وجهان في إطار واحد ـ قصة قصيرة

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • nazer
    عضو منتسب
    • Sep 2007
    • 6

    وجهان في إطار واحد ـ قصة قصيرة

    صورتان في إطار واحد
    ـــــــــــــــــــ
    قصة قصيرة


    • نذيــر جعفــر
    • natherg@aloola-net.org


    لا أصدق ! ما حدث لا يمكن أن يحدث ! حتى لو رأيته بعيني ! صحيح أن الأقبيــة في المدن الكبيرة غالبا ما تكون مثارا للشبهات , ويحدث فيها مثل ذلك وأكثر , إلا أن ذلك القبو الذي حدث فيه ما لا يُصدق , كان فوق الشبهات والأسئلة . فهو بيت صديقي , بل أحد أعز أصدقـــائي . كيف لا وهو الـذي قاسمني الحلو والمر , فكان مبدّد وحشتي , ومستودع أسراري , وظهري الذي يسندني كلمـا انحنيت أو زلـّت قدمي . فكيف أصدّق أن ما حدث قد حدث ؟ ! . تقول زوجتــي : " الواقـع أغرب من الخيال , وكل شيء معقول في هذا الزمـــن الأسود " . ويعلّق ابني المراهق ساخرا من سذاجتي : "ما حدث قد حدث يا أبي , وإن كنت لا تصدق اتصل بالجنائية وتأكد بنفسـك ". الجنائية ! يا إلهي, لا , لا , هناك التباس حتما . أيعقل ! ؟ .
    في الأمس زرته , وكالعادة جلسنا معا في الغرفة الداخلية التي حوّلها إلى مرسم , أراني آخر لوحاته التي لم تكتمل بعد , كان يثق بذائقتي , ويطلب رأيي فيما يرسمه , ولما سألني هــذه المرة عن لوحته التي لم تكتمل قلت له مازحا : دعها كما هي , فأيـة إضــافة ستفسـدها . لا أدري كيف اقتنع بكلامي وقال لي : فعلا , سأتركها كما هي , ولكن بشرط أن تكملها أنت في يوم ما . وها أنا اليوم لا أجرؤ حتى على الذهاب إلى القبو , أقصد المرسم . وإن تجـرأت وذهبت إلى هناك هل سأحتمل تصوّر ما حدث ؟ . زوجتي تكسر صمتها من جــديد وتقـول متسائلة مستنكرة : " إذا كان يريد أن ينتقم من زوجته فما ذنب ابنه الصغير المسكين .... هذا هو صديقك الذي تحلف باسمه ؟ قال فنان قال .. " . ويؤازرها ابني معلـقا : " كل الفنانيــن عقلهم صغير" . وأكاد أجن مما أسمع , فلا أستطيع أن أصدق ما حدث , ولا أستطيع أن أنفيه , ولا أستطيع أن أدافع عن صديقي وتوءم روحي الحقيقي في هذه الدنيا . الأمر الوحيد الذي كنت أفكر فيه , أن هناك سرّا ما في حياته لم يطلعني عليه , وإلا كيف أفسّر ماحدث إن كان قــد حدث فعلا ؟ . وبدأت ذاكرتي تستعرض كل الصور المتعلقة به وبعلاقتنا معا , فلم أجــد ما يشوب تلك العلاقة , ولا ما يشير إلى أي خيط أمسك به لتفسير ما حدث . فهو من العصاميين الذين شقوا طريقهم في الصخر ـ كما يقال ـ وقد دخل كلية الفنون الجميلة بعـدما اجتــاز امتحان القبول بإمكانياته لا بالوساطة ولا بالمال كما يشاع هذه الأيام , وأقام معرضـه الفردي للمرة الأولى في العاصمة , فلاقى احتفاء خاصا من النقاد , وكتب عنه في الصحف المحلية , وبيع منه ثلاث لوحات كان ثمنها أكبر مبلغ يقبض عليه في حياته حتى ذلك الـوقت , ففـرح بـه ودعانا إلى وليمة فاخرة حتى الصباح . وتتابعت أعماله ومعارضه وأصبح علما يشــار إليه بالبنان , ويتهافت عليه الصحافيون لإجراء المقابلات معه , لذلك كان قد علـّق آمـــالا كبيرة على معرضه الفردي الأخير قبل أيام والذي افتتحه المحافظ نفسه هذه المرة وليس مـن ينـوب عنه , لكنه صدم بقلّة الجمهور كما صدم بالمبيعات التي لم تتجاوز لوحتين ,ولم تسدّد ـ كما قال لي ـ إلا الجزء اليسير من الديون التي تراكمت عليه خلال إعداده لهذا المعرض .
    ومع أنه كان يعيش مع زوجته وابنه في القبو , إلا أنه كان قد حوّل ذلك القـبو البائس إلــى مملكة حقيقية للفن وعشّاقه , لكنّ زوجته كانت تتذمر أحيانا من القبو الذي يضغط على روحها والذي تسميه قبرا مع أنها كانت مقتنعة أنه ليس إلا مرحلة مؤقتة , وستزول بعــدما ينتهـي بيـت الجمعية الذي ما زالوا يحلمون به منذ سنــوات . وصحيـح أن لصديقـي بعــض المعجبات إلا أنهن كنّ يعرفن حدودهن معه . أما زوجة صديقي فقد تزوجته بعد قصة حــب عاصفة , ولم يكــن ـ كما أعرف ـ أحد في حياتها لا قبله ولا بعده , وما زلت أذكـر تلك الأيــام الجميلة التي كانا يلتقيان فيها عندي في تلك الغرفــة الوحيدة على السطـــح في الســـريان القديمة والتي كان يطلق عليها صاحبي اسم " عش النسور " حيث كان يخطف قبلاته منها في اللحظة التي أنشغل فيها بإعداد القهوة لهما في تلك الأماسي الشتائية الماطـرة . إذن أين السـر في تفسير ما حدث ؟ وكيف أقنع نفسي أن هذا الصديق المرهـــف إلى حد البكــاء قد فعــل ما فعل ؟ ! ورحت أتساءل : أية عبثية تقودنا أحيانا إلى تدمير حيــاتنا لأتـفه الأسباب ؟ أتكون الضائقة الاقتصادية وراء ما حدث كما هو الأمر في أغلب الأحيان ؟ أم أن خلافا صغيرا مع زوجتـه قد أشعل جمر الخـلافات التي تتراكم يوما بعد آخر دون أن يستطيع حلّها أو وضع حدّ لها ثم حدث ما حــدث ؟ أم أن فسحة الأمل ضاقت به ولم يعد ثمة ضوء في نفق حياته المظـلم بعدما فشل معرضه الأخيـر ؟ . وفيـما كنـت أستعرض شريط علاقتي به والأسبـاب الممكنة لتفسير ما حدث , تذكــرت ذلك الإطار الخشبي القديم الذي صمّمه لي و أهداني إياه لأضــع فيــه صورتي , كــان إطارا في منتهى الدقــة والروعة , وقد عكــف عليه أياما وهو يوظف فيه كل خبرتــه ومهاراته فأضحى تحفة فنيــة لا تضاهى , وكنت أعتز بهذا الإطار الذي حمل توقيعه أيضا أكثر من اللوحة التي أهـداني إياها في معرضــه الأخير , ولم يره أحد عندي إلا ولفـت انتباهه وأثار إعجابـه بلون خشبه المعتّق ونقوشه الشرقية الموشّاة بأشكال مختلفة من الورود والرياحين والفراشات . وفي اللحظة التي تذكرت فيها الإطار أحضرت صورتي المعلقة علـى الجدار ووضعتها أمامي ورحت أتأمل في قسماتي وأدقق في توقيع صديقي , وفي تلك اللحظـة ذاتها داهمتني صورة ابنــه وزوجته الغارقين في دمهما , وخيّل إليّ لبرهة أنهما زوجتي وابني الوحيد فأمسكت بالإطــار محــاولا نزعه عن الصورة بعدما لم أعد أحتمــل رؤيتــــه يحيــط بوجهي , وفي اللحظة ذاتها التي لم أعد أذكر ما حدث بعدها تحطم الإطار والزجاج بين يديّ, وسال دمـي مغطيا صورتي وجسدي , وأظلم الكون من حولي .

    ــــــــــــــــــــــــ
    كود:
    نذير جعفر
يعمل...