علــى ناصيـــــة القلـــــب
نذير جعفـــر
هو :
ـــ
أية شجاعة تلزمني كي أتجه صوبها وأقول لها بكل بساطة : صباح الخير ؟ . ثلاثة أشهر مرّت وهي كما هي , ما أن أصل إلى الموقف الذي سأنطلق منه إلى مدرستي حتى أجدها في السابعة تماما على الموقف الذي يقابلني . أتأملها من بعيد وأفتح معها حوارا صامتا في أكثر من موضوع , تبادلني النظرات خلسة , وتتظاهر بأنها تتجاهلني , أغتاظ منها وأحاول أن أغيظها فلا أنجح . أنظر إليها فتبدو على بساطتها وسيمة , وأنيقة . أطيل النظر مدققـا معجبا بشعرها المنساب على كتفيها , و بعينيها اللامعتين الذكيتين , وحقيبتها الســـوداء , وبنطالها الجينز , وحذائها الرياضي بلونيه الأبيض والأسود . ومع أني حفظت كل تفاصيلها إلا أنها تبدو لي مثل لوحة غامضة أكتشف فيها مع كل صباح سرا جديدا. كم من مرة اعتقــدت أني أعرفها منذ زمن طويل لكني لا أذكر أين ومتى التقيت بها للمرة الأولى , كل ما أعرفـه الآن أن قلبي لم يعد ملكي , وأن عليّ أن أفاتحها بمشاعري , ولكن كيف وبأية مناسبة ؟ وماذا لو صدّتني أو صرخت بوجهي, ما الذي سأقوله للعابرين حينذاك , وهل ستقبل اعتذاري بعـد ذلك ؟ .
في الوقت الذي كنت أقنع فيه نفسي بالتريث كنت أحس أن قوة سحرية تدفعني نحوها دون أي تفكير بالعواقب . في البداية اعتقدت أنها موظفة في إحدى الشركات , لكن وجود بعض الكتب والدفاتر معها على مدى أيام طويلة جعلني أحسم الأمر وأرجّح أنها معلمة في إحدى مدارس القرى البعيدة , مثلي تماما . يا للمصادفة الجميلة , هذا ما قلته في سري , فهي زميلتي في المهنة أيضا , وهذا سيخفف عني الكثير . صحيح أني خريّج جديد , ولم يمض عليّ أكثر من سنة في الوظيفة , لكن وضعي المادي ليس سيئا جدا , فبقليل من التخطيط ومساعدة الأهل يمكن أن أحصل على شقة متواضعة عن طريق المصرف العقاري , ومتى وجدت الشقة لم يعد هناك ما يمنع الزواج . أتكون تلك الواقفة على الطرف الآخر من ناصية القلب شريكة أحلامي وحياتي وأفكاري بعدما تخلّت عنّي الآنسـة " م " في أول امتحان مع الحياة ؟ هذا ما كنت أردده بين الشك واليقين دون أن أصل إلى جواب حاسم . خطوة , خطوتان , ثلاث , وأتقدّم . خطوة خطوتان ثلاث وأتراجع . وما بين الإقدام والإحجام , وبعد ليلة شتائية طويلة لم أذق فيها للنوم طعما , وصراع عنيف استنزف قواي , استجمعت أخيرا شجاعتي , وقررت أن أقدّم لها نفسي في الصباح , هكذا مرة واحدة دون تردد , وليأت الطوفان .
هي :
ـــ
يا إلهي , إنه يشبهه تماما , أيكون هو ؟ كيف لي أن أتأكد من ذلك , أنا أعرف تماما أن هذا الوجه ليس غريبا عنّي أبدا , لا بل بدأت أحس أنه أليف أكثر مما ينبغي , ولكن أيـن ومتى التقيت به ؟ ربما في إحدى الندوات الفكرية أو اللقاءات الطلابية أو المصادفات العابرة , هذا ما لا أستطيع تحديده . منذ اليوم الأول لوقوفنا هنا متقابلين , وبحدسي الأنثوي اكتشفت اهتمامه بي , حاولت تجاهله في البداية , ولكن مع مرور الأيام بدأت أتلهف لرؤيته , لا , لن أكذب ,لم أكن أتلهف فحسب , بل كان قلبي يسبقني إليه , ومعه كان للصباحات لون آخر , لون بـــدأ يضيء كل حياتي , فينسيني التعب والضجر والغربة التي بدأت أعيشها في وسط جديد ومحافظ يكاد لا يتقبّل وجودي بدءا من لباسي وانتهاء بأفكاري . لقد أدركت أخيرا أن الروتين يبلد المشاعر , ويخنق الروح , وأنه لا بدّ بين حين وآخر من التغيير , هل كان ظهوره اليــومي أمامي هو مفتاح هذا التغيير؟ , لقد كنت قبله أشبه ببحيرة آسنة وإذا به تلك الحجر التي رميت على حين غرة فهزّت أعماقي , لا لم يكن حجرا , كان باقة ياسمين أسكرتنـي برائحتـــها الصباحية فجعلت لحياتي معنى وطعما آخر . ولكن ما الذي ينتظره هذا الفارس كي يترجّل عن كبريائه قليلا ويتقدّم إليّ ؟ وما الذي يخشاه ؟ هل أتقدّم منه وأصافحه , وبكل بساطة أقول له : صباح الخير . لا , لن أفعلها , صحيح أني أعتبر نفسي متحرّرة , ولا أقف عند الشكليـات , ولكن في مثل هذه المواقف لا يمكن أن أتهور . فمجرد تقديم نفسي بهذه السهولة سأجعلـه يستخف بي , ويبتعد عني . سأمهله أياما أخرى , ما زال في العمر بقية . ولكن إلى متى ,ومن يضمن الغد , فقد ينتقل هو , أو أنا إلى مكان أو عمل آخر , كما حدث لي من قبل مع " س " , وهيهات أن تأتي مصادفة ثانية لتجمعنا , لا لن أخسر نفسي هذه المرة حتى لو ربحت العالم , سأتقدم منه صباحا بكل جرأة , وأمد إليه يدي وأقول : صباح الخير .
ـ هم :
ــــ
ثلاثة تقارير وصلتنا عنه خلال العام الدراسي , ماذا يظن نفسه هذا الأبله , كثيرون غيره لعبوا اللعبة نفسها . في البداية يتمسكنون ويقدمون آيات الطاعة , وما أن يستلموا عملهم حتى تبدأ عقولهم المريضة تزين لهم سبل الاعتراض والتحريض على أداء هذا المسئول أو ذاك أمام طلابهم , معتقدين أنهم بنقدهم المستمر سيُرفعون على الأكف , وأن الأهالي سيلتفون حولهم , وأنهم قادرون على خوض الانتخابات , وكسب الأصوات , وإسقاط مرشحي الدولة , إلى آخر ما في قائمتهم من هذه الأوهام والخطط الهدامة . لكننا سنظل لهم بالمرصاد , فتناسلهم وتكاثرهم ليس إلا أول الغيث في السيل الذي قد يجتاحنا جميعا .
ـ هو :
ـــــ
لم يكن هذا الصباح ككل الصباحات , فقد تسللت شمسه إلى قلبي قبل أن تتسلّل إلى غرفتي, وبدأت أستعد للقائها , كما لم أفعل من قبل , فرتّبت السرير , ومسحت الغبار المتراكم على الأثاث , وسقيت أصص الرياحين التي تزيّن نافذتي الوحيدة , وحلقت ذقني أكثر من مرّة , ولبست أجمل ما يليق بي , ولم أنس أن أصبغ حذائي أيضا , وأرش ما تبقى من عطر لديّ على كل جسدي , ثم قطفت باقة من الياسمين المتدلي على جدار حديقة جيراني , واخترت من مكتبتي المتواضعة ديوان " لماذا تركت الحصان وحيدا " لمحمود درويش , ومضيت إليها تسبقني خطواتي المرتبكة وأحلامي الشاسعة .
ـ هي :
ـــــ
قلبي يرتجف , روحي حائرة , عيناي تائهتان , الشوارع تركض تحت قدمي ّ , أتحرر من الكتب والدفاتر والوظيفة , وله وحده أهدي هذا النهار . فقد أحضرت معي كل ما يلــزم لعاشقين: القهوة , والدفء , والبوح , والقبل . ثم الصمت والسجائر والتأمل وفيروز أيضا . ومعه رحت أحلم بإيقاع جديد لحياتي الرتيبة , وشبابي الذي تأكله العزلة ويطويه النسيـان . أتخيل تماما غرفته , أشياءه المبعثرة , فوضاه التي سأعيد ترتيبها , وأحزانه التي سألملمها بأجفاني . تأخرت كثيرا عن الاعتراف , كنت أكابر وأكابر , فيما نظـــراته تغزو قلعتي المحصنّة من كل الاتجاهات وتخلخل جدرانها . آن لي أن أرفع الراية البيضاء وأستسلم , آن لي أن أفتح كل شرفاتي لرياح حبه العاصفة .
ها قد وصلت إلى الموقف نفسه الذي أنتظره فيه كل صباح , نظرت إلى الناصية الثانية من القلب , أعدت النظر مرة ومرات وفي كل مرة أدقق في الزمان والمكان ولا أجـــده . انتظرته ساعة ثانية وثالثة ولم يأت أيضا , ومنذ ذلك الزمن البعيد ما زلت كلما مررت من هناك أقف وأنتظره ولا يأتي ؟ !
* * *
نذير جعفـــر
هو :
ـــ
أية شجاعة تلزمني كي أتجه صوبها وأقول لها بكل بساطة : صباح الخير ؟ . ثلاثة أشهر مرّت وهي كما هي , ما أن أصل إلى الموقف الذي سأنطلق منه إلى مدرستي حتى أجدها في السابعة تماما على الموقف الذي يقابلني . أتأملها من بعيد وأفتح معها حوارا صامتا في أكثر من موضوع , تبادلني النظرات خلسة , وتتظاهر بأنها تتجاهلني , أغتاظ منها وأحاول أن أغيظها فلا أنجح . أنظر إليها فتبدو على بساطتها وسيمة , وأنيقة . أطيل النظر مدققـا معجبا بشعرها المنساب على كتفيها , و بعينيها اللامعتين الذكيتين , وحقيبتها الســـوداء , وبنطالها الجينز , وحذائها الرياضي بلونيه الأبيض والأسود . ومع أني حفظت كل تفاصيلها إلا أنها تبدو لي مثل لوحة غامضة أكتشف فيها مع كل صباح سرا جديدا. كم من مرة اعتقــدت أني أعرفها منذ زمن طويل لكني لا أذكر أين ومتى التقيت بها للمرة الأولى , كل ما أعرفـه الآن أن قلبي لم يعد ملكي , وأن عليّ أن أفاتحها بمشاعري , ولكن كيف وبأية مناسبة ؟ وماذا لو صدّتني أو صرخت بوجهي, ما الذي سأقوله للعابرين حينذاك , وهل ستقبل اعتذاري بعـد ذلك ؟ .
في الوقت الذي كنت أقنع فيه نفسي بالتريث كنت أحس أن قوة سحرية تدفعني نحوها دون أي تفكير بالعواقب . في البداية اعتقدت أنها موظفة في إحدى الشركات , لكن وجود بعض الكتب والدفاتر معها على مدى أيام طويلة جعلني أحسم الأمر وأرجّح أنها معلمة في إحدى مدارس القرى البعيدة , مثلي تماما . يا للمصادفة الجميلة , هذا ما قلته في سري , فهي زميلتي في المهنة أيضا , وهذا سيخفف عني الكثير . صحيح أني خريّج جديد , ولم يمض عليّ أكثر من سنة في الوظيفة , لكن وضعي المادي ليس سيئا جدا , فبقليل من التخطيط ومساعدة الأهل يمكن أن أحصل على شقة متواضعة عن طريق المصرف العقاري , ومتى وجدت الشقة لم يعد هناك ما يمنع الزواج . أتكون تلك الواقفة على الطرف الآخر من ناصية القلب شريكة أحلامي وحياتي وأفكاري بعدما تخلّت عنّي الآنسـة " م " في أول امتحان مع الحياة ؟ هذا ما كنت أردده بين الشك واليقين دون أن أصل إلى جواب حاسم . خطوة , خطوتان , ثلاث , وأتقدّم . خطوة خطوتان ثلاث وأتراجع . وما بين الإقدام والإحجام , وبعد ليلة شتائية طويلة لم أذق فيها للنوم طعما , وصراع عنيف استنزف قواي , استجمعت أخيرا شجاعتي , وقررت أن أقدّم لها نفسي في الصباح , هكذا مرة واحدة دون تردد , وليأت الطوفان .
هي :
ـــ
يا إلهي , إنه يشبهه تماما , أيكون هو ؟ كيف لي أن أتأكد من ذلك , أنا أعرف تماما أن هذا الوجه ليس غريبا عنّي أبدا , لا بل بدأت أحس أنه أليف أكثر مما ينبغي , ولكن أيـن ومتى التقيت به ؟ ربما في إحدى الندوات الفكرية أو اللقاءات الطلابية أو المصادفات العابرة , هذا ما لا أستطيع تحديده . منذ اليوم الأول لوقوفنا هنا متقابلين , وبحدسي الأنثوي اكتشفت اهتمامه بي , حاولت تجاهله في البداية , ولكن مع مرور الأيام بدأت أتلهف لرؤيته , لا , لن أكذب ,لم أكن أتلهف فحسب , بل كان قلبي يسبقني إليه , ومعه كان للصباحات لون آخر , لون بـــدأ يضيء كل حياتي , فينسيني التعب والضجر والغربة التي بدأت أعيشها في وسط جديد ومحافظ يكاد لا يتقبّل وجودي بدءا من لباسي وانتهاء بأفكاري . لقد أدركت أخيرا أن الروتين يبلد المشاعر , ويخنق الروح , وأنه لا بدّ بين حين وآخر من التغيير , هل كان ظهوره اليــومي أمامي هو مفتاح هذا التغيير؟ , لقد كنت قبله أشبه ببحيرة آسنة وإذا به تلك الحجر التي رميت على حين غرة فهزّت أعماقي , لا لم يكن حجرا , كان باقة ياسمين أسكرتنـي برائحتـــها الصباحية فجعلت لحياتي معنى وطعما آخر . ولكن ما الذي ينتظره هذا الفارس كي يترجّل عن كبريائه قليلا ويتقدّم إليّ ؟ وما الذي يخشاه ؟ هل أتقدّم منه وأصافحه , وبكل بساطة أقول له : صباح الخير . لا , لن أفعلها , صحيح أني أعتبر نفسي متحرّرة , ولا أقف عند الشكليـات , ولكن في مثل هذه المواقف لا يمكن أن أتهور . فمجرد تقديم نفسي بهذه السهولة سأجعلـه يستخف بي , ويبتعد عني . سأمهله أياما أخرى , ما زال في العمر بقية . ولكن إلى متى ,ومن يضمن الغد , فقد ينتقل هو , أو أنا إلى مكان أو عمل آخر , كما حدث لي من قبل مع " س " , وهيهات أن تأتي مصادفة ثانية لتجمعنا , لا لن أخسر نفسي هذه المرة حتى لو ربحت العالم , سأتقدم منه صباحا بكل جرأة , وأمد إليه يدي وأقول : صباح الخير .
ـ هم :
ــــ
ثلاثة تقارير وصلتنا عنه خلال العام الدراسي , ماذا يظن نفسه هذا الأبله , كثيرون غيره لعبوا اللعبة نفسها . في البداية يتمسكنون ويقدمون آيات الطاعة , وما أن يستلموا عملهم حتى تبدأ عقولهم المريضة تزين لهم سبل الاعتراض والتحريض على أداء هذا المسئول أو ذاك أمام طلابهم , معتقدين أنهم بنقدهم المستمر سيُرفعون على الأكف , وأن الأهالي سيلتفون حولهم , وأنهم قادرون على خوض الانتخابات , وكسب الأصوات , وإسقاط مرشحي الدولة , إلى آخر ما في قائمتهم من هذه الأوهام والخطط الهدامة . لكننا سنظل لهم بالمرصاد , فتناسلهم وتكاثرهم ليس إلا أول الغيث في السيل الذي قد يجتاحنا جميعا .
ـ هو :
ـــــ
لم يكن هذا الصباح ككل الصباحات , فقد تسللت شمسه إلى قلبي قبل أن تتسلّل إلى غرفتي, وبدأت أستعد للقائها , كما لم أفعل من قبل , فرتّبت السرير , ومسحت الغبار المتراكم على الأثاث , وسقيت أصص الرياحين التي تزيّن نافذتي الوحيدة , وحلقت ذقني أكثر من مرّة , ولبست أجمل ما يليق بي , ولم أنس أن أصبغ حذائي أيضا , وأرش ما تبقى من عطر لديّ على كل جسدي , ثم قطفت باقة من الياسمين المتدلي على جدار حديقة جيراني , واخترت من مكتبتي المتواضعة ديوان " لماذا تركت الحصان وحيدا " لمحمود درويش , ومضيت إليها تسبقني خطواتي المرتبكة وأحلامي الشاسعة .
ـ هي :
ـــــ
قلبي يرتجف , روحي حائرة , عيناي تائهتان , الشوارع تركض تحت قدمي ّ , أتحرر من الكتب والدفاتر والوظيفة , وله وحده أهدي هذا النهار . فقد أحضرت معي كل ما يلــزم لعاشقين: القهوة , والدفء , والبوح , والقبل . ثم الصمت والسجائر والتأمل وفيروز أيضا . ومعه رحت أحلم بإيقاع جديد لحياتي الرتيبة , وشبابي الذي تأكله العزلة ويطويه النسيـان . أتخيل تماما غرفته , أشياءه المبعثرة , فوضاه التي سأعيد ترتيبها , وأحزانه التي سألملمها بأجفاني . تأخرت كثيرا عن الاعتراف , كنت أكابر وأكابر , فيما نظـــراته تغزو قلعتي المحصنّة من كل الاتجاهات وتخلخل جدرانها . آن لي أن أرفع الراية البيضاء وأستسلم , آن لي أن أفتح كل شرفاتي لرياح حبه العاصفة .
ها قد وصلت إلى الموقف نفسه الذي أنتظره فيه كل صباح , نظرت إلى الناصية الثانية من القلب , أعدت النظر مرة ومرات وفي كل مرة أدقق في الزمان والمكان ولا أجـــده . انتظرته ساعة ثانية وثالثة ولم يأت أيضا , ومنذ ذلك الزمن البعيد ما زلت كلما مررت من هناك أقف وأنتظره ولا يأتي ؟ !
* * *
تعليق