ظلّ.. ظفرنامة.. الظاهر
«نانوبيديا» -الحلقة الثامن عشر
ظلّ.. ظفرنامة.. الظاهر
بقلم :محمد الخولي
في مجال السياسة بشكل عام.. وفي مضمار المدرسة الديمقراطية بشكل خاص، ثم في انجلترا بشكل أكثر خصوصية يعرف النظام السياسي حكومة الظل.. وإن كانت هذه التسمية الغربية ينقصها الدقة.. فالمقصود بالذات هو مجلس وزراء الظل.. وتلك ممارسة سياسية لا سبيل إلى تطبيقها سوى في البلدان التي يحكمها نظام حزبي.
أو بالأدق نظام حزبي ثنائي يقوم على أساس حزب حاكم وحزب معارض على نحو ما هو الحال في بريطانيا، حيث يتبادل الحكم - الوزارة الحزبان الرئيسيان وهما حزب العمال (الحاكم حالياً) وحزب المحافظين (المعارِض حاليا)..
وقد استخدمنا تعبير «الرئيسيان» لأنه لا مانع في ظل نظام سياسي حزبي أن يوجد في إطار هذه الثنائية الحزبية طرف ثالث وربما أكثر يتمثل في حزب آخر أقل شأنا وعددا وأهمية (حزب الأحرار في انجلترا مثلا) ولكنه يكتسب مع ذلك أهميته عندما يتسابق الحزبان الكبيران على خطب ودّه ونيل تأييده في مواسم الانتخابات بهدف ترجيح الأغلبية لصالح أي من الحزبين الكبيرين.
إذن فالحزب الفائز في الانتخابات هو الذي يشكل الحكومة التي يتربع على رأسها مجلس الوزراء بيد أن الحزب الآخر الذي لم يفز والذي يشغل مقاعد المعارضة سواء في مجلس العموم (البرلمان) أو في الحياة السياسية بشكل عام (ويسمى أعضاؤه في مفردات السياسة الانجليزية بأنهم الخارجيون بمعنى المستبعدين من جنة الحكم) - هؤلاء الخارجيون يبادرون حسب التقاليد المتبعة إلى إنشاء حكومة من جانبهم يقوم على أمرها بنفس المقياس مجلس وزراء آخر أو مواز للوزارة الحاكمة ويوصف بأنه مجلس وزراء الظل أو حكومة الظل..
والهدف هنا مزدوج لأنه من الناحية السيكولوجية يبشر أو يعزّي قادة المعارضة وجماهيرها بأن النجاح سيكون من نصيبهم في جولة الانتخابات المقبلة. ولأنه أيضاً يوزع على هؤلاء القادة مناصب الظل الوزارية المكافئة للمناصب الفاعلة الحاكمة والحقيقية.. وإذا بوزير صحة الظل يدرس قضايا الخدمات الصحية في البلاد ويرصد ويتابع بمعيار النقد والتقييم سلوك وقرارات وزير الصحة الحقيقي وكذلك يفعل وزير الزراعة أو وزير الشئون المحلية ومن إليهم..
ثم ان المسألة لا تقتصر على موسم مقبل من الانتخابات.. في النظام الديمقراطي.. إذ يمكن أن تطرح الثقة بالحكومة القائمة من جانب أعضاء البرلمان وخاصة في الأزمات الكبرى وفي القضايا القومية العليا..
وطرح الثقة هنا ينطوي على مراجعة أو هي وقفة للتصدي إزاء سلوك هذا الوزير أو قرارات تلك الوزيرة.. وإذا أمكن إثبات الخطأ.. يسحب البرلمان الثقة من الوزير المختص، ولأن المسؤولية الوزارية تضامنية.. تسقط الوزارة - الحكومة بأكملها.. ويفسح الطريق أمام تولي المعارضة شؤون الحكم حيث يكون مجلس وزراء الظل جاهزا وعلى أهبة التمرس والاستعداد التقني والموضوعي لاستلام مقاليد البلاد.
ولأن الانجليز قوم عمليون.. ومجاملون أيضا فهم لا يتعاملون مع المعارضة على أنها العدو اللدود أو الخصم الذي ينبغي أن يُقهر.. ومن ثم تقضي تقاليدهم الديمقراطية باحترام المعارضة لا من باب السلوك الملائكي أو التطوع لفعل الخير، ولكن لأن الحكومة القائمة تدرك بأن الديمقراطية في جوهرها تعني أساسا تداول السلطة وتعني تناوب الأطراف على مقاعد الحكم..
ويوم لك ويوم لي وأنت اليوم تحكم ولكن غدا - من يدري - أنت معارض.. لهذا اصطنعوا تعبيرا مهذبا يصف الحزب «الآخر» الذي لا يحكم بالعبارة التالية: «معارضة صاحبة الجلالة». ولا بأس أيضا من إضافة المخلصة أو الوفية ذات الولاء لوصف هذه المعارضة.
والمهم في هذا كله.. أنهم يأخذون المسألة على محمل الجد.. بمعنى أنهم لا ينظرون إلى وزارة الظل على أنها مجرد كيان رمزي أو مسألة شكلية.. واجهة مظهرية.. كِمالة عدد كما قد يقال.. بالعكس.. فالتقاليد تقضي بالتعامل مع حكومة الظل بكل جدية. وأهم مظاهر هذه الجدية يتمثل في ضرورة إتاحة المعلومات الموثوقة - معلومات الدرجة الأولى كما قد نصفها أمام وزير.. الظل المختص..
ومرة أخرى فهذا الأسلوب الذي يتيح تدفق المعلومات ومن مصادرها الأصلية المسؤولة يكمل الجوانب الحيوية الأخرى من الممارسة الديمقراطية، ويكفل تعاون الطرفين: حكومة الأصل (في مقاعد السلطة) وحكومة الظل (في مقاعد المعارضة) من أجل تحقيق المصالح القومية العليا التي تهم المحكومين.
ظفرنامة
تمثل العمل التاريخي والأدبي الذي صنّفه أساسا في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي مؤلفه نظام الدين شامي بناء على طلب من الغازي المغولي الشهير «تيمور لنك» )6331- 5041(. تشير في أصلها الفارسي إلى معنى «كتاب الانتصارات» أو «سفر الغزوات أو الفتوحات»..
لكن شهرة المؤلف شامي المذكور ما لبثت أن فاقتها وتجاوزتها شهرة كاتب آخر جاء من بعده بنحو 50 سنة واسمه شرف الدين علي يزدي الذي تعده الموسوعة البريطانية من أعظم مؤرخي القرن السادس عشر في إيران. ورغم أن المعلومات شحيحة عن نشأة هذا المؤلف الذي احترف مهنة التعليم، إلا أن المهم هو الصداقة التي ربطت بينه وبين شاه روخ الذي حكم إقليم يزد الذي ينتمي إليه المعلم المثقف..
والغريب أن شرف الدين لم يتورع عن استخدام نفس عنوان السيرة التي سبقه إليها نظام الدين شامي.. ربما لأن كلا العملين كان يتناول سيرة «تيمور لنك» ويحاول إنصافه من مؤرخيه بل ومن معاصريه بعد أن شاعت عن الرجل قسوته الشديدة إلى درجة الفظاعة في معاملة خصومه وخاصة من كان يهزمهم في ساحات القتال حتى لقد صار تيمور لنك هو البطل - الضد كما قد نسميه، بمعنى الرمز الأقرب إلى الشر والظلم والظلام في المأثورات الشعبية التي رددها الناس على مدار عصور..
ويقال أن تيمور لنك بدأ حياته العسكرية بادعاء انه ينحدر من سلالة محارب مغولي آخر شهير ورهيب هو جنكيز خان. وكان منطلقه في البداية من أراضي تركستان في آسيا الوسطى وعاصمتها سمرقند وبعدها انطلقت جيوش تيمور كإعصار صاعق كي تكتسح بلاد الهند وتستولي على دلهي وبعدها تحوّل إلى الشام والعراق ثم إلى الأناضول وآسيا الصغرى حيث هزم العثمانيين في موقعة أنقرة عام 1402 للميلاد.
مع ذلك تدل صحائف التاريخ أن الأتراك العثمانيين لم تنكسر شوكتهم من جراء هذه الهزيمة.. ها هم بعد 50 سنة لا أكثر من موقعة أنقرة ينجزون عملا تاريخيا حين دكّت جيوش سلطانهم محمد الثاني (الفاتح) المظفرة أسوار مدينة القسطنطينية (أسطنبول) التي طالما استعصت على الغزاة والفاتحين وكان ذلك في عام 1493للميلاد.
في سيرة تيمور لنك التي كرستها رسالة «ظفرنامة» نسجل ملحوظتين على الوجه التالي:
الأولى: أن الرجل حين دخل دمشق.. بادر لتوه إلى جمع طائفة من أفضل علمائها وأمهر صنّاعها وأروع فنانيها وأمر بحملهم جميعا الى عاصمته سمرقند..
ومن عجب أن يدور الزمن دورة كاملة قوامها 117 سنة بالضبط فإذا بالسلطان العثماني سليم يدخل القاهرة غازيا في عام 1517 ويتخذ نفس القرار ليحرم مصر من أمهر مبدعيها وأفضل العاملين فيها ويأمر بتسفيرهم الى عاصمته في اسطنبول.. وبين سمرقند المغولية واسطنبول - الأستانة التركية، يتأكد الاعتراف العملي بأن الوافد بالغزو والقوة العسكرية الغاشمة يدرك بيقين أنه أقل مستوى وأدنى حضارة من البلد الذي تعرض للغزو بمعنى أن العبرة هي للحضارة والتقدم الفكري والتقني قبل ان تكون للسيف أو المدفع.
أما الملحوظة الثانية فقد حاولت أن تسجلها بعض المراجع الرصينة والمنصفة (الموسوعة العربية بإشراف المفكر الراحل شفيق غربال) ومفادها شهادة تقول:
بالرغم مما تحفل به سيرة تيمور لنك من أعمال القسوة.. إلا أن له مآثر مذكورة منها أنه كان يعمل على تشجيع الفن والأدب والعلم، وعلى إقامة المنشآت الحكومية الضخمة.. لصالح جموع الناس.
الظاهر
هذا اللقب الذي يدل على البروز أو النبوغ وأحيانا على من يتظاهر بالنبوغ أو البروز حمله أكثر من حاكم في دول المماليك التي حكمت مصر قرونا من الزمن امتدت من عام 1250 (حكم شجرة الدر وعز الدين أيبك التركماني) وعام 1516 حكم طومان باي الذي قاوم الغزو العثماني وشنقه السلطان سليم على باب زويلة بالقاهرة).. أربعة قرون إلا قليلا تنوعت فيها دول هؤلاء المجلوبين من آسيا الصغرى والوسطى ما بين المماليك البحرية والمماليك السلجوقية والمماليك البرجية.. عشرات من الملوك والسناجقة والسلاطين والأمراء (48 بالتمام والكمال) بعضهم أسقط التاريخ ذكره من فرط الخمول .
وبعضهم حرص التاريخ على أن يذكره مقرونا بلعنة الظلم أو التخلف أو الفساد.. لكن ثمة فئة من هؤلاء الحكام المماليك ما برح تاريخ المشرق يذكرها بامتنان شديد. وفي مقدمة هذه الفئة.. يلمع اسم «الظاهر بيبرس البندقداري» وهو السلطان رقم 5 الذي تولى باسم الظاهر ركن الدين على مدى الفترة 1260 - 7721 للميلاد.
وبقدر ما شهدت في حقه دفاتر المؤرخين، بقدر ما لهجت بمآثره ملاحم الفولكلور الشعبية.. حتى ليكاد يتفرد دون الثمانية والأربعين حاكما من هؤلاء المماليك بأنه بطل القصائد الطوال التي ما برح الناس يسمعونها على ألسنة شعراء الربابة الجوالين في مهرجانات الحصاد وفي موالد أولياء الله الصالحين في دلتا النيل وفي الصعيد وربما في بقاع شتى من أرض الشام.. لماذا؟
لأنه بطل معركة المنصورة (شمال شرقي دلتا النيل) التي استطاعت فيها جيوشه المسلمة أن تصد غارة الصليبيين وتهزم جحافلهم عام 1258، ولم يكتف الظاهر بيبرس بهذا الانتصار التاريخي على أرض مصر..
بل حشد قواته لملاقاة التتار الذين اكتسح إعصارهم الصاعق أراضي المشرق إلى أن لاقاهم الظاهر بيبرس وأوقع بهم الهزيمة في عين جالوت (سنة 1260 للميلاد) التي أظهرت أيضا شجاعة وبطولات قادة المماليك وعلى رأسهم السلطان سيف الدين قطز. حيث أمكن احتراز هذا النصر التاريخي على جحافل التخلف المغولية التي كانت كفيلة في حال فوزها أن تعود بحياة العرب والمسلمين قرونا عديدة إلى الوراء.
أحرز بيبرس كل هذه الانجازات العسكرية إذ كان قائدا للجيوش.. وبعد أن استوى على عرش السلطة بالقاهرة المملوكية لم يخلد إلى ترف الدعة والجاه بل واصل جهاده من أجل تحطيم ما تبقى من قوى الأوروبيين المستترين بشعار الصليب وكانوا يستعمرون بقاعا عديدة في سورية الكبرى وفي فلسطين.. ثم اتجه الظاهر جنوب مصر فكان أن توسعت دولته الإسلامية لتشمل بلاد النوبة بين مصر والسودان..
وفيما ترجمت هذه المنجزات إلى حروف وسطور في سيرة الظاهر، وفيما ارتفع به الوجدان الشعبي إلى مصاف الأبطال فمازال المسجد الجامع الذي شيده في قاهرة المعز القديمة قائما يشهد بروعة المعمار المملوكي ويحض زوار المسجد على أن يقرأوا الفاتحة داعين لصاحبه بالرحمة والثواب وربما بالمغفرة التي يحتاج إليها كل إنسان حتى ولو كان في صفوف الحاكمين أو المجاهدين.
«نانوبيديا» -الحلقة الثامن عشر
ظلّ.. ظفرنامة.. الظاهر
بقلم :محمد الخولي
في مجال السياسة بشكل عام.. وفي مضمار المدرسة الديمقراطية بشكل خاص، ثم في انجلترا بشكل أكثر خصوصية يعرف النظام السياسي حكومة الظل.. وإن كانت هذه التسمية الغربية ينقصها الدقة.. فالمقصود بالذات هو مجلس وزراء الظل.. وتلك ممارسة سياسية لا سبيل إلى تطبيقها سوى في البلدان التي يحكمها نظام حزبي.
أو بالأدق نظام حزبي ثنائي يقوم على أساس حزب حاكم وحزب معارض على نحو ما هو الحال في بريطانيا، حيث يتبادل الحكم - الوزارة الحزبان الرئيسيان وهما حزب العمال (الحاكم حالياً) وحزب المحافظين (المعارِض حاليا)..
وقد استخدمنا تعبير «الرئيسيان» لأنه لا مانع في ظل نظام سياسي حزبي أن يوجد في إطار هذه الثنائية الحزبية طرف ثالث وربما أكثر يتمثل في حزب آخر أقل شأنا وعددا وأهمية (حزب الأحرار في انجلترا مثلا) ولكنه يكتسب مع ذلك أهميته عندما يتسابق الحزبان الكبيران على خطب ودّه ونيل تأييده في مواسم الانتخابات بهدف ترجيح الأغلبية لصالح أي من الحزبين الكبيرين.
إذن فالحزب الفائز في الانتخابات هو الذي يشكل الحكومة التي يتربع على رأسها مجلس الوزراء بيد أن الحزب الآخر الذي لم يفز والذي يشغل مقاعد المعارضة سواء في مجلس العموم (البرلمان) أو في الحياة السياسية بشكل عام (ويسمى أعضاؤه في مفردات السياسة الانجليزية بأنهم الخارجيون بمعنى المستبعدين من جنة الحكم) - هؤلاء الخارجيون يبادرون حسب التقاليد المتبعة إلى إنشاء حكومة من جانبهم يقوم على أمرها بنفس المقياس مجلس وزراء آخر أو مواز للوزارة الحاكمة ويوصف بأنه مجلس وزراء الظل أو حكومة الظل..
والهدف هنا مزدوج لأنه من الناحية السيكولوجية يبشر أو يعزّي قادة المعارضة وجماهيرها بأن النجاح سيكون من نصيبهم في جولة الانتخابات المقبلة. ولأنه أيضاً يوزع على هؤلاء القادة مناصب الظل الوزارية المكافئة للمناصب الفاعلة الحاكمة والحقيقية.. وإذا بوزير صحة الظل يدرس قضايا الخدمات الصحية في البلاد ويرصد ويتابع بمعيار النقد والتقييم سلوك وقرارات وزير الصحة الحقيقي وكذلك يفعل وزير الزراعة أو وزير الشئون المحلية ومن إليهم..
ثم ان المسألة لا تقتصر على موسم مقبل من الانتخابات.. في النظام الديمقراطي.. إذ يمكن أن تطرح الثقة بالحكومة القائمة من جانب أعضاء البرلمان وخاصة في الأزمات الكبرى وفي القضايا القومية العليا..
وطرح الثقة هنا ينطوي على مراجعة أو هي وقفة للتصدي إزاء سلوك هذا الوزير أو قرارات تلك الوزيرة.. وإذا أمكن إثبات الخطأ.. يسحب البرلمان الثقة من الوزير المختص، ولأن المسؤولية الوزارية تضامنية.. تسقط الوزارة - الحكومة بأكملها.. ويفسح الطريق أمام تولي المعارضة شؤون الحكم حيث يكون مجلس وزراء الظل جاهزا وعلى أهبة التمرس والاستعداد التقني والموضوعي لاستلام مقاليد البلاد.
ولأن الانجليز قوم عمليون.. ومجاملون أيضا فهم لا يتعاملون مع المعارضة على أنها العدو اللدود أو الخصم الذي ينبغي أن يُقهر.. ومن ثم تقضي تقاليدهم الديمقراطية باحترام المعارضة لا من باب السلوك الملائكي أو التطوع لفعل الخير، ولكن لأن الحكومة القائمة تدرك بأن الديمقراطية في جوهرها تعني أساسا تداول السلطة وتعني تناوب الأطراف على مقاعد الحكم..
ويوم لك ويوم لي وأنت اليوم تحكم ولكن غدا - من يدري - أنت معارض.. لهذا اصطنعوا تعبيرا مهذبا يصف الحزب «الآخر» الذي لا يحكم بالعبارة التالية: «معارضة صاحبة الجلالة». ولا بأس أيضا من إضافة المخلصة أو الوفية ذات الولاء لوصف هذه المعارضة.
والمهم في هذا كله.. أنهم يأخذون المسألة على محمل الجد.. بمعنى أنهم لا ينظرون إلى وزارة الظل على أنها مجرد كيان رمزي أو مسألة شكلية.. واجهة مظهرية.. كِمالة عدد كما قد يقال.. بالعكس.. فالتقاليد تقضي بالتعامل مع حكومة الظل بكل جدية. وأهم مظاهر هذه الجدية يتمثل في ضرورة إتاحة المعلومات الموثوقة - معلومات الدرجة الأولى كما قد نصفها أمام وزير.. الظل المختص..
ومرة أخرى فهذا الأسلوب الذي يتيح تدفق المعلومات ومن مصادرها الأصلية المسؤولة يكمل الجوانب الحيوية الأخرى من الممارسة الديمقراطية، ويكفل تعاون الطرفين: حكومة الأصل (في مقاعد السلطة) وحكومة الظل (في مقاعد المعارضة) من أجل تحقيق المصالح القومية العليا التي تهم المحكومين.
ظفرنامة
تمثل العمل التاريخي والأدبي الذي صنّفه أساسا في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي مؤلفه نظام الدين شامي بناء على طلب من الغازي المغولي الشهير «تيمور لنك» )6331- 5041(. تشير في أصلها الفارسي إلى معنى «كتاب الانتصارات» أو «سفر الغزوات أو الفتوحات»..
لكن شهرة المؤلف شامي المذكور ما لبثت أن فاقتها وتجاوزتها شهرة كاتب آخر جاء من بعده بنحو 50 سنة واسمه شرف الدين علي يزدي الذي تعده الموسوعة البريطانية من أعظم مؤرخي القرن السادس عشر في إيران. ورغم أن المعلومات شحيحة عن نشأة هذا المؤلف الذي احترف مهنة التعليم، إلا أن المهم هو الصداقة التي ربطت بينه وبين شاه روخ الذي حكم إقليم يزد الذي ينتمي إليه المعلم المثقف..
والغريب أن شرف الدين لم يتورع عن استخدام نفس عنوان السيرة التي سبقه إليها نظام الدين شامي.. ربما لأن كلا العملين كان يتناول سيرة «تيمور لنك» ويحاول إنصافه من مؤرخيه بل ومن معاصريه بعد أن شاعت عن الرجل قسوته الشديدة إلى درجة الفظاعة في معاملة خصومه وخاصة من كان يهزمهم في ساحات القتال حتى لقد صار تيمور لنك هو البطل - الضد كما قد نسميه، بمعنى الرمز الأقرب إلى الشر والظلم والظلام في المأثورات الشعبية التي رددها الناس على مدار عصور..
ويقال أن تيمور لنك بدأ حياته العسكرية بادعاء انه ينحدر من سلالة محارب مغولي آخر شهير ورهيب هو جنكيز خان. وكان منطلقه في البداية من أراضي تركستان في آسيا الوسطى وعاصمتها سمرقند وبعدها انطلقت جيوش تيمور كإعصار صاعق كي تكتسح بلاد الهند وتستولي على دلهي وبعدها تحوّل إلى الشام والعراق ثم إلى الأناضول وآسيا الصغرى حيث هزم العثمانيين في موقعة أنقرة عام 1402 للميلاد.
مع ذلك تدل صحائف التاريخ أن الأتراك العثمانيين لم تنكسر شوكتهم من جراء هذه الهزيمة.. ها هم بعد 50 سنة لا أكثر من موقعة أنقرة ينجزون عملا تاريخيا حين دكّت جيوش سلطانهم محمد الثاني (الفاتح) المظفرة أسوار مدينة القسطنطينية (أسطنبول) التي طالما استعصت على الغزاة والفاتحين وكان ذلك في عام 1493للميلاد.
في سيرة تيمور لنك التي كرستها رسالة «ظفرنامة» نسجل ملحوظتين على الوجه التالي:
الأولى: أن الرجل حين دخل دمشق.. بادر لتوه إلى جمع طائفة من أفضل علمائها وأمهر صنّاعها وأروع فنانيها وأمر بحملهم جميعا الى عاصمته سمرقند..
ومن عجب أن يدور الزمن دورة كاملة قوامها 117 سنة بالضبط فإذا بالسلطان العثماني سليم يدخل القاهرة غازيا في عام 1517 ويتخذ نفس القرار ليحرم مصر من أمهر مبدعيها وأفضل العاملين فيها ويأمر بتسفيرهم الى عاصمته في اسطنبول.. وبين سمرقند المغولية واسطنبول - الأستانة التركية، يتأكد الاعتراف العملي بأن الوافد بالغزو والقوة العسكرية الغاشمة يدرك بيقين أنه أقل مستوى وأدنى حضارة من البلد الذي تعرض للغزو بمعنى أن العبرة هي للحضارة والتقدم الفكري والتقني قبل ان تكون للسيف أو المدفع.
أما الملحوظة الثانية فقد حاولت أن تسجلها بعض المراجع الرصينة والمنصفة (الموسوعة العربية بإشراف المفكر الراحل شفيق غربال) ومفادها شهادة تقول:
بالرغم مما تحفل به سيرة تيمور لنك من أعمال القسوة.. إلا أن له مآثر مذكورة منها أنه كان يعمل على تشجيع الفن والأدب والعلم، وعلى إقامة المنشآت الحكومية الضخمة.. لصالح جموع الناس.
الظاهر
هذا اللقب الذي يدل على البروز أو النبوغ وأحيانا على من يتظاهر بالنبوغ أو البروز حمله أكثر من حاكم في دول المماليك التي حكمت مصر قرونا من الزمن امتدت من عام 1250 (حكم شجرة الدر وعز الدين أيبك التركماني) وعام 1516 حكم طومان باي الذي قاوم الغزو العثماني وشنقه السلطان سليم على باب زويلة بالقاهرة).. أربعة قرون إلا قليلا تنوعت فيها دول هؤلاء المجلوبين من آسيا الصغرى والوسطى ما بين المماليك البحرية والمماليك السلجوقية والمماليك البرجية.. عشرات من الملوك والسناجقة والسلاطين والأمراء (48 بالتمام والكمال) بعضهم أسقط التاريخ ذكره من فرط الخمول .
وبعضهم حرص التاريخ على أن يذكره مقرونا بلعنة الظلم أو التخلف أو الفساد.. لكن ثمة فئة من هؤلاء الحكام المماليك ما برح تاريخ المشرق يذكرها بامتنان شديد. وفي مقدمة هذه الفئة.. يلمع اسم «الظاهر بيبرس البندقداري» وهو السلطان رقم 5 الذي تولى باسم الظاهر ركن الدين على مدى الفترة 1260 - 7721 للميلاد.
وبقدر ما شهدت في حقه دفاتر المؤرخين، بقدر ما لهجت بمآثره ملاحم الفولكلور الشعبية.. حتى ليكاد يتفرد دون الثمانية والأربعين حاكما من هؤلاء المماليك بأنه بطل القصائد الطوال التي ما برح الناس يسمعونها على ألسنة شعراء الربابة الجوالين في مهرجانات الحصاد وفي موالد أولياء الله الصالحين في دلتا النيل وفي الصعيد وربما في بقاع شتى من أرض الشام.. لماذا؟
لأنه بطل معركة المنصورة (شمال شرقي دلتا النيل) التي استطاعت فيها جيوشه المسلمة أن تصد غارة الصليبيين وتهزم جحافلهم عام 1258، ولم يكتف الظاهر بيبرس بهذا الانتصار التاريخي على أرض مصر..
بل حشد قواته لملاقاة التتار الذين اكتسح إعصارهم الصاعق أراضي المشرق إلى أن لاقاهم الظاهر بيبرس وأوقع بهم الهزيمة في عين جالوت (سنة 1260 للميلاد) التي أظهرت أيضا شجاعة وبطولات قادة المماليك وعلى رأسهم السلطان سيف الدين قطز. حيث أمكن احتراز هذا النصر التاريخي على جحافل التخلف المغولية التي كانت كفيلة في حال فوزها أن تعود بحياة العرب والمسلمين قرونا عديدة إلى الوراء.
أحرز بيبرس كل هذه الانجازات العسكرية إذ كان قائدا للجيوش.. وبعد أن استوى على عرش السلطة بالقاهرة المملوكية لم يخلد إلى ترف الدعة والجاه بل واصل جهاده من أجل تحطيم ما تبقى من قوى الأوروبيين المستترين بشعار الصليب وكانوا يستعمرون بقاعا عديدة في سورية الكبرى وفي فلسطين.. ثم اتجه الظاهر جنوب مصر فكان أن توسعت دولته الإسلامية لتشمل بلاد النوبة بين مصر والسودان..
وفيما ترجمت هذه المنجزات إلى حروف وسطور في سيرة الظاهر، وفيما ارتفع به الوجدان الشعبي إلى مصاف الأبطال فمازال المسجد الجامع الذي شيده في قاهرة المعز القديمة قائما يشهد بروعة المعمار المملوكي ويحض زوار المسجد على أن يقرأوا الفاتحة داعين لصاحبه بالرحمة والثواب وربما بالمغفرة التي يحتاج إليها كل إنسان حتى ولو كان في صفوف الحاكمين أو المجاهدين.
تعليق