إليكم هذه القصة العبقرية لجون أبدايك
وفاة أصدقاء قدامى
جون أبدايك
ترجمة: د/ أحمد الشيمي
رغم أني أمضيت سنين عديدة بين زواج وطلاق، مما انتهي بي إلى فوضى أفسدت حياتي تماماً، كان هناك أناس آخرون من حولي يعيشون ويموتون. لِن، شريك قديم في رياضة الجولف، دخل المستشفى لإجراء بعض الفحوص الروتينية كما قالوا، وسقط ميتاً في الحمام بعد أن هاتف محل الخردوات الذي يمتلكه وقال إنه سيكون في مكتبه في الصباح. كان يضرب كرة الجولف بسرعة زائدة عن الحد جاعلاً كل ثقله على قدمه اليمنى، فكانت الكرة تنطلق في الغالب ناحية اليمين وكأنها انبجست من الأرض دون أن تغادرها. ورغم ذلك لم يكن يعدم ضربات رائعة يسددها خلال اليوم. كان يتأنق في لبسه كأنه مقدم على تحقيق إنجاز كبير في اللعبة. كان يرتدي بنطلوناً أصفر فضفاضاً بأزرار ذهبية وياقة ضيقة منتصبة أخذت زرقة السماء، وسترة من الكشمير في لون اليوسفي، وكان يلوح بيده وهو يقف على مروج الملعب الخضراء بينما كنت أجر عربة الجولف عبر باحة موقف السيارات الإسفلتي، والحدوة الحديدية المثبتة في نعل حذائي تحدث صريراً كاصطكاك أسنان وحش، مع كل خطوة.
ومع أن لِن كان يعرف جوليا، زوجتي السابقة، ويحبها، فإنه لم يتحدث قط عن شأني الخاص. كانت لعبة الجولف في ذلك الوقت تمثل ملاذاً عظيماً لنا، فإذا فرغت من تعيين موضع الكرة استعداداً للضربة أشعر أنني دخلت فقاعة ضخمة شفافة أصبح فيها بمأمن من النساء والأطفال المرضى والمحامين العابسين والمعارف القدامى الذين ينكرونني، وحتى من نظامنا الاجتماعي المهترئ. الجولف لـه نظامه الخاص وعشقه الخاص. كنا فريقاً من ثلاثة أو أربعة ، نتمايل بشدة ، ونصيح في بحثنا عن الطريق إلى الحفر. كنا نضحك لسوء الحظ ونصفق لضربات الذكاء النسبي. وأحياناً تتوارى سماء الصيف في غلالة من الظلام تهب بعدها عاصفة تدفعنا للاحتماء بهيكل حافلة قديمة أو بشجرة أقصر من أخواتها، ويضيع فزعنا ونفاد صبرنا وعصبيتنا، بسبب انقطاع الجولف، في ذلك الحيز الضيق بحرارته المحببة والذي حشرنا فيه لتختلط أنفاسنا بعرق كهولتنا تحت خرير المطر المنهمر وكأننا قطيع من الماشية حشر في صندوق شاحنة. كان وجه لِن يحمل عدداً من القروح التي كان ينوي إزالتها بالجراحة قبل أن تتحول إلى سرطان جلدي. من كان يظن أن الهجمة المباغتة لانسداد الشريان التاجي ستقف عقبة أمام تحقيق أمانيه ، وتزيحه تماماً من حياتي أنا المضطربة. لن أرى بعد اليوم ضربته التي كان يرسلها وهو مفعم بالأمل (لا تتشابه ندفتا ثلج ولا بصمتان ولا دقتا قلب حين يرصدهما جهاز رسم القلب ... ولا ضربتا جولف!!) كان يقول مازحاً: "تعالي يا كرتي العزيزة." يقول ذلك وهو يواصل مشيه المتثاقل وإقعائه بين حين وآخر. تنبجس الكرة من الأرض وتسير على ارتفاع منخفض إلى اليسار في مساره الذي يخصه.
حضرت جنازة لِن، وحاولت أن أقول لابنه، لقد كان أبوك رجلاً عظيماً، ولكن الكلمات خرجت باردة يعوزها الوضوح في تلك الكنيسة المعدانية المنعزلة المفتقرة للدفء. أصبحت ملابس لِن الملونة وعصبيته المحتشمة ولعبه وضربته العقيمة وصياحنا في الذهاب والإياب، وصحبتنا في هذا العالم المصطنع الذي يتألف من امتدادات لانهائية وألوان لا حصر لها من المروج، آثاراً من حياة دقيقة لا تطارد قد تفرقت بدداً.
وبعد أيام قرأت في جريدة يومية أن الآنسة مرمونت، ذات الحادية والتسعين، مضت إلى مثواها الأخير كما تمضي أوراق الشجر اليابسة إلى الفناء على سطح التربة. لم أرها إلا عجوزاً دائماً. كانت من أهل إنجلترا الجديدة وكانت تتحدث عن هنري جيمس كأنه غادر الحجرة منذ لحظات. كانت تفخر بملكيتها لمجموعة من الرسائل تطويها وتبسطها وتقول إنها من هنري جيمس إلى أبويها وقد ورد اسمها في ثناياها ليس كفتاة صغيرة فحسب وإنما كامرأة شابة آلت إليها التركة ... وإن التركة قد آلت إلى قوة جديدة مفعمة بحب الحياة. كانت تعيش في قصر تمتلئ حجراته الكثيرة بالقطع الأثرية، بيت ريفي فخم رفضت تأجير جزأه الأكبر الذي تستغله. لماذا أحجمت عن الزواج؟ لقد بات هذا لغزاً ظلل حياتها الأخيرة بالتساؤل. ذلك الجمال المتدفق على قد أهيف تذكر به الصور الفوتوغرافية التي أخذت لوناً بنياً، والتي تشي بتربية راقية وذكاء واضح وروح مرحة. لابد أن ذلك التوقد الذي لا زالت تمتلكه قد ألقى الخوف في قلوب كثير من الخطَّاب بينما كانوا يسعون للفت انتباهها مما كان يعضد هيبتها المزعومة وهي في سن الطهر لم تزل. يراودها ميل للزهد حد من إغراء البذل. انطوى صوتها على تحفظ ساخر أسبغ على ملامحها ميلاً للتبرم السريع والرفض. كانت رغبتها في تعليم نفسها بنفسها شديدة. تابعت كل ما استجد من تطورات في الفنون والعلوم، واهتمت بألوان الأطعمة الأساسية والمساجلات السياسية، يسعد قلبها أن يحيط بها الشباب، وعندما انتقلنا أنا وجوليا إلى المدينة بأطفالنا ووجوهنا الجديدة، أصبحنا جزءاً من حلقة الشاي التي كانت تديرها. وفي جو من السحر المتواضع، ولكنه المتبادل، استمرت علاقتنا أكثر من عشرين عاماً. لقد كان سحرها عظيماً.
بل أعتقد أن الآنسة مرمونت كانت تحبنا، أو على الأقل كانت تحب جوليا التي كانت تتألق دوماً سحراً وفتنة تألق الابنة العاطفي في تلك الحجرات الباردة التي تضيئها النوافذ وتعج بالأمتعة الموروثة من كل خفيف مريش ينتشر في كل طابق من طوابق البيت الأربعة. إن وجه زوجتي السابقة المخضب بحمرة الورد وانحسار فستانها قليلاً عن رقبتها ومنكبيها يختلط بذاكرتي بتلك النعومة الطيفية لهذه الصور الفوتوغرافية ذات الإطار القديم والتي أخذت، على ما يبدو، في الأستديو للأخوات مرمونت الثلاث. ماتت منهن اثنتان في شرخ الشباب كأنهما قررتا التبرع بنصيبهما من سنين العمر للأخت الثالثة الجالسة بيننا الآن على مقعدها المجنح والمطرز بالذهب. لقد تخضب وجهها بلون سمرة الأرض بفعل السنين مما لم تتوقعه. علته التجاعيد فأصبح كوجوه الهنود، تطل من عينيها كآبة تختلط بها القسوة. "لقد خيبت آمالي." كانت تقول ذلك معلقة على صداقة قديمة أو صديقة أسقطتها من حساباتها، وكانت تضيف: "لم تكن من الطراز الأول قط."
كان البحث عن الطراز الأول هاجس جيلها. ليس في وسعي الآن معرفة من كسب ثقتها ونال رضاها غير الأب دانيال بيريجان والسير كينث كلارك بعد أن رأتهما على الشاشة الصغيرة. تلتمع عيناها الآن ببريق غامض يخذلها. استبدلت بأمسيات شائقة تقضيها في القراءة حين تتقهقر الأنوار خارج النوافذ، ونار قليلة من ألواح خشب السنط ألقيت في موقد مزينة حوافه بمعدن النحاس، تدفئ كاحليها، استبدلت بها ساعات قليلة محدودة أمام البرامج التعليمية التي يبثهما جهازي الراديو والتلفزيون. في سنواتها الأخيرة تلك كانت جوليا تقرأ لها رواية مدلمارش لجورج إليوت وكتب جوان ديديون وبعض من بروست ومورياك بالفرنسية، وشهدت الآنسة مرمونت بأن لهجة جوليا تفي بالغرض المطلوب. كانت جوليا تتدرب على اللغة معي، وعندما كنت أرى شفتيها تندفعان للأمام وتصبحان صغيرة ومشدودة حول أصوات الكلمات الفرنسية مثل شفتي قناع من العاج لأفريقي، كنت كثيراً ما أقع في حبها من جديد. إن الحب بين النساء ينطوي على كثير من الإثارة والألم لا سيما للرجال. أحياناً يرتد الشاي ليفسح الطريق أمام الشيري في تلك الحجرات المحتشدة حين يحل الشفق وتتثاقل اليدان في تقليب الصفحات ويصبح صوت جوليا، الذي دب فيه الوهن العلامة الوحيدة على الحياة. كان الحب هو الوشيجة الوحيدة بين هذه العجوز المقبلة على الرحيل وزوجتي المقبلة على الكهولة، حتى أولادنا قد دلفوا إلى المراهقة بما يكتنفها من محاذير. لم يكن صوتها يسمع في أي مكان كما كان يسمع هنا. كانت هناك، بلا ريب، أسراراً بينهما وإفضاءات بينما كانت الصفحات تقلب في تكاسل. وكانت جوليا تعود دائماً من منزل الآنسة مرمونت لتعد عشائي المتأخر وقد بدت أصغر سناً وأكثر مرحاً واعتداداً بالنفس.
في تلك الفترة الحساسة لما بعد الزواج، عندما يحس الأصدقاء القدامى أنهم مضطرون إلى تقديم الدعوات، وليس لدى المرء جرأة أو شجاعة على الاعتذار، وجدت نفسي وسط جمع غفير كانت الآنسة مرمونت فيه حاضرة في صحبة شابة مدورة الوجه لا تفارقها. لم تكن قد فقدت البصر تماماً. لقد استأجرتها الآنسة كمرافقة ومرشدة. بدت العجوز الواهنة كريش طاووس تحت ناقوس من زجاج. استقرت على مقعد في ركن الحجرة خلف سلطانية البنش. أحست عند اقترابي أن جسداً يدنو منها فمدت يديها الواهنتين، وعندما سمعت صوتي تثاقلت يداها وقالت خلال شهيق طويل جاء مثل تيار من الهواء يغازل قطعة من السيلوفان المتجعد: "لقد جئت أمراً إدا." أشاحت بوجهها فظهرت الصورة الجانبية لأنفها الصقرية كأنني أسأت لقوة إبصارها. التقط الوجه المستدير مثل طبق الرادار صدمة خفيفة ولكنني ابتسمت دون أن يزايلني إحساس بالسعادة. ثمة رضى يعترينا بعد الحكم على الأمور حتى لو جاء هذا الحكم على غير ما نرغب. وهناك جهاز يرصد اهتزازاتنا وهناتنا كما تُرصد الزلازل. تخيلت موت الآنسة مرمونت، ليس بعد شهور كثيرة، مثل خط ضعيف على شاشة مونيطور المستشفى المثبت على رأسها. شيء ما يدعو للسخرية في ذلك الخط الواهن: السخرية في استقامته الصريحة، السخرية في ذلك الصبر الجميل مع عالم أخفق خلال ما يزيد على التسعين عاماً أن يدل على شيء أكثر من كونه مخيب للآمال. في تلك الفترة اختلفت مع جوليا وانفصلنا.
وبطبيعة الحال ضاع كل شيء في البيت المهجور؛ اللوحات التي كانت تزين الجدران، والظلال التي كانت تنافس الضوء في هذا الركن أو ذاك، والدفء الخلاب المنبعث من أجهزة التدفئة، والحيوانات المدللة. كانيوت ... كلب صيد أشقر امتلكناه حين كان جرواً صغيراً، عندما كان الصغار عصابة بهلوانيين لم يتعدوا العاشرة ويذهب إليهم الحب بلا حدود. وخلال سني حياته عانى من كل شيء بما في ذلك الخصي وكأن الحياة كانت سيلاً متصلاً من النعيم. ابنتي الصغرى هي التي أحضرت كانيوت، قبل وفاتها بمدة طويلة، إلى البيت الذي أقيم فيه مع زوجتي جيني. راح يستطلع المكان بأنفه في أدب جم معبراً بزاوية فقط تضطرب من أذنيه عن عجيبة سيده القديم الذي استقر في هذا البيت غريب الرائحة. تهالك بعدها على أرضية المطبخ بعد أن ندت منه تنهدية ثقيلة. كانت السمنة والكسل باديين عليه. ابنتي الأخرى قالت إن الكلب كان يتجول في الليل ويأكل من قمامة الجيران، ومن مزود حصان جار آخر. بدا لي هذا كأنه سوء إدارة من ناحيتي. صديق جوليا الجديد رجل في خريف العمر كان ظهيراً في فريق دارتموث لكرة القدم ومشجعاً متحمساً للتنس والجولف، نادراً ما كان يذهب إلى البيت، واضطرت هي لمسايرته فتعلمت بعض الألعاب الجديدة. وأصبح الإهمال من نصيب البيت والمرجة. راح الصبية يدخلون فيه ويخرجون مع أصدقائهم، ويفرغون الثلاجة من الطعام. أما جيني التي أحست بمشاعري المحبطة فقد كانت لبقة في حديثها معي بينما كانت مشغولة بحك كانيوت خلف أذنيه. كانت أذنه مصابة وحساسة فكان يطبق فكيه برفق على أصابعها، ثم يضع ذيله على أرضية المطبخ طلباً للعفو.
مثلي عندما انتهرتني الآنسة مرمونت بدت زوجتي أميل للفرح منه للحزن، فوجئت بلمسة مقاومة فأحست بتأكد موقعها من العالم. بدأت تناقش المضادات الحيوية الخاصة بعلاج الكلاب مع ابنتي. كانت جيني صغيرة حتى ليظن أنها ابنتي وليست زوجتي. أنا الآن في الخمسين، وكل فتاة تحت الخامسة والثلاثين يمكن أن تكون في منزلة زوجتي.
وبعد أيام من زيارته، اختفي كانيوت. وبعد أيام قلائل وجدوه على مسافة بعيدة في المستنقعات قريباً من منزلي القديم وقد انتفخ بطنه. انتهي تشخيص الطبيب إلى أن السبب كان نوبة قلبية. سألت نفسي: وهل يحدث هذا لمخلوق يمشي على أربع؟ ضربت العاصفة كلبي المسكين على مشهد من ضوء القمر. امتلأ قلبه بسعادة مستنقعية وارتفع بطنه بما أكل من قمامة. رقد أربعة أيام وقد علت جسده طبقة مرضية كأنها الفرو المتغضن في حين كانت المياه تزيد وتنقص من حوله. تجعلني الصورة سعيداً كأنها دفعات الأشرعة وهي تسحب القارب بسرعة بعيداً عن الشاطئ بعد أن امتلأت بالهواء. والحق أن هذه الوفيات الثلاث – وهو أمر فظيع أن أعترف بذلك – تجعلني سعيداً على نحو من الأنحاء، فلقد اختفى الآن بعض من شهود الإثبات على حياتي التي تسربلت بالعار. العالم يزداد إشراقاً. أخيراً لن يكون هناك من يتذكرني في تلك السنوات المضطربة بينما كنت أغدو وأروح بلا استقرار بين بيوت وزوجات مثل ثعبان لا يمل من تغيير جلده، أو مثل وحش أناني حاجاته الغريبة صريحة وجارحة. تدنى حضوري الاجتماعي حتى أصبحت هدفاً لكل هجوم. موت الآخرين يأخذ من حياتنا شيئاً فشيئاً حتى لا يبقى منا شيء، وهذا أيضاً، على أي نحو، رحمة.
وفاة أصدقاء قدامى
جون أبدايك
ترجمة: د/ أحمد الشيمي
رغم أني أمضيت سنين عديدة بين زواج وطلاق، مما انتهي بي إلى فوضى أفسدت حياتي تماماً، كان هناك أناس آخرون من حولي يعيشون ويموتون. لِن، شريك قديم في رياضة الجولف، دخل المستشفى لإجراء بعض الفحوص الروتينية كما قالوا، وسقط ميتاً في الحمام بعد أن هاتف محل الخردوات الذي يمتلكه وقال إنه سيكون في مكتبه في الصباح. كان يضرب كرة الجولف بسرعة زائدة عن الحد جاعلاً كل ثقله على قدمه اليمنى، فكانت الكرة تنطلق في الغالب ناحية اليمين وكأنها انبجست من الأرض دون أن تغادرها. ورغم ذلك لم يكن يعدم ضربات رائعة يسددها خلال اليوم. كان يتأنق في لبسه كأنه مقدم على تحقيق إنجاز كبير في اللعبة. كان يرتدي بنطلوناً أصفر فضفاضاً بأزرار ذهبية وياقة ضيقة منتصبة أخذت زرقة السماء، وسترة من الكشمير في لون اليوسفي، وكان يلوح بيده وهو يقف على مروج الملعب الخضراء بينما كنت أجر عربة الجولف عبر باحة موقف السيارات الإسفلتي، والحدوة الحديدية المثبتة في نعل حذائي تحدث صريراً كاصطكاك أسنان وحش، مع كل خطوة.
ومع أن لِن كان يعرف جوليا، زوجتي السابقة، ويحبها، فإنه لم يتحدث قط عن شأني الخاص. كانت لعبة الجولف في ذلك الوقت تمثل ملاذاً عظيماً لنا، فإذا فرغت من تعيين موضع الكرة استعداداً للضربة أشعر أنني دخلت فقاعة ضخمة شفافة أصبح فيها بمأمن من النساء والأطفال المرضى والمحامين العابسين والمعارف القدامى الذين ينكرونني، وحتى من نظامنا الاجتماعي المهترئ. الجولف لـه نظامه الخاص وعشقه الخاص. كنا فريقاً من ثلاثة أو أربعة ، نتمايل بشدة ، ونصيح في بحثنا عن الطريق إلى الحفر. كنا نضحك لسوء الحظ ونصفق لضربات الذكاء النسبي. وأحياناً تتوارى سماء الصيف في غلالة من الظلام تهب بعدها عاصفة تدفعنا للاحتماء بهيكل حافلة قديمة أو بشجرة أقصر من أخواتها، ويضيع فزعنا ونفاد صبرنا وعصبيتنا، بسبب انقطاع الجولف، في ذلك الحيز الضيق بحرارته المحببة والذي حشرنا فيه لتختلط أنفاسنا بعرق كهولتنا تحت خرير المطر المنهمر وكأننا قطيع من الماشية حشر في صندوق شاحنة. كان وجه لِن يحمل عدداً من القروح التي كان ينوي إزالتها بالجراحة قبل أن تتحول إلى سرطان جلدي. من كان يظن أن الهجمة المباغتة لانسداد الشريان التاجي ستقف عقبة أمام تحقيق أمانيه ، وتزيحه تماماً من حياتي أنا المضطربة. لن أرى بعد اليوم ضربته التي كان يرسلها وهو مفعم بالأمل (لا تتشابه ندفتا ثلج ولا بصمتان ولا دقتا قلب حين يرصدهما جهاز رسم القلب ... ولا ضربتا جولف!!) كان يقول مازحاً: "تعالي يا كرتي العزيزة." يقول ذلك وهو يواصل مشيه المتثاقل وإقعائه بين حين وآخر. تنبجس الكرة من الأرض وتسير على ارتفاع منخفض إلى اليسار في مساره الذي يخصه.
حضرت جنازة لِن، وحاولت أن أقول لابنه، لقد كان أبوك رجلاً عظيماً، ولكن الكلمات خرجت باردة يعوزها الوضوح في تلك الكنيسة المعدانية المنعزلة المفتقرة للدفء. أصبحت ملابس لِن الملونة وعصبيته المحتشمة ولعبه وضربته العقيمة وصياحنا في الذهاب والإياب، وصحبتنا في هذا العالم المصطنع الذي يتألف من امتدادات لانهائية وألوان لا حصر لها من المروج، آثاراً من حياة دقيقة لا تطارد قد تفرقت بدداً.
وبعد أيام قرأت في جريدة يومية أن الآنسة مرمونت، ذات الحادية والتسعين، مضت إلى مثواها الأخير كما تمضي أوراق الشجر اليابسة إلى الفناء على سطح التربة. لم أرها إلا عجوزاً دائماً. كانت من أهل إنجلترا الجديدة وكانت تتحدث عن هنري جيمس كأنه غادر الحجرة منذ لحظات. كانت تفخر بملكيتها لمجموعة من الرسائل تطويها وتبسطها وتقول إنها من هنري جيمس إلى أبويها وقد ورد اسمها في ثناياها ليس كفتاة صغيرة فحسب وإنما كامرأة شابة آلت إليها التركة ... وإن التركة قد آلت إلى قوة جديدة مفعمة بحب الحياة. كانت تعيش في قصر تمتلئ حجراته الكثيرة بالقطع الأثرية، بيت ريفي فخم رفضت تأجير جزأه الأكبر الذي تستغله. لماذا أحجمت عن الزواج؟ لقد بات هذا لغزاً ظلل حياتها الأخيرة بالتساؤل. ذلك الجمال المتدفق على قد أهيف تذكر به الصور الفوتوغرافية التي أخذت لوناً بنياً، والتي تشي بتربية راقية وذكاء واضح وروح مرحة. لابد أن ذلك التوقد الذي لا زالت تمتلكه قد ألقى الخوف في قلوب كثير من الخطَّاب بينما كانوا يسعون للفت انتباهها مما كان يعضد هيبتها المزعومة وهي في سن الطهر لم تزل. يراودها ميل للزهد حد من إغراء البذل. انطوى صوتها على تحفظ ساخر أسبغ على ملامحها ميلاً للتبرم السريع والرفض. كانت رغبتها في تعليم نفسها بنفسها شديدة. تابعت كل ما استجد من تطورات في الفنون والعلوم، واهتمت بألوان الأطعمة الأساسية والمساجلات السياسية، يسعد قلبها أن يحيط بها الشباب، وعندما انتقلنا أنا وجوليا إلى المدينة بأطفالنا ووجوهنا الجديدة، أصبحنا جزءاً من حلقة الشاي التي كانت تديرها. وفي جو من السحر المتواضع، ولكنه المتبادل، استمرت علاقتنا أكثر من عشرين عاماً. لقد كان سحرها عظيماً.
بل أعتقد أن الآنسة مرمونت كانت تحبنا، أو على الأقل كانت تحب جوليا التي كانت تتألق دوماً سحراً وفتنة تألق الابنة العاطفي في تلك الحجرات الباردة التي تضيئها النوافذ وتعج بالأمتعة الموروثة من كل خفيف مريش ينتشر في كل طابق من طوابق البيت الأربعة. إن وجه زوجتي السابقة المخضب بحمرة الورد وانحسار فستانها قليلاً عن رقبتها ومنكبيها يختلط بذاكرتي بتلك النعومة الطيفية لهذه الصور الفوتوغرافية ذات الإطار القديم والتي أخذت، على ما يبدو، في الأستديو للأخوات مرمونت الثلاث. ماتت منهن اثنتان في شرخ الشباب كأنهما قررتا التبرع بنصيبهما من سنين العمر للأخت الثالثة الجالسة بيننا الآن على مقعدها المجنح والمطرز بالذهب. لقد تخضب وجهها بلون سمرة الأرض بفعل السنين مما لم تتوقعه. علته التجاعيد فأصبح كوجوه الهنود، تطل من عينيها كآبة تختلط بها القسوة. "لقد خيبت آمالي." كانت تقول ذلك معلقة على صداقة قديمة أو صديقة أسقطتها من حساباتها، وكانت تضيف: "لم تكن من الطراز الأول قط."
كان البحث عن الطراز الأول هاجس جيلها. ليس في وسعي الآن معرفة من كسب ثقتها ونال رضاها غير الأب دانيال بيريجان والسير كينث كلارك بعد أن رأتهما على الشاشة الصغيرة. تلتمع عيناها الآن ببريق غامض يخذلها. استبدلت بأمسيات شائقة تقضيها في القراءة حين تتقهقر الأنوار خارج النوافذ، ونار قليلة من ألواح خشب السنط ألقيت في موقد مزينة حوافه بمعدن النحاس، تدفئ كاحليها، استبدلت بها ساعات قليلة محدودة أمام البرامج التعليمية التي يبثهما جهازي الراديو والتلفزيون. في سنواتها الأخيرة تلك كانت جوليا تقرأ لها رواية مدلمارش لجورج إليوت وكتب جوان ديديون وبعض من بروست ومورياك بالفرنسية، وشهدت الآنسة مرمونت بأن لهجة جوليا تفي بالغرض المطلوب. كانت جوليا تتدرب على اللغة معي، وعندما كنت أرى شفتيها تندفعان للأمام وتصبحان صغيرة ومشدودة حول أصوات الكلمات الفرنسية مثل شفتي قناع من العاج لأفريقي، كنت كثيراً ما أقع في حبها من جديد. إن الحب بين النساء ينطوي على كثير من الإثارة والألم لا سيما للرجال. أحياناً يرتد الشاي ليفسح الطريق أمام الشيري في تلك الحجرات المحتشدة حين يحل الشفق وتتثاقل اليدان في تقليب الصفحات ويصبح صوت جوليا، الذي دب فيه الوهن العلامة الوحيدة على الحياة. كان الحب هو الوشيجة الوحيدة بين هذه العجوز المقبلة على الرحيل وزوجتي المقبلة على الكهولة، حتى أولادنا قد دلفوا إلى المراهقة بما يكتنفها من محاذير. لم يكن صوتها يسمع في أي مكان كما كان يسمع هنا. كانت هناك، بلا ريب، أسراراً بينهما وإفضاءات بينما كانت الصفحات تقلب في تكاسل. وكانت جوليا تعود دائماً من منزل الآنسة مرمونت لتعد عشائي المتأخر وقد بدت أصغر سناً وأكثر مرحاً واعتداداً بالنفس.
في تلك الفترة الحساسة لما بعد الزواج، عندما يحس الأصدقاء القدامى أنهم مضطرون إلى تقديم الدعوات، وليس لدى المرء جرأة أو شجاعة على الاعتذار، وجدت نفسي وسط جمع غفير كانت الآنسة مرمونت فيه حاضرة في صحبة شابة مدورة الوجه لا تفارقها. لم تكن قد فقدت البصر تماماً. لقد استأجرتها الآنسة كمرافقة ومرشدة. بدت العجوز الواهنة كريش طاووس تحت ناقوس من زجاج. استقرت على مقعد في ركن الحجرة خلف سلطانية البنش. أحست عند اقترابي أن جسداً يدنو منها فمدت يديها الواهنتين، وعندما سمعت صوتي تثاقلت يداها وقالت خلال شهيق طويل جاء مثل تيار من الهواء يغازل قطعة من السيلوفان المتجعد: "لقد جئت أمراً إدا." أشاحت بوجهها فظهرت الصورة الجانبية لأنفها الصقرية كأنني أسأت لقوة إبصارها. التقط الوجه المستدير مثل طبق الرادار صدمة خفيفة ولكنني ابتسمت دون أن يزايلني إحساس بالسعادة. ثمة رضى يعترينا بعد الحكم على الأمور حتى لو جاء هذا الحكم على غير ما نرغب. وهناك جهاز يرصد اهتزازاتنا وهناتنا كما تُرصد الزلازل. تخيلت موت الآنسة مرمونت، ليس بعد شهور كثيرة، مثل خط ضعيف على شاشة مونيطور المستشفى المثبت على رأسها. شيء ما يدعو للسخرية في ذلك الخط الواهن: السخرية في استقامته الصريحة، السخرية في ذلك الصبر الجميل مع عالم أخفق خلال ما يزيد على التسعين عاماً أن يدل على شيء أكثر من كونه مخيب للآمال. في تلك الفترة اختلفت مع جوليا وانفصلنا.
وبطبيعة الحال ضاع كل شيء في البيت المهجور؛ اللوحات التي كانت تزين الجدران، والظلال التي كانت تنافس الضوء في هذا الركن أو ذاك، والدفء الخلاب المنبعث من أجهزة التدفئة، والحيوانات المدللة. كانيوت ... كلب صيد أشقر امتلكناه حين كان جرواً صغيراً، عندما كان الصغار عصابة بهلوانيين لم يتعدوا العاشرة ويذهب إليهم الحب بلا حدود. وخلال سني حياته عانى من كل شيء بما في ذلك الخصي وكأن الحياة كانت سيلاً متصلاً من النعيم. ابنتي الصغرى هي التي أحضرت كانيوت، قبل وفاتها بمدة طويلة، إلى البيت الذي أقيم فيه مع زوجتي جيني. راح يستطلع المكان بأنفه في أدب جم معبراً بزاوية فقط تضطرب من أذنيه عن عجيبة سيده القديم الذي استقر في هذا البيت غريب الرائحة. تهالك بعدها على أرضية المطبخ بعد أن ندت منه تنهدية ثقيلة. كانت السمنة والكسل باديين عليه. ابنتي الأخرى قالت إن الكلب كان يتجول في الليل ويأكل من قمامة الجيران، ومن مزود حصان جار آخر. بدا لي هذا كأنه سوء إدارة من ناحيتي. صديق جوليا الجديد رجل في خريف العمر كان ظهيراً في فريق دارتموث لكرة القدم ومشجعاً متحمساً للتنس والجولف، نادراً ما كان يذهب إلى البيت، واضطرت هي لمسايرته فتعلمت بعض الألعاب الجديدة. وأصبح الإهمال من نصيب البيت والمرجة. راح الصبية يدخلون فيه ويخرجون مع أصدقائهم، ويفرغون الثلاجة من الطعام. أما جيني التي أحست بمشاعري المحبطة فقد كانت لبقة في حديثها معي بينما كانت مشغولة بحك كانيوت خلف أذنيه. كانت أذنه مصابة وحساسة فكان يطبق فكيه برفق على أصابعها، ثم يضع ذيله على أرضية المطبخ طلباً للعفو.
مثلي عندما انتهرتني الآنسة مرمونت بدت زوجتي أميل للفرح منه للحزن، فوجئت بلمسة مقاومة فأحست بتأكد موقعها من العالم. بدأت تناقش المضادات الحيوية الخاصة بعلاج الكلاب مع ابنتي. كانت جيني صغيرة حتى ليظن أنها ابنتي وليست زوجتي. أنا الآن في الخمسين، وكل فتاة تحت الخامسة والثلاثين يمكن أن تكون في منزلة زوجتي.
وبعد أيام من زيارته، اختفي كانيوت. وبعد أيام قلائل وجدوه على مسافة بعيدة في المستنقعات قريباً من منزلي القديم وقد انتفخ بطنه. انتهي تشخيص الطبيب إلى أن السبب كان نوبة قلبية. سألت نفسي: وهل يحدث هذا لمخلوق يمشي على أربع؟ ضربت العاصفة كلبي المسكين على مشهد من ضوء القمر. امتلأ قلبه بسعادة مستنقعية وارتفع بطنه بما أكل من قمامة. رقد أربعة أيام وقد علت جسده طبقة مرضية كأنها الفرو المتغضن في حين كانت المياه تزيد وتنقص من حوله. تجعلني الصورة سعيداً كأنها دفعات الأشرعة وهي تسحب القارب بسرعة بعيداً عن الشاطئ بعد أن امتلأت بالهواء. والحق أن هذه الوفيات الثلاث – وهو أمر فظيع أن أعترف بذلك – تجعلني سعيداً على نحو من الأنحاء، فلقد اختفى الآن بعض من شهود الإثبات على حياتي التي تسربلت بالعار. العالم يزداد إشراقاً. أخيراً لن يكون هناك من يتذكرني في تلك السنوات المضطربة بينما كنت أغدو وأروح بلا استقرار بين بيوت وزوجات مثل ثعبان لا يمل من تغيير جلده، أو مثل وحش أناني حاجاته الغريبة صريحة وجارحة. تدنى حضوري الاجتماعي حتى أصبحت هدفاً لكل هجوم. موت الآخرين يأخذ من حياتنا شيئاً فشيئاً حتى لا يبقى منا شيء، وهذا أيضاً، على أي نحو، رحمة.
تعليق