اخرج منها ياملعون (1) ـ هرب الشيطان بعد أن كثرت أعداد من يقوم بواجبه من البشر
رواية لكاتبها: صدام حسين
تبدأ «الشرق الأوسط» اليوم بنشر فصول الرواية الأخيرة التي كتبها الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين، وهي بعنوان «اخرج منها يا ملعون».
والرواية حصلت عليها «الشرق الأوسط» من بغداد وهي على شكل «ملازم» جاهزة للطباعة. وقد حملت الصفحة الاولى منها تأشيرة بخط اليد جاء فيها: «تطبع لطفا» يليها توقيع، ثم تاريخ 18/3/2003، اي ان هذه الرواية اعدت للنشر في الشهر الذي كانت فيه الجيوش والاساطيل الاميركية تستعد لمهاجمة العراق في الحرب التي انتهت الى سقوط صدام حسين ونظامه.
ومما يجدر ذكره انه في التحقيقات الاولية التي اجريت مع طارق عزيز نائب رئيس الوزراء في عهد صدام، نسب اليه انه قال: ان صدام كان مشغولا بكتابة روايته عندما كان اطراف التحالف الدولي يعدون العدة لغزو العراق.
كذلك توجد اشارة اخرى عند العنوان بان يكون «خطا» اي ليس مصفوفا بالكومبيوتر. وكروايتيه السابقتين «زبيبة والملك» و«القلعة الحصينة» حملت رواية صدام الثالثة «اخرج منها يا ملعون» عبارة رواية لكاتبها وعلى الصفحة الاخيرة منها وردت العبارة التالية: «ريع هذه الرواية للفقراء واليتامى والمساكين والمحتاجين والاعمال الخيرية». اما سعر النسخة فهو 1500 دينار.
تعيش الشياطين، حسب اعتقاد من يعتقد بذلك، وتفرخ بين أعمدة الخشب في البيوت العتيقة، حيث تشكل تلك الأعمدة مساند سقوفها، أو بين أعقاب النبات والحطب حيث يخزنان، أو في المغاور، والشعاب، والأكواخ المهجورة، وفي بقايا جدران إرم ذات العماد، التي غضب الله على أهلها فهلك من هلك وهجرها الناس، أو في خرائب بابل، التي هجرها أهلها بعد أن دمرها الفرس، وفق تدبير تآمر به معهم اليهود الذين جاء بهم نبوخذ نصر أسرى إليها.. أما الآن، فقد تكون موجودة في وسائل الاتصال، وفي شاشات التلفاز، وفي المقتنيات الحديثة، وما يمكن أن تغري به، أو في عيني امرأة شرهة سوتهما بأصباغ هذا الزمان وفق نزعتها، بعد أن لصقت عليهما عدستين ملونتين تحجبان لون عينيها الأساس، بحيث لا يعرف المرء من خلالهما متى ترغب أو لا ترغب بكل شيء، وأي شيء، مما هو مشروع، أو غير مشروع، ومتى تستحي.. وتستعصم بالله، فتعز نفسها وأهلها، أو تنزلق في مهاوي الشيطان، فتخزي نفسها وأهلها.. أو في نزعات الرجال عندما يصبون إلى ما لا يرضي الله، وعندما يغضبون ولا يتذكرون أي شيء مما ينبغي أو يجب، إلا ما يناسب هوى أنفسهم وغضبهم.. وهي في كل الأحوال، موجودة حيثما وجد طمع وطامعون، وظلم وظالمون، وشر وأشرار، حتى لتخالها موجودة في سدادة مدفع، أو في خزانة مترعة بمال حرام، أو محرك طائرة، أو زعنفة قنبرة طائرة، أو صاروخ مدمر، أو احتلال اجنبي مغتصب، أو في مغاليق السجون وخلف قضبانها، حيث تضم في زواياها أبرياء أو أناساً يناضلون ويجاهدون حباً بالله ضد الكفر والظلم، أو يناضلون من أجل الحرية، بل لعلها موجودة في صدور أصحابها، وفي دمائهم، وحتى في نواياهم، والأقلام التي يخطون الباطل بها على الورق، ويهيئون له، أو في ما يضمرون.
ومع كل هذا، تكيف الشيطان ليكمن في مفرداتها، أو يحرك ما يقتضي ليهيج الشر، وبذلك طور وجوده، وفعله مع تطور قدرة الإنسان ووسائله، فتحول الشيطان من الشكل التشبيهي القديم، الذي عرف به في رسومات وتخيلات الأقدمين: عينان مسحوبتان عرضا أو طولا، وشعر أشعث منتصب إلى الأعلى فوق رأسه، رافض أن ينسدل مسرّحا مع رقبته، أو متدليا من الرأس على الكتفين، أو حتى وردة الأذن، كما هو الحال في الإنسان، وصار الشيطان يتخلل الإنسان إلى الحد الذي بات الدراويش، أو المعنيون بالطب الروحي، غير قادرين على إخراجه من جسم من يتخلله عابثاً بروحه، حتى لو رددوا آلاف المرات، وهم يضربون الأرض بعصيهم على مقربة ممن دخله الشيطان، أو حتى على قفاه، وهم يصيحون، بعد أن يقرأوا ما يقرأونه: اخرج منه، أو منها، (يا ملعون).
صار الشيطان كأنه مندمج بالإنسان المناسب لوصفه، بعد أن تخلله، أو صار الإنسان المعني فعلا، من ناحية الصفات والأثر، بوصف يجعله كأنه شيطان، أو أن الشيطان هرب من المكان، بعد أن كثرت أعداد من يقوم بواجبه من البشر، فانزوى بعيداً.
وفي كل الأحوال، بقي الشيطان متخللاً ومستقراً في ضمير، وعقل، وتفكير، وفعل من يقبل ولايته عليه، إلا أنه بقي بعيداً، بعد أن اخفق مع أولئك المحصنين بدروع إيمانهم وعقيدتهم، الذين يرفضون الولاية إلا للرحمن الرحيم والمؤمنين الذين يسعون ويفكرون، ويتأملون وفق ما يرضي الله، ويتجنبون ما ينهاهم عنه، سبحانه.
قبل حوالي ألف وخمسمائة عام، أو نحو ذلك، وبعد ذلك، وإلى حين، كان الناس في العالم كله يعيشون عيشة متواضعة بوجه عام، وكان حجم الخير والشر في صدورهم وأنفسهم، ومن بعدها في تصرفاتهم وعلاقاتهم مع بعضهم، موجوداً، في المكان والمسمى المناسب له.. لكن الخير والشر كانا يعبّران عن نفسيهما وتأثيرهما طبقاً لوسائلهما وقدراتهما آنذاك، لذلك كان الشر متواضعاً أيضاً بالقياس بما هو عليه الآن، إلا أن قدرة الخير كانت أكبر، لأن حجم وعمق تأثير عدد من يحملونه كانا أكبر.. ورغم أن قدرة إقناع من يقتنع به من بني البشر، كانت متصلة بمستوى حصانة وعي وإيمان هذا أو ذاك من الناس، وقد كان الناس أميين إلا قليلا منهم، فإن جرائم وتأثير من يقنعهم بالشر، بعد أن يغويهم الشيطان، كانت محدودة أيضاً بالقياس بما عليه الأمر الآن.. لكنها كانت موجودة، وكان الشر وأهله، إلى جانب الخير وأهله، موجودين في ذلك الزمان أيضاً.. وكان الله، ربّ العالمين، فوقهما، يرصد كل فعل ويسجله له أو عليه، وعلى هذا، يسجل لكل وفق استحقاقه، ويسجل فعل الشيطان أيضاً.
كان إبراهيم يحكي جانباً من هذا لأيتام أولاده الثلاثة، الذين قتل آباؤهم في غزوات ومنازعات قبلية، وما أكثرها في ذلك الزمان في شبه الجزيرة العربية، الممتدة بين الخليج العربي والبحر الأحمر، وتضم العراق ودول الخليج العربي واليمن.
وشاءت الصدف هكذا، أن يخلّف أبناؤه المقتولون الثلاثة، ثلاثة أولاد ذكور، أي ابناً واحداً لكل منهم، وهم: حسقيل ويوسف ومحمود، وقد نشأ الأولاد الثلاثة في كنف جدهم إبراهيم، وكان الجميع ينادونه (أبتي)، وينادون جدتهم حليمة زوجة إبراهيم (أمي)، أو (أمنا).. ذلك لأن أمهاتهم عدن إلى أهلهن بعد وفاة أزواجهن.
وعندما انتهى من حديثه، كانت إلى جانبه زوجته حليمة، التي تكنى أم الخير، تغزل بمغزلها خيوطاً من الصوف لتعمل لمن اهترأ ثوبه ثوباً جديداً.. وكان البيت الذي يسكنون (يكنّون) فيه بيتاً من الشعر..
عندما كان إبراهيم يحكي، جاءت «سخلة» صغيرة من غنمهم، وحاولت أن تلحس فروة إبراهيم، ومن غير أن يقطع كلامه، كان إبراهيم يشاغلها بيده، ليصدها عن الفروة، بأن يمسح على وجهها، أو يناولها اصبعا من أصابعه، ترضعه (متلهيّة)، مثلما (يتلهّى) الصغار الآن برضاعاتهم الاصطناعية، وعندما يسأله صغيرهم محمود:
ـ هل في اصبعك حليب، يا أبتي؟
يقول:
ـ لا، الحليب في ضرع أمها، يا بني، لكنها تتلهّى مثلما تتلهّى أنت عندما تركب على حبل مقدم البيت.. فحذار من أن تنكسر رقبتك، إذا هويت إلى الأرض، لكن الفرق بينك وبين السخلة في هذا، أن السخلة تلعب بأصبعي، وهو أمين، لا يؤذيها، بينما إذا ركبت الحبل، قد تقع منه، بعد أن يختل توازنك، وعندها قد تكسر يدك أو رجلك، وربما رقبتك، وبخاصة إذا أراد حسقيل أن يتخابث معك ويهز الحبل..
كان محمود، عندما يسمع قول أبيه (وربما تكسر رقبتك)، يتحسس رقبته، وبالكاد يبلع ريقه، ويضحك أخواه، في الوقت الذي تتبسم أم الخير، حليمة، التي نسب إليها هذا الوصف والكنية، بسبب تقدير إبراهيم والناس لها.
استأذن أوسطهم وهو يوسف، والده وقال:
* أنا أيضاً، يا والدي، ألاعب الحبال أحياناً، أو ألعب عليها، ولم يحصل أن وقعت منها!.
ـ قد تقع يوماً، يا ولدي، مهما كانت مهارتك في اللعب عليها.. أبعدكم الله، يا أولادي، عن شر اللعب على الحبال ومسلكها.. ان الابتعاد عنها خير من الاقتراب منها واللعب عليها، إذ ان كثيراً من الناس ممن امتهنوا اللعب على الحبال، بدلاً من اتخاذ مسلك آخر أكثر ثباتاً في الحركة، يجدون في نهاية المطاف ما يجعل توازنهم يختل ويقعون منها، وقد تودي بحياتهم.
قال محمود:
* وماذا لو لاعبت شجرة متنقلا بين أغصانها؟! أجابه إبراهيم:
ـ مع الانتباه إلى طريقة التصرف والمغامرة مع الشجرة، فإن التسلي مع الشجرة افضل، لأن عروق الشجرة في الأرض والشجرة عميقة الجذور، لذلك فإن صلتها بالأرض عميقة وراسخة، ومن تكون صلته بالأرض عميقة وراسخة يكون أكثر ثباتاً وأكثر حنواً، ولا يخون صاحبه، لذلك فإن الشجرة لا تخونك لو لاعبتها، أما الحبل فإنه في الهواء، وصلته بالأرض من خلال أوتاد فحسب، وليس من خلال ذاته.. لذلك لا يكون استقراره كاستقرار الشجرة، ولا يكون الأمان معه نهائياً.. وبخاصة لو اقتلعت أوتاده، وأنت تلاعبه أو تلعب عليه.
سأل حسقيل أباه:
* هل الربّ الذي تحدثنا عنه موجود قبل أن يخلق الإنسان؟ وهل هو في السماء، يا والدي؟
ـ نعم، يا بني، ان الله، سبحانه، موجود قبل أن يخلق الإنسان، وقبل أن يخلق كل ما هو حولكم مما ترونه أو تلمسونه، بل ان الله، جلّت قدرته، هو خالق كل شيء، وخالقنا، وهو محيط وموجود حيث شاء.
انبرى يوسف متسائلا:
* وهل خلق الله «السخلة» أيضاً؟
ـ نعم، يا ولدي، خلق الله السخلة أيضاً، هي وأمها وأباها، وخلق الحيوانات والأشجار والأنهار.
هكذا أجاب إبراهيم ابنه الأوسط يوسف.
كانت أعمار الثلاثة متقاربة، بفارق عام ونصف العام، أو ما يزيد أو يقل عن ذلك قليلا، بين كل واحد وآخر.. وكان عمر أكبرهم اثنتي عشرة سنة، ويأتي بعده أخواه متسلسلين وفق هذا التقدير.
عاد حسقيل ليسأل:
* ولماذا لم يخلق الله إنسانا، بدلا من السخلة، يا والدي، مثلما تفعل أنت وأمي، حيث أراكما تتعاونان معاً لتغزلا أو تحوكا ثوباً عندما يهترئ ثوب أحدنا، لكن عندما تهترئ بردعة الحمار ينشغل في تسويتها واحد منكما فحسب، غالبا ما يكون أنت لأن برذعة الحمار أقل أهمية من ثوب إنسان، أليس الإنسان أهم من السخلة، يا والدي؟ فلماذا ينشغل الله عن خلق إنسان بخلق سخلة؟! يجيبه إبراهيم:
ـ ان قدرة الله، يا ولدي، تحيط وتسع كل شيء، وأنها ليست كقدرة الإنسان، بحيث يضطر لأن يحسب لكل شيء يخلقه زمنا وزخماً قدرة بعينه، لذلك فإنه، سبحانه، في الوقت الذي يخلق إنساناً يستطيع أن يخلق إنسانا آخر أو جملا أو سخلة أو أيا من الكائنات الحية والنبات والأشجار.. ان الله قادر، يا ولدي، أن يقول لكل شيء، وأي شيء: كن، فيكون. أما نحن بني البشر، فلأن قدرتنا محدودة، فإننا نضطر، إذا ما انشغلنا بأمر أو شيء ما، أن نؤجل الآخر إلى وقت يليه، أو ان يقوم غيرنا بما لا نستطيع أن نقوم به، عدا عن أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش من غير أن يخلق الله له المخلوقات الأخرى من حيوان ونبات، بعد أن خلق الأرض والماء والهواء، بل ان واحدة من آيات الله أن خلق الإنسان في أحسن تقويم وسط المخلوقات الأخرى، وجعله أرقى منها، ليعرف دوره في الحياة الدنيا، بعد ان يشكر الله لتمييزه عليها.
وعندما يتدخل صغيرهم (محمود) سائلا:
* عندما تكبر السخلة، نشرب من ضرعها الحليب، أليس كذلك، يا والدي؟
يقول إبراهيم:
ـ نعم يا ولدي، أحسنت.
كان الجميع يتلقون، مع تلقي إبراهيم هذه الأسئلة، ريح كانون التي تخترق بيت الشعر محدثة صفيراً.. سمعوا معه رعدا يتخلله برق، يجعل الغنم تجفل مرئية، في مدخل بيت الشعر، حيث تكون جلستهم قبالته عادة.
يقول إبراهيم:
ـ اللهم اجعلها سنة خير، واحمنا من الصواعب.. وعاديات الدهر..
ويردد الجميع:
ـ آمين.
في الوقت الذي كان إبراهيم يرد على أسئلة أحفاده، كانت أم الخير، منشغلة بالغزل، وعندما كانت تصغي إلى سؤال أحدهم كانت تتبسم، وتتوقف يداها عن الغزل، أو ما يتعلق به، مؤقتا، ثم تعود لتواصل عملها، ولا تنقطع عنه، إلا عندما يطلب إبراهيم أو صغيرهم ماء، فتأتيهم به في كأس (كوز) فخار من صنع العراق، ذلك لأن أحداً آنذاك لم يكن يعرف أفضل منه كيف يصنع أدوات الطبخ والأدوات الأخرى التي يحتاجها الإنسان، أو تأتيهم بالماء في (كوز) مصنوع من القش ومطلي بالقار، وهو الآخر يصنع في العراق، إما من سعف النخيل، أو ذؤابات القصب أو البردي، ويطلى بالقار.. حيث لا قار آنذاك إلا في العراق فحسب، لذلك نجد أرضية شارع الموكب في مدينة بابل الأثرية مطلية بالقار أيضاً.. ومن الأمور التي ينبغي أن تعرف أن القار استخدم، في هذا الشارع في العصر البابلي القديم، في عام 1900 قبل الميلاد، ومع ذلك فهو أكثر جودة من القار المستخرج بالوسائل الحديثة الآن، شأنه شأن السيراميك الذي استخدمه العراقيون في العصر الآشوري الوسيط، في حوالي عام 1400 قبل الميلاد، والأصباغ في بابل، أو في شمال العراق، آنذاك، فإنها لم تفقد لونها رغم مضي ستة آلاف سنة على بعضها.
كان إبراهيم وزوجته يضعان الماء في قربة يعلقانها في زاوية بيت الشعر لئلا تدهمه عنزة، أو نعجة، أو كلب عندما يحسّ بالعطش، أو لمجرد العبث بها.. وكان إبراهيم يتدثر بفروته المصنوعة من جلود الغنم، ويجيب على الأسئلة، وكلما خبت النار التي كانوا يتحلقون حولها، اقترب منها الأولاد أكثر، حتى تكاد تلامس أجسادهم، وكلما أوشكت النار على أن تخبو بسبب تحول الحطب في الموقد إلى رماد بعد اشتعاله، لأَمَ إبراهيم ما تبقى من أطراف الحطب الخارجية، ووضعها في النار لتعاود الاشتعال من جديد، وكان إبراهيم قبل أن ينتهي الحطب يأمر ابنه الأكبر حسقيل بأن يأتي بكمية حطب جديدة من الزاوية البعيدة للبيت، حيث يوضع لكي لا يكون رطباً بفعل المطر أو الندى.
في هذا البيت، كان كل شيء يحتاجونه، من الرحى الحجرية اليدوية، التي يستخدمونها للطحين والجرش، إلى قربة الماء، وقربة اللبن (الشكوة) والدلو وحبله، الذي من غيره يتعذر إرواء الغنم وإرواء أنفسهم أيضاً من بئر احتفروها قرب بيتهم، وبساطين أو أكثر حاكتهما حليمة هي ومن عاونها من صوف الغنم.. وكلما تقدم الليل وخفتت النار، كان صغيرهم محمود يقترب من النار فاتحاً رجليه حتى تبان عورته، التي لم يكن يداريها بثوبه، لذلك كانت آثار اقترابه من النار تبدو كأنها دمغات أو (جزر) على جلده في بطن فخذيه، بل كان الأولاد الثلاثة يفعلون هذا، لكن محمود لصغر سنه كان أكثرهم مبالغة في فتح ساقيه والاقتراب من النار.. وعبثاً كان (أخواه) الأكبر أو الأوسط يحاولان تنبيهه لكي يلم ساقيه، ويداري عورته بثوبه، وكلما ازداد البرد قبل النوم، ازداد اقتراب محمود من النار أكثر فأكثر.. لكن أمه كانت تنهرهما، قائلة:
ـ اتركا الصغير ولا تضايقاه، فقد كنتما تفعلان ذلك عندما كنتما بعمره.. سوف يكبر ويتعلم.
يضحك الأب والابنان الأكبر والأوسط.
في أحد الأيام، فعل أخوهم الصغير الشيء نفسه، فيما كانوا يتحلقون حول النار، لكن حسقيل قرّب جمرة بعصا صغيرة رويداً رويداً، حتى كادت تلامس قلفته، أو لامستها فعلاً، وصرخ الصغير، وهبّ واقفا، واندفع باتجاه أخيه حسقيل ضاربا إياه على صدره بيده، في الوقت الذي كان يجر شعر رأسه باليد الأخرى.. فعل الصغير هذا إزاء حسقيل وسط لوم وتعنيف الجميع: إبراهيم وحليمة، ويوسف.
وما أن مرت أيام حتى اعتلّ حسقيل بـ (وذمة) في لسانه، ورغم أن حليمة وإبراهيم حاولا ما وسعهما لإشفائه، لكن لسانه لم يشف، إلا بعد أكثر من شهرين.. ومع أنه شفي من (الوذمة) فإن احتباساً بلسانه كان واضحاً، مما جعله يلثغ في الكثير من حروف اللغة العربية، وكانت لثغته واضحة بحرف (الراء) على وجه التحديد.
قال له جده (والده) إبراهيم:
ـ آلمني تصرفك مع أخيك محمود قبل شهرين، عندما أصبت قلفته بالأذى، ولم يشف إلا بعد أن ختناه (طهرناه).. ولشدة ألمي دعوت عليك بالأذى، ولأن دعوة الأب مستجابة، فقد استجاب الله ربي، يا ولدي، لدعوتي عليك، وآمل وأدعو الله، سبحانه، أن يهديك بما يبعدك عن نزعات الشر، وما يمكن أن يصيب الناس منك من أذى.. حيث غالبا ما تتجه هذا الاتجاه خلاف أخويك، يوسف ومحمود، وكثيرا ما يكون أذاك منصباً عليهما، عدا ما يصيب الآخرين غيرهما.. وآمل أن تكف عن الطمع، حيث أراك تطمع في ما في حوزة أخويك، ومن يجاورنا.. إن الطمع يفسد الإنسان، ويجعل الناس يكرهون صاحبه، يا حسقيل، ثم انني أعرف أنك لا تعطي أحداً مما هو في حوزتك، حتى لو كان أمك حليمة، ولا تساعد أحداً، بل انك حتى (لا تبول على جرح أحد لو طلب منك ذلك)، كما يقول المثل عندنا..
قال إبراهيم هذا المثل، ذلك لأن البول غالباً ما كان وسيلة تعقيم الجرح البسيط، إذا لم يتيسر الرماد في المكان.. وقد اتخذ من البول مثلا على البخل والبخيل بأن يقال عنه (إنه لا يبول على جرح) لو احتاجه المجروح.
عاد إبراهيم ليقول:
ـ إن الصفات التي تحملها، يا ولدي حسقيل، صفات غير حميدة، وأن الله، ربّنا، لا يحبها، وإذا استمر سلوكك هذا، أخشى أن لا يوفقك الله، وتعيش منبوذاً بين أخويك والناس، ومن يخسر رضا الله والناس، لن يعيش مرتاحاً، حتى لو ملك كل ما يملكه الآخرون.. أترى، يا ولدي، أنك لو ملكت كل ما تطاله يدك في الوقت الذي لا يملك الآخرون شيئاً، هل تتصور إمكانية أن تعيش مرتاحاً وسعيداً؟، إنك حتى لو كابرت، وقلت: نعم سأعيش سعيداً، فلن تعيش آمناً، وسوف تبقى تلوح بعصاك على كل من يطمع بمالك، ذلك لأنك، وفقا لهذا الافتراض، قد حزته بسبب طمعك، وحتى عندما تقدر عصاك على واحد أو اثنين، فإنها ستعجز عن ذلك، كلما ازداد عدد الطامعين بزيادة ما تملك، وحرمان الآخرين من الملكية، أو كلما وجدوا أن من واجبهم أن يتضامنوا ويتحصنوا تجاه أطماعك فيهم وفي ما يملكون.. بل انك حتى لو استحوذت على ملكية الآخرين كلها، ستعيش معذباً في داخلك، وإذا لم يتعذب في داخله مَن يستحوذ على كل شيء، ويطمع في كل شيء، سوف يقعد له الناس المتضررون كل مقعد، ولن يجد حماية الله قريبة إليه.. وفي كل الأحوال لن يعيش سعيداً محبوباً من أقرانه ومن الناس.. فاحفظ وصيتي، يا ولدي، لأن العمر يتقدم بي، وأخشى أن أموت، ولا تبدل طباعك فتندم.
مرت الأيام، ولم يكن المطر في ذلك العام غزيراً في منطقتهم.. حيث كانوا على مبعدة من الحافة الغربية لنهر الفرات في وسط العراق، أو الحافة الشمالية من جنوبه.. لكن بعض البدو الذين كانوا يمرون بهم في ترحالهم، ذكروا لهم أن بلاد الشام (أصابها) مطر غزير في مناطق الجزيرة المحاذية للعراق. ولأن إبراهيم كان يملك أغناماً وإبلاً كثيرة، قرر بعد أن تشاور مع أم الخير، أن يرتحل إلى هناك، بإبله وأغنامه، اضافة الى عائلته، ولأن مشي من يرتحل عادة ما يجري على قياس أقل الحيوانات قدرة على المشي، فقد تطلب وصولهم إلى هناك زمناً طويلاً.. وكلما ارتحلوا بين مثابتين باتجاه أرض الشام، حسبوا حساب الماء، بالإضافة إلى ما تأكله حيواناتهم، لتكون في وضع يمكنها من مواصلة المسير وكانت واحدة من مثاباتهم منخفض الثرثار شمال غربي تكريت وشمال الأنبار.. وعندما ارتحلوا من هناك كانت رحلتهم ليلا.
هنا قال ابراهيم موجها الكلام إلى حليمة، أم الخير:
ـ لو صادف أن سبقتكم إلى المثابة التي نحن بصدد الوصول إليها، ضعي نجم الجدي، كأنه فوق كتفك الشمال، وامشي، إذ انك لو واصلت هذا الحال، ستصلين حتماً إلى ارض الشام، ولو كان مقصدنا البو كمال في سورية، وواصلنا المشي كذلك، فسوف نصل إلى هناك من غير دليل.
وكان إبراهيم يعرف هذه الأرض جيداً، حيث سبق أن تنقل فيها على مدى عمره مقيماً ومرتحلاً.. وكلما نزلوا قرب عين ماء، أو بئر، كانوا في الغالب، يجدون من سبقهم إلى هناك، سواء من أهل المنطقة التي فيها البئر، التي يحطون قربها ليرتووا منها هم وأنعامهم، أو مناطق أبعد، وهم في طريقهم إلى ارض الشام أيضاً.
ولأن إبراهيم غالباً ما كان يعرف ممن يسبقه إلى حيث ينزل، وبالذات من سكان المكان المستقرين نسبياً فيه، فقد كان وجوه القوم يدعونه هو وأبناءه لعشاء ذلك اليوم، وينحرون له الذبائح، ويدعون على شرف إبراهيم من يدعونه ممن هم حولهم، بل إن الناس آنذاك، وبعضهم في الصحاري حتى الآن، لم يكونوا ينتظرون أن يأتيهم من يدعوهم لوليمة، وإنما يلتقون غالباً عند كبيرهم (مقدمهم) بين وجوههم لشرب القهوة أو السمر، وفي كل الأحوال، يحضرون عندما يستشعرون وجود ضيف غريب، ليحظوا بقطعة لحم مع ثريد وادام، أو ثريد وادام فحسب، إذا تعذر الحصول على قطعة لحم، أو إذا كان عدد الآكلين أكثر من قطع اللحم.
عندما أنجز طبخ الطعام، قدم المضيف الطعام لإبراهيم، وتقدم إلى الطعام من كان حاضراً معه.. وبينما كانوا يتناولون الطعام، لاحظ إبراهيم أن حسقيل، خلاف أخويه، تناول مع قطعة اللحم الموجودة أمامه، قطعة لحم من جاوره على المائدة، فتبعتها يد صاحبها، ولكن حسقيل أمسك بها وأخذها من يده ووضعها في فمه بصورة أخجلت إبراهيم وأخويه، بل أحزنتهم أمام مضيفهم ومن حضر المائدة معهم، ورغم أن المضيف وإبراهيم، والمدعوين، ضحكوا عندما علق صاحب قطعة اللحم على ذلك بقوله: حقك عليّ، يا ولدي، يبدو أن طريقكم طويل، وأن البطن كافرة عندما تجوع.. فقد تمنى إبراهيم أن تنشق الأرض وتبتلعه في تلك اللحظة، على أن يكون أمام ذلك المنظر المخزي، بل حتى يوسف خجل من تصرف حسقيل، رغم فارق العمر بينهما.. ومن يومها لم يعد إبراهيم يحضر حسقيل معه في وليمة يدعى لها، وصار يحضر معه يوسف ومحمود فقط.
كان الطقس والهواء والمرعى في الشام من الجودة بحيث أغرى ابراهيم على البقاء هناك، فاستقر في بلاد الشام الى حين، مرتحلا ومتنقلا من مكان الى آخر. وسمنت وتكاثرت اغنامه وإبله، وأتيح امامه ان يعيش في حال مميز قياسا بأقرانه، وكان الخبز والتين المجفف والزبيب وزيت الزيتون، والزيتون المنقوع بالزيت، أهم مؤونة البيت، وكانت حليمة سعيدة، بما أسعد زوجها ابراهيم، ولكنها بقيت هي والأولاد في شوق الى ديارهم القديمة، حيث يشتون في الشامية، على أرض الجزيرة غرب الفرات من جهة الفرات الأوسط، ويصِّفُون على الكتف الأيمن لنهر الفرات.
كبر الأولاد حتى صار حسقيل في حوالي العشرين عاما من عمره، يتدرج بعده في العمر يوسف ومحمود، كل على اساس عمر معلوم بفارق اقل من سنتين بين واحد وآخر.. وكلما كبروا ازدادت مشاكل حسقيل، وازداد طمعه وعدوانيته على الآخرين، وطمعه في مالهم، وازداد اخواه، ابنا عميه، يوسف ومحمود ثقلا، وعقلا، وتسامحا، وشهامة، وكرما. وفي الوقت الذي كان يوسف ومحمود يحظيان باحترام وتقدير من يعرفهما ويخالطهما، كان الناس يبتعدون عن حسقيل، ويزدادون نفورا منه، بل صار من يقترب منه ويصيبه أذاه يمقته ويكرهه، ورغم ان ابراهيم صار محط انظار اهل الشام ممن عرفوه والتقوه، وصار من يسعى ليتزود بالحكمة ينهل من دروسه باختلاطه به أو استشارته، فقد حاول ابراهيم عبثا ان يصلح حسقيل ابن ابنه.. لكنه كان، في كل يوم يمر، ينتظر شكوى من احدهم ضد حسقيل، وحتى عندما كانوا يلعبون على ظهور الخيل في مناسبة ما، كان الشباب يختارون يوسف ومحمود، رغم انهما اصغر عمرا، ويتجنبون حسقيل، وعندما كان حسقيل يلتمس مطاردة احدهم على ظهر فرسه، أو حصانه، كان من يلتمسه يعتذر له بشتى الاعذار، لكنه من جهة أخرى يذهب الى يوسف أو محمود يرجو منه مطاردته.. وعندما يحصل ان يخطئ أحدهم التقدير، ويقبل بمطاردة حسقيل، فغالبا ما تنتهي علاقته مع من يلاعبه على ظهور الخيل الى شجار يسيل فيه دمه أو دم صاحبه، واذا سال دم حسقيل، من غير ان يموت طبعا، عفا ابراهيم عمن يفعل ذلك، لأنه يعرف الخواص السيئة لحسقيل، وإن سال دم آخر، دفع ابراهيم دية عن تصرف حسقيل، وفق ما كانت تقتضي الاعراف، خاصة ان ابراهيم كان يعيش اساسا خارج مسقط رأسه، حيث أهله واعمامه. وكان حسقيل يعمد الى ان يحمل معه حبلا بطرفه انشوطة بصورة سرية، فإذا طارده أحدهم، رمى بالحبل على رقبة فرس ذاك الخيال، ثم يسحبه لتنعقد الانشوطة عليها، فتقع الفرس والخيال على الارض، أو ان يضرب فرس نظيره بعصا أو ان يضرب قرينه خلاف العادة بعصا غليظة حتى يدميه.. الخ. وادرك ابراهيم ان حسقيل، اذا بقي في بيته، سيشكل عداوات مع الناس كلهم، قد تنعكس عليه سلبا، رغم كل تقدير الناس له، ولكنه كان في حيرة من أمره.. كان يتداول مع زوجته حليمة في أمر حسقيل، ورغم ان حليمة تعرف طباع حسقيل السيئة، فقد كانت تُصَبَّر ابراهيم بالقول:
ـ قد تذهب منه طباعه السيئة عندما يكبر.
وعندما يذكرها ابراهيم بأن عمره صار عشرين عاما، وانه أكبر من ابراهيم عندما تزوجها.. تقول، بعد ان ترجوه ليصبر عليه:
ـ ربما يصير أفضل عندما يتزوج.
وتعود لتقول مع نفسها بصوت مسموع، بعد ان يسكت ابراهيم على مضض:
ـ ترى من يقبل به؟ ومن يزوجه ابنته، بعد ان شاع صيته بالسوء؟
وبعد سكوت وتأمل طويلين، يتجه ابراهيم الى ربه بالدعاء:
ـ اللهم اشفه من حال السوء، وخلصني من عبء ما يفعل، انك خير من يعلم السرائر، وتعرف الخير من السيئ، وأنك القدير العزيز.
في إحدى الليالي الربيعية، وبعد ان تناولوا طعام العشاء، سأل حسقيل أباه (جده) إبراهيم:
* هل الثروة الآن أكبر لدى الدول والناس، أم قبل الآن، يا والدي؟
ـ إنها الآن أكبر.. لأن عدد الناس الآن صار أكثر مما كانوا عليه قبل مائة عام مثلا، ولأنهم الآن أكثر فإن حجم عملهم أكبر، ولأن العمل اساس الثروة، فإن الثروة الآن أكبر ايضا.
* لماذا لا تقول ان الذهب أكثر الآن باعتباره المقياس الثابت لقيمة الثروة منذ زمن بعيد، فازداد بالتراكم؟
ـ بل اقول ان العمل الآن أكبر.. ذلك لأن العمل، كما ونوعا، أهم من الذهب..
* كيف؟
* لو كان لديك أوقية من الذهب.. وذهبت الى السوق، ولم تجد رغيف خبز، وانت جائع، وكذا عيالك، وتكرر الحال عدة ايام.. الا يعني ذلك انك ستموت، انت وعيالك، ويبقى الذهب لمن يرثه!؟
ـ نعم.. صحيح.
ـ اذن الثروة هي العمل.. وكلما ازدادت ساعات عمل شخص على آخر، وازداد علمه أو مهارته على قرينه، ازدادت الثروة في فعله بالقياس بما عليه قرينه..
ـ اذا كانت الثروة عملا فقط.. لماذا يطمع من يطمع بثروة الآخرين!؟
ثم اردف حسقيل:
* ألم تقل لي، يا أبتي، انني اطمع في ما يملكه الآخرون؟.. فهل اطمع في عملهم.. أم في مالهم؟ ولكنه اجاب بنفسه:
ـ انني اطمع في مالهم، وليس في عملهم.. اطمع في اغنامهم، وفي محصولهم الزراعي، وفي الخيول والجمال والبقر الذي يملكون.
ـ انا لم أقل ان الثروة عمل فقط.. وانما قلت ان الثروة عمل، جوابا على ما قلته وتصورته حكما قاطعا من ان الثروة ذهب فحسب.. انك لا تطمع في ملكية الآخرين فحسب، يا حسقيل، وانما في عملهم ايضا، عندما لا تدفع لهم ثمن عملهم، أو تدفعه منقوصا، أما لو أردنا الاسترسال، وان نولد من كل عنصر من العناصر الاساسية في تكوين الناس والتأثير بها، لما توقفنا عند العمل كمصدر وحيد للثروة، ولكنه المصدر الاساس فيها وفي تعريفها.. ولو نقلنا ثقل الناس والدول في الميزان، من صلتهم بالثروة تحديدا، الى صلتهم بالقيمة، فعندها نكون امام عنوان اشمل، يحوي ما هو مادي وما هو معنوي، وعند ذلك تدخل جغرافية الدول ضمن قيمتها وتاريخها، وما هو في باطن ارضها أو عليها.. وما تركته فيها ولها الاجيال السابقة، ومستوى استعداد شعبها للصبر في الملمات والمحن، ومستوى اعداد واستعداد الناس فيها، بوجه عام، يتقدمهم الرجال، للتضحية الخ.. ولكن اساس الثروة عمل في كل الاحوال.. وهي الآن أكبر، سواء على اساس ما تحوزه الدول أو يحوزه الافراد.. والعمل ايضا مقياس مهم لمستوى صلة الانسان المؤمن بالحياة، وبرب السماوات والارض، لأن الله سبحانه خلق الحياة للانسان، وخلقه ليعمل فيها.. لذلك فإن من يعبد الله، ولا يعمل كما ينبغي او يجب، لا بد ان يكون خلل ما في عبادته، ولا نعرف الى اي حد يقبلها الله أو ينقصها.. خاصة اذا قارنا المؤمن بناقص الايمان.. فكلما قلت قيمة عمله.. أي قل عمله زمنا وقيمة.. عن الحال المقارن به مما ذكرنا، كان معنى ذلك ان ناقص الايمان اكثر فائدة للحياة من المؤمن ان لم يخربها.. ولأن المؤمن لا يقبل ان يكون اقل قيمة من ناقص الايمان، فعليه ان يتفوق على هذا الاخير، ليس في الاخلاق العامة، وتواصله مع رب السماوات والارض فحسب، وانما في العمل ايضا.. وان الاشارات التي اراد بها الله سبحانه ان يعمل الناس، وان يتقن كل عمله، كثيرة، بل لعل صلاة الفجر، وهي الصلاة المبكرة في يومها.. تعني ان الله اراد للمؤمن ان يكون يقظا عند كل فجر، ولأن صلاة الفجر اقصر صلاة، فمعنى ذلك انه، سبحانه، اراد يقظة الانسان للعمل اساسا، وجعل صلاة الفجر في هذا التوقيت سببا ودافعا ليكون المؤمن مستيقظا.
* ولكن. ألا يأكل الناس، ويلبسون افضل، مع ان عددهم الآن أكبر؟ فما الذي ازداد؟ هل ازداد الذهب أم العمل..؟
ـ ان وصف الافضل وصف نسبي.. فعندما نقول ان فلانا يأكل ويلبس الآن أفضل من جده.. فإن قياس الافضل ينبغي ان لا يقاس لفلان مع جده، وإنما مع الناس في مرحلته.. وهكذا كان حال جده يقاس من قبل.. وعلى هذا، فإن كثيرا من الناس يعيشون الآن من دون حد الفقر على مستوى العالم ككل، ومن هذه النسبة أناس من الدول التي تعتبر، أو يعتبرها أهلها أو المسؤولون فيها، من أكثر الدول ثروة.. مثلما كان أناس يعيشون في السابق، على قياس معيار الفقر والغنى آنذاك، من دون حد الفقر.. ومع ذلك اقول جوابا على تساؤلك: نعم، إن الثروة، ومنها الذهب في الدول وفي حوزة الناس، أكبر الآن مما كانت في الماضي، وإن العمل الآن أكبر حجما وأرقى نوعا.
* ولكن، كيف اصبح الذهب أكبر حجما الآن؟
ـ انه اكبر حجما، لأن عدد العاملين على استخراجه صار أكبر بالقياس النسبي.. وان وسائل استخراجه الآن افضل طبقا لقياسات التطور، فكلما تحسنت وسائل استخراجه، وصارت فعالة بصورة افضل، ازداد حجم المستخرج منه. يضاف الى ذلك ان عامل التراكم بسبب الزمن الطويل جعل حجمه أكبر، ولعل المرأة قد لعبت دورا اساسيا في تراكمه لدى الافراد والعوائل، ولولاها لكنّا أمام حجم أقل بكثير ممَّا عليه الذهب الآن لدى العوائل لأن الرجال لا يكنزون أو يستخدمون الذهب، في الغالب.
* الا يعني هذا، يا والدي، ان اثم المرأة أكبر من اثم الرجل، وفق مفهوم ديانتك، لأنها تكتنز الذهب، ولا يكتنزه الرجل؟
ـ احسنت يا ولدي.. نعم ان من يكتنزه ولا يزكيه يقع عليه اثم كبير. عاد حسقيل ليقول:
* ولكن ما أدرانا، قد تكون حصة الفرد من الذهب الآن اقل، لو وزعنا الموجود منه بالتساوي على الكل، ذلك لأن عدد الناس الآن أكبر، بينما كان عددهم في الزمن القديم اقل.. وكان الذهب ظاهرا في أماكنه ايضا، وفي مجاري الانهار، أو حيثما كان هنالك مسيل لماء المطر في ارضه في قديم الزمان مما يسهل تصفيته وجمعه..
أجاب ابراهيم على تساؤل حسقيل:
ـ لا استطيع ان اقول لك شيئا قاطعا في هذا، لأنني لا أمتلك أرقاما.. ولا اريد هنا ان اعتمد على الاستنتاج في الاجابة.
رواية لكاتبها: صدام حسين
تبدأ «الشرق الأوسط» اليوم بنشر فصول الرواية الأخيرة التي كتبها الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين، وهي بعنوان «اخرج منها يا ملعون».
والرواية حصلت عليها «الشرق الأوسط» من بغداد وهي على شكل «ملازم» جاهزة للطباعة. وقد حملت الصفحة الاولى منها تأشيرة بخط اليد جاء فيها: «تطبع لطفا» يليها توقيع، ثم تاريخ 18/3/2003، اي ان هذه الرواية اعدت للنشر في الشهر الذي كانت فيه الجيوش والاساطيل الاميركية تستعد لمهاجمة العراق في الحرب التي انتهت الى سقوط صدام حسين ونظامه.
ومما يجدر ذكره انه في التحقيقات الاولية التي اجريت مع طارق عزيز نائب رئيس الوزراء في عهد صدام، نسب اليه انه قال: ان صدام كان مشغولا بكتابة روايته عندما كان اطراف التحالف الدولي يعدون العدة لغزو العراق.
كذلك توجد اشارة اخرى عند العنوان بان يكون «خطا» اي ليس مصفوفا بالكومبيوتر. وكروايتيه السابقتين «زبيبة والملك» و«القلعة الحصينة» حملت رواية صدام الثالثة «اخرج منها يا ملعون» عبارة رواية لكاتبها وعلى الصفحة الاخيرة منها وردت العبارة التالية: «ريع هذه الرواية للفقراء واليتامى والمساكين والمحتاجين والاعمال الخيرية». اما سعر النسخة فهو 1500 دينار.
تعيش الشياطين، حسب اعتقاد من يعتقد بذلك، وتفرخ بين أعمدة الخشب في البيوت العتيقة، حيث تشكل تلك الأعمدة مساند سقوفها، أو بين أعقاب النبات والحطب حيث يخزنان، أو في المغاور، والشعاب، والأكواخ المهجورة، وفي بقايا جدران إرم ذات العماد، التي غضب الله على أهلها فهلك من هلك وهجرها الناس، أو في خرائب بابل، التي هجرها أهلها بعد أن دمرها الفرس، وفق تدبير تآمر به معهم اليهود الذين جاء بهم نبوخذ نصر أسرى إليها.. أما الآن، فقد تكون موجودة في وسائل الاتصال، وفي شاشات التلفاز، وفي المقتنيات الحديثة، وما يمكن أن تغري به، أو في عيني امرأة شرهة سوتهما بأصباغ هذا الزمان وفق نزعتها، بعد أن لصقت عليهما عدستين ملونتين تحجبان لون عينيها الأساس، بحيث لا يعرف المرء من خلالهما متى ترغب أو لا ترغب بكل شيء، وأي شيء، مما هو مشروع، أو غير مشروع، ومتى تستحي.. وتستعصم بالله، فتعز نفسها وأهلها، أو تنزلق في مهاوي الشيطان، فتخزي نفسها وأهلها.. أو في نزعات الرجال عندما يصبون إلى ما لا يرضي الله، وعندما يغضبون ولا يتذكرون أي شيء مما ينبغي أو يجب، إلا ما يناسب هوى أنفسهم وغضبهم.. وهي في كل الأحوال، موجودة حيثما وجد طمع وطامعون، وظلم وظالمون، وشر وأشرار، حتى لتخالها موجودة في سدادة مدفع، أو في خزانة مترعة بمال حرام، أو محرك طائرة، أو زعنفة قنبرة طائرة، أو صاروخ مدمر، أو احتلال اجنبي مغتصب، أو في مغاليق السجون وخلف قضبانها، حيث تضم في زواياها أبرياء أو أناساً يناضلون ويجاهدون حباً بالله ضد الكفر والظلم، أو يناضلون من أجل الحرية، بل لعلها موجودة في صدور أصحابها، وفي دمائهم، وحتى في نواياهم، والأقلام التي يخطون الباطل بها على الورق، ويهيئون له، أو في ما يضمرون.
ومع كل هذا، تكيف الشيطان ليكمن في مفرداتها، أو يحرك ما يقتضي ليهيج الشر، وبذلك طور وجوده، وفعله مع تطور قدرة الإنسان ووسائله، فتحول الشيطان من الشكل التشبيهي القديم، الذي عرف به في رسومات وتخيلات الأقدمين: عينان مسحوبتان عرضا أو طولا، وشعر أشعث منتصب إلى الأعلى فوق رأسه، رافض أن ينسدل مسرّحا مع رقبته، أو متدليا من الرأس على الكتفين، أو حتى وردة الأذن، كما هو الحال في الإنسان، وصار الشيطان يتخلل الإنسان إلى الحد الذي بات الدراويش، أو المعنيون بالطب الروحي، غير قادرين على إخراجه من جسم من يتخلله عابثاً بروحه، حتى لو رددوا آلاف المرات، وهم يضربون الأرض بعصيهم على مقربة ممن دخله الشيطان، أو حتى على قفاه، وهم يصيحون، بعد أن يقرأوا ما يقرأونه: اخرج منه، أو منها، (يا ملعون).
صار الشيطان كأنه مندمج بالإنسان المناسب لوصفه، بعد أن تخلله، أو صار الإنسان المعني فعلا، من ناحية الصفات والأثر، بوصف يجعله كأنه شيطان، أو أن الشيطان هرب من المكان، بعد أن كثرت أعداد من يقوم بواجبه من البشر، فانزوى بعيداً.
وفي كل الأحوال، بقي الشيطان متخللاً ومستقراً في ضمير، وعقل، وتفكير، وفعل من يقبل ولايته عليه، إلا أنه بقي بعيداً، بعد أن اخفق مع أولئك المحصنين بدروع إيمانهم وعقيدتهم، الذين يرفضون الولاية إلا للرحمن الرحيم والمؤمنين الذين يسعون ويفكرون، ويتأملون وفق ما يرضي الله، ويتجنبون ما ينهاهم عنه، سبحانه.
قبل حوالي ألف وخمسمائة عام، أو نحو ذلك، وبعد ذلك، وإلى حين، كان الناس في العالم كله يعيشون عيشة متواضعة بوجه عام، وكان حجم الخير والشر في صدورهم وأنفسهم، ومن بعدها في تصرفاتهم وعلاقاتهم مع بعضهم، موجوداً، في المكان والمسمى المناسب له.. لكن الخير والشر كانا يعبّران عن نفسيهما وتأثيرهما طبقاً لوسائلهما وقدراتهما آنذاك، لذلك كان الشر متواضعاً أيضاً بالقياس بما هو عليه الآن، إلا أن قدرة الخير كانت أكبر، لأن حجم وعمق تأثير عدد من يحملونه كانا أكبر.. ورغم أن قدرة إقناع من يقتنع به من بني البشر، كانت متصلة بمستوى حصانة وعي وإيمان هذا أو ذاك من الناس، وقد كان الناس أميين إلا قليلا منهم، فإن جرائم وتأثير من يقنعهم بالشر، بعد أن يغويهم الشيطان، كانت محدودة أيضاً بالقياس بما عليه الأمر الآن.. لكنها كانت موجودة، وكان الشر وأهله، إلى جانب الخير وأهله، موجودين في ذلك الزمان أيضاً.. وكان الله، ربّ العالمين، فوقهما، يرصد كل فعل ويسجله له أو عليه، وعلى هذا، يسجل لكل وفق استحقاقه، ويسجل فعل الشيطان أيضاً.
كان إبراهيم يحكي جانباً من هذا لأيتام أولاده الثلاثة، الذين قتل آباؤهم في غزوات ومنازعات قبلية، وما أكثرها في ذلك الزمان في شبه الجزيرة العربية، الممتدة بين الخليج العربي والبحر الأحمر، وتضم العراق ودول الخليج العربي واليمن.
وشاءت الصدف هكذا، أن يخلّف أبناؤه المقتولون الثلاثة، ثلاثة أولاد ذكور، أي ابناً واحداً لكل منهم، وهم: حسقيل ويوسف ومحمود، وقد نشأ الأولاد الثلاثة في كنف جدهم إبراهيم، وكان الجميع ينادونه (أبتي)، وينادون جدتهم حليمة زوجة إبراهيم (أمي)، أو (أمنا).. ذلك لأن أمهاتهم عدن إلى أهلهن بعد وفاة أزواجهن.
وعندما انتهى من حديثه، كانت إلى جانبه زوجته حليمة، التي تكنى أم الخير، تغزل بمغزلها خيوطاً من الصوف لتعمل لمن اهترأ ثوبه ثوباً جديداً.. وكان البيت الذي يسكنون (يكنّون) فيه بيتاً من الشعر..
عندما كان إبراهيم يحكي، جاءت «سخلة» صغيرة من غنمهم، وحاولت أن تلحس فروة إبراهيم، ومن غير أن يقطع كلامه، كان إبراهيم يشاغلها بيده، ليصدها عن الفروة، بأن يمسح على وجهها، أو يناولها اصبعا من أصابعه، ترضعه (متلهيّة)، مثلما (يتلهّى) الصغار الآن برضاعاتهم الاصطناعية، وعندما يسأله صغيرهم محمود:
ـ هل في اصبعك حليب، يا أبتي؟
يقول:
ـ لا، الحليب في ضرع أمها، يا بني، لكنها تتلهّى مثلما تتلهّى أنت عندما تركب على حبل مقدم البيت.. فحذار من أن تنكسر رقبتك، إذا هويت إلى الأرض، لكن الفرق بينك وبين السخلة في هذا، أن السخلة تلعب بأصبعي، وهو أمين، لا يؤذيها، بينما إذا ركبت الحبل، قد تقع منه، بعد أن يختل توازنك، وعندها قد تكسر يدك أو رجلك، وربما رقبتك، وبخاصة إذا أراد حسقيل أن يتخابث معك ويهز الحبل..
كان محمود، عندما يسمع قول أبيه (وربما تكسر رقبتك)، يتحسس رقبته، وبالكاد يبلع ريقه، ويضحك أخواه، في الوقت الذي تتبسم أم الخير، حليمة، التي نسب إليها هذا الوصف والكنية، بسبب تقدير إبراهيم والناس لها.
استأذن أوسطهم وهو يوسف، والده وقال:
* أنا أيضاً، يا والدي، ألاعب الحبال أحياناً، أو ألعب عليها، ولم يحصل أن وقعت منها!.
ـ قد تقع يوماً، يا ولدي، مهما كانت مهارتك في اللعب عليها.. أبعدكم الله، يا أولادي، عن شر اللعب على الحبال ومسلكها.. ان الابتعاد عنها خير من الاقتراب منها واللعب عليها، إذ ان كثيراً من الناس ممن امتهنوا اللعب على الحبال، بدلاً من اتخاذ مسلك آخر أكثر ثباتاً في الحركة، يجدون في نهاية المطاف ما يجعل توازنهم يختل ويقعون منها، وقد تودي بحياتهم.
قال محمود:
* وماذا لو لاعبت شجرة متنقلا بين أغصانها؟! أجابه إبراهيم:
ـ مع الانتباه إلى طريقة التصرف والمغامرة مع الشجرة، فإن التسلي مع الشجرة افضل، لأن عروق الشجرة في الأرض والشجرة عميقة الجذور، لذلك فإن صلتها بالأرض عميقة وراسخة، ومن تكون صلته بالأرض عميقة وراسخة يكون أكثر ثباتاً وأكثر حنواً، ولا يخون صاحبه، لذلك فإن الشجرة لا تخونك لو لاعبتها، أما الحبل فإنه في الهواء، وصلته بالأرض من خلال أوتاد فحسب، وليس من خلال ذاته.. لذلك لا يكون استقراره كاستقرار الشجرة، ولا يكون الأمان معه نهائياً.. وبخاصة لو اقتلعت أوتاده، وأنت تلاعبه أو تلعب عليه.
سأل حسقيل أباه:
* هل الربّ الذي تحدثنا عنه موجود قبل أن يخلق الإنسان؟ وهل هو في السماء، يا والدي؟
ـ نعم، يا بني، ان الله، سبحانه، موجود قبل أن يخلق الإنسان، وقبل أن يخلق كل ما هو حولكم مما ترونه أو تلمسونه، بل ان الله، جلّت قدرته، هو خالق كل شيء، وخالقنا، وهو محيط وموجود حيث شاء.
انبرى يوسف متسائلا:
* وهل خلق الله «السخلة» أيضاً؟
ـ نعم، يا ولدي، خلق الله السخلة أيضاً، هي وأمها وأباها، وخلق الحيوانات والأشجار والأنهار.
هكذا أجاب إبراهيم ابنه الأوسط يوسف.
كانت أعمار الثلاثة متقاربة، بفارق عام ونصف العام، أو ما يزيد أو يقل عن ذلك قليلا، بين كل واحد وآخر.. وكان عمر أكبرهم اثنتي عشرة سنة، ويأتي بعده أخواه متسلسلين وفق هذا التقدير.
عاد حسقيل ليسأل:
* ولماذا لم يخلق الله إنسانا، بدلا من السخلة، يا والدي، مثلما تفعل أنت وأمي، حيث أراكما تتعاونان معاً لتغزلا أو تحوكا ثوباً عندما يهترئ ثوب أحدنا، لكن عندما تهترئ بردعة الحمار ينشغل في تسويتها واحد منكما فحسب، غالبا ما يكون أنت لأن برذعة الحمار أقل أهمية من ثوب إنسان، أليس الإنسان أهم من السخلة، يا والدي؟ فلماذا ينشغل الله عن خلق إنسان بخلق سخلة؟! يجيبه إبراهيم:
ـ ان قدرة الله، يا ولدي، تحيط وتسع كل شيء، وأنها ليست كقدرة الإنسان، بحيث يضطر لأن يحسب لكل شيء يخلقه زمنا وزخماً قدرة بعينه، لذلك فإنه، سبحانه، في الوقت الذي يخلق إنساناً يستطيع أن يخلق إنسانا آخر أو جملا أو سخلة أو أيا من الكائنات الحية والنبات والأشجار.. ان الله قادر، يا ولدي، أن يقول لكل شيء، وأي شيء: كن، فيكون. أما نحن بني البشر، فلأن قدرتنا محدودة، فإننا نضطر، إذا ما انشغلنا بأمر أو شيء ما، أن نؤجل الآخر إلى وقت يليه، أو ان يقوم غيرنا بما لا نستطيع أن نقوم به، عدا عن أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش من غير أن يخلق الله له المخلوقات الأخرى من حيوان ونبات، بعد أن خلق الأرض والماء والهواء، بل ان واحدة من آيات الله أن خلق الإنسان في أحسن تقويم وسط المخلوقات الأخرى، وجعله أرقى منها، ليعرف دوره في الحياة الدنيا، بعد ان يشكر الله لتمييزه عليها.
وعندما يتدخل صغيرهم (محمود) سائلا:
* عندما تكبر السخلة، نشرب من ضرعها الحليب، أليس كذلك، يا والدي؟
يقول إبراهيم:
ـ نعم يا ولدي، أحسنت.
كان الجميع يتلقون، مع تلقي إبراهيم هذه الأسئلة، ريح كانون التي تخترق بيت الشعر محدثة صفيراً.. سمعوا معه رعدا يتخلله برق، يجعل الغنم تجفل مرئية، في مدخل بيت الشعر، حيث تكون جلستهم قبالته عادة.
يقول إبراهيم:
ـ اللهم اجعلها سنة خير، واحمنا من الصواعب.. وعاديات الدهر..
ويردد الجميع:
ـ آمين.
في الوقت الذي كان إبراهيم يرد على أسئلة أحفاده، كانت أم الخير، منشغلة بالغزل، وعندما كانت تصغي إلى سؤال أحدهم كانت تتبسم، وتتوقف يداها عن الغزل، أو ما يتعلق به، مؤقتا، ثم تعود لتواصل عملها، ولا تنقطع عنه، إلا عندما يطلب إبراهيم أو صغيرهم ماء، فتأتيهم به في كأس (كوز) فخار من صنع العراق، ذلك لأن أحداً آنذاك لم يكن يعرف أفضل منه كيف يصنع أدوات الطبخ والأدوات الأخرى التي يحتاجها الإنسان، أو تأتيهم بالماء في (كوز) مصنوع من القش ومطلي بالقار، وهو الآخر يصنع في العراق، إما من سعف النخيل، أو ذؤابات القصب أو البردي، ويطلى بالقار.. حيث لا قار آنذاك إلا في العراق فحسب، لذلك نجد أرضية شارع الموكب في مدينة بابل الأثرية مطلية بالقار أيضاً.. ومن الأمور التي ينبغي أن تعرف أن القار استخدم، في هذا الشارع في العصر البابلي القديم، في عام 1900 قبل الميلاد، ومع ذلك فهو أكثر جودة من القار المستخرج بالوسائل الحديثة الآن، شأنه شأن السيراميك الذي استخدمه العراقيون في العصر الآشوري الوسيط، في حوالي عام 1400 قبل الميلاد، والأصباغ في بابل، أو في شمال العراق، آنذاك، فإنها لم تفقد لونها رغم مضي ستة آلاف سنة على بعضها.
كان إبراهيم وزوجته يضعان الماء في قربة يعلقانها في زاوية بيت الشعر لئلا تدهمه عنزة، أو نعجة، أو كلب عندما يحسّ بالعطش، أو لمجرد العبث بها.. وكان إبراهيم يتدثر بفروته المصنوعة من جلود الغنم، ويجيب على الأسئلة، وكلما خبت النار التي كانوا يتحلقون حولها، اقترب منها الأولاد أكثر، حتى تكاد تلامس أجسادهم، وكلما أوشكت النار على أن تخبو بسبب تحول الحطب في الموقد إلى رماد بعد اشتعاله، لأَمَ إبراهيم ما تبقى من أطراف الحطب الخارجية، ووضعها في النار لتعاود الاشتعال من جديد، وكان إبراهيم قبل أن ينتهي الحطب يأمر ابنه الأكبر حسقيل بأن يأتي بكمية حطب جديدة من الزاوية البعيدة للبيت، حيث يوضع لكي لا يكون رطباً بفعل المطر أو الندى.
في هذا البيت، كان كل شيء يحتاجونه، من الرحى الحجرية اليدوية، التي يستخدمونها للطحين والجرش، إلى قربة الماء، وقربة اللبن (الشكوة) والدلو وحبله، الذي من غيره يتعذر إرواء الغنم وإرواء أنفسهم أيضاً من بئر احتفروها قرب بيتهم، وبساطين أو أكثر حاكتهما حليمة هي ومن عاونها من صوف الغنم.. وكلما تقدم الليل وخفتت النار، كان صغيرهم محمود يقترب من النار فاتحاً رجليه حتى تبان عورته، التي لم يكن يداريها بثوبه، لذلك كانت آثار اقترابه من النار تبدو كأنها دمغات أو (جزر) على جلده في بطن فخذيه، بل كان الأولاد الثلاثة يفعلون هذا، لكن محمود لصغر سنه كان أكثرهم مبالغة في فتح ساقيه والاقتراب من النار.. وعبثاً كان (أخواه) الأكبر أو الأوسط يحاولان تنبيهه لكي يلم ساقيه، ويداري عورته بثوبه، وكلما ازداد البرد قبل النوم، ازداد اقتراب محمود من النار أكثر فأكثر.. لكن أمه كانت تنهرهما، قائلة:
ـ اتركا الصغير ولا تضايقاه، فقد كنتما تفعلان ذلك عندما كنتما بعمره.. سوف يكبر ويتعلم.
يضحك الأب والابنان الأكبر والأوسط.
في أحد الأيام، فعل أخوهم الصغير الشيء نفسه، فيما كانوا يتحلقون حول النار، لكن حسقيل قرّب جمرة بعصا صغيرة رويداً رويداً، حتى كادت تلامس قلفته، أو لامستها فعلاً، وصرخ الصغير، وهبّ واقفا، واندفع باتجاه أخيه حسقيل ضاربا إياه على صدره بيده، في الوقت الذي كان يجر شعر رأسه باليد الأخرى.. فعل الصغير هذا إزاء حسقيل وسط لوم وتعنيف الجميع: إبراهيم وحليمة، ويوسف.
وما أن مرت أيام حتى اعتلّ حسقيل بـ (وذمة) في لسانه، ورغم أن حليمة وإبراهيم حاولا ما وسعهما لإشفائه، لكن لسانه لم يشف، إلا بعد أكثر من شهرين.. ومع أنه شفي من (الوذمة) فإن احتباساً بلسانه كان واضحاً، مما جعله يلثغ في الكثير من حروف اللغة العربية، وكانت لثغته واضحة بحرف (الراء) على وجه التحديد.
قال له جده (والده) إبراهيم:
ـ آلمني تصرفك مع أخيك محمود قبل شهرين، عندما أصبت قلفته بالأذى، ولم يشف إلا بعد أن ختناه (طهرناه).. ولشدة ألمي دعوت عليك بالأذى، ولأن دعوة الأب مستجابة، فقد استجاب الله ربي، يا ولدي، لدعوتي عليك، وآمل وأدعو الله، سبحانه، أن يهديك بما يبعدك عن نزعات الشر، وما يمكن أن يصيب الناس منك من أذى.. حيث غالبا ما تتجه هذا الاتجاه خلاف أخويك، يوسف ومحمود، وكثيرا ما يكون أذاك منصباً عليهما، عدا ما يصيب الآخرين غيرهما.. وآمل أن تكف عن الطمع، حيث أراك تطمع في ما في حوزة أخويك، ومن يجاورنا.. إن الطمع يفسد الإنسان، ويجعل الناس يكرهون صاحبه، يا حسقيل، ثم انني أعرف أنك لا تعطي أحداً مما هو في حوزتك، حتى لو كان أمك حليمة، ولا تساعد أحداً، بل انك حتى (لا تبول على جرح أحد لو طلب منك ذلك)، كما يقول المثل عندنا..
قال إبراهيم هذا المثل، ذلك لأن البول غالباً ما كان وسيلة تعقيم الجرح البسيط، إذا لم يتيسر الرماد في المكان.. وقد اتخذ من البول مثلا على البخل والبخيل بأن يقال عنه (إنه لا يبول على جرح) لو احتاجه المجروح.
عاد إبراهيم ليقول:
ـ إن الصفات التي تحملها، يا ولدي حسقيل، صفات غير حميدة، وأن الله، ربّنا، لا يحبها، وإذا استمر سلوكك هذا، أخشى أن لا يوفقك الله، وتعيش منبوذاً بين أخويك والناس، ومن يخسر رضا الله والناس، لن يعيش مرتاحاً، حتى لو ملك كل ما يملكه الآخرون.. أترى، يا ولدي، أنك لو ملكت كل ما تطاله يدك في الوقت الذي لا يملك الآخرون شيئاً، هل تتصور إمكانية أن تعيش مرتاحاً وسعيداً؟، إنك حتى لو كابرت، وقلت: نعم سأعيش سعيداً، فلن تعيش آمناً، وسوف تبقى تلوح بعصاك على كل من يطمع بمالك، ذلك لأنك، وفقا لهذا الافتراض، قد حزته بسبب طمعك، وحتى عندما تقدر عصاك على واحد أو اثنين، فإنها ستعجز عن ذلك، كلما ازداد عدد الطامعين بزيادة ما تملك، وحرمان الآخرين من الملكية، أو كلما وجدوا أن من واجبهم أن يتضامنوا ويتحصنوا تجاه أطماعك فيهم وفي ما يملكون.. بل انك حتى لو استحوذت على ملكية الآخرين كلها، ستعيش معذباً في داخلك، وإذا لم يتعذب في داخله مَن يستحوذ على كل شيء، ويطمع في كل شيء، سوف يقعد له الناس المتضررون كل مقعد، ولن يجد حماية الله قريبة إليه.. وفي كل الأحوال لن يعيش سعيداً محبوباً من أقرانه ومن الناس.. فاحفظ وصيتي، يا ولدي، لأن العمر يتقدم بي، وأخشى أن أموت، ولا تبدل طباعك فتندم.
مرت الأيام، ولم يكن المطر في ذلك العام غزيراً في منطقتهم.. حيث كانوا على مبعدة من الحافة الغربية لنهر الفرات في وسط العراق، أو الحافة الشمالية من جنوبه.. لكن بعض البدو الذين كانوا يمرون بهم في ترحالهم، ذكروا لهم أن بلاد الشام (أصابها) مطر غزير في مناطق الجزيرة المحاذية للعراق. ولأن إبراهيم كان يملك أغناماً وإبلاً كثيرة، قرر بعد أن تشاور مع أم الخير، أن يرتحل إلى هناك، بإبله وأغنامه، اضافة الى عائلته، ولأن مشي من يرتحل عادة ما يجري على قياس أقل الحيوانات قدرة على المشي، فقد تطلب وصولهم إلى هناك زمناً طويلاً.. وكلما ارتحلوا بين مثابتين باتجاه أرض الشام، حسبوا حساب الماء، بالإضافة إلى ما تأكله حيواناتهم، لتكون في وضع يمكنها من مواصلة المسير وكانت واحدة من مثاباتهم منخفض الثرثار شمال غربي تكريت وشمال الأنبار.. وعندما ارتحلوا من هناك كانت رحلتهم ليلا.
هنا قال ابراهيم موجها الكلام إلى حليمة، أم الخير:
ـ لو صادف أن سبقتكم إلى المثابة التي نحن بصدد الوصول إليها، ضعي نجم الجدي، كأنه فوق كتفك الشمال، وامشي، إذ انك لو واصلت هذا الحال، ستصلين حتماً إلى ارض الشام، ولو كان مقصدنا البو كمال في سورية، وواصلنا المشي كذلك، فسوف نصل إلى هناك من غير دليل.
وكان إبراهيم يعرف هذه الأرض جيداً، حيث سبق أن تنقل فيها على مدى عمره مقيماً ومرتحلاً.. وكلما نزلوا قرب عين ماء، أو بئر، كانوا في الغالب، يجدون من سبقهم إلى هناك، سواء من أهل المنطقة التي فيها البئر، التي يحطون قربها ليرتووا منها هم وأنعامهم، أو مناطق أبعد، وهم في طريقهم إلى ارض الشام أيضاً.
ولأن إبراهيم غالباً ما كان يعرف ممن يسبقه إلى حيث ينزل، وبالذات من سكان المكان المستقرين نسبياً فيه، فقد كان وجوه القوم يدعونه هو وأبناءه لعشاء ذلك اليوم، وينحرون له الذبائح، ويدعون على شرف إبراهيم من يدعونه ممن هم حولهم، بل إن الناس آنذاك، وبعضهم في الصحاري حتى الآن، لم يكونوا ينتظرون أن يأتيهم من يدعوهم لوليمة، وإنما يلتقون غالباً عند كبيرهم (مقدمهم) بين وجوههم لشرب القهوة أو السمر، وفي كل الأحوال، يحضرون عندما يستشعرون وجود ضيف غريب، ليحظوا بقطعة لحم مع ثريد وادام، أو ثريد وادام فحسب، إذا تعذر الحصول على قطعة لحم، أو إذا كان عدد الآكلين أكثر من قطع اللحم.
عندما أنجز طبخ الطعام، قدم المضيف الطعام لإبراهيم، وتقدم إلى الطعام من كان حاضراً معه.. وبينما كانوا يتناولون الطعام، لاحظ إبراهيم أن حسقيل، خلاف أخويه، تناول مع قطعة اللحم الموجودة أمامه، قطعة لحم من جاوره على المائدة، فتبعتها يد صاحبها، ولكن حسقيل أمسك بها وأخذها من يده ووضعها في فمه بصورة أخجلت إبراهيم وأخويه، بل أحزنتهم أمام مضيفهم ومن حضر المائدة معهم، ورغم أن المضيف وإبراهيم، والمدعوين، ضحكوا عندما علق صاحب قطعة اللحم على ذلك بقوله: حقك عليّ، يا ولدي، يبدو أن طريقكم طويل، وأن البطن كافرة عندما تجوع.. فقد تمنى إبراهيم أن تنشق الأرض وتبتلعه في تلك اللحظة، على أن يكون أمام ذلك المنظر المخزي، بل حتى يوسف خجل من تصرف حسقيل، رغم فارق العمر بينهما.. ومن يومها لم يعد إبراهيم يحضر حسقيل معه في وليمة يدعى لها، وصار يحضر معه يوسف ومحمود فقط.
كان الطقس والهواء والمرعى في الشام من الجودة بحيث أغرى ابراهيم على البقاء هناك، فاستقر في بلاد الشام الى حين، مرتحلا ومتنقلا من مكان الى آخر. وسمنت وتكاثرت اغنامه وإبله، وأتيح امامه ان يعيش في حال مميز قياسا بأقرانه، وكان الخبز والتين المجفف والزبيب وزيت الزيتون، والزيتون المنقوع بالزيت، أهم مؤونة البيت، وكانت حليمة سعيدة، بما أسعد زوجها ابراهيم، ولكنها بقيت هي والأولاد في شوق الى ديارهم القديمة، حيث يشتون في الشامية، على أرض الجزيرة غرب الفرات من جهة الفرات الأوسط، ويصِّفُون على الكتف الأيمن لنهر الفرات.
كبر الأولاد حتى صار حسقيل في حوالي العشرين عاما من عمره، يتدرج بعده في العمر يوسف ومحمود، كل على اساس عمر معلوم بفارق اقل من سنتين بين واحد وآخر.. وكلما كبروا ازدادت مشاكل حسقيل، وازداد طمعه وعدوانيته على الآخرين، وطمعه في مالهم، وازداد اخواه، ابنا عميه، يوسف ومحمود ثقلا، وعقلا، وتسامحا، وشهامة، وكرما. وفي الوقت الذي كان يوسف ومحمود يحظيان باحترام وتقدير من يعرفهما ويخالطهما، كان الناس يبتعدون عن حسقيل، ويزدادون نفورا منه، بل صار من يقترب منه ويصيبه أذاه يمقته ويكرهه، ورغم ان ابراهيم صار محط انظار اهل الشام ممن عرفوه والتقوه، وصار من يسعى ليتزود بالحكمة ينهل من دروسه باختلاطه به أو استشارته، فقد حاول ابراهيم عبثا ان يصلح حسقيل ابن ابنه.. لكنه كان، في كل يوم يمر، ينتظر شكوى من احدهم ضد حسقيل، وحتى عندما كانوا يلعبون على ظهور الخيل في مناسبة ما، كان الشباب يختارون يوسف ومحمود، رغم انهما اصغر عمرا، ويتجنبون حسقيل، وعندما كان حسقيل يلتمس مطاردة احدهم على ظهر فرسه، أو حصانه، كان من يلتمسه يعتذر له بشتى الاعذار، لكنه من جهة أخرى يذهب الى يوسف أو محمود يرجو منه مطاردته.. وعندما يحصل ان يخطئ أحدهم التقدير، ويقبل بمطاردة حسقيل، فغالبا ما تنتهي علاقته مع من يلاعبه على ظهور الخيل الى شجار يسيل فيه دمه أو دم صاحبه، واذا سال دم حسقيل، من غير ان يموت طبعا، عفا ابراهيم عمن يفعل ذلك، لأنه يعرف الخواص السيئة لحسقيل، وإن سال دم آخر، دفع ابراهيم دية عن تصرف حسقيل، وفق ما كانت تقتضي الاعراف، خاصة ان ابراهيم كان يعيش اساسا خارج مسقط رأسه، حيث أهله واعمامه. وكان حسقيل يعمد الى ان يحمل معه حبلا بطرفه انشوطة بصورة سرية، فإذا طارده أحدهم، رمى بالحبل على رقبة فرس ذاك الخيال، ثم يسحبه لتنعقد الانشوطة عليها، فتقع الفرس والخيال على الارض، أو ان يضرب فرس نظيره بعصا أو ان يضرب قرينه خلاف العادة بعصا غليظة حتى يدميه.. الخ. وادرك ابراهيم ان حسقيل، اذا بقي في بيته، سيشكل عداوات مع الناس كلهم، قد تنعكس عليه سلبا، رغم كل تقدير الناس له، ولكنه كان في حيرة من أمره.. كان يتداول مع زوجته حليمة في أمر حسقيل، ورغم ان حليمة تعرف طباع حسقيل السيئة، فقد كانت تُصَبَّر ابراهيم بالقول:
ـ قد تذهب منه طباعه السيئة عندما يكبر.
وعندما يذكرها ابراهيم بأن عمره صار عشرين عاما، وانه أكبر من ابراهيم عندما تزوجها.. تقول، بعد ان ترجوه ليصبر عليه:
ـ ربما يصير أفضل عندما يتزوج.
وتعود لتقول مع نفسها بصوت مسموع، بعد ان يسكت ابراهيم على مضض:
ـ ترى من يقبل به؟ ومن يزوجه ابنته، بعد ان شاع صيته بالسوء؟
وبعد سكوت وتأمل طويلين، يتجه ابراهيم الى ربه بالدعاء:
ـ اللهم اشفه من حال السوء، وخلصني من عبء ما يفعل، انك خير من يعلم السرائر، وتعرف الخير من السيئ، وأنك القدير العزيز.
في إحدى الليالي الربيعية، وبعد ان تناولوا طعام العشاء، سأل حسقيل أباه (جده) إبراهيم:
* هل الثروة الآن أكبر لدى الدول والناس، أم قبل الآن، يا والدي؟
ـ إنها الآن أكبر.. لأن عدد الناس الآن صار أكثر مما كانوا عليه قبل مائة عام مثلا، ولأنهم الآن أكثر فإن حجم عملهم أكبر، ولأن العمل اساس الثروة، فإن الثروة الآن أكبر ايضا.
* لماذا لا تقول ان الذهب أكثر الآن باعتباره المقياس الثابت لقيمة الثروة منذ زمن بعيد، فازداد بالتراكم؟
ـ بل اقول ان العمل الآن أكبر.. ذلك لأن العمل، كما ونوعا، أهم من الذهب..
* كيف؟
* لو كان لديك أوقية من الذهب.. وذهبت الى السوق، ولم تجد رغيف خبز، وانت جائع، وكذا عيالك، وتكرر الحال عدة ايام.. الا يعني ذلك انك ستموت، انت وعيالك، ويبقى الذهب لمن يرثه!؟
ـ نعم.. صحيح.
ـ اذن الثروة هي العمل.. وكلما ازدادت ساعات عمل شخص على آخر، وازداد علمه أو مهارته على قرينه، ازدادت الثروة في فعله بالقياس بما عليه قرينه..
ـ اذا كانت الثروة عملا فقط.. لماذا يطمع من يطمع بثروة الآخرين!؟
ثم اردف حسقيل:
* ألم تقل لي، يا أبتي، انني اطمع في ما يملكه الآخرون؟.. فهل اطمع في عملهم.. أم في مالهم؟ ولكنه اجاب بنفسه:
ـ انني اطمع في مالهم، وليس في عملهم.. اطمع في اغنامهم، وفي محصولهم الزراعي، وفي الخيول والجمال والبقر الذي يملكون.
ـ انا لم أقل ان الثروة عمل فقط.. وانما قلت ان الثروة عمل، جوابا على ما قلته وتصورته حكما قاطعا من ان الثروة ذهب فحسب.. انك لا تطمع في ملكية الآخرين فحسب، يا حسقيل، وانما في عملهم ايضا، عندما لا تدفع لهم ثمن عملهم، أو تدفعه منقوصا، أما لو أردنا الاسترسال، وان نولد من كل عنصر من العناصر الاساسية في تكوين الناس والتأثير بها، لما توقفنا عند العمل كمصدر وحيد للثروة، ولكنه المصدر الاساس فيها وفي تعريفها.. ولو نقلنا ثقل الناس والدول في الميزان، من صلتهم بالثروة تحديدا، الى صلتهم بالقيمة، فعندها نكون امام عنوان اشمل، يحوي ما هو مادي وما هو معنوي، وعند ذلك تدخل جغرافية الدول ضمن قيمتها وتاريخها، وما هو في باطن ارضها أو عليها.. وما تركته فيها ولها الاجيال السابقة، ومستوى استعداد شعبها للصبر في الملمات والمحن، ومستوى اعداد واستعداد الناس فيها، بوجه عام، يتقدمهم الرجال، للتضحية الخ.. ولكن اساس الثروة عمل في كل الاحوال.. وهي الآن أكبر، سواء على اساس ما تحوزه الدول أو يحوزه الافراد.. والعمل ايضا مقياس مهم لمستوى صلة الانسان المؤمن بالحياة، وبرب السماوات والارض، لأن الله سبحانه خلق الحياة للانسان، وخلقه ليعمل فيها.. لذلك فإن من يعبد الله، ولا يعمل كما ينبغي او يجب، لا بد ان يكون خلل ما في عبادته، ولا نعرف الى اي حد يقبلها الله أو ينقصها.. خاصة اذا قارنا المؤمن بناقص الايمان.. فكلما قلت قيمة عمله.. أي قل عمله زمنا وقيمة.. عن الحال المقارن به مما ذكرنا، كان معنى ذلك ان ناقص الايمان اكثر فائدة للحياة من المؤمن ان لم يخربها.. ولأن المؤمن لا يقبل ان يكون اقل قيمة من ناقص الايمان، فعليه ان يتفوق على هذا الاخير، ليس في الاخلاق العامة، وتواصله مع رب السماوات والارض فحسب، وانما في العمل ايضا.. وان الاشارات التي اراد بها الله سبحانه ان يعمل الناس، وان يتقن كل عمله، كثيرة، بل لعل صلاة الفجر، وهي الصلاة المبكرة في يومها.. تعني ان الله اراد للمؤمن ان يكون يقظا عند كل فجر، ولأن صلاة الفجر اقصر صلاة، فمعنى ذلك انه، سبحانه، اراد يقظة الانسان للعمل اساسا، وجعل صلاة الفجر في هذا التوقيت سببا ودافعا ليكون المؤمن مستيقظا.
* ولكن. ألا يأكل الناس، ويلبسون افضل، مع ان عددهم الآن أكبر؟ فما الذي ازداد؟ هل ازداد الذهب أم العمل..؟
ـ ان وصف الافضل وصف نسبي.. فعندما نقول ان فلانا يأكل ويلبس الآن أفضل من جده.. فإن قياس الافضل ينبغي ان لا يقاس لفلان مع جده، وإنما مع الناس في مرحلته.. وهكذا كان حال جده يقاس من قبل.. وعلى هذا، فإن كثيرا من الناس يعيشون الآن من دون حد الفقر على مستوى العالم ككل، ومن هذه النسبة أناس من الدول التي تعتبر، أو يعتبرها أهلها أو المسؤولون فيها، من أكثر الدول ثروة.. مثلما كان أناس يعيشون في السابق، على قياس معيار الفقر والغنى آنذاك، من دون حد الفقر.. ومع ذلك اقول جوابا على تساؤلك: نعم، إن الثروة، ومنها الذهب في الدول وفي حوزة الناس، أكبر الآن مما كانت في الماضي، وإن العمل الآن أكبر حجما وأرقى نوعا.
* ولكن، كيف اصبح الذهب أكبر حجما الآن؟
ـ انه اكبر حجما، لأن عدد العاملين على استخراجه صار أكبر بالقياس النسبي.. وان وسائل استخراجه الآن افضل طبقا لقياسات التطور، فكلما تحسنت وسائل استخراجه، وصارت فعالة بصورة افضل، ازداد حجم المستخرج منه. يضاف الى ذلك ان عامل التراكم بسبب الزمن الطويل جعل حجمه أكبر، ولعل المرأة قد لعبت دورا اساسيا في تراكمه لدى الافراد والعوائل، ولولاها لكنّا أمام حجم أقل بكثير ممَّا عليه الذهب الآن لدى العوائل لأن الرجال لا يكنزون أو يستخدمون الذهب، في الغالب.
* الا يعني هذا، يا والدي، ان اثم المرأة أكبر من اثم الرجل، وفق مفهوم ديانتك، لأنها تكتنز الذهب، ولا يكتنزه الرجل؟
ـ احسنت يا ولدي.. نعم ان من يكتنزه ولا يزكيه يقع عليه اثم كبير. عاد حسقيل ليقول:
* ولكن ما أدرانا، قد تكون حصة الفرد من الذهب الآن اقل، لو وزعنا الموجود منه بالتساوي على الكل، ذلك لأن عدد الناس الآن أكبر، بينما كان عددهم في الزمن القديم اقل.. وكان الذهب ظاهرا في أماكنه ايضا، وفي مجاري الانهار، أو حيثما كان هنالك مسيل لماء المطر في ارضه في قديم الزمان مما يسهل تصفيته وجمعه..
أجاب ابراهيم على تساؤل حسقيل:
ـ لا استطيع ان اقول لك شيئا قاطعا في هذا، لأنني لا أمتلك أرقاما.. ولا اريد هنا ان اعتمد على الاستنتاج في الاجابة.
تعليق