لسان الضاد
مهداة إلى أستاذنا الحبيب الدكتور فاروق مواسي
مهداة إلى أستاذنا الحبيب الدكتور فاروق مواسي
يقول المتنبي:
ما بقومي شُرفت بل شُرفوا بي === بنفسي فخرت لا بجدودي
وبهم فخر كل من نطق الضاد=== وعوذ الجاني وغوث الطريد
وبهم فخر كل من نطق الضاد=== وعوذ الجاني وغوث الطريد
فلا حَـدٌّ يباعدُنـا === ولا دين يفرقُنا
لسانُ الضادِ يجمعنا === بغسان وعدنان
لسانُ الضادِ يجمعنا === بغسان وعدنان
لا أريد مناقشة قول العقاد رحمة الله عليه، فحديثه مبني على الذوق وليس علميا، والذوق والحس لا يعتد بهما في الحديث العلمي، فضلا عن أنه يبدو أنه كان يتطير بالضاد والله أعلم ..
ما أريد أن أطرحه هو أن حرف /الضاد/ ليس مخصوصا بالعربية الشمالية وحدها كما كان الأوائل والمتأخرون، فلقد كان حرف /الضاد/ موجودا في كلاللغات السامية، إلا أنها كلها أهملته بل دمجته في /الدال/ تارة وفي /الظاء/ تارة أخرى، إلاالعربية الشمالية (عربيتنا الفصيحة) والعربية الجنوبية (الحميرية والحضرمية والقتبانية والسبئية) والعربية الوسطى (اللحيانية والثمودية) بالإضافة إلى الأوغاريتية والحبشية.
إذن حرف /الضاد/ موجود في العربية بلهجاتها الكثيرة، وفي الحبشية وهي خليط من العربية واللهجات الإفريقية بعد هجرة قدامى اليمينيين إلى إفريقيا. أما الأوغاريتية فورود /الضاد/ فيها ملفت للنظر، ذلك أن الأوغاريتية هي لغة سامية كانت تستعمل في غربي سورية ابتداء من مطلع الألفية الثانية قبل الميلاد، واحتفاظها بحرف /الضاد/، بعكس كل اللغات السامية الشمالية، دليل على أن الأوغاريتيين لم يكونوا من الكنعانيين، بل كانوا عربا هاجروا إلى الشمال وقهروا الكنعانيين وأسسوا الدولة الأغاريتية في رأس شمرا غربي سورية. ومما يعضد هذا الرأي، الذي ذهب إليه أكثر من باحث في تاريخ الأوغاريتيين، أن للأوغاريتية أبجديتين: واحدة تحتوي على اثنين وعشرين صوتاً لكتابات العامة، وأخرى فيها ثمانية وعشرون صوتاً لكتابات الخاصة، فضلا عن شبه لغتهم المثير للانتباه بالعربية. وهذا، بالضبط، ما جعل بعض الباحثين يعتقدون بأن ملوك الأوغاريتيين كانوا عرباً غزوا غربي سورية وأنشؤوا فيها مملكتهم، فاستعملوا الأبجدية ذات الثمانية والعشرين حرفا لكتاباتهم هم، وتركوا عامة الكنعانيين، الذين كان الأوغاريتيون يحكمونهم، يكتبون بأبجدية تحتوي على اثنين وعشرين حرفا تماما مثل الأبجدية الفينيقية والآرامية والعبرية .. لذلك نرى حرف الضاد قد اختفى من الفينيقية والآرامية والعبرية وسائر اللغات الكنعانية، تماما مثلما اختفت حروف /الظاء/ و/الخاء/ و/الثاء/ و/الذال/ و/الغين/ من الفينيقية والآرامية والعبرية من جهة، ومن أكثر اللهجات العربية المحكية اليوم من جهة أخرى ..
وأما في العبرية، فقد اندمج حرف /الضاد/ هو و/الظاء/ في حرف/الصاد/ كما يبدو من هذا المثال (قارن: צבי: /صبي/ < ظبي وצחק: /صحق/ < ضحك). وأصواتالعربية هي الأصل في الدراسات السامية. وهنالك إجماع بشأن ذلك بين المشتغلينباللغات السامية، عمره أكثر من قرن، لا يزال منعقداً حتى اليوم، مفاده أن الأصوات السامية الأصلية هي تسعة وعشرون صوتاً، ورد جميعها في الحميرية فقط. أما عربيتنا الشمالية فتحتوي على ثمانية وعشرين حرفاً منها. والحرف التاسع والعشرون الموجود في العربية الجنوبية (الحميرية) وغير الموجود في العربية الشمالية، هو حرف بمنزلة بين منزلة الـ /سين/ ومنزلة الـ /شين/ في النطق، ولا يعرف أحد كيف كان يلفظ في الماضي، ذلك لأن الحميرية لغة مندثرة (ويقابله في العبرية حرف الـ: /ساميك/ ×،، الذي كان يلفظ بطريقة مختلفة عن الـ /سين/: שׂ، إلا أنهما أصبحا صوتاً واحداً في العبرية لاندثار العبرية قروناً طويلة قبل إحياء اليهود لها، مما يجعل معرفة نطقه الأصلي، هو الآخر، أمرا مستحيلا).
ولعل السبب الرئيسي لهذا الإجماع هو القوانين الصوتية المطردة التي تحكمه. إن حرف /الثاء/ السامي الأصلي على سبيل المثال، يبقى في العربية /ثاء/ ويصبح في العبرية (شِين) وفي السريانية (تاء). مثال: السامية الأم: (ثُوم)، العربية (ثُوم)، العبرية (שו×: /شُوم/) والسريانية (ـ¬ـ?ـ،ـگ: /تُوما/ ـ والألف آخر الكلمة السريانية هي أداة التعريف في السريانية). وهذا قانون صوتي مطرد لا شواذ له.
إذن الأصوات السامية تسعة وعشرون صوتاً صامتاً احتفظت الحميرية بها كلها والعربية الشمالية بثمانية وعشرين منها. أما العبرية والسريانية والآرامية والبابلية وغيرها من اللغات السامية فدمجت بعض الحروف ذات المخارج المتقاربة في بعضها لتصبح صوتاً واحداً في النطق وحرفين اثنين في الكتابة (مثل الساميك: ×، والسين שׂ في العبرية على سبيل المثال). ومن أمثلة ذلك في العبرية:
اندماج الضاد بالصاد والظاء، وقد تقدم ذكره.
اندماج الحاء بالخاء:
مثلا: ×—×?×: /حتم/(= العربية: ختم)؛ ×—×?×£: /حتف/(= العربية خطف)؛ ×—××¥: /حمص/(= العربية حمض)؛ ×—×*×?: /حنط/(= العربية حنط) ومثله كثير.
اندماج العين بالغين: مثلاً: עצ×: /عصم/ويجانسه تأثيلياً: /غمض/ وأصل هذه الـ /عين/ العبرية هو الـ /غين/. والدليل على أن اليهود كانوا يلفظون هذه الـ /عين/ /غيناً/ عندما كان لغتهم حية هو أيضا رسمُ اليونان لأسماء مدن فلسطينية مثل غمورا (×¢×רה) وغزة (×¢×–×”) بـ /الغين/ وليس بـ /العين/ كما يفعل اليهود اليوم، ومثله كثير. ومما زاد في البلبة اليوم بلبلةً هو عجز اليهود الغربيين (الأشكناز) عن نطق الـ /عين/ السامية فجعلوا منها /همزة/ قطع فصار حرف الـ /عين/ في العبرية يدل على ثلاثة أصوات سامية هي الـ /عين/ والـ /غين/ والـ /ألف/ (همزة القطع). ومثله في البلبلة المحدثة: خلط الـ /حاء/ بالـ /خاء/ بالـ /كاف/ المخففة اللفظ التي تكون آخر الكلمة (مثل: ×ל×? = /مِلِخ/ بدلاً من /مِلِك/ "مَلِك")؛ وصاروا يلفظون ×—×ור هكذا: /خَمور/ (بالـ /خاء/ مثلما لفظوا /كاف/ ×ל×? = /مِلِخ/ خاء وذلك بدلا من /حَمور/ (= حِمار)؛ ومثله: ×¢×: /عِم/ (= مَعَ) التي يلفظونها /إِم/، وناهيك بذلك خلطا وفقرا في الأصوات!
الخلاصة: إن حرف الضاد حرف أصيل في السامية الأم (والسامية الأم: هي العربية عندي)، احتفظت العربية الشمالية والحميرية والأوغاريتية والحبشية به، بينما اندمج في سائر اللغات السامية مع /الصاد/. وربما كانت تسمية العرب العربية بـ (لسان الضاد) صدى للأزمان البعيدة، وهو ما أميل إليه .. فالتسمية صحيحة إذا نظرنا إليها من هذا المنظور (العربية أم الساميات هي لسان الضاد لا تزال تحتفظ به حتى اليوم)، وغير صحيحة إذا حصرناها إطلاقا بعربية الشمال، أي عربيتنا الحالية، دون أخذ السياق التاريخي والتأثيلي، وأصولية العربية وأمومتها للغات السامية، بعين الاعتبار.
ــــــــــــ
* انظر على سبيل المثال: http://www.diwanalarab.com/spip.php?article10629
تعليق