سلطان على الأعراف: عبد الحميد
ترجمه من التركية: كمال خوجة
بعد أربعة أيام كاملة من إزاحة السلطان عبد العزيز عن العرش في الرابع من حزيران/يونيو 1876 وجد مقتولا بقطع عروق رسغيه في غرفته بقصر فرية. <?xml:namespace prefix = o ns = "urn:schemas-microsoft-comfficeffice" /><o></o>
الدماء التي سالت من رسغيه، لم تكن دماء أول سلطان في القصر دون شك. لكن السر الذي اكتنف الموت لم يكشف عنه في أي وقت من الأوقات.<o></o>
فبينما قال البعض أن السلطان الذي أزاحه معارضوه عن العرش انتحر، أكد آخرون بأنه كان ضحية لجريمة.<o></o>
تلك الصورة التي التقطت عشية موته كانت تعبر عن الحالة المأساوية التي آل إليها عبد العزيز، فالواقع أن السلطان مات قبل ذلك بكثير.<o></o>
وعبد الحميد كان أحد المتيقنين من كون عبد العزيز ضحية جريمة قتل. فلم يكن هذا الأمير الشاب ينسى جثة عمه المتسربلة بالدم. <o></o>
بعد عبد العزيز تولى العرش مراد، الأخ الأكبر لعبد الحميد، ولكن لم يمض ثلاثة شهور حتى ظهر اختلال عقله فأزيح السلطان الجديد عن العرش، وجاء دور السلطنة لعبد الحميد.<o></o>
الذين اعتقدوا بميول مراد الخامس الإصلاحية كانوا هذه المرة يقابلون بحيرة، جلوس من لم يأملوا جلوسه أبدا.<o></o>
"عبد الحميد الثاني أصبح السلطان لكني كنت أحب أبي أكثر، فقد خالط حبي لأبي الاحترام والتعظيم، فكل كان بمقدوري إزالة الكلفة بيني وبين أبي على نحو ما كان بيني وبين أمي؟ فأبي هو الآخر يقبلني ويداعبني ويقول" بنتي الجميلة، ملاكي" كنت أفرح كثيرا لكلامه هذا ، لكني أتحاشى أن يكون مني أي خطأ أو تقصير بحضوره، أدخل عليه و يداي معقودتان، وقد نبهتني أمي بأنه إذا خاطبني أبي وقال " يا بنيتي" أن أجيبه " نعم ياسيدنا" أبي هو أبو الأمة، فقد كان السلطان، والجميع يقول " سيدنا" فكيف لي أن أقول غير هذا؟ كلما كبرت نمت مشاعري وزادت أحاسيس الحب، كنت أفهم كل الحقائق، أفهم عظم وشموخ أبي.<o></o>
من عادته أن ينام باكرا ويستيقظ باكرا. في الصباح يصحو قبل الشمس، ويدخل الحمام فيستحم ، وقد أمر ببناء مصطبة ليجلس عند الباب الخارجي للحمام، يجلس هناك ويرتدي ثيابه، ويؤدي صلاة الصبح هناك، ثم يتناول فطوره.<o></o>
وبعد أن يشرب الحليب الممزوج بالمياه المعدنية يرتشف القهوة ويدخن لفافته، ثم يتوجه مباشرة إلى قسم الحريم، ومن هناك إلى صالة الاستقبال، يجلس خلف المكتب ويطلب إليه الباشا رئيس الكتاب. وهنا ينظر في المعاملات الرسمية حتى الساعة الحادية عشر تقريبا، وعندما يجهز الطعام يدخل قسم الحريم ، فيجلس إليه بصحبة أمي وبعد الطعام يتمدد فوق الكرسي الطويل بغرفة النوم حوالي ربع ساعة أو أكثر، ثم ينهض ويتوجه إلى قسم الاستقبال ليكمل ما بقي من أعمال الصباح،وخلال عمله بعد الظهر يأذن بدخول الكاتب الأول أو الكاتب الثاني وبعض الوزراء. <o></o>
عندما تولى عبد الحميد عرش السلطنة كانت جذور تلك الشجرة الباسقة العظيمة المتماسكة مع التراب ، أي الدولة العثمانية قد دب فيها الوهن.<o></o>
تلك الإمبراطورية الكبيرة التي هابها الجميع ضعفت على مر الزمان، وتحولت إلى مريض على فراش الموت يسيل لميراثه لعاب الطامعين.<o></o>
أوربا الغربية شهدت تغييرات كبيرة مثل فكرة التنوير والثورة الفرنسية والثورة الصناعية، فالعلم والفلسفة باتت تنمو على يد الأوربيين.<o></o>
فقد أدت ألمع شعارات الثورة الفرنسية إلى نمو التيارات القومية، وكانت الإمبراطوريات أكبر الخاسرين منها، وثارت مختلف الشعوب التي عاشت ضمن التراب العثماني لتملك قدرها بنفسها. <o></o>
عيون أوربا الطامعة باتت موجهة نحو الدولة العثمانية، ذات الأراضي الخصبة والثروات الضخمة، فهي تمل انتظار حلول أجل المريض الذي يسيل لميراثه لعاب الطامعين، ولم يكن في نية روسيا البقاء خارج هذا التقاسم. <o></o>
أما السلطنة فلم تكن مرتاحة حتى من داخلها.<o></o>
فهناك مجموعة من المثقفين العثمانيين يعارضون أن تجتمع السلطات كلها بيد السلطان، فمنذ أن تعرفوا على الأفكار الأوربية التي دوخت رؤوسهم، شطح بهم الخيال إلى أن يغيروا بلدانهم تغييرا جذريا.<o></o>
فقد كان المستقبل في الغرب، والتطور في الغرب، والحياة في الغرب.<o></o>
أرادوا تشكيل برلمان ، يستهلون كل جملهم بكلمة الحرية.<o></o>
كل العيون كانت موجهة نحو عبد الحميد.<o></o>
ولدى السلطان شكوك في إمكانية التحول إلى نظام دستوري. في الوقت الذي سعت البيروقراطية المدينة والعسكرية بزعامة مدحت باشا إلى إقناع السلطان بذلك.<o></o>
بعد فترة قصيرة من اعتلائه العرش أعلن الحكم الدستوري في الثالث والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول 1876 أعقب ذلك تشكيل مجلس المبعوثان( مجلس النواب) وافتتحه عبد الحميد بنفسه، وتنفس الجميع الصعداء، لكنهم كانوا في نفس الوقت قلقين من أن لا يكون هذا النفس طويلا. <o></o>
لم يكن متوقعا من عبد الحميد أن يهنأ بسلطنته وقميص عمه عبد العزيز المسربل بالدماء لا زال ماثلا أمام عينيه. فالشكوك كانت أقوى الأحاسيس لدى السلطان عندما يتخذ أي قرار.<o></o>
رأى بأن معارضيه ليسو راضين عنه وأنهم سيسقطونه في أول فرصة سانحة. أعد الذين أرادوا إسقاطه وإعادة شقيقه إلى العرش خطة انقلاب. كانت الخطة تقضي بأن تقوم مجموعة تابعة لعلي سعاوي من بين مهاجمي قصر جراغان من الصحفيين خطف شقيقه مراد الخامس وإعادته إلى العرش. لكنه الخطة فشلت. <o></o>
وعاد السلطان ممسكا بزمام السلطة كاملة في البلاد.<o></o>
في عام 1877 حل المجلس.<o></o>
لم يعد يرضى بأن يطير طائر في سماء بلاده دون أن يعلم بذلك. ركز اهتمامه على تأسيس شبكة الاستخبارات، أراد أن يعلم بكل شيء. <o></o>
علل عبد الحميد نظام الاستخبارات المتصلب هذا ببقاء واستمرار الدولة ، لكن الذين هم خارج القصر كان لهم تفسير آخر هو الاستبداد. فباتت القناعة المشتركة لديهم أن السلطان أسس نظاما للقهر والاضطهاد.<o></o>
لم يكن يغادر القصر أبدا، أنشأ لنفسه عالما يقتصر على ما حول بالقصر وأحاطه بالأسلحة فبات هذا العالم ملجأه. <o></o>
"كان أبي في الليالي يأمر بأن يقرأ عليه وهو في غرفته الكتب، فصار معرضا لشتى أنواع النقد من قبل معارضيه، بينما كان ذلك من مشاغل حياته الخاصة وتتجلى في أكثر المجالات براءة مثل قراءة الكتب.<o></o>
أما أبي فكان يعلل طلب أن يقرأ عليه الكتاب بقوله: <o></o>
" آمر بأن يقرأ علي الكتاب كل ليلة للتخلص من وطأة الأعمال التي تشغلني نهارا، ولتحويل ذهني إلى وجهات أخرى كي أطرد أفكاري وأهنأ في نومي. فإذا كانت المؤلفات التي تقرأ علي جادة، فالنوم يطير من عيني كليا. لذلك تركتها وطلبت ترجمة الروايات" ويضيف مبتسما" عندما كنت طفلا كانت مربيتي تترنم لي ، ونفس التأثير أشعر به عندما تقرأ علي الكتب الآن، وفي الواقع فإني نصف مستمع، ولا ألبث أن أغط في النوم، فهذا هو علاج نومي"<o></o>
وما أن يشعر قارئو الكتب وهم أمام باب السلام(الاستقبال) أنالسلطان نام حتى يقوموا ويخرجوا بهدوء" <o></o>
وبأمر من السلطان عبد الحميد ترجمت كافة أجزاء شارلوك هولمز البوليسية التي ألفها الكاتب الشهير كونان دويل، فالسلطان الذي يعتقد بوقوف كل من حوله ضده يولي شغفا واهتماما بالقصص البوليسية.<o></o>
أعضاء منظمة تركيا الفتاة الذين واصلوا انتشارهم في أوربا يطلقون شعارات نارية حول الحرية والعدالة والمساواة، كانوا يعبرون عن هذه الشعارات من خلال الصحف والمجلات التي تصدر في أوربا أكثر من غيرها، وبمضي الأيام سرت النار في الديار العثمانية. <o></o>
وفي مقابل ذلك شددت الدولة على المراقبة، وصارت الجمل في الكتب التي لا تعجب الدولة تتعرض للشطب ثم منعت هذه الكتب نهائيا. <o></o>
فهم عبد الحميد بدا في بعض الأحيان أكثر تعقيدا.<o></o>
فهو يدعو من خلال الهوية الدينية إلى الوحدة الإسلامية من رجهة ويستمع إلى القيان في المسرح الذي أنشأه، ويطرب لما تعزفه أنامل الحسناوات على البيانومن جهة أخرى.<o></o>
كان يسعى إلى التغيير التدريجي في المجتمع العثماني، التغيير من خلال التعليم والمؤسسات فيما تعود عليه الناس.<o></o>
" في مرحلة الصبا أبديت اهتماما بالبيانو، فقد جلب أبي لكل واحد من أمرائه آلة بيانو من أوربا، كما جلب إلى القصر مدرسي موسيقا إيطاليين وفرنسيين، وعين الفرنسي ألكسندر ليعلمني، وقد درست هذا الفن فترة من الزمن.<o></o>
وذات مساء تأبطت نوطاتي التي لم أجدها أبدا، وتوجهت إلى مكتب والدي، دخلت الغرفة فرحة ، قبلت يد سيدي وتوجهت على عجل إلى البيانو قال أبي" هيا يا بنيتي، اعزفي كي نستمع " عزفت النشيد بإتقان. وجاء دور المعزوفات الأخرى التي تعلمتها، لكني لم أعد أتذكر المعزوفة لسبب من الأسباب، فلم أجدها بصورة من الصور، بدأت أبكي، أجهشت في البكاء وقد لامس رأسي مواقع العزف، ولعل والدي حزن لحالي فصار يسليني ويهدئ من روعي"
<o></o>
كان السلطان يدرك بأن أحد طرق التنمية يمر من التعليم ، فهو يبحث عن وسائل إبعاد البيروقراطية عن السياسة من جهة، ويعمل على إنشاء مؤسسات التعليم الجديدة من جهة أخرى، أنشأ مدارس الملكية والمالية والتجارة ، ثم أعقبها بالتعليم العالي والحقوق والبحرية والفنون الجميلة والتعدين ، كما انشأ ولأول مرة في البلدان العثمانية مدارس للصم والبكم والعميان، وصارت مدارس البنات المهنية تعلو في مختلف مناطق العاصمة.<o></o>
لم يكتف عبد الحميد بهذه المشاريع، فقد واصل الإنشاء، فوضع حجر الأساس لدار الفنون(الجامعة) في الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لاعتلائه العرش. <o></o>
ومن المؤكد أن السلطان الذي بدأ حملة التعليم لم يكن يدري بأنه وضع بذلك أسس مأساته الشخصية. ذلك لأن هذه المدارس صارت تخرج جيلا جديدا يصف السلطان بـ" السلطان الأحمر" والنظام العثماني بـ" بالنظام الاستبدادي" هؤلاء الشباب الذي جرى تسييسهم أكثر من اللازم انضموا إلى تركيا الفتاة وكانوا نواة منظمة الاتحاد والترقي وغيرها من المنظمات.<o></o>
والمؤسسة الأخرى التي عمل السلطان على تحديثها هي الجيش. فقد أرق عبد الحميد تزايد القوة والتنظيم في الجيوش الأوربية وهو الذي يدرك جيدا أن انتصارات الماضي لا تصنع مستقبلا. أخذ في الحسبان إغضاب بعض الدول الأوربية، وعقد اتفاقا مع الألمان لتحديث الجيش العثماني، وأنشأ المدارس العسكرية ، وجعل التعليم فيها احترافيا.<o></o>
لم يكن تحديث الجيش هو مشكلة عبد الحميد الوحيدة مع العساكر، فقد كان مصدر القلق لدى عبد الحميد التنظيمات الثورية، ووجود ضباط يمكنهم القيام بانقلاب في أي لحظة. وجد عبد الحميد أن وسيلة تجاوز هذه العقبة هو في تشكيل قوات حماية من ضباط وجنود يدينون له بالولاء المطلق ويضحون من أجله بحياتهم. فكانت لحماية السلطان قوة ممتازة من الأرناؤوط المعروفين بولائهم المطلق وشدة مراسهم وقتالهم في الحروب. <o></o>
لكن ذلك لم يحل دون تحرك بعض الشباب من المدارس الحربية والطبية، فقد شكل هؤلاء" جمعية الاتحاد والترقي" التي وضعت بصماتها في الأعوام الأخيرة للعهد العثماني، وكان من أهدافهم" القضاء على الحكم الاستبدادي" والعودة إلى العصور الذهبية للإمبراطورية العثمانية. فلم يعد التخطيط في أي شيء في الممالك العثمانية دون الأخذ بالحسبان جمعية الاتحاد والترقي، أو التقدم خطوة بالرغم من الاتحاد والترقي. <o></o>
رغبة التمسك بزمام الأمور وطبيعة القلق والخوف من فقدانها لدى السلطان عبد الحميد دفع بالسلطان عبد الحيمد إلى اتخاذ التدابير القاسية تجاه الاتحاد والترقي. وقد شبه المؤرخون الصراع بين السلطان والاتحاد والترقي بـ"محاولة القبض على قط أسود في غرفة مظلمة". فكل يكون الجميع من الاتحاد والترقي في رأي السلطان، وقد يكون هؤلاء في كل مكان، فلم يلبث حتى تحول هذا الشك إلى حملة اعتقالات ونفي قل نظيرها. <o></o>
في هذه المرحلة تعرف القصر العثماني على مصطلح جديد وهو " كتابة التقارير" فالعملاء الموالون للسلطان كانوا في كل يوم يعدون تقارير بـ"قوائم الاتحاديين" ويقدمونها للقصر بصورة منتظمة. أما المنظمة فقد وجدت الحل تجاه هذه الضغوط في نقل نشاطاتها إلى منطقة لا يطالها يد القصر، فنقلوها إلى البلقان وإلى مقدونيا بشكل أخص. أضف إلى ذلك أن المنظمة لم تعد حصرا على الضباط الشباب على ضمت إلى صفوفها قادة عسكريين مقتدرين من ذوي الرتب العالية.<o></o>
من جهة أخرى فإن المثقفين العثمانيين الذين لم يجمعهم الفكر في أي وقت من الأوقات، لم يلبثوا أن انصهروا في بوتقة واحدة تجاه نظام عبد الحميد القاسي. فقد جمعت فكرة " مناهضة عبد الحميد " الشاعر الإسلامي الشاب محمد عاكف وبديع الزمان سعيد النورسي ومنظر القومية التركية ضياء كوك ألب ونامق كمال. <o></o>
الحلقة تضيق والقصر تنهال عليه التقارير، ومع كل تقرير جديد يكسب الاتحاد والترقي مؤيدين أو أعضاء جدد .<o></o>
ورشة النجارة كانت إحدى الأماكن التي يلجأ السلطان لتجاوز قلقه وخوفه، يلبس لباس العمل ويمسك بقطع الخشب، ليصنع منها الطاولات والكونسولات والطربيزات، يقضي الساعات الطوال متعاملا مع قطع الخشب في ورشة النجارة هذه. فقد وجدها المرفأ الذي يلجأ إليه بعيدا عن الأجواء المتلبدة المتوترة.<o></o>
إضفاء أشكال على الخشب ، وإخضاعها كاد أن يكون نتيجة طبيعية لعقدة" امتلاك القوة في كل الظروف" لا بد أن يكون قويا ومقتدرا في كل الظروف...<o></o>
وعبد الحميد بدلا من الصراع مع الدول الأوربية التي تنامت قوتها في البحار، أقدم على وسيلة جديدة، فأحدث شبكة من الخطوط الحديدية في مختلف أنحاء البلاد، كي يحس جميع من في هذه البلاد بأنهم يعيشون في ظله، وفي الواقع فقد كان ذلك بداية سياسة واصلها مؤسسو الجمهورية التركية الفتية. <o></o>
رأى عبد الحميد بأن تطوير شبكة الخطوط الحديدية سيؤدي إلى حلف إسلامي متماسك تجاه الغرب ويكون عامل التوازن الوحيد للعالم، لذلك فقد اعتقد جازما " بضرورة التوحد حول الإسلام واعتبار التيارات القومية غير قائمة أصلا" وبدعوة منه توجهت إلى القصر رجال الدين والعلم من مختلف المجتمعات والبلدان الإسلامية وخاصة من المجتمعات العربية لدراسة سبل تطوير التعاون فيما بينها. <o></o>
كان من أبرز من دعي إلى قصر يلدز من الضيوف وأكثرهم لفتا الانتباه جمال الدين إعجابا شديدا بذكاء الأفغاني وبدفاعه عن القضية الإسلامية. لكن هذا الإعجاب انقلب إلى عداء بسبب دفاع الأفغاني عن النظام البرلماني، وآرائه المناهضة للسلطنة. لذلك فقد اتهم القصر جمال الدين الأفغاني في السنوات اللاحقة بتدبير مؤامرات ضد السلطان. <o></o>
اهتم عبد الحميد بالمواضيع التي تتعلق بالحقوق الدينية للمسلمين وطالب باحترام الإسلام في الغرب. فقد وقف في وجه عرض مسرحية " محمد" لفولتير في فرنسا لنيلها من الرسول عليه الصلاة والسلام. ومارس ضغطا على الحكومة الإنجليزية لإصلاح منزل أحد المسلمين الذي أحرقه متطرفون مسيحيون في ليفربول، وطالب حكومة رومانيا بمعاقبة موظف في الجمارك لرميه نسخة من المصحف الشريف في البحر، باعتبار ذلك تقوية لمنصب الخلافة ، وسعيا لاستمراء بقاء هذا المنصب عنصر توازن.<o></o>
لكن كل هذه الجهود لم تنفع إلا في تأخير الأجل المتحوم الدولة العثمانية أو للرجل المريض، وبينما كان العالم على وشك دخول عصر جديد كانت البلدان التابعة للدولة العثمانية تتعرض لاحتلال جيوش أوربا القوية.<o></o>
الحملات السياسية التي اتبعتها تركيا في سياستها الخارجية وعرفت بـ "سياسة التوازن" لم تعد مجدية. "سياسة التوازن" هذه التي اتبعت بين القوى المختلفة لم تحل دون فقدان الأراضي، فالإمبراطورية تفقد كل يوم مزيدا من الدماء والأراضي، بقي أن نقول بأن طلب الأراضي لم يكن مقتصرا على الدول الأوربية التي تملك السلاح، فقد كان هناك زائرون جدد للقصر العثماني يريدون الأرض مقابل المال.<o></o>
كانت أهداف المؤتمر الصهيوني العالمي الذي عقد في بازل عام 1897 واضحة جلية: الاستيطان في منطقة جديدة لكسر الضغوط المتنامية تجاه اليهود في أوربا. أما أكثر الأراضي قابلية لذلك فهي فلسطين التي يعتبرها اليهود بصورة تقليدية " أرضا موعودة". تيودور هيرتزل الذي لقي أكثر الاهتمام من بين الشخصيات التي حضرت المؤتمر، قام بخمس زيارات إلى اسطنبول في الفترة بين عام 1896 و1902 بهدف طلب فلسطين من القصر العثماني " مقابل المال" لكنه لم يحظ بمقابلة عبد الحميد إلا في واحدة منها ، وخلال هذا اللقاء بالغ الأهمية أكرم السلطان وفادة هرتزل بصور مختلفة، لكنه عندما جاء دور عرض بيع أراضي فلسطين، كان جواب عبد الحميد سلطان الإمبراطورية العثمانية التي باتت خزينتها خاوية حاسما " أنا لن أبيع شبرا واحدا من الأرض، فهذا الوطن أمانة في يد الأمة وليس ملكي" يقول هرتزل في مذكراته بغضب أنه بعد هذا اللقاء بات على اعتقاد جازم بأنه من غير الممكن الحصول على شير واحد من أراضي فلسطين طالما بقي عبد الحميد على رأس السلطة. <o></o>
من المشاكل المهمة التي واجهت عبد الحميد الثاني المشكلة الأرمنية. فعندما ارتفعت أصوات الأقليات المطالبة بالاستقلال، ركب الأرمن الموجة نفسها ، وبذلك صار الأرمن الذين عرفوا بين العثمانيين بـ" الملة المخلصة" من المطالبين بالاستقلال. ولعل ذلك كان أشد المحن مرارة للإمبراطورية. <o></o>
وفيما الدولة تضعف يسعى عبد الحميد إلى اتخاذ كل أنواع التدابير لقلب هذا الضعف إلى قوة ، ومن بين هذه التدابير تحويل الأراضي التي تحوي منابع النفط المهمة والمؤسسات القوية إلى ملكيته الخاصة ، فيحول بذلك دون وقوع هذه النقاط الاسترايجية بيد الأجانب. <o></o>
صباح الثلاثاء السابع والعشرين من إبريل/نيسان 1909<o></o>
في ذلك اليوم عاش عبد الحميد أصعب ساعات حكمه خلال ثلاثة وثلاثين عاما ، لم يكن السلطان وأسرته على علم بأي نوع من المستقبل ينتظرهم.<o></o>
مع خلع والدي بدأت أول أيام المستقبل المر والحزين بالنسبة لي. وفيما كانت أصوات المدافع القوية يرتد صداها من جدران القصر فتهتز زجاجنوافذه، أحسست بالألم في قلبي فانهمرت الدموع من عيني ، وكان أول ما قلت متضرعا إلى الله" يارب ارحم أبي، هب له حياته" العرش والتاج كله لا يعني شيئا ، فكل ما يمكن فعله الآن هو الدعاء إلى الله كي يحمي لنا حياته والحفاظ عليه من أجل القضاء، وانتظار العون من ربنا تبارك وتعالى. <o></o>
ملجأنا هو الله، ما كنا نسمعه من قدماء القصر منذ نعومة أظفارنا هو خلع السلطان عبد العزيز وقتله، هذه الفاجعة المدهشة تركزت في أدمغتنا ، وكان هناك احتمال أن نتعرض للمصيبة نفسها، كانت هذه الفكرة المخيفة تراودني فتجعلني أنهار وأرتجف ، وتنهمر الدموع من عيني ، وأجهش بالبكاء. <o></o>
وبالرغم من كل ذلك فقد كان أبونا أكثر رباطة بالجأش، فبقي على هدوئه ووقاره وأسلم أمره إلى الله فهو جالس خلف مكتبه بالصالة الصغيرة، مشغول كالعادة بكتبه وأوراقه وكأنه لا يسمع أصوات المدافع والبكاء والعويل .<o></o>
ثم بدأت مدافع الجلوس، وحان اليوم والساعة الرهيبة ، كنا نبكي ، وندعو، واجتمع في الصالة الكبيرة كافة حريمه وأولاده، أما هو فيدور بيننا محافظة على رباطة جأشه وتوكله، ثم خاطبنا بقوله" قدر الله قد تحقق. الحمد لله" كنا لا نقدر على منع أنفسنا من البكاء. وهو يوصينا برباطة الجأش ويعمل على مواساتنا . وفي هذه الأثناء ظهر جوهر آغا أمام الباب وقال" رئيس الكتاب جواد بك يريد مقابلة سيدنا" أجاب والدي" ليأت" وطلب منا التوجه إلى الصالة الصغيرة. كان الباب مفتوحا على مصراعيه ، وكلنا واقفون أمام الباب. دخل جواد بك وأبلغ بقدوم وفد من المجلس الملي. أجاب والدي قائلا" ليتفضلوا" دخل الوفد يتقدمهم رئيس الكتاب.<o></o>
كانوا أربعة وقفوا قبالة والدي وحيوه بصورة مقتضبة فرد عليهم والدي بمثلها ، القادمون هم أسعد طوبتاني الأرناؤوطي، وعارف حكمت باشا اللاز، وآرام أفندي الأرمني، وقراصو أفندي اليهودي.<o></o>
بادر أسعد طوبتاني وهو الأول بين الحاضرين بقوله" لقد عزلتك الأمة" <o></o>
أجاب والدي بصلابة وبصوت جهوري" أظن أنك تريد أن تقول خلعتني" حسنا! فما سبب ذلك؟ <o></o>
هنا بدأ الرجل الثاني وكان عسكريا عرفنا فيما بعد أنه عارف حكمت باشا بقراءة الفتوى. بدأت الفتوى بجملة" إذا قام إمام المسلمين زيد بطي وإخراج بعض المسائل الشرعية المهمة من الكتب الشرعية وبمنع وإحراق الكتب المذكورة..،<o></o>
وعندما وردت جملة منع وإحراق الكتب الشرعية قال" أي الكتب الشرعية أحرقتها؟ أقول حسبنا الله ونعم الوكيل" ثم أنصت للقتوى حتى نهايتها . ولم انتهت قراءة الفتوى سأل عارف حكمت باشا" أي مقام أصدر هذا القرار؟" أجاب عارف حكمت" المجلس الملي" قال أبي" هكذا إذن؟ من يرأس هذا المجلس؟ فلما أجيب بأنه رئيس الأعيان سعيد باشا، قال بنبرة المندهش " سعيد باشا؟ أحقا هو؟ ثم أضاف" عملت من أجل أمتي ودولتي ثلاثة وثلاثين عاما وسعيت من أجل سلامة بلادي ، خدمت ما بوسعي أن أخدم. يقضي الله ما يشاء ورسول الله هو من سيحاكمني. أسلم هذه البلاد كما استلمتها ، لم أعط أحدا شبرا من تراب ، أترك خدماتي لتقدير الحق تبارك وتعالى، وما الحيلة فقد أراد أعدائي أن يغطوا كل خدماتي بغطاء أسود وقد <o></o>
نجحوا في ذلك."<o></o>
كان السلطان وحيدا ، رجلا وحيدا طيلة حياته، وهاهي الوحدة بلغت أشد حالاتها وأبعد مداها. كان السلطان يعرف الغضب جيدا، وكان يرى تجسم الغضب في وجوه أعدائه.<o></o>
والنفور صنو الغضب... هذا النفور لم يكن مقتصرا على المعارضين من الإتحاديين بل يكاد يكون متجذرا في كافة الأقليات بداخل الجسد العثماني وفي أمم أوربا أيضا. فقد بات عبد الحميد في العقول الرجل الذي لا يحبه أحد. ويكاد يكون ذنبه الوحيد حبه لبلاده وعمله على منع سقوطها وانهيارها بالرغم من كل الضغوط والتهديدات بل ومحاولات الاغتيال.<o></o>
كان ذلك في عام 1905، فبعد صلاة الجمعة ومروره من مراسم السلام كان عبد الحميد في حديث مع رجال الدولة الذين تحلقوا حوله. وفي جامع يلدز حيث تحشد جمع كما جرت العادة لمشاهدة مرور السلطان، سمع الجميع دويا هائلا، فقد انفجرت قنبلة موقوتة ركبت في عربة نجحت في الوصول إلى ساحة الجامع التي تحولت إلى بركة من الدماء.<o></o>
صاحب القنبلة كان إرهابيا أرمنيا. ولكن من حسن الحظ أن عبد الحميد نجا دون أن يصاب بأذى من هذه القنبلة التي انفجرت على طريق السلطان، صعد السلطان عربته بنفسه وأمسك بالزمام وقادها متجها صوب قصر يلدز. كان هذا التصرف مثيرا للدهشة، وقد عرف عنه عدم خروجه من القصر سنوات طويلة وظن الناس أنه يعيش في خوف دائم، منيت محاولة الاغتيال بالفشل ونجا عبد الحميد، لكن المعارضة لحكمه واصلت التصعيد ولم تتوقف. <o></o>
من جانب آخر فإن واحدا مما يقلق عبد الحميد أكثر من غيره تركز في البلقان. فالجيش الثاني في مقدونيا يقوده ضباط جميعهم ممن يعارضون السلطان، هذا الجيش المتآمر الذي يتحرك بمنأى عن الحكومة المركزية كان بلا شك من أكثر مصادر القلق لدى عبد الحميد. <o></o>
ومن مجرد شائعة جاءت الفرصة التي تنتظرها تركيا الفتاة وكذلك جمعية الاتحاد والترقي. تلخصت الشائعة في أن ملك إنجلترا اجتمع بالقيصر الروسي في ريفال للمساومة على تمزيق وتقاسم الممالك العثمانية وأن عبد الحميد وافق على هذه المساومة.<o></o>
وحتى لم تكن هذه المعلومات صحيحة، فإن أعضاء تركيا الفتاة وكذلك الاتحاديين اتهموا السلطان بالخيانة وبدأت تصدر عنهم ردود فعل قوية. الباشوات الذين أرسلهم السلطان لإعادة الهدوء قتلهم الاتحاديون على الفور، وتحول اسم نيازي الرسنوي وأنور بك إلى رمز في البلقان وفي جميع الممالك العثمانية. ولم يعد السلطان يقدر على التدخل إزاء رد الفعل الذي تفجر في البلقان. فوقف مكتوف اليدين يراقب ما يحدث من تطورات. <o></o>
وأخيرا حدث ما كان متوقعا، فلم يقدر عبد الحميد على مواجهة كل هذه الضغوط، واضطر إلى إعلان الحكم الدستوري في عام 1908. تروي ابنته بأنه لخص الوضع بما يلي" ها نحن وقد جرفنا التيار نذهب وسنذهب جعل الله العقبة خيرا" اتخاذه هذا القرار دون إرادة منه ونتيجة للضغوط يعني أن حكمه انتهى فعليا ، وأصبح المعارضون أصحاب القرار في الإدارة ، أما السلطان فقد بات رمزا وحسب. <o></o>
لكن إعلان الحكم الدستوري هو الآخر لم يكن عائقا دون ذوبان الدولة العثمانية، فاستقلال بلغاريا أعطى زخما لحركات التحرر النصرانية بداخل البلاد، كانت جمعية الاتحاد والترقي ممسكة بزمام الأمور بصورة فعلية، ولكن هناك قطاعات منزعجة من نشاطات الجمعية، فبعد فترة قصيرة من إعلان الحكم الدستوري حدثت ثورة اشترك فيها بعض الوحدات العسكرية وطلاب المدارس عرفت فيما بعد بـ" حادثة 31 مارس/آذار، أخمدت من قبل جيش الحركة القادم من سلانيك ووجه المجلس أصابع الاتهام إلى عبد الحميد.<o></o>
وحانت ساعة النهاية التي طالما انتظرها عبد الحميد بخوف وقلق، فأرسل بعد خلعه مباشرة إلى سلانيك.<o></o>
لم تبدأ أعوام النفي للسلطان عبد الحميد حتى تفجرت حروب البلقان، ولما امتد القتال الشديد إلى مشارف سلانيك تقرر نقل السلطان وأسرته إلى اسطنبول. لم يفهم عبد الحميد سبب التحالف ضد الدولة العثمانية، ولم ينظر بعين الرضا إلى الخروج من سلانيك ، يقول" سلانيك هي مفتاح اسطنبول. فكيف نعطيها للعدو؟ فلن أتزحزح من مكاني، ثم أين ذهب الجيشان الثاني والثالث؟ من هم القادة الذين يديرون هذه الحرب؟ بقيت اعتراضاته دون نتيجة، فقد ركب بارجة ألمانية عام 1912 ،فتوجهت به صوب اسطنبول. <o></o>
حطت رحاله هذه المرة في قصر بكلر بكي، وفي شهر فبراير /شباط عام 1918 حيث تستعر معارك الحرب العالمية انضم قدر عبد الحميد إلى قدر الدولة العثمانية ففارق الحياة في اليوم العاشر من فبراير/شباط 1918.<o></o>
واخذ رجال الدولة مكانهم في التاريخ مع أخطائهم وصوابهم، فبينما ذكر بعضهم بالخير المطلق في مجتمعاتهم ، ذكر آخرون مع الذكريات المرة. <o></o>
لم تمض حتى مائة عام على وفاته بعد ولا زال اسم عبد الحميد مفعما بالغموض في تركيا وفي البلدان التي ضمتها الإمبراطورية في الفترة الأخيرة من عمر الدولة العثمانية.<o></o>
مضت مائة عام على نهاية سلطنة عبد الحميد، ولا زال الجدل مستمرا حول سلطنته التي استمرت ثلاثة وثلاثين عاما في تركيا والعالم الإسلامي. لأن فترة الثلاثة والثلاثين عاما هذه كانت مسرحا للتغييرات الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية والاقتصادية التي تتعلق بحاضر تركيا بل وحاضر كافة بلدان المنطقة.<o></o>
البعض يتهم عبد الحميد بالاضطهاد والشمولية وحب الانتقام والرجعية وغير ذلك من المفاهيم بينما يراه آخرون وليا من أولياء الله ، ووطنيا دافع عن بلاده دفاعا بطوليا. فهو أعظم السلاطين في القرن الأخير من عمر الدولة العثمانية.<o></o>
ومن المحير حقا هذا البون الشاسع بين هذين الرأيين.<o></o>
أهو السلطان الأحمر، أم السلطان الولي؟ <o></o>
أهو من مارس الاضطهاد والعنف ، أم رجل دولة مجدد ومستشرف للمستقبل<o></o>
هذه الأسئلة تنتظر جوابها حتى يومنا هذا. <o></o>
<o></o>
<o></o>
<o></o>
تعليق