maher_dig@yahoo.com

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • aldighmat
    عضو منتسب
    • Jul 2008
    • 3

    maher_dig@yahoo.com

    أم عاصي

    كان يمشي بخطا وئيدة .. يمسك بيد زوجته دنيا التي كان يظهر عليها النحول والشحوب.. كان مطأطا الرأس..منحني الظهر.. يرتدي ملابس رثة.. يبدو عليه المرض والتعب، والفقر والشقاء أيضا..وكانت التجاعيد المرسومة على وجهة تروي قصص جاء شخوصها من عالم التعاسة والعذاب...
    لم اصدق عيني حين رأيت السيد عاصي يخرج من جيب معطفة الشتوي كيسا بلاستيكي يحوي تأمينا صحيا صادرا عن وزارة الشؤن الاجتماعية، ليعطيه لموظفة القسم المالي..هل تردى به الحال إلى هذه الدرجة حتى اصبح احد مرتادي مستشفيات القطاع العام؟... يبكي وينتحب ويجثو على ركبتيه حين يتوسل الى موظف المواعيد ليقرب له موعد المراجعة، وفي النهاية يذهب استجدائه ادراج الرياح.. او ربما يصرخ ويأن من قسوة الألم في عيادات الاختصاص او حتى على باب قسم الطوارىء دون ان يأبة له ملائكة الرحمة....
    لم استطع تصور سوء حالته للوهلة الأولى، و بدأت اسأل نفسي عن تلك السيارة الفاره وعن الرصيد البنكي والملابس التي كان يأتي بها من افخر الماركات العالميه.. عن عطرة الذي كان يبقى وقتا طويل في المكان الذي كان يجلس فيه..وعن راتبه الضخم ذو ألحوافز والمكافآت التي يصعب حصرها.. ويدأت اسأل نفسي أيضا عن مجوهرات زوجته المتعجرفة الطبع دنيا، والتي كانت تشمئز من كل الاشياء في الدنيا الا الذهب والمجوهرات...كانت تظن نفسها اميرة تحصل على ما تريد بمجرد الاشارة بأصبع يدها الصغير....
    وفي غمرة هذه التساؤلات و(العنعنات)، تذكرت نفسي حين كنت اقف - بعد منتصف الليل- مع بعض رجال حينا في نفس هذا المكان قبل عشرة سنوات تقريبا.. كنا نتظر نتيجة الفحوصات التي كانت تجرى لام عاصي التي اتى بها الجيران الى المستشفى الحكومي غارقتا بدمائها.. تذكرت تعبها وشقائها في تعليم عاصي الذي كان بالنسبة لها اغلى من الدنيا..دفعت عمرها ثمنا بخسا حتى ترسم البسمة على محيا عاصي الذي مات والده وهو ابن 5 سنوات، وتركه بصحبة اخواته الثلاثة في رقبة امه البائسه..
    لم أنسى جلوس أم عاصي خلف ماكينة الخياطة وابداعها في نقش تلك الرسومات الرائعة، لتزين بها اثواب نساء الحي...ولم أنسى أيضا وقوفها إلى جانب ولدها حتى أنهى متطلبات الحصول على درجة الماجستير في المحاسبه.. كانت تصمد له القرش بجانب القرش لتوفر له رسومه الجامعية، واثمان ملابسه التي كانت تشترط عليه ان يشتريها من افضل الانواع، حتى لا يشعر بالنقص امام اصدقائه..وبعد انتهائه من دراسته وحصوله على وظيفة مرموقه في احدى شركات المقاولات، اصرت علية ان يختار له زوجة تكمل معه مشوار حياته.. كانت أم عاصي - ككل الأمهات- تريد أن تفرح به قبل وفاتها.. وكانت ايضا تريد ان تشنف اذانها بسماع كلمة (جدتي) من قبل اولاده الذين لم يكونوا أقل من والدهم سخطا وعقوقا لام عاصي ....
    ولكنها لم تكن تعرف ان الفتاة التي اختارها عاصي ستكون مصدر تعاستها ووحدتها المؤلمه.. لم تكن تعلم ان - زوجة عاصي- لا تعرف من الحب اكثر من حبها لنفسها ومجوهراتها..ولم تكن تعلم ايضا ان دنيا ستكون سبب النهاية المأساوية لقصة تضحية وايمان من نوع لم يعد موجودا في هذا الزمان...
    كانت الساعة حين ذاك تقارب الحادي عشرة مساءا...الظلام يلف المكان...و الهدوء يسيطر على كل شىء...وكان ثمة عادة اكرها في اهل الحي الذي اقطنه، وهي النوم باكرا، لذا كانوا يغطون في نوم عميق في حالة اشبه بالموت... فجأة! .. يبتلع الصمت صوت يرتعد خوفا.....ياهل الحي استيقظوا...وادركوا جارتكم ام عاصي، لا بد أنها تحتضر....
    وبعد سماع الصوت مرات عديده، هرعت مسراعا نحوا باب الدار...خرجت خارج المنزل، وإذا بنداء الاستغاثة هذا يصدر من جارنا أبو عيسى.. قلت له مستفسرا...
    - خيرا يا أبو عيسى (شو القصه)؟
    - سمعت صوت جارتنا ام عاصي في منزلها تستغيث... اخشى ان يكون حصل لها مكروه....
    - وهل دخلت إلى بيتها ؟
    - لا ... فضلت ان اخبر الجيران قبل ذلك....
    وكان من ذكاء ابوعيسى (مختار حينا) انه اخبر الجيرأن قبل أن يقتحم منزل ام عاصي، حتى لا يعرض نفسه للمسائلة القانونيه امام رجال الشرطة...فقد اراد منا ان نكون شاهدين مثله على الجريمة ان جاز وصفها كذلك...
    ركضت مع الجيران بسرعة نحو منزل ام عاصي... كسرنا الباب في محولة لاقتحام المنزل... ام عاصي تجثوا على ركبتيها... تغمض عيناها بشدة من قسوة الألم... الدماء تملىء وجهها الذي كان يخبر قصص عن اعتى انواع الوحدة... وكانت مسامعنا تتلقف صوت بكائها كصوت اشبه بعويل أم تبكي ولدا مات أمام ناظريها ...حاولنا معرفة ما حدث لها، ولكنها كانت في عالم غير عالمنا الذي لطالما كانت أم عاصي تشاركنا فية...
    وعلى الفور، اتخذنا قرارا بنقلها إلى قسم الطوارىء في المستشفى الحكومي لإجراء ما يلزم من فحوصات وإسعافات ... وهناك أسدل الصمت ستائره على الجو العام... وبدأ كل منا يتضرع بصمت إلى الله ألعلي القدير أن يشفي أم عاصي ... وكم تمنيت حينها أن يكون قدومنا إلى المستشفى جاء في الوقت المناسب... ما الذي حصل لام عاصي يا ترى... هل سقطت من أعلى الدرج الصاعد إلى سطح المنزل؟...هل أصيبت بجلطة دماغيه نتيجة التفكير الشديد بالوحدة والعزلة المفروضة عليها؟... أم هل نسيت أخد دواء السكري أو الضغط أو دواء تنظيم ضربات القلب مما أدى إلى هبوط حاد في ضربات قلبها؟... وهل كان الدواء أصلا متوفرا عندها؟... خصوصا أن المعونات الزهيدة التي كان يبعثها عاصي لامه كانت تتأخر عن موعدها في الآونة الأخيرة... وغايتي من البحث في ثنايا هذه الاحتمالات هو معرفة المسئول عن ما حصل لام عاصي... أيا كان، فعاصي هو السبب المباشر لما حدث...

    وبعد ساعة تقريبا ، اخبرنا الأطباء أن حالتها حرجة وسيئة للغاية في نفس الوقت، وانه لا طائل من وجودنا ألان، لذا قررنا العودة إلى بيوتنا ومن ثم الرجوع إلى المستشفى في الصباح الباكر...

    لم تستطع عيني النوم في تلك ألليله الرهيبة وأنا أتخيل منظرها وهي غارقتا بدمائها... ولم استطع تصور قسوة قلب عاصي وزوجته دنيا التي ظلت توسوس لزوجها وتدعوه إلى الرحيل إلى احد الأحياء الراقية في ألعاصمه، بحجة أن المنطقة الشعبية التي كانوا يسكنوها لم تعد تناسب وضع زوجها الاجتماعي... لم تكن خططها تأخذ بعين الاعتبار رغبات أم عاصي، لأن دنيا لا تعلم أن تلك الحارة الشعبية بجدرانها المهترئه وزقاقها الضيقة وأناسها الطيبين تمثل لام عاصي مستودع ذكريات وتضحيات عز نظيرها في هذا الزمان..
    ظلت دنيا آنذاك تمارس ضغوطها التشويشية على عاصي، حتى انصاع لرغبتها كالعادة...وفي محاولة يائسة، طلب عاصي من امة الرحيل معهم إلى حيث الشقة الفارة والشوارع الواسعة والعمارات التي تعانق السماء في ارتفاعها... كان عاصي يحاول اغتيال تاريخ امة وذكرياتها، ولكنها كانت ترفض في كل مرة وتدافع بضراوة عن ذلك التاريخ، وكانت تعلم أيضا أن زوجة عاصي لا ترغب بمرافقتها لهم...
    جاء يوم الرحيل، ودموع الحزن والغضب تنهمر من عيني أم عاصي ... رحل الغالي كما لو أن قطعة من كبدها اجتثت، وفي لحظة ما، لم تستطع هذه المرأة الطيبة كتمان غضبها، ليخرج على شكل دعوة لربها أن يصل عاصي إلى مرحلة يشحذ فيها الملح... ولم استطع وقتها تصور حجم الحنق القابع في داخلها ، ولكنها سرعان ما تراجعت عن غضبها ،لان قلب أم عاصي لا يمكن أن يكون مكاننا لغير الحب والرحمة..رفعت يدها وبدأت تبتهل إلى بارئها أن يوفقة ويسدد رمية ويوسع عليه رزقه...
    مرت الساعات بسرعة، وإذا بصوت ألأذان يذكر الناس بان الصلاة خير من النوم... توضأت وذهبت إلى المسجد ، وإذا بأهل زقاقنا هناك، وقد بدا على جفونهم التعب من قلت النوم... جلسنا في المسجد بعد أداء الصلاة، حيث تصدر موضوع أم عاصي الجلسة... وبعد قرابة الساعة والنصف، جاء الخبر اليقين والفاجعة التي أبكت جميع الحاضرين... أشحت بوجهي عنهم وبدأت ابكي حد النحيب، كان الحزن يملىء قلبي ويرسم في مخيلتي صورة قاتمتا لعاصي وزوجته اللذان لم يكتفيا بمحاولة اغتيال تاريخ أم عاصي وذكرياتها فحسب، بل وأقدما على اقتراف جريمة قتلها بسلاح الوحدة مع سبق الإصرار والترصد...
    واليوم وأنا أرى عاصي بهذا الحال وقد اغتالته الفاقة وضيق اليد، أدركت أن دعوة أم عاصي أصابت السماء، وأدركت أيضا أن رحلة عقاب عاصي المريرة بدأت تنتقل من مرحلة إلى المرحلة التي تليها، لتجعل من ذلك الشخص الذي كان ثريا، يمشي بخطأ وئيدة وهو يمسك بيد زوجته دنيا التي كان يظهر عليها النحول والشحوب.. مطأطأ الرأس، منحني الظهر، يرتدي ملابس رثة.. يبدو عليه المرض والتعب، ويتوسل أمام موظف المواعيد ليقرب إليه موعد المراجعة... ولست ادري، فربما كان عاصي يشحذ الملح فعلا.



    انتهت

    تأليف:- ماهر الدغيمات
    Maher_dig@yahoo.com
    شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .
يعمل...