بالجملة إليها من المحافظات الكردية ، وهم مزوّدون- في معظمهم - بوثائق ومستمسكات يُصرّ التركمان أنها مزوّرة بإتقان ، تُشير إلى كونهم أصلاً من أهالي محافظة كركوك !!!
وأخيراً تُوِّجَتْ القساوة على "تركمان العراق"، ليس بهجرة الأكراد وفق خطة مبرمجة وبهذه الأعداد الضخمة إلى مناطق كان جميع العراقيين يعلمون أن التركمان يشكّلون فيها الأغلبية، بل ما نصّ عليه "دستورالعراق الإتحاديّ " حول ((تطبيع)) الأوضاع بتلك البقاع، والذي يبدو جليّاً أنه سيؤول لصالح الأكراد بهذه الظروف لما يمتلكونه من أدوات وتنظيم ونفوذ سياسي وقوات مسلحة وتحالف مضمون مع الأمريكيين، وأغلبية تلي "الكتلة الشيعية" بالبرلمان العراقيّ ، وفيدرالية "الأمر الواقع" بالمنطقة الشماليةمن العراق التي تطمع في "كركوك" بشكل خاص كونها تُؤمّن ميزانية ضخمة لإقليم كردستان فضلاً عن موقعها الإستراتيجي.
ويرى تركمان "كركوك والمدن ذات الأغلبية التركمانية" أنهم لا يمتلكون قوة مسلحة منظمة، مثلما حال الأكراد والعرب، وهم على غير وئام مع المحتلّ الأمريكي، لذا فإن الضرورة إستوجبتْ تحالفاً وطيداً مع "عرب الحويجة" وحتى العرب والآخرين الوافدين إلى " كركوك " وإستثمار مشاعر "العرب السنّة" وكذلك "الشيعة" المُناوئِين للفيدرالية أو التقسيم في عموم العراق ، وخصوصاً حيال سَوق "كركوك" للإنضمام عنوةً إلى الفيدرالية الكردية، فضلاً عن الإعتماد على توجّهات "الجمهورية التركية" التي طالما أعلنت أن (( تعرّض "تركمان العراق" إلى الخطر، وضمّ "كركوك" إلى "إقليم كردستان" )) هما خطّان أحمران ضمن أخطار مُحْدِقَة حيال الأمن القومي التركي ... وأن لاضير في ذلك ـ حسب قناعة التركمان ـ مادام الأكراد متحالفين مع المحتلّ الأمريكيّ، و"الشيعة"،بشكل عام، يستندون على "إيران" ويَتَقَوَّوْنَ بها, فيما يعتمد "العرب السّنة" على أكثر من دولة جوار.... فهل من مَلامَة يمكن أن تُقذف نحو التركمان بموقفهم الإستراتيجي للحفاظ على مستقبلهم في خضمّ هذه الفوضى الذي يعمّ العراق؟؟ .
إن الذي قد يخّفف من وطأة التوجّه الكردي لضم مدينة "كركوك" والمناطق المختلف عليها إلى "إقليم كردستان" هو أن دولتي الجوار "إيران وسوريا" كذلك لا ترغبان - إلى جانب تركيا - أن تكون هناك فيدرالية كردية قوية في شمال العراق ، والتي من المؤكد أنها ستُهيّج مشاعر أكرادهم في المناطق المتاخمة للعراق وتدفعهم بالمستقبل المنظور للمطالبة بحقوق قومية مشابهة قد تزعزع الإستقرار السياسي والأمني لديهما .... وقد إستبشر التركمان مؤخراً ، وكذلك المناهضون لفصل "كركوك" من سلطة العراق المركزية ، من الموقف القويّ للحكومة التركية حيال متمرّدي حزب العمال الكردي- التركي (PKK) المتمركزين في أقاصي شماليّ العراق الذين كان "مسعود بارزاني" يدعمهم جهاراً معتبراً ذاته زعيماً لعموم أكراد العالم المعاصر، ذلك الموقف والقصف الجوي والتدخل البرّي اللذان أدّيا إلى لصم العديد من الأفواه التي كانت تتبجّح بآمال عظيمة واحلام وردية تتمحور بأن "كركوك" لا بد أن تُضَمَّ بالترهيب أو حتى بإستخدام القوة المسلحة وبالقريب العاجل إلى ما يسمّى بـ"كردستان العراق".
ماذا عن المستقبل ؟؟
ربما لا يختلف إثنان حيال أهمية "كركوك" ، سواء كمدينة أو محافظة ، وكونها حالة خاصة ، بل وإستثنائية بمستوى العراق وسط أوضاعه المتفاقمة أمنيّاً وسياسياً ، وأن هناك خلافات وآراء متباينة بأعماق معظم العراقيين أزاءها تفضّل بقاءها إما مرتبطة بالسلطة المركزية أو تتشكّل منها فيدرالية لها خصوصيتها لتتعايش في ربوعها جميع القوميات ، فضلاً عمّا يجول في نفوس مواطنيها الأصيلين ، المُستقرين منهم والوافدين ، المُهجَّرين من بينهم والمُهاجِرين ، سواء أولئك الذين إستطاعوا العودة إلى ديارهم أو مازالوا مُغتربين ، ووفق رؤى متعاكسة تنصب على حقوقهم التأريخية والإنسانية والسياسية والإجتماعية والثقافية المتنوعة - في معظمها- بين مكوّنات "كركوك" السكّانية الرئيسة من "التركمان ، الأكراد ، والعرب والمسيحيين بطوائفهم" وسواهم ، ناهيك عن أهمّيتها النابعة من ثروتها النفطية ، وكونهاعقدة طرق مواصلات إستراتيجية تلتقي فيها تربط شمالي الوطن بوسطه وبواقع (6) محافظات ببعضها ، لذا فإن مشكلاتها العديدة المتوارَثة والمتراكِمة على مرّ القرون المنصرمة وعقود القرن الماضي تحديداً ، وتلك التي إنبثقت مجدّداً سواء في عهد النظام السابق أو بُعيد إحتلال العراق (2003) وتعقّدت تباعاً مع تفاقم أوضاع البلد ، حتى بدا لكل ناظر ومتتبّع أنها باتت حالة مُستعصية يصعب معها إيجاد حلول عملية وواقعية تُرضي الجميع أو الأغلبية وتُهدّئ من روع أصحاب المرامي المتضادّة ، وناراً مشتعلة تختبئ تحت الرماد وهي مرشّحة للإنفلاق والإنفلات كلما إنقضت الأيام وسط حكومة عراقية مركزية حائرة بأمن ذاتها تختبئ بالمنطقة المسمّاة بـ"الخضراء" في قلب "بغداد" وهي تُقصف بقذائف الهاون وصواريخ الكاتيوشا بمعدّلات يومية.
وترد في الأذهان نقطة أخطر على مستقبل "كركوك" والبقاع ذات الأغلبية أو التواجد التركماني، فالأمريكيون المحتلون للعراق يبدون بالمرحلة الراهنة قد أخفقوا بإستتباب الأمن في ربوع العراق عموماً وعدد من المحافظات على وجه الخصوص، ومن بينها "كركوك"، وقد إتخذ الرئيس الأمريكي الجديد "باراك أوباما" قرار سحب قوات بلده من العراق في غضون العامين القادمين، بمعنى أن الأمور قد تفلت بصورة أخطر في العراق إذا تحقق الإنسحاب وذلك ما قد يمهّد لحرب أهليّة ضروس أعظم من تلك التي فرضت أوزارها قبل سنتين، حيث لا نظن أن "واشنطن" ستفكّر في حلّ مشكلات العراق المستعصية منذ ست سنوات قبل أن تترك هذا البلد المنكوب تحت رحمة المتصارعين على كراسي الحكم والجاه والنفوذ، وذلك ما يتيح المجال لمن يحمل سلاحاً أقوى وقوات عسكرية أو شبه عسكرية منظّمة أفضل أن يتدخّل لفرض إرادته على "كركوك" والمناطق المختلف عليها.
ولكن من ناحية ثانية أو ثالثة ورابعة، فإنّ "تركيا" – حسب مواقفها وخطوط حمرائها المُعلَنة – سوف لا تقف مكتوفة اليدين إنّ حصل مكروه لـ"كركوك" والتركمان، وقد تصطف "إيران و سوريا" إلى جانبها، ليس حبّاً بكركوك أو إعجاباً بسواد عيون التركمان العراقيّين، بل لرؤىً إستراتيجية ومصالح معروفة تلتقي ببعضها وتتشابك ضمن هذه المنطقة الساخنة المُبتلى بالثروة النفطية منذ أوائل القرن الماضي، والتي لولاها لما ترسّخ لا العراق ولا كركوك ببال أحد من المتحكّمين بأمور العالم المعاصر... ولذلك ينبغي إيضاح مايمكن إيضاحه للقادة الأكراد، وهم أكثر المعنيّين بالأمر، بأن طروحاتهم التأريخية بشأن "كركوك" ونواحيها تبدو ضعيفة الأُسس والمرتكزات حيال معاكساتها التركمانيات، وأن إثارة آراء وإدعاءات تستند على التأريخ الموغل بالقدم ودولة "ميديا" وتحريف تفاصيلها عن مساراتها - حتى في حالة كونها قوية على سبيل الإفتراض - ستُثير آراءً متضادّة أقوى، سوف تتمخّض عنها مشكلات لا يمكن أن تُوصل فئات الشعب الواحد الى نتائج محمودة، كما أن مزاعمهم الجغرافية أضعف كثيراً من التأريخ، فضلاً عن أن الإصرار على مثل هذهِ الأمور والمواقف ستُعاظِم بالتأكيد مشاعر معظم العراقيين حيال الأكراد الذين يمكن أن تُؤخَذ نحوهم نظرة الرغبة المشكوك فيها بالإنفصال عن العراق، وهذا مالا يصُبّ في مصلحتهم القومية بالوقت الراهن والمستقبل القريب في ظلّ الوطن الواحد – إنْ كانوا في حقيقتهم راغبين أن يظلّ وطناً واحداً - وكذلك لدى العديد من دول الجوار التي تتعاكس توجّهاتها السياسية والإقليمية مع رؤى الأكراد، وتذكيرهم أن الأمريكيّين راحلون مهما طال بقاؤهم والذي مُستقرّ في هذا الوطن هم العراقيون بمختلف طوائفهم ومهما طال عذابهم وعدم إستقرارهم ونكباتهم وكوارثهم، وأن "إسرائيل" لا يمكن أن تكون ظهيراً للأكراد إلاّ لمصالحها الذاتية الخبيثة، وأن "واشنطن" وأصحاب القرار في عواصم الدول الكبرى وحلف (NATO) والإتحاد الأوروبي سوف لا تفضّل "حكومة إقليم كردستان" المتواضعة والمنحصرة بين أربع دول من غير منفذ بحري أو برّي على تحالفاتها الإستراتيجية وعلاقاتها الإقتصادية المتعددة والمتشابكة والمتصاعدة مع "آنقرة" وموقعها الإستراتيجي العظم وقواتها المسلّحة التي تشكل ثاني أضخم جيش في الحلف المذكور.
الدكتور صبحي ناظم توفيق
عمّــان في 3-3-2009