كلب جدي.
كان لجدي كلب أسود عنيف يسمع نباحه الصاخب من بعيد. لا أحد يستطيع الاقتراب منه سوى جدي ، وأحيانا جدتي حين يكون جائعا فتقدم له
طعاما وهي ترتعد . لم يكن الكلب عربيا ولا أجنبيا . كان خليطا عجيبا من هذا وذاك . يرهب نباحه كل من يقترب من الضيعة . وأغرب قصة
تروى عنه أنه هز ذيله يوما لضابط فرنسي أيام الثورة تاركا الجميع في ذهول . قالوا ربما يكون أحد أبويه فرنسا . كنت طفلا صغيرا وفضوليا
إلى حد مزعج . حاولت بكل الوسائل أن أتصادق مع كلب جدي ، وكلما ظننت أني نجحت وبدأت الاقتراب ، نبح في وجهي وكشر عن أنيابه ،
رغم أنه كان يرحب بقطع الشكولا التي كنت أقدمها له ! لقد عض يوما سبابة يدي اليمنى ، فعانيت طويلا في كتابة فروضي المدرسية . ما كان
يحيرني هو لونه بالذات. كان سواده يحجبه في الليل ، فيتحرك بحرية ويباغت من يشاء . وفي النهار ينبطح على الأرض الترابية المائل لونها
للبني فلا يكاد يظهر أيضا . مسألة اللون ولعبة الإختفاء أبهرتني . ضحكت جدتي حتى دمعت عيناها حين قلت لها إني تمنيت لو كان لي مثل
لونه . أما جدي فقد هز رأسه وابتسامة ساخرة على شفتيه وقال : ( يجب أن تكون لك حنجرة مثل حنجرته أولا يا بني) . اجتهدت في تعلم
النباح لكني لم أفلح . ذات صباح صيفي حار علمنا أن الكلب يحتضر . قالوا ربما دس له أحدهم سما ليتخلص ويخلص الناس من نباحه
المزعج . وربما أكل بنفسه شيئا ساما في جولاته الليلية الرهيبة وهو لا يدري . لم يبد الانزعاج على أحد سوى جدي وأنا بطبيعة الحال . فقد
كانت محاولاتي لمصادقته لا تزال مستمرة . حيرني حزن جدي الغاضب المتذمر فسألت أحد أخوالي وكان يدرس في جامعة روسية عن سبب
حزن جدي . لقد مات له حصان مرة فلم يظهر عليه مثل هذا الحزن ، بل ولم يحزن قط لا على البقرة الحلوب التي سقطت في بئر ، ولا على
شجرة التفاح العظيمة التي يبست فجأة ، ولا حتى على الحقل الخصب الذي شبت فيه النار ذات لهيب أوعزوا أسبابه لخصومات بينه وبين جدي
لأبي . قال خالي وهو يدفعني بعيدا عنه في رفق : ( ليذهب كلب جدك للجحيم ، فهو سبب كثير من بلاوي هذه العائلة ) ثم أضاف : (ستكبر
وتعرف كل شيء ، الآن ابتعد عني ودعني ، ألا ترى أني أدرس ؟ ). لم أنم ليلتها ، وبت أتضرع إلى الله أن يجعلني أكبر بسرعة ودفعة
واحدة . مع الفجر غادرت سريري مسرعا على صراخ جدي . لقد مات الكلب ، وبرز السؤال : (ألا يخجل جدي وهو الرجل الوقور أن يظهر
كل هذا الجزع على موت كلب؟ ) تذكرت كلام جدي عن الحنجرة . صحيح كانت لكلبه حنجرة قوية فعلا ، لكن ما أكثر الكلاب وما أرخصهم
وكلهم لهم حناجر قوية أيضا . اقتربت من شخصين يتهامسان . يبدو أنهما جاءا لتعزية جدي أو ربما لشأن آخر لا أعلمه . سمعت أحدهما يهمس
لرفيقه : (أتراه يبكي الكلب أم عشيقته الفرنسية التي أهدته إياه قبل أن ترحل ؟ ).
عبد الرشيد حاجب الجزائر2009