" أنا والغمامة البيضاء"
(...لم أكن أدرك أن الحزن مازال رابضاً في داخلي مارداً ينمو قرابة العامين وأن كبريائي تأبى أن تذرف دموعها حتى عندما تكون بمفردها
وأن الغصة المنغرسة في حلقي كشوك يخنقني، يمنعني أن أخط كلمة واحدة ، كنت أهرب وأؤجل، ولكن هذه المرة ما إن فتحت الصفحة و أمسكت القلم ، إلا وانهمرت كلماتي على الأوراق...).هاهي ذي غيمات أيلول تجتمع في السماء من جديد،تحجب وجه الشمس بغلالة رقيقة، تدفع بنا إلى بوابة الخريف الذي صرت أحبه، أحس براحتي فيه
أرقب من خلف زجاج نافدتي الفراشات الملونات، والعصافير التي تحط لدقائق وتطير
وإخوتي الذي يرحلون إلى المدرسة بحقائبهم الصغيرة على أكتافهم،
وأنا وأشيائي مازلنا ننتظر... أنتظر بفارغ الصبر وصول كتبي ودفاتري من المركز الذي التحقت به للدراسة عن بُعد.
أمسك بأقلامي الملونات أحاول أن أكسر رتابة الصمت المطبق بعد رحيل الجميع
أبي إلى عمله، وأمي إلى السوق، وأخوتي...أخوتي إلى مدارسهم.
أريد أن أرسم مدرستي، وهاهو عصفوري الجميل بكل ألوان الطيف يحلق عالياً في فضائها الرحب الفسيح
أرفع بصري عن صفحتي، لأراه يحط الآن على نافدتي، اعتاد أن انثر له الحَب واعتدتُ أن أنثر له الحُب كل صباح، فينقرها ويمضي.
وأبتسم لمشهد فراشاتي الملونات، لم يخدعهن أصيص الزهور الصناعية الذي وضعته على الشرفة، فمضين إلى أزاهير الحديقة اليانعة.
سأرسم وجوه أصدقائي، كنا معاً منذ سنوات الطفولة الأولى؛ وجه صديقتي" كلير" قبل أن يغيبه ضباب الأيام، كما رأيته لآخر مرة قبل رحيلي عن المدرسة، كيف سأرسمه؟ كأنني نسيت تفاصيل وجهها، أذكر فقط صدقاً يطل من عينين لاتعرفان الخداع.
" وكريستوفور" طالما كان يستمتع بإزعاج فتيات الصف، كم كان يؤلمني عندما يشد غدائر شعري الأسود الطويل، حتى عندما كنت أجدلها ضفائر، يشدها بقوة ويجري، ويقول لي بطفولية مندهشاً : شعرك يانور ستارة مخملية اقتطعت من ليل شاتٍ طويل
أذكر كيف كان يخفي عني رسومي و أقلامي الملونات، ويضحك بخبث طفولي عندما يراني غاضبة أبحث عنها.
في ذلك اليوم، سأل أخي مستغرباً:
-لمَ تغطي نور شعرها؟
أسمع صوت حبات المطر تنقر على نافذتي، هذه نسمات الخريف قد بدأت، وغمامة صغيرة تحجب وجه الشمس تظلل حديقتنا، تبكي بنعومة ورقة، تغسل الطريق، يلمع كالمرايا، تسقي الرياحين والفراشات والعصافير، تحمل الخير،
-تراك أين أنت الآن ياعصفوري الحبيب...؟
أتابع لوحتي، هذه باحة مدرسة واسعة بأشجار السرو العتيقة، وهنا سأرسم مدرِّستي الأغلى، مديرة مدرستي الأولى الابتدائية، طالما كنت الأثيرة عندها وتقول : " نور"، من ينظر في عيني نور السوداوين اللامعتين يرى بركتي حزن صافية هادئة ، جوادين عربيين ينضحان بالكبرياء، وعندما تضحك كأن السماء تنهمر أقماراً فتُفتِّح البراءة، ويورق الأمل.
وهنا من سأرسم أيضا؟ " نينا" ، نعم لم تودعني، وكانت تدعي صداقتي، وأسمعها تتكلم أمام الأخريات عني متهكمة :
- إنها عربية!
سأرسمها، ورغم كل ما يقوله الآخرون عنها، ورغم أنها لم تدعْ أحداً يحبها، فسأرسمها، أقلامي تحمل كل الألوان...
كنت أستيقظ كل صباح لنذهب أنا وأخي إلى الإعدادية فأنظر في المرآة، يا إلهي كم ينمو جسمي بسرعة، جسمي ينحل وخصري يستدير، وبثور تنتثر على جبهتي، وكل ما بي وما حولي يتبدل، إلا عينيَّ المتمردتين كخيول عربية، وشعري المسترسل الطويل، و أحلامي الملونةكفراشاتي وعصافيري وأقلامي، بأن أبقى الأثيرة لدى معلمي َّ، ويرسلوا بالتهنئات تلو التهنئات لوالدي مع نتيجة كل فصل دراسي، فأزهو أمام أخوتي...
و ذلك اليوم، مازال ينشج في ذاكرتي
ركضت إلى أمي باكراً وهمست لها ، فضمتني إلي صدرها الدافئ، ويدها تمسح شعري الطويل، لست أدري لم بكيت عندها ، بكيت بحرقة وأغمضت عيني وتمنيت أن يتوقف الزمن عن المضي، ورأيت غمامة رقيقة تحملني ، وتحلق بي ونطير لاتلبث أن تهوي عصافيري، وفرشاتي وأقلامي، وأبقى وحيدة إلا من حنان أمي...يغمرني وضوء الشمس...
جمعت شعري ووضعت حجابي الأبيض عليه للمرة الأولى، نظر لي والدي وقال بهدوء حزين :
- هل أنت واثقة يانور أن هذا ماتريدين؟
- نعم يا أبي
ومضيت معه وأمل شاحب يحدوني، أهي قسوة الحقيقة يا ترى، نرفض أن نصدقها إلا عندما يصبح واقعاً، حقيقة، تجرحها، و تسمعها آذاننا، فنتأكد حينها، و نخمد ذبالة الأمل تلك.
استقبلنا المدير ولم يتمالك أن يخفي دهشته رغم محاولته أن يبقى لطيفاً :
-آسف ياسيدي لا يمكنني قبول نور بالحجاب، إنه القانون، نحن الفرنسيون يجب على من يأتي ليعيش عندنا أن يكون مثلنا...
- لكنني فرنسية يا سيدي
-آسف يانور، هذه هي القوانين، وماباليد حيلة. من المؤسف حقاً أن تخسر المدرسة طالبة مجدة كنور ألا يمكنها أن تضعه حتى باب المدرسة وتخلعه فقط داخل المدرسة فقط، كما تفعل الفتيات في المدارس الأخرى
نظر لي والدي صامتا حزينا
-ما رأيك يا حبيبتي؟
فاضت بركتا الحزن من قلبي، وتمردت الخيول مضطرمة سخرية ومرارة كالعلقم :
- لا يمكنني يا أبي، لا أستطيع
مشيت في ممرات المدرسة وذراع أبي تحيطني، نظرت حولي أريد أن أنقش صورتها لآخر مرة في مخيلتي، حقاً، إننا لانعرف عمق المحبة إلا ساعة الفراق، الباحة تضج وتعج بالمئات، بعضهم يلعب كرة الطاولة، والبعض يستعد لدخول مطعم المدرسة، وفتيات صف هناك تحلقن تحت الشجرة الكبيرة يتحدثن ويتضاحكن، كالمعتاد. وفتية آخرون يلعبون كرة القدم، وابتسمت رغماً عني، هذا كريستوفور يرمي أحدهم أرضاً ليفوز بالكرة
وهذه نينا تشيح بوجهها عني وتمضي، وصلت إلى الباب الخارجي، كم سأفتقدك يامدرستي، ترى هل ستفتقدينني؟
وشعرت بيد حانية تمسك بكتفي بلطف :
-أين تذهبين يانور؟ كانت " كلير" تلهث
-لم يوافق المدير...
ضمتني بقوة إليها قائلة:
-ليس عدلاً، ليس عدلاً...
أفاقت ذاكرتي على صوت الباب يقرع، كومة من الكتب تحييني:
-صباح الخير يا آنسة! وهذه رسالة أيضاً
قفز قلبي ، فقد عرفتها من الرسوم والألوان التي تضحك لي على المظروف :
-شكراً لك، يوماً سعيدا.ً
وفي غرفتي، فضضت الغلاف بسرعة،
هاهي صورتنا التي أخذناها معاً في آخر يوم لي المدرسة ،أنا بحجابي الأبيض وهي عن يميني تحيطني بذراعها، وكلمات رقيقة رسمها خطها الأنيق تحت الصورة، أعدتها مرات :
"نور، ابقِ كما أنت، أنا معك، يحق لك أن تعيشي كما تشائين ، وترتدي ما تشائين، وتفكري كما تشائين، و تدرسي وفي المدرسة، أنت صديقتي الأغلى، سنبقى معاً دائماً،
أفتقدك، أنت إنسانة مختلفة عن كل الصديقات، افتقدك كثيراً.
كلير."
انتبهت من شرودي إلى صوت خفيف ، نظرت من خلال زجاج النافذة، عصفوري الجميل مبللاً يحتمي على شرفتي، و ينفض عنه قطرات المطر، فتحت النافذة بهدوء كيلا أخيفه، وتركتها مشرعة...هي صك حريتك أيها العزيز، فاطمئن
حريتك في أن تدخل أو لا تدخل، وإذ به يصير ويحط على كتفي!!
يالهي، كم أحبك، بل... كم تحبني!
دفعت رياح خفيفة بالمطر إلى الغرفة، قبلت وجهي حباته الناعمة، ابتسمت لها، ضحكت عالياً
سارعت إلى لوحتي ، أنهيها، هناك غيمة بيضاء، وهنا صبية تحمل ملامحي، تبتسم، تغتسل بقطرات المطر.
وجلست أقلب كتبي ودفاتري بانتظار وصول مدرّستي الخصوصية.
ملاحظة/
القصة حقيقية بأحداثها ووقاءعها وكلماتها، وما أنا إلا ناقل لها
هي مثال للكثيرات في فرنسا ممن يعشن الضغط الممارس على الحجاب.
القصة حقيقية بأحداثها ووقاءعها وكلماتها، وما أنا إلا ناقل لها
هي مثال للكثيرات في فرنسا ممن يعشن الضغط الممارس على الحجاب.
تعليق