نقل الأتراك الجزائريين لمسلمي الأندلس إلى شمال أفريقيا ونتائجه
أ.د. أرجمند قوران
ترجمه من التركية بتصرف: عامر الهنيني
مراجعة وتدقيق وتصويب الترجمة العثمانية: د. منذر أبو هواش
أ.د. أرجمند قوران
ترجمه من التركية بتصرف: عامر الهنيني
مراجعة وتدقيق وتصويب الترجمة العثمانية: د. منذر أبو هواش
استسلمت مدينة "غرناطة" آخر معاقل المسلمين في الأندلس للحاكمين الإسبانيين الكاثوليكيين فرديناند وإيسابيلا في الثاني من كانون الأول/ يناير 1492م، وبهذا تمّت حركة استعادة النصارى لشبه جزيرة إيبيريا والتي يطلق عليها الإسبان " Reconquista". وكما هو معلوم، بلغت الحضارة الإسلامية في شبه الجزيرة الإيبيرية مرتبة سامقة خلال ما يقارب الثمانية قرون من الزمن منذ أن فتحها العرب المسلمون عام 711م (1)، وبانتهاء الحكم الإسلامي للأندلس أطلق الإسبان على بقية المسلمين فيها اسم موريسكو " Morisco" أو موديخار " Mudejar" ، والأخيرة مصحفة من الكلمة العربية " مدجّن" ، وقد وردت أكثر من مرة في المصادر العثمانية باسم " مدجّل".
وبالرغم من أن معاهدة تسليم غرناطة قد ضمنت للمسلمين أنفسهم وأموالهم كما دينهم وحرية عبادتهم لم يمتثل الإسبان لهذه الشروط واستهلوا حملة تنصير الأندلسيين منذ عام 1499م، فانتفض المسلمون وعمّت ثورتهم في مناطق واسعة من إقليم غرناطة. وفي عام 1501م أصدر الملك الإسباني فرديناند أمرا ً بتخيير المسلمين بين النصرانية وترك البلاد نهائيا ً فدفع ذلك المدجّنين إلى الالتجاء إلى المناطق الجبلية فرارا ً بدينهم، واضطر البعض لإظهار تنصّره تقية .
لقد بعث مسلمو الأندلس بأكثر من رسالة إلى حكام المغرب الأقصى يستغيثونهم، لكنهم لم يتمكنوا من اتخاذ تصرف لصالح إخوانهم في الدين بسبب محاولات الإسبان والبرتغاليين الاستيلاء على السواحل المغاربية، وفي مستهل القرن السادس عشر أرسل شاعر غرناطي إلى السلطان العثماني بايزيد الثاني كتاب شكوى منظوم القوافي يستعرض فيه الحال الأليم للمدجّنين(2)، و ما كادت كفة المسلمين في الحرب التي دارت رحاها بين 1499م و1503م بين العثمانيين والبنادقة ترجح حتى أعلنت العشائر العلوية في الأناضول تمردا ً ضد الدولة العثمانية أشعل فتيله الشاه إسماعيل الصفوي، ويشكل هذا احتمالا ً قويا ً لانصراف السلطان بايزيد عن تلبية رغبات مسلمي الأندلس تخليصهم من أوضاعهم.
في عام 1486م أي قبل سقوط غرناطة قدم إلى استانبول سفير من إمارة بني الأحمرآخر حكام الأندلس وألقى بين يدي السلطان مرثية أبي البقاء صالح بن شريف (3) مستنجدا ً به بلاده، لكن افتقار العثمانيين إلى أسطول بحري قابل للخروج إلى ما وراء البحار واحتجاز فرسان مالطا (4) أخي بايزيد الثاني جم سلطان منذ عام 1482م لم يمكنهم من تلبية رغبة السفير، وبالإضافة إلى هذا يتفق على أن القرصان التركي كمال رئيس قد أغار على السواحل الإسبانية عام 1487م، وذلك قبل انضوائه تحت لواء الدولة العثمانية سنة 1494م (5).
لقد تحقق مد يد العون من جانب الأتراك العثمانيين لمسلمي الأندلس في أوائل عهد سليمان القانوني، وذلك أن البحارين التركيين الأخوين عروج وخضر أثناء محاربتهما للنصارى في البحر المتوسط تحت تبعية حاكم أنطاليا الأمير قورقود بن بايزيد الثاني قد لاذا فرارا ً إلى أطراف المغرب خشية معاقبتهما بعدما تولى السلطان سليم الحكم مكان أبيه ثم أمربإعدام قورقود (6)، وهناك استشهد عروج أثناء قتاله الإسبان قرب تلمسان، وتسلم أخوه خضر زمام الأمور في مدينة الجزائر، وحينما أدرك أنه لن يستطيع الصمود طويلا ً بقواته الحاضرة في تلك البلاد القاصية قام بمراجعة السلطان سليم وأعلمه بتبعيته للدولة العثمانية. وفي تلك الأثناء توفي السلطان سليم وخلفه ابنه سليمان القانوني الذي قام سنة 1520م بإرسال ألفي جندي من فرقتي الإنكشارية والمدفعية إلى خضر رئيس وعينه واليا ً على جزائر الغرب وعرف مذ ذاك باسم " بارباروس خير الدين"، وفي الفترة ما بين 1525م حتى 1533م قامت مراكبه بنقل 70 ألف مدجّن من إسبانيا إلى شمال أفريقيا، وفي نفس العام نال إمارة البحر برتبة باشا (قپودان پاشالغي Kapudan Paşalığı).(7)
وأثناء قصد خير الدين باشا لإستانبول لاستهلال مهمته أميرا ً للبحر استخلف حسن آغا بالوكالة على الجزائر، وكانت مدينة وهران في الغرب تحت وطأة الحكم الإسباني منذ عام 1509م، وفي عام 1535م قام ملك الإمبراطورية الرومانية المقدسة وملك إسبانيا كارلوس الخامس باسترجاع تونس بعد عام من انتزاعها على يد خير الدين باشا. وفي أواخر أكتوبر 1541م جلب كارلوس الخامس أسطولا ً ضخما ً بغية احتلال الجزائر وأخرج جنده إلى الساحل الشرقي من المدينة، ولكن القوات الجزائرية بقيادة حسن آغا أحبطت الهجوم وألحقت به الهزيمة فعاد أدراجه. وقد حفز هذا الموقف مدجني غرناطة فقاموا في أواخر ذلك العام بإرسال كتاب إلى السلطان العثماني قدموا فيه شكواهم من الفاسيين لتقاعسهم عن أداء النصرة، وأعربوا عن جزيل شكرانهم لإنقاذ خير الدين باشا المسلمين الأندلسيين من جور وطغيان النصارى، واستعطفوه كي يعينه واليا ً على الجزائر مرة أخرى، ولكن أمنيتهم لم تتحقق فقد أفضى خير الدين باشا إلى ربه عام 1546م. و المثير للاهتمام أن هذا الكتاب ذكر أن عدد المدجنين في إسبانيا يبلغ 364 ألفا ً، وهو رقم لا بأس به أمام 6 ملايين نسمة حسب التخمينات سنة 1541م.
ازداد وضع المدجنين في إسبانيا تدهورا ً على أثر اعتلاء فيليب الثاني عرش إسبانيا سنة 1558م، فمحاكم التفتيش التي سنّتها الكنيسة الكاثوليكية جعلت المسلمين واليهود يرزحون تحت ضغوطات شديدة الوطأة، ففي عام 1567م صدر قانون يمنعهم من اتخاذ لباس خاص بهم، ومفاتيح لمنازلهم، والتحادث باللغة العربية فأعلنوا ثورتهم عام 1568م واستمرت عامين حتى تم قمعها بدموية، وحتى لو قام والي الجزائر أولوج علي باشا بإمداد المجاهدين الأندلسيين بالسلاح والعتاد، فإن الدولة العثمانية التي كانت تتأهب لغزو قبرص لم تفعل ذلك مباشرة، وبيّتت المخططات لإرسال أسطول لغزو إسبانيا بعد فتح الجزيرة المتوسطية وتم الفتح في أغسطس من عام 1561م(8)، ولكن في أكتوبر من نفس العام دُمّر الأسطول العثماني في معركة اينه بختي (9) بواسطة التحالف النصراني فراحت خطة تحرير مسلمي الأندلس أدراج الرياح.
سدد الإسبان ضربتهم الأخيرة في المدجنين أوائل القرن السابع عشر، فقد أصدرالملك فيليب الثالث إرادة ملكية بطردهم من البلاد بتاريخ 22 سبتمبر 1609م فنجم عن ذلك رحيل حوالي 300 ألف منهم عن أوطانهم، وأمام هذه الفاجعة أمر السلطان أحمد الأول ولاته في الجزائر وتونس وطرابلس الغرب بتقديم قدر الاستطاعة من النجدة والإغاثة للمهاجرين الأندلسيين، كما أجرى مساع للاتصال بإنگلترا وفرنسا والبندقية لهذا الغرض، ففي أواخر خريف عام 1610م أرسل السلطان عامله "متفرّقة إبراهيم ِأفندي" إلى إنگلترا سفيرا ًوموجها ً كتابا ً إلى مليكها يرجوه فيه أن يتم تحميل البربر الملتجئين إلى مملكته في المراكب الإنكليزية، ونقلهم سالمين إلى الممالك العثمانية، ولم تقف مساعيه عند هذا الحد، فالكتاب الذي أرسله كذلك إلى ماري دي مديتشي نائبة ملك فرنسا آتى أكله بشكل منقطع النظير. وجاء في الكتاب المرسل باللغة التركية من طرف السلطان أحمد الأول إلى دوق البندقية في يونيو 1614م ما يلي: " حينما تمر طائفة المدجنين المذكورة بولاية البندقية راحلة من إسبانية ،قاصدة ممالكنا المحروسة، فلا تسمحوا لأي مخالف بالتدخل والتعرض في المنازل والمراحل والمعابر لهم ولدوابّهم، وأسباب أرزاقهم والعهد والأمان المبذول لهم، وقوموا بإيصالهم سالمين إلى ممالكنا المحروسة. لقد لمسنا إلى الآن حسن اهتمامكم ، و لاشبهة في أن مبادرتكم بالإذن العاجل لهؤلاء الفقراء بالمجيء إلى دار الأمان ممالكنا المحروسة بيسر وسهولة هو دليل الظهور وتحصيل ما تقتضونه من الرضا، و سيكون استحكاما ً وامتدادا ً لأساس المصالحة والمعاهدة بيننا، وعليه نأمل تقيدكم بما جاء آنفا ً، وقيامكم بالسعي وبذل الوسع لتحقيق ما ينبغي لهم من رضا الحال ورفاه البال".
ارتحل قسم من المدجنين إلى البلاد العثمانية، وقد أسقطت الدولة من أسكنتهم في سواحل چوقورووه (10) و سوريا الضرائب عنهم خمس سنين حتى يصلوا إلى مرحلة الإنتاج الفاعل، واستقر قسم منهم في نواحي حي غلطة بإستانبول، وعرف جامع محلتهم باسم " عرب جامعي" أي جامع العرب. أما أغلبية المدجنين فاستقرت في المغرب الأقصى والجزائر وتونس وطرابلس الغرب، ولتطورهم في ميادين الزراعة والصناعة ساهموا بإمكانياتهم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية لأوطانهم الجديدة، ودارت بهم رحى الاختلاط والتمازج بشعوبها لكنهم لم يفقدوا فخرهم واعتزازهم بأندلسيتهم، و مازالت الفنون والأنماط الأندلسية حية إلى الآن وعلى رأسها الطراز المعماري والموسيقى الأندلسية في شمال أفريقيا.
ملاحظة: تم اقتباس هذا الموضوع من كتاب " من الأندلس إلى إسبانيا" Endülüs'ten İspanya'ya من منشورات وقف الأديان التركيTDV في استانبول سنة 1996م.
الرابط الأصلي: http://fef.harran.edu.tr/tarih/dosya...-Emevileri.doc
تعقيبات وملاحظات المترجم
(1) فتحها المسلمون الأمازيغ بقيادة طارق بن زياد وبإشراف القائد العربي الأموي موسى بن نصير اللخميّ.
(2) هذه القصيدة التي جاءت بعد مقدمة تخاطب السلطان بايزيد الثاني مطلعها:
[poem=font=",6,,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""]
سلام كريم دائم متجدد=أخص به مولاي خير خليفة
سلام على مولاي ذي المجد والعلا=ومن ألبس الكفار ثوب المذلة [/poem]
(الدولة العثمانية-عوامل النهضة وأسباب السقوط ، د. علي الصلابي، ص190-195 طبعة دار المعرفة - بيروت)سلام كريم دائم متجدد=أخص به مولاي خير خليفة
سلام على مولاي ذي المجد والعلا=ومن ألبس الكفار ثوب المذلة [/poem]
(3) قصيدة أبي البقاء الرندي (1204-1285م) التي مطلعها:
[poem=font=",6,,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""]
لـكل شـيء إذا مـا تم نـقصان= فـلا يـغر بـطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ =من سره زمـن سائته أزمــان
[/poem]
لـكل شـيء إذا مـا تم نـقصان= فـلا يـغر بـطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ =من سره زمـن سائته أزمــان
[/poem]
(4) المقصود فرسان القديس يوحنا في مالطا.
(5) تشير مصادر الويكيبيديا باللغة الإنكليزية إلى أن كمال رئيس قام بحملته على إسبانيا بتكليف من السلطان بايزيد الثاني، وقد أنزل قوات في مالقة على الساحل الجنوبي الإسباني ففتحتها وما حولها واتخذ الكثير من الأسرى، ثم أغار منها على سواحل جزر البليار وكورسيكا، حتى رست قواته في بيزا الإيطالية، ومنها أرسل مراكب الإغاثة لمن شاء من سكان الأندلس مسلمهم وكتابيهم في اللجوء إلى الدولة العثمانية بين عامي 1490و 1492م، وقد حاول وقف المد الإسباني بتفجير موانئ إلتشه، وألميريا ومالقة. وفي عام 1495م تم تعيينه أميرا ً للبحر (قبطان دريا) أي ناظرا ً أو وزيرا ً للبحرية.
انظر: Kemal Reis - Wikipedia, the free encyclopedia
(6) تشير بعض الروايات إلى أنه بعد قصة الصراع على ولاية العهد بين أبناء السلطان بايزيد وتنازله عن عرشه لابنه الأصغر سليم الأقدر والأكثر شعبية عسكريا ً، قام الأخير بتعيين شقيقه الأكبر قورقود واليا ً على مانيسة في غرب الأناضول، وفيما بعد أراد أن يجس نبضه فأمر بعض رجال الدولة بمراسلته ولما تيقن أن أخاه ما زال يرغب بالسلطنة سيّر جيشا ً إليه فحاصره، فوقع في الأسر وقضى نحبه قبل وصوله إلى مدينة بورصة.
(7) تشير مصادرالويكيبيديا باللغة التركية أن منصب إمارة البحر (قپودان دريا Kapudan or Kaptan-ı Derya) ظهر في مستهل القرن الخامس عشر وبقي حتى عام 1867م حينما حل مكانه منصب " ناظر البحرية"، وكان يعادل رتبة أمير الأمراء أو الوالي (بكلر بك) وفي منتصف القرن السادس عشر أصبح يعادل وزارة (باشوية) وكان أول من تولى هذا المنصب صاروجه باشا عام 1401م.
انظر: Kaptan-
(8) الصواب 1571م.
(9) وتعرف كذلك في المصادر التاريخية بمعركة ليبانتو الثالثة Third Battel of Lepanto، وكانت المعركتان الأولى والثانية اللتان تعرفان كذلك باسم معركتي " زونكيوZonchio" و "مودون Modon " قد وقعتا عام 1499م و1500م وتمخضتا عن نصر مبين للعثمانيين المسلمين على البندقية.
انظر: Lepanto - Wikipedia, the free encyclopedia
(١٠) چوقوراووه Çukurova منطقة تقع في جنوب تركيا في ولاية أضنة، وعرفت قديما ً باسم سيليسيا Cilicia وتشمل هذه المنطقة حواضر أضنة، وعثمانية، ومرسين (ايچل).
انظر:Çukurova - Wikipedia, the free encyclopedia
تعليق