جهود أ. د. حسين نصار في الدراسات المعجمية
د. وفاء كامل فايد
انصرفت همة أستاذنا - في مطلع شبابه- إلى دراسة ميدان لغوي بكر ، هو مجال الدراسات المعجمية . وكانت رسالته للدكتوراه أول بحث من نوعه يتصدى لتأريخ المعجم العربي في نشأته وتطوره تأريخا شاملا مفصلا ، على منهج علمي دقيق .
وفي هذه الدراسة بيَّن أن اللغة العربية من أغنى اللغات الإنسانية في ثروتها اللفظية ، التي تستوعب الحاجات الحسية والمعنوية للأمة . كما بيَّن أن العربية من أقدم اللغات حرصا على تأليف المعاجم اللغوية المختلفة.
وقد ضم كتابه ( المعجم العربي ) ـ الذي صدر منذ ما يقرب من نصف قرن ـ أشمل دراسة للمعاجم العربية ، وقد تمكن بدقته ونفاذ بصيرته من استنباط المدارس التي احتوى عليها هذا العلم ، والتي لم يزد عليها أحد من الدارسين مدرسة إلى اليوم .
وتابع جهوده في التعريف بالمعاجم ، وعرضها ودراستها ، حين استطاع أن يطلع على مخطوط ( كتاب الجيم ) لأبي عمرو إسحق الشيباني ( ت 206 هـ) ، فاعتمد على نسخة من هذا المخطوط في دراسة ألقت الضوء على هذا المعجم ، الذي كاد يضيع دون أن يرويه أحد ، أو يقتبس منه لغوي .
استهل أستاذنا بحثه بعنوان الكتاب هادفا أن يعرف معناه وسبب تسميته ، فذكر رأيين : أحدهما أن كلمة الجيم تعني الديباج ؛ فكتاب الجيم سمي بهذا الاسم تشبيها له بالديباج في حسنه. أما الرأي الثاني فقد ذهب إلى أن حرف الجيم يكثر فيه الغريب ، وكتاب الجيم للشيباني معنيٌّ أكبر العناية بالغريب والحوشي ؛ فلعل الشيباني كان يرى في عبارة ( لغة الجيم ) دلالة على الغريب والنادر من اللغة العربية .
وانتقل إلى غرض الشيباني من تأليف كتابه ، فرأى أنه لم يقصد إلى حصر أبنية اللغة ، أو استنباط قواعدها الصوتية ، وإنما كان هدفه تدوين الكلمات الغريبة والنادرة من لغات القبائل.
ثم حدد منهج الشيباني في الترتيب ، فبيَّن أن الكتاب مقسم إلى أبواب ، يختص كل منها بحرف من حروف الهجاء. ولم يراع مؤلفه التقسيم الداخلي للأبواب، ولا ترتيب الصيغ ، فلم يصل إلى معالجة المفردات اللغوية مرتبة على أصولها الصرفية أو موادها اللغوية؛ بل كان يتبع طريقة الترتيب العشوائية التي اتبعتها كتب النوادر.
وانتقد باحثنا هذا الترتيب ذاكرا أن من نتائجه تشتيت الألفاظ التي ترجع إلى أصل واحد بين صفحات
الباب كله ، وتكرير تفسير بعض الألفاظ. وعقد مقارنة بين كتابي (العين) للخليل و(الجيم ) للشيباني استدل منها على أن الأخير ألف كتابه بمنأى عن كتاب العين .
وحدد أهم الظواهر في ( الجيم ) ، وتتمثل في :
1- تحريه النادر من الألفاظ والغريب من التفسير.
2- عنايته باللهجات ، حتى إنه يفوق – من هذا الجانب – جميع المعاجم التي بين أيدينا.
3- إيراده للألفاظ الغريبة في سياقها؛ مما يتمم تفسيرها، ويوضح طريقة استعمالها في لغاتها، ويجعلنا على صلة مباشرة بالتعبير العربي الصميم.
4- عنايته الكبيرة بالشواهد الشعرية ، وإيراده لكثير من الأخبار والقصص القصير.
5- تأثره بالرسائل اللغوية على الموضوعات: فكان يتتبع ما يتحدث عنه، في أحواله المختلفة، دون أن يلتزم بوضع كل كلمة في موضعها تبعا لحروفها.
6- ميله إلى إيراد المترادف من الألفاظ والعبارات.
7- ندرة الأعلام ، والشواهد من القرآن الكريم أو الحديث الشريف .
ولحظ باحثنا على كتاب الجيم وقوع خلل في وضع بعض الشواهد الشعرية، إلى جانب اضطراب التفسير. واستكمل عرضه للكتاب بوصف نسخة المخطوط التي اعتمد عليها.
أما دراسته في كتاب ( العين ) للخليل بن أحمد الفراهيدي فقد حاول فيها أن يلقي الضوء على أقدم نسخة منه ببغداد ، وهي الموجودة بمكتبة حجة الإسلام السيد حسن الصدر.
1- وبدأ بالتحقق من السند الذي وصل الكتاب عن طريقه. وقد كتب في مستهل النسخة أنه لم يتعد راويةً واحدا أخذ عن الليث مباشرة. ولكن باحثنا – عند فحص الكتاب – وجده يعتمد على عدة نسخ سابقة عليه، اختار الكاتب منها واحدة التزمها وجعلها النسخة الأم، وحين خرج عليها نبه إلى ذلك. ونقل من هذه النسخ أحيانا تصحيحا لبعض الألفاظ الواردة في تفسير المواد التي يعالجها. ووصل باحثنا إلى أن الكاتب كان بين يديه ست نسخ – على الأقل – يردد نظره فيها وينقل عنها. وأكثر ما يشير منها إلى نسخة (الحاتمي ).
ومن فحص الباحث للمتن قرر أنه من المحال أن تكون هذه النسخة من كتاب العين قريبة العهد بالليث بن المظفر ، وأن الراوية المذكور في مستهلها ليس آخر رواتها ، وأكد أن كاتبها كان يعيش في أواخر القرن الخامس أو ما بعده.
وفي نظرة موسوعية شاملة عرض باحثنا صورة شاملة للمعاجم العربية القديمة موضحا خصائصها ، وطرق ترتيبها. فبدأ بمعجم ( العين ) موضحا الأسس التي بني عليها ، والنقائص والصعوبات التي واجهها. فذكر ترتيب مواده وفقا للمخارج الصوتية ، ثم التزامه نظامي الأبنية والتقاليب. وتابع المعاجم التالية له موضحا مدى التزامها بالأسس التي سار عليها الخليل في معجمه ، ومبينا المعاجم التي عدلت عن هذه الأسس ، وسبب هذا العدول ، ثم المنهج الذي سارت عليه حتى تخلص من مصاعب ترتيب الألفاظ في المعجم.
ثم عقد مقارنة بين المعاجم القديمة والحديثة في جانبين ، الأول : ترتيب الصيغ والمعاني داخل المادة اللغوية الواحدة ، والثاني : عدم الدقة – عند الخليل خاصة – في ضبط المواد والصيغ بالشكل؛ مما جعلها عرضة للتحريف والخطأ. وأشار إلى أن المعاجم الحديثة تفادت هذين الأمرين فالتزمت ترتيبا خاصا بكل صيغة يضعها في موضع محدد ، كما التزمت موضعا واحدا لكل معنى ، إلى جانب التزامها بالضبط التام.
ووضع الخطوط العريضة التي تبين الصورة المثلى للمعجم عند العرب كما يلي :
ـ الالتزام بالترتيب الألفبائي للحروف الأصلية للكلمة ، بدءا من الحرف الأول.
ـ الفصل بين المعاني المختلفة لكل مادة .
ـ إيراد الصيغ في مواضع محددة لا تتجاوزها.
ـ الالتزام بالضبط .
ثم انتقل إلى المعجم العام الشامل لجميع ما تحتوي عليه العربية ، فرأى أنه يجب أن يبدأ بجمع ما بقي عندنا من المعاجم القديمة والرسائل اللغوية ، واستخلاص ما تتضمنه من صيغ ومعان. يلي ذلك جمع ما بقي عندنا من التراث العربي كله دون استثناء ، في كل علم وفن ومنحى. ثم تصنيف التراث – حسب ما يشتمل عليه من موضوعات – تصنيفا دقيقا وفقا لأنواع النشاط الفكري البشري . وتقسيم كل صنف منها تبعا للقطر الذي أصدره ، مهما كان موقعه من العالم . ثم ترتيب هذه الأصناف ترتيبا تاريخيا من الأقدم إلى الأحدث .
وتتم تغذية الحاسوب بهذا التراث ؛ لكي نتمكن من معرفة الكلمة في استخداماتها كلها ، مصنفة على الأقطار، ومرتبة على السنوات . فنتمكن من تتبع معانيها في هذه الاستعمالات إن تعددت، ومن تبين الاختلاف بينها إن تغايرت، واستنباط أسباب التباين ؛ فيمكننا أن نؤرخ للكلمة. وحين نؤرخ لكل كلمة من كلمات اللغة نكون أرخنا للغتنا وللفكر العربي .
وتصور الباحث أن تحتشد لهذا العمل الكبير جهود هيئات وأجيال وأقطار متضافرة، ترصد له المال، وتقسم العمل المتكامل، وتهيئ له الوسائل المعينة عليه .
وضرب مثالا بمعجم أكسفورد الكبير في اللغة الانجليزية الذي استغرق العمل فيه ما يزيد على سبعين عاما، واعتمد على الجهد البشري وحده ، فكانت معاناتهم في إخراجه أعظم مما علينا أن نعانيه لإنجاز معجم مثله في العربية .
وانتقل إلى المعاجم الخاصة بالأدباء ، فذكر أن لكل أديب نهجه الخاص في التعبير، سواء في
معاني الكلمات التي يستخدمها أو في الطريقة التي تتراكب بها الألفاظ عنده. ولن يوضح ذلك سوى معجم خاص بهذا الأديب ، يضم كل ما استعمله من ألفاظ مفردة ومركبة .
وأشار إلى معجم شيكسبير في الانجليزية ، وإلى جهد عبد الرحمن الحاج صالح في الجزائر ، ثم إلى جهد قسم اللغة العربية في كلية الآداب من جامعة القاهرة لتنفيذ الفكرة حين كلف عددا من طلاب
الدراسات العليا بصنع هذه المعاجم ، مع التزام طريقة خاصة فيها.
فإذا أنجزنا معاجم شعراء عصر معين وأدبائه استطعنا أن نعرف اللغة العربية في هذا العصر معرفة دقيقة وشاملة . وإذا فرغنا من سائر الدواوين والآثار الأدبية استطعنا أن نتعرف على لغتنا الأدبية ، وأن نؤرخ لها من عصر إلى عصر .
ثم انتقل إلى رسم صورة للمعجم الاشتقاقي، الذي يقسم الكلمات التي يعالجها إلى ثلاثة أنواع: العربي الأصيل ، والمشترك بين العربية واللغات السامية الأخرى ، والدخيل الذي أخذته العربية من غير الساميات .
ونبه إلى أن الأسس المهمة في المعاجم اللغوية ، وهي ما يجب اتباعه عند وضعها، هي :
1- تحديد سبب تأليف المعجم ، والغاية التي يهدف إليها ؛ لكي يتلمس الطرق إلى بلوغها .
2- تمحيص المادة التي يتألف منها ، تبعا للهدف منه .
3- وضع نظام صارم لترتيبه الهجائي ، يخضع له كل من المفردات ، والصيغ داخل المادة، وكذلك المعاني .
وإذا تعددت المعاني الأساسية في المادة الواحدة تقسم وفقا للمعاني ، وتوضع الصيغة الموافقة لكل معنى تحته على نظامها ، وتقدم المعاني الأكثر شيوعا على غيرها ، وتؤخر المصطلحات .
4- تمحيص طرق تفسير المعاني، والإكثار من الصور عند الحاجة ، ووضع الكلمة في سياقها.
5- الدقة في طباعة المعاجم .
وهكذا أعطانا شيخنا – قبل عشرين عاما – صورة واضحة متكاملة مفصلة للمعاجم التي لازالت العربية في حاجة إليها حتى اليوم .
واهتم باحثنا بمعالجة الظواهر اللغوية التي تندرج في إطار المعاجم ، فأفرد بحثا مستفيضا عالج فيه ظاهرة ( الأضداد في اللغة )( )، وطبع في كتاب بعنوان: ( مدخل تعريف الأضداد )، كما خصص فصلا لمعالجة ظاهرة (الإتباع في العربية )( ).
وفي بحثه عن ( الأضداد) عرَّف الظاهرة ، وأورد آراء علماء اللغة القدامى فيها، واختلافهم حول وجودها في اللغة، ثم انتقل إلى آراء المحدثين حولها ، وأجمل الأدلة التي اعتمد عليها المستشرقون في إنكار الأضداد.
ثم انتقل إلى الحديث عن أصل الأضداد ، وأسباب نشأتها في العربية . كما ذكر شروط الأضداد وأنواعها. وتناول أسباب تدوين الأضداد وظهور كتبها . كما أشار إلى بواكير جمع الأضداد ، ورصد
أسماء ثلاثة وعشرين كتابا من كتب الأضداد ، مرتبة وفقا لتواريخ وفاة مؤلفيها.
واهتم بإبراز الظواهر التي سادت كتب الأضداد التي وصلت إلينا ، وتوضيح طرق تناول مؤلفيها للأضداد. فعل ذلك في كل من أضداد قطرب وأبي عبيدة والأصمعي والتوزي وابن السكيت والسجستاني وأبي بكر بن الأنباري وأبي الطيب اللغوي وابن الدهان والصغاني، وغيرهم ممن كتبوا رسائل في الأضداد ، بالإضافة إلى المؤلفين الذين ضمت كتبهم أبوابا أو فصولا للأضداد ، وهم أبو عبيد القاسم بن سلام ، وابن قتيبة ، والثعالبي ، وابن سيده ، والسيوطي.
وأنهى بحثه بنظرة شاملة تحلل موقف كل من المنكرين للأضداد والمؤيدين لها ، ثم حدد المعيار الذي يجب أن تقاس به الأضداد ، ورسم الصورة الصحيحة لكلمات هذه الظاهرة.
وفي بحثه عن ( الإتباع ) رصد اختلاف العلماء في تصورهم لهذه الظاهرة ، وعالجها من جوانب أربعة ، على النحو التالي :
1- من حيث المعنى :
فرصد آراء المتقدمين التي تتمثل في اتجاهين : الأول أن اللفظ التابع لا معنى له ، والثاني أن التابع قد يكون له معنى .
2- من حيث الصورة :
واستحسن تعريف ابن فارس وهو أن الإتباع أن تلي الكلمة كلمة على وزنها أو رويها إشباعا وتوكيدا .
3- من حيث التعبير :
ووضح الإجماع على أن اللفظ التابع لا ينفصل عن المتبوع ، سواء أكان له معنى أو لم يكن.
4- من حيث الغرض :
فرأى أن الإتباع يراد منه التوكيد.
ثم رصد تقسيم عز الدين التنوخي للإتباع ، وقد عده أشمل تقسيم للظاهرة.
وانتقل إلى عرض ألوان أخرى من الإتباع لا تندرج تحت المفهوم الاصطلاحي للظاهرة ، ولكنها تندرج ضمن ألوان من الإتباع في المفردات وفي المركبات اللغوية . فقد خضعت المفردات لنوعين من الإتباع : نوع جرى في حركاتها ، وآخر في حروفها؛ وكلاهما يضم المطرد وغير المطرد. كما تخضع المركبات لإتباع يجري في الحروف.
وخلص إلى القول إن الإتباع ظاهرة لغوية جمالية ، تدل على ما يعانيه المتكلم من انفعال ، وتمنح المستمع متعة فنية ؛ فالمتحدث بها لا يقصد إلى الإخبار المجرد ، بل يرمي معه إلى المشاركة الوجدانية .
وفي إطار المعاجم المتخصصة تناول كلا من كتب النبات والإبل والتراث الجغرافي اللغوي
عند العرب بالدراسة التفصيلية في كتابه: ( دراسات لغوية ). كما أشار إلى معاجم المعاني حين
درس كتب الفروق اللغوية.
وعندما تناول كتب النبات ذكر أن اللغويين العرب تعرضوا للنبات في كتب خاصة به، وفي أبواب من كتب عالجت النبات وغيره من الموضوعات التي تعرضت لها الرسائل اللغوية ؛ وحكم بأن الذين خصوا النبات بأبواب من كتبهم لم يوفوه حقه، فكانت أبوابهم قصيرة لاقيمة لها، ماعدا المخصص لابن سيده. وكانوا يحاولون شيئا من الترتيب الزمني خاصة ، عندما يتيسر لهم ذلك. ووصل الأصمعي وابن خالويه إلى تقسيم محكم للشجر الذي عالجاه في كتابيهما. ثم التزم أبوحنيفة الدينوري الترتيب على الحروف ، ولكنه كان ترتيبا قاصرا. ونضج الترتيب عند أحمد عيسى والأمير مصطفى الشهابي ، ولكنه كان ترتيبا أجنبيا. وظهر لون من الترتيب عند صاحبيْ الإفصاح .
ويمكن القول إن أكثر القدماء اتفقوا في علاجهم لموادهم على منهج يقوم على الإشارة إلى المفرد والجمع والمشتقات، وإيراد الشواهد ، ولكنهم اختلفوا بعد ذلك كثيرا .
وفي كتب الإبل ذكر أن العرب تنبهوا إلى معالجة الإبل في النصف الثاني من القرن الثاني، ثم توالت الكتابة عن الإبل. ولم يصل إلينا من الكتب الخاصة بها غير كتاب الأصمعي، الذي كان ذا أثر كبير في بقية الكتب اللغوية التي تعرضت لهذا الموضوع بعده ، فقد صار هذا الكتاب القدوة التي يحتذى بها ، في المادة وفي النواحي التي يجب تناولها، وفي الترتيب .
وتناول التراث الجغرافي اللغوي عند العرب فاختص الذين عالجوا أسماء الأماكن معالجة لغوية أدبية، فأورد كتبهم ، وأشار إلى أنها جميعا كانت تهتم بالاسم أكثر من المسمى ، باعتبار الاسم من المادة اللغوية التي تعالجها. واعتمدت على الشعر والأخبار العربية في استخلاص هذه الأماكن وتحديد مواقعها، كما يعتمد عليه اللغويون في تفسير الألفاظ . وأقامت تحديدها للمواقع على ذكر الأماكن المجاورة وأبعادها عنها بالمراحل والأيام والأميال. وكان أدقَّهم ياقوت الذي اعتمد على معلوماته الجغرافية ، حتى كان يحدد المواضع بخطوط الطول والعرض .
وكانت الجزيرة العربية وما تاخمها من أقطار عربية هي موضع دراسة المؤلفين الأولين. ولم يشذ عنهم غير الجاحظ الذي تناول بلادا غير عربية. وبقي الأمر كذلك حتى القرن السادس، فتناول المؤلفون المدن الإسلامية الأخرى، ثم توسع العمراني وياقوت إلى بقية أنحاء العالم القديم. واختلفوا في ترتيب الكتب ، إلى أن بلغ الترتيب كماله عند ياقوت الذي راعى حروف الكلمة كلها أصلية كانت أو مزيدة .
واتفق البكري وياقوت على ضبط الأسماء بالعبارة، وإبانة حقيقة حروفها والحركات عليها، والإشارة إلى اشتقاقها. وأفادا من المعاجم اللغوية: فاستقى البكري كثيرا من رسومه من جمهرة ابن دريد. وأكثر ياقوت من الرجوع إليه وإلى الأزهري والجوهري، فتبادل هذان النوعان من المعاجم التأثير والتأثر.
وذهب إلى أن معجم البلدان لياقوت يمثل القمة التي وصل إليها هذا النوع من التأليف ؛ فقد مزج فيه
صاحبه جميع ألوان الثقافة الإسلامية المتصلة به .
وأشار إلى معاجم المعاني حين درس كتب الفروق اللغوية وهي الكتب التي تعالج الألفاظ التي تطلق على أعضاء تشترك فيها أنواع الحيوان ، وتأخذ في كل نوع لفظا خاصا . فبدأ بكتاب قطرب ، وذكر أنه تناول الفروق في ثلاثة أمور فحسب ، هي أسماء الحيوان وأولاده، وجماعاته، وأصواته . وأفرد كل حيوان من شاء الوحش ، وذوات البرثن ، وذوات الجناح. وراعى في التعرض لها ترتيبا معينا التزم به .
وذكر أسماء العلماء الذين ألفوا في الفروق موضحا أن كتبهم ضاعت كلها إلا واحدا .
وانتقل إلى كتاب الأصمعي فعقد مقارنة بين الموضوعات التي تناولها الأصمعي وقطرب ، وبيَّن أن الأصمعي اكتفى بوضع بعض الأمور المتقاربة متعاقبة ، ولم يراع أي ترتيب .
وانفرد ثعلب – بين أصحاب الموسوعات اللغوية المرتبة على الموضوعات- بتخصيص الباب الأخير من كتابه ( الفصيح ) للفروق ، وضبط كلماته .
ولا أستطيع في هذا المجال إغفال تحقيق أستاذي لمعجمين من معاجم العربية : أولهما الجزء السادس من تاج العروس للزبيدي ، الذي نشر ضمن سلسلة التراث العربي في الكويت 1969 ، والثاني هو ( معجم تيمور الكبير في الألفاظ العامية ) الذي نشرته الهيئة العامة للتأليف والنشر 1971، وطبعته دار الكتب في ستة مجلدات عام 2002.
وبعد فقد كانت هذه محاولة لتسجيل جهود أستاذنا العلامة في الدراسات المعجمية ، تتبعنا فيها معا محاولاته الدؤوب - طيلة نصف قرن – في عرض المعاجم وتحقيقها ودراستها ، ورسم منهجها ، وتبين الثغرات التي يجب علينا ملأها لنستكمل النقص في معاجمنا، ونصل بها إلى مستوى المعاجم المتقدمة ، التي تأخذ بالتقنيات المعجمية الحديثة .
د. وفاء كامل فايد
انصرفت همة أستاذنا - في مطلع شبابه- إلى دراسة ميدان لغوي بكر ، هو مجال الدراسات المعجمية . وكانت رسالته للدكتوراه أول بحث من نوعه يتصدى لتأريخ المعجم العربي في نشأته وتطوره تأريخا شاملا مفصلا ، على منهج علمي دقيق .
وفي هذه الدراسة بيَّن أن اللغة العربية من أغنى اللغات الإنسانية في ثروتها اللفظية ، التي تستوعب الحاجات الحسية والمعنوية للأمة . كما بيَّن أن العربية من أقدم اللغات حرصا على تأليف المعاجم اللغوية المختلفة.
وقد ضم كتابه ( المعجم العربي ) ـ الذي صدر منذ ما يقرب من نصف قرن ـ أشمل دراسة للمعاجم العربية ، وقد تمكن بدقته ونفاذ بصيرته من استنباط المدارس التي احتوى عليها هذا العلم ، والتي لم يزد عليها أحد من الدارسين مدرسة إلى اليوم .
وتابع جهوده في التعريف بالمعاجم ، وعرضها ودراستها ، حين استطاع أن يطلع على مخطوط ( كتاب الجيم ) لأبي عمرو إسحق الشيباني ( ت 206 هـ) ، فاعتمد على نسخة من هذا المخطوط في دراسة ألقت الضوء على هذا المعجم ، الذي كاد يضيع دون أن يرويه أحد ، أو يقتبس منه لغوي .
استهل أستاذنا بحثه بعنوان الكتاب هادفا أن يعرف معناه وسبب تسميته ، فذكر رأيين : أحدهما أن كلمة الجيم تعني الديباج ؛ فكتاب الجيم سمي بهذا الاسم تشبيها له بالديباج في حسنه. أما الرأي الثاني فقد ذهب إلى أن حرف الجيم يكثر فيه الغريب ، وكتاب الجيم للشيباني معنيٌّ أكبر العناية بالغريب والحوشي ؛ فلعل الشيباني كان يرى في عبارة ( لغة الجيم ) دلالة على الغريب والنادر من اللغة العربية .
وانتقل إلى غرض الشيباني من تأليف كتابه ، فرأى أنه لم يقصد إلى حصر أبنية اللغة ، أو استنباط قواعدها الصوتية ، وإنما كان هدفه تدوين الكلمات الغريبة والنادرة من لغات القبائل.
ثم حدد منهج الشيباني في الترتيب ، فبيَّن أن الكتاب مقسم إلى أبواب ، يختص كل منها بحرف من حروف الهجاء. ولم يراع مؤلفه التقسيم الداخلي للأبواب، ولا ترتيب الصيغ ، فلم يصل إلى معالجة المفردات اللغوية مرتبة على أصولها الصرفية أو موادها اللغوية؛ بل كان يتبع طريقة الترتيب العشوائية التي اتبعتها كتب النوادر.
وانتقد باحثنا هذا الترتيب ذاكرا أن من نتائجه تشتيت الألفاظ التي ترجع إلى أصل واحد بين صفحات
الباب كله ، وتكرير تفسير بعض الألفاظ. وعقد مقارنة بين كتابي (العين) للخليل و(الجيم ) للشيباني استدل منها على أن الأخير ألف كتابه بمنأى عن كتاب العين .
وحدد أهم الظواهر في ( الجيم ) ، وتتمثل في :
1- تحريه النادر من الألفاظ والغريب من التفسير.
2- عنايته باللهجات ، حتى إنه يفوق – من هذا الجانب – جميع المعاجم التي بين أيدينا.
3- إيراده للألفاظ الغريبة في سياقها؛ مما يتمم تفسيرها، ويوضح طريقة استعمالها في لغاتها، ويجعلنا على صلة مباشرة بالتعبير العربي الصميم.
4- عنايته الكبيرة بالشواهد الشعرية ، وإيراده لكثير من الأخبار والقصص القصير.
5- تأثره بالرسائل اللغوية على الموضوعات: فكان يتتبع ما يتحدث عنه، في أحواله المختلفة، دون أن يلتزم بوضع كل كلمة في موضعها تبعا لحروفها.
6- ميله إلى إيراد المترادف من الألفاظ والعبارات.
7- ندرة الأعلام ، والشواهد من القرآن الكريم أو الحديث الشريف .
ولحظ باحثنا على كتاب الجيم وقوع خلل في وضع بعض الشواهد الشعرية، إلى جانب اضطراب التفسير. واستكمل عرضه للكتاب بوصف نسخة المخطوط التي اعتمد عليها.
أما دراسته في كتاب ( العين ) للخليل بن أحمد الفراهيدي فقد حاول فيها أن يلقي الضوء على أقدم نسخة منه ببغداد ، وهي الموجودة بمكتبة حجة الإسلام السيد حسن الصدر.
1- وبدأ بالتحقق من السند الذي وصل الكتاب عن طريقه. وقد كتب في مستهل النسخة أنه لم يتعد راويةً واحدا أخذ عن الليث مباشرة. ولكن باحثنا – عند فحص الكتاب – وجده يعتمد على عدة نسخ سابقة عليه، اختار الكاتب منها واحدة التزمها وجعلها النسخة الأم، وحين خرج عليها نبه إلى ذلك. ونقل من هذه النسخ أحيانا تصحيحا لبعض الألفاظ الواردة في تفسير المواد التي يعالجها. ووصل باحثنا إلى أن الكاتب كان بين يديه ست نسخ – على الأقل – يردد نظره فيها وينقل عنها. وأكثر ما يشير منها إلى نسخة (الحاتمي ).
ومن فحص الباحث للمتن قرر أنه من المحال أن تكون هذه النسخة من كتاب العين قريبة العهد بالليث بن المظفر ، وأن الراوية المذكور في مستهلها ليس آخر رواتها ، وأكد أن كاتبها كان يعيش في أواخر القرن الخامس أو ما بعده.
وفي نظرة موسوعية شاملة عرض باحثنا صورة شاملة للمعاجم العربية القديمة موضحا خصائصها ، وطرق ترتيبها. فبدأ بمعجم ( العين ) موضحا الأسس التي بني عليها ، والنقائص والصعوبات التي واجهها. فذكر ترتيب مواده وفقا للمخارج الصوتية ، ثم التزامه نظامي الأبنية والتقاليب. وتابع المعاجم التالية له موضحا مدى التزامها بالأسس التي سار عليها الخليل في معجمه ، ومبينا المعاجم التي عدلت عن هذه الأسس ، وسبب هذا العدول ، ثم المنهج الذي سارت عليه حتى تخلص من مصاعب ترتيب الألفاظ في المعجم.
ثم عقد مقارنة بين المعاجم القديمة والحديثة في جانبين ، الأول : ترتيب الصيغ والمعاني داخل المادة اللغوية الواحدة ، والثاني : عدم الدقة – عند الخليل خاصة – في ضبط المواد والصيغ بالشكل؛ مما جعلها عرضة للتحريف والخطأ. وأشار إلى أن المعاجم الحديثة تفادت هذين الأمرين فالتزمت ترتيبا خاصا بكل صيغة يضعها في موضع محدد ، كما التزمت موضعا واحدا لكل معنى ، إلى جانب التزامها بالضبط التام.
ووضع الخطوط العريضة التي تبين الصورة المثلى للمعجم عند العرب كما يلي :
ـ الالتزام بالترتيب الألفبائي للحروف الأصلية للكلمة ، بدءا من الحرف الأول.
ـ الفصل بين المعاني المختلفة لكل مادة .
ـ إيراد الصيغ في مواضع محددة لا تتجاوزها.
ـ الالتزام بالضبط .
ثم انتقل إلى المعجم العام الشامل لجميع ما تحتوي عليه العربية ، فرأى أنه يجب أن يبدأ بجمع ما بقي عندنا من المعاجم القديمة والرسائل اللغوية ، واستخلاص ما تتضمنه من صيغ ومعان. يلي ذلك جمع ما بقي عندنا من التراث العربي كله دون استثناء ، في كل علم وفن ومنحى. ثم تصنيف التراث – حسب ما يشتمل عليه من موضوعات – تصنيفا دقيقا وفقا لأنواع النشاط الفكري البشري . وتقسيم كل صنف منها تبعا للقطر الذي أصدره ، مهما كان موقعه من العالم . ثم ترتيب هذه الأصناف ترتيبا تاريخيا من الأقدم إلى الأحدث .
وتتم تغذية الحاسوب بهذا التراث ؛ لكي نتمكن من معرفة الكلمة في استخداماتها كلها ، مصنفة على الأقطار، ومرتبة على السنوات . فنتمكن من تتبع معانيها في هذه الاستعمالات إن تعددت، ومن تبين الاختلاف بينها إن تغايرت، واستنباط أسباب التباين ؛ فيمكننا أن نؤرخ للكلمة. وحين نؤرخ لكل كلمة من كلمات اللغة نكون أرخنا للغتنا وللفكر العربي .
وتصور الباحث أن تحتشد لهذا العمل الكبير جهود هيئات وأجيال وأقطار متضافرة، ترصد له المال، وتقسم العمل المتكامل، وتهيئ له الوسائل المعينة عليه .
وضرب مثالا بمعجم أكسفورد الكبير في اللغة الانجليزية الذي استغرق العمل فيه ما يزيد على سبعين عاما، واعتمد على الجهد البشري وحده ، فكانت معاناتهم في إخراجه أعظم مما علينا أن نعانيه لإنجاز معجم مثله في العربية .
وانتقل إلى المعاجم الخاصة بالأدباء ، فذكر أن لكل أديب نهجه الخاص في التعبير، سواء في
معاني الكلمات التي يستخدمها أو في الطريقة التي تتراكب بها الألفاظ عنده. ولن يوضح ذلك سوى معجم خاص بهذا الأديب ، يضم كل ما استعمله من ألفاظ مفردة ومركبة .
وأشار إلى معجم شيكسبير في الانجليزية ، وإلى جهد عبد الرحمن الحاج صالح في الجزائر ، ثم إلى جهد قسم اللغة العربية في كلية الآداب من جامعة القاهرة لتنفيذ الفكرة حين كلف عددا من طلاب
الدراسات العليا بصنع هذه المعاجم ، مع التزام طريقة خاصة فيها.
فإذا أنجزنا معاجم شعراء عصر معين وأدبائه استطعنا أن نعرف اللغة العربية في هذا العصر معرفة دقيقة وشاملة . وإذا فرغنا من سائر الدواوين والآثار الأدبية استطعنا أن نتعرف على لغتنا الأدبية ، وأن نؤرخ لها من عصر إلى عصر .
ثم انتقل إلى رسم صورة للمعجم الاشتقاقي، الذي يقسم الكلمات التي يعالجها إلى ثلاثة أنواع: العربي الأصيل ، والمشترك بين العربية واللغات السامية الأخرى ، والدخيل الذي أخذته العربية من غير الساميات .
ونبه إلى أن الأسس المهمة في المعاجم اللغوية ، وهي ما يجب اتباعه عند وضعها، هي :
1- تحديد سبب تأليف المعجم ، والغاية التي يهدف إليها ؛ لكي يتلمس الطرق إلى بلوغها .
2- تمحيص المادة التي يتألف منها ، تبعا للهدف منه .
3- وضع نظام صارم لترتيبه الهجائي ، يخضع له كل من المفردات ، والصيغ داخل المادة، وكذلك المعاني .
وإذا تعددت المعاني الأساسية في المادة الواحدة تقسم وفقا للمعاني ، وتوضع الصيغة الموافقة لكل معنى تحته على نظامها ، وتقدم المعاني الأكثر شيوعا على غيرها ، وتؤخر المصطلحات .
4- تمحيص طرق تفسير المعاني، والإكثار من الصور عند الحاجة ، ووضع الكلمة في سياقها.
5- الدقة في طباعة المعاجم .
وهكذا أعطانا شيخنا – قبل عشرين عاما – صورة واضحة متكاملة مفصلة للمعاجم التي لازالت العربية في حاجة إليها حتى اليوم .
واهتم باحثنا بمعالجة الظواهر اللغوية التي تندرج في إطار المعاجم ، فأفرد بحثا مستفيضا عالج فيه ظاهرة ( الأضداد في اللغة )( )، وطبع في كتاب بعنوان: ( مدخل تعريف الأضداد )، كما خصص فصلا لمعالجة ظاهرة (الإتباع في العربية )( ).
وفي بحثه عن ( الأضداد) عرَّف الظاهرة ، وأورد آراء علماء اللغة القدامى فيها، واختلافهم حول وجودها في اللغة، ثم انتقل إلى آراء المحدثين حولها ، وأجمل الأدلة التي اعتمد عليها المستشرقون في إنكار الأضداد.
ثم انتقل إلى الحديث عن أصل الأضداد ، وأسباب نشأتها في العربية . كما ذكر شروط الأضداد وأنواعها. وتناول أسباب تدوين الأضداد وظهور كتبها . كما أشار إلى بواكير جمع الأضداد ، ورصد
أسماء ثلاثة وعشرين كتابا من كتب الأضداد ، مرتبة وفقا لتواريخ وفاة مؤلفيها.
واهتم بإبراز الظواهر التي سادت كتب الأضداد التي وصلت إلينا ، وتوضيح طرق تناول مؤلفيها للأضداد. فعل ذلك في كل من أضداد قطرب وأبي عبيدة والأصمعي والتوزي وابن السكيت والسجستاني وأبي بكر بن الأنباري وأبي الطيب اللغوي وابن الدهان والصغاني، وغيرهم ممن كتبوا رسائل في الأضداد ، بالإضافة إلى المؤلفين الذين ضمت كتبهم أبوابا أو فصولا للأضداد ، وهم أبو عبيد القاسم بن سلام ، وابن قتيبة ، والثعالبي ، وابن سيده ، والسيوطي.
وأنهى بحثه بنظرة شاملة تحلل موقف كل من المنكرين للأضداد والمؤيدين لها ، ثم حدد المعيار الذي يجب أن تقاس به الأضداد ، ورسم الصورة الصحيحة لكلمات هذه الظاهرة.
وفي بحثه عن ( الإتباع ) رصد اختلاف العلماء في تصورهم لهذه الظاهرة ، وعالجها من جوانب أربعة ، على النحو التالي :
1- من حيث المعنى :
فرصد آراء المتقدمين التي تتمثل في اتجاهين : الأول أن اللفظ التابع لا معنى له ، والثاني أن التابع قد يكون له معنى .
2- من حيث الصورة :
واستحسن تعريف ابن فارس وهو أن الإتباع أن تلي الكلمة كلمة على وزنها أو رويها إشباعا وتوكيدا .
3- من حيث التعبير :
ووضح الإجماع على أن اللفظ التابع لا ينفصل عن المتبوع ، سواء أكان له معنى أو لم يكن.
4- من حيث الغرض :
فرأى أن الإتباع يراد منه التوكيد.
ثم رصد تقسيم عز الدين التنوخي للإتباع ، وقد عده أشمل تقسيم للظاهرة.
وانتقل إلى عرض ألوان أخرى من الإتباع لا تندرج تحت المفهوم الاصطلاحي للظاهرة ، ولكنها تندرج ضمن ألوان من الإتباع في المفردات وفي المركبات اللغوية . فقد خضعت المفردات لنوعين من الإتباع : نوع جرى في حركاتها ، وآخر في حروفها؛ وكلاهما يضم المطرد وغير المطرد. كما تخضع المركبات لإتباع يجري في الحروف.
وخلص إلى القول إن الإتباع ظاهرة لغوية جمالية ، تدل على ما يعانيه المتكلم من انفعال ، وتمنح المستمع متعة فنية ؛ فالمتحدث بها لا يقصد إلى الإخبار المجرد ، بل يرمي معه إلى المشاركة الوجدانية .
وفي إطار المعاجم المتخصصة تناول كلا من كتب النبات والإبل والتراث الجغرافي اللغوي
عند العرب بالدراسة التفصيلية في كتابه: ( دراسات لغوية ). كما أشار إلى معاجم المعاني حين
درس كتب الفروق اللغوية.
وعندما تناول كتب النبات ذكر أن اللغويين العرب تعرضوا للنبات في كتب خاصة به، وفي أبواب من كتب عالجت النبات وغيره من الموضوعات التي تعرضت لها الرسائل اللغوية ؛ وحكم بأن الذين خصوا النبات بأبواب من كتبهم لم يوفوه حقه، فكانت أبوابهم قصيرة لاقيمة لها، ماعدا المخصص لابن سيده. وكانوا يحاولون شيئا من الترتيب الزمني خاصة ، عندما يتيسر لهم ذلك. ووصل الأصمعي وابن خالويه إلى تقسيم محكم للشجر الذي عالجاه في كتابيهما. ثم التزم أبوحنيفة الدينوري الترتيب على الحروف ، ولكنه كان ترتيبا قاصرا. ونضج الترتيب عند أحمد عيسى والأمير مصطفى الشهابي ، ولكنه كان ترتيبا أجنبيا. وظهر لون من الترتيب عند صاحبيْ الإفصاح .
ويمكن القول إن أكثر القدماء اتفقوا في علاجهم لموادهم على منهج يقوم على الإشارة إلى المفرد والجمع والمشتقات، وإيراد الشواهد ، ولكنهم اختلفوا بعد ذلك كثيرا .
وفي كتب الإبل ذكر أن العرب تنبهوا إلى معالجة الإبل في النصف الثاني من القرن الثاني، ثم توالت الكتابة عن الإبل. ولم يصل إلينا من الكتب الخاصة بها غير كتاب الأصمعي، الذي كان ذا أثر كبير في بقية الكتب اللغوية التي تعرضت لهذا الموضوع بعده ، فقد صار هذا الكتاب القدوة التي يحتذى بها ، في المادة وفي النواحي التي يجب تناولها، وفي الترتيب .
وتناول التراث الجغرافي اللغوي عند العرب فاختص الذين عالجوا أسماء الأماكن معالجة لغوية أدبية، فأورد كتبهم ، وأشار إلى أنها جميعا كانت تهتم بالاسم أكثر من المسمى ، باعتبار الاسم من المادة اللغوية التي تعالجها. واعتمدت على الشعر والأخبار العربية في استخلاص هذه الأماكن وتحديد مواقعها، كما يعتمد عليه اللغويون في تفسير الألفاظ . وأقامت تحديدها للمواقع على ذكر الأماكن المجاورة وأبعادها عنها بالمراحل والأيام والأميال. وكان أدقَّهم ياقوت الذي اعتمد على معلوماته الجغرافية ، حتى كان يحدد المواضع بخطوط الطول والعرض .
وكانت الجزيرة العربية وما تاخمها من أقطار عربية هي موضع دراسة المؤلفين الأولين. ولم يشذ عنهم غير الجاحظ الذي تناول بلادا غير عربية. وبقي الأمر كذلك حتى القرن السادس، فتناول المؤلفون المدن الإسلامية الأخرى، ثم توسع العمراني وياقوت إلى بقية أنحاء العالم القديم. واختلفوا في ترتيب الكتب ، إلى أن بلغ الترتيب كماله عند ياقوت الذي راعى حروف الكلمة كلها أصلية كانت أو مزيدة .
واتفق البكري وياقوت على ضبط الأسماء بالعبارة، وإبانة حقيقة حروفها والحركات عليها، والإشارة إلى اشتقاقها. وأفادا من المعاجم اللغوية: فاستقى البكري كثيرا من رسومه من جمهرة ابن دريد. وأكثر ياقوت من الرجوع إليه وإلى الأزهري والجوهري، فتبادل هذان النوعان من المعاجم التأثير والتأثر.
وذهب إلى أن معجم البلدان لياقوت يمثل القمة التي وصل إليها هذا النوع من التأليف ؛ فقد مزج فيه
صاحبه جميع ألوان الثقافة الإسلامية المتصلة به .
وأشار إلى معاجم المعاني حين درس كتب الفروق اللغوية وهي الكتب التي تعالج الألفاظ التي تطلق على أعضاء تشترك فيها أنواع الحيوان ، وتأخذ في كل نوع لفظا خاصا . فبدأ بكتاب قطرب ، وذكر أنه تناول الفروق في ثلاثة أمور فحسب ، هي أسماء الحيوان وأولاده، وجماعاته، وأصواته . وأفرد كل حيوان من شاء الوحش ، وذوات البرثن ، وذوات الجناح. وراعى في التعرض لها ترتيبا معينا التزم به .
وذكر أسماء العلماء الذين ألفوا في الفروق موضحا أن كتبهم ضاعت كلها إلا واحدا .
وانتقل إلى كتاب الأصمعي فعقد مقارنة بين الموضوعات التي تناولها الأصمعي وقطرب ، وبيَّن أن الأصمعي اكتفى بوضع بعض الأمور المتقاربة متعاقبة ، ولم يراع أي ترتيب .
وانفرد ثعلب – بين أصحاب الموسوعات اللغوية المرتبة على الموضوعات- بتخصيص الباب الأخير من كتابه ( الفصيح ) للفروق ، وضبط كلماته .
ولا أستطيع في هذا المجال إغفال تحقيق أستاذي لمعجمين من معاجم العربية : أولهما الجزء السادس من تاج العروس للزبيدي ، الذي نشر ضمن سلسلة التراث العربي في الكويت 1969 ، والثاني هو ( معجم تيمور الكبير في الألفاظ العامية ) الذي نشرته الهيئة العامة للتأليف والنشر 1971، وطبعته دار الكتب في ستة مجلدات عام 2002.
وبعد فقد كانت هذه محاولة لتسجيل جهود أستاذنا العلامة في الدراسات المعجمية ، تتبعنا فيها معا محاولاته الدؤوب - طيلة نصف قرن – في عرض المعاجم وتحقيقها ودراستها ، ورسم منهجها ، وتبين الثغرات التي يجب علينا ملأها لنستكمل النقص في معاجمنا، ونصل بها إلى مستوى المعاجم المتقدمة ، التي تأخذ بالتقنيات المعجمية الحديثة .