تأملاتٌ ليليةٌ !
كنت في صباي لا أحب الليل، بل كنت إذا أقبل تنتابني حالة غريبة من القلق و ضيق الصدر، و لم أفهم إلى اليوم الباعث الحقيقي على ضيق الصدر هذا و ذلك القلق. فأنا لم أكن أخاف الليل كما يحدث عموما للصبيان أو الشبان في مثل سني آنذاك. و ما كنت أقوم ببعض الأعمال كجلب الماء إلى البيت من العين الوحيدة في الحي، أو سقي شجيرات الورد في بيتنا و غيرها من الأعمال إلا ليلا و بمفردي.
عجيبٌ كيف تتغير مشاعر الإنسان تجاه الأشياء و الأشخاص بمرور الدهر و تغير الزمان من النقيض إلى النقيض ! فأنا أذكر اليوم أنني لما كنت صبيا و شابا يافعا كنت أحب الرسم مع بغضي الليل، و كنت أقضي الساعات الطوال مختليا مع أقلامي و أوراقي أرسم و أصور لا أسأم و لا أمل.
أما اليوم و بعد مرور السنين صرت أجد في الليل سحرا لا أجده في غيره من الأوقات، و هفتت بل خفتت بل زالت سورة الرسم فلم أعد أمسك القلم لأرسم قط و ما صرت أمسكه إلا لأكتب فقط. و لئن كانت الكتابة وسيلة للتعبير كالرسم فلا يظهر مدى التغيير العميق الذي طرأ على نفسي إلا لمن عاش نفس الأحاسيس و المشاعر.
أما المتعة التي صارت تنتابني كلما جن الليل و أرخى على الدنيا سدوله و خيم عليها بسكونه فهي متعة جديدة على نفسي لم أكن أعرفها أو يسهل علي إفهامها للناس.
كنت لا أجد للتخلص من قلقي و ضيق صدري من قدوم الليل و أنا غلام إلا بالقيام بالأعمال العديدة و المتنوعة أو بمراجعة دروسي أو الخلود إلى النوم لعلي أتخلص من الزائر الثقيل. أما اليوم فصرت أجد في الليل متعة نفسية لذيذة، أصبحت أترقب قدومه كل يوم، و عند المساء، ليحل علي بسحره و يلفني في أسراره، صرت إذا هجع الجميع و أخلدوا إلى النوم أجلس في غرفة المكتب، بعدما صار لي بيت خاص فيه غرفة مخصصة للكتب، أقرأ أو أكتب و أتأمل في سكون تام في كثير من الأمور التي كانت تتراءى لي ساعتها.
و أخرج أحيانا في ساعة متأخرة من الليل إلى شرفة الشقة و أنظر إلى السماء السوداء المرشوشة بقناديل ذهبية تلمع بالسحر، و أنظر إلى الهلال فأحسبه قوسا تسيل منه شلالات من الفضة يرسلها على الأرض فتزيدها زينة.
و أبقى هكذا مدة من الزمن أتأمل و أفكر في سعة الكون و بسطته، و تنتابني حالات من الخشوع أمام عظمة الخلق و قدرة الخالق و أشعر ساعتها بالضآلة و التفاهة أمام ذلك المشهد الرائع، و تساورني بعض التخيلات الغريبة فأطلق العنان لخيالي ليجول و يصول و يحاول تصور أفعال العباد في تلك اللحظة في أرجاء العالم.
و هنا أذكر أن هناك عينا تراقب كل العباد و أفعالهم و أعود إلى نفسي فأشعر بالضعف أمام تلك العين الرقيبة. فأنا لا أستطيع أن أعلم ما يجري في الغرف المجاورة في الشقة ذاتها تخيلا أو تخمينا و أريد معرفة ما يجري في العالم؟ إن هذا لشيء عجاب !
و أصغي إلى الأصوات فلا أسمع إلا السكون التام، سكونا قد تمزقه أحيانا بعض الأصوات النشاز كضجيج قطار مار هناك، أو هدير سيارة تمر قرب العمارة هنا. و أنظر إلى العمارات المجاورة فأراها ساكنة تغط في النوم و قد أطفئت الأنوار بها فكساها الظلام بإزاره الحالك إلا موضع نافذة أو نافذتين لا يزال النور مضيئا فيهما لعله بسبب طفل زاعق أو مريض آرق، فلا تلبث حتى ينطفئ النور و يعم الظلام مرة أخرى، و أمكث هكذا حينا من الدهر في تلك المتعة، متعة التأمل.
و يفلت مني الخيال و يروح يرتع في حدائق الفكر كأنه فراشة ليلية ما إن يحط على فكرة حتى يرتحل إلى أخرى، و أجد في هذه الجولات الفكرية الليلية متعة لذيذة و أنتشي فيها نشوة لا يعرفها المنتشون، و أذكر أنني كثيرا ما كنت أصطاد مواضيع مقالاتي إلا في مثل هذه الجولات ثم أقيدها بالكتابة.
و أحيانا أُفكر في أولئك الذين يقضون سواد ليلهم و بعض نهارهم في اللهو و اللعب، و يقضون باقي نهارهم في النوم ليعودوا مرة أخرى إلى اللهو و اللعب في ليلتهم القادمة، و هكذا هم على الدوام بين لهو و نوم حتى يرحلوا عن الدنيا إلى ظلمة القبر و لا يعودون، و نادرا ما تجد من بينهم من يشتغل ليحصل على المال، فكثير منهم وجد المال متوفرا فراح يبدده كيفما تهيأ له، و هم ينظرون إلى الدنيا على أنها لعب و لهو و الحياة في نظرهم ساعة يجب قضاؤها في ألذ المتع و أقوى نشوة و لا يهمهم من أين جاء المال و لا يشغلهم إلا كيف يصرفونه فيما لذَ وطاب، و إذا نقص"المصروف" و هو قد لا ينقص أبدا، رأيتهم متذمرين مُستائين لأنهم ستفوتهم ليلة حمراء أو أنهم سيضيعون سهرة ملهاة، و تراهم يضيعون قدراتهم فيما لا ينفع و طاقاتهم فيما لا يجدي كأنهم أعداء أنفسهم و أمتهم و وطنهم.
و لا أعود من شرودي الفكري إلا بعدما أشعر بقشعريرة، لعلها قشعريرة انتابتني بسبب النسيم أو بسبب هول الموضوع الذي أفكر فيه، فأترك المكان و أعود أدراجي إلى غرفة المكتب فأواصل ما كنت بصدده أو أغيَر شُغلي و أقضي ردحا من الزمن فإذا شعرت بالتعب أو جاء النعاس يخامر عينَيَّ غادرت الحجرة و قصدت غرفة النوم و كُلي غبطة من ليلتي و أملي أن أستأنف في الغد ما لم أتممه الليلة!
عجيبٌ كيف تتغير مشاعر الإنسان تجاه الأشياء و الأشخاص بمرور الدهر و تغير الزمان من النقيض إلى النقيض ! فأنا أذكر اليوم أنني لما كنت صبيا و شابا يافعا كنت أحب الرسم مع بغضي الليل، و كنت أقضي الساعات الطوال مختليا مع أقلامي و أوراقي أرسم و أصور لا أسأم و لا أمل.
أما اليوم و بعد مرور السنين صرت أجد في الليل سحرا لا أجده في غيره من الأوقات، و هفتت بل خفتت بل زالت سورة الرسم فلم أعد أمسك القلم لأرسم قط و ما صرت أمسكه إلا لأكتب فقط. و لئن كانت الكتابة وسيلة للتعبير كالرسم فلا يظهر مدى التغيير العميق الذي طرأ على نفسي إلا لمن عاش نفس الأحاسيس و المشاعر.
أما المتعة التي صارت تنتابني كلما جن الليل و أرخى على الدنيا سدوله و خيم عليها بسكونه فهي متعة جديدة على نفسي لم أكن أعرفها أو يسهل علي إفهامها للناس.
كنت لا أجد للتخلص من قلقي و ضيق صدري من قدوم الليل و أنا غلام إلا بالقيام بالأعمال العديدة و المتنوعة أو بمراجعة دروسي أو الخلود إلى النوم لعلي أتخلص من الزائر الثقيل. أما اليوم فصرت أجد في الليل متعة نفسية لذيذة، أصبحت أترقب قدومه كل يوم، و عند المساء، ليحل علي بسحره و يلفني في أسراره، صرت إذا هجع الجميع و أخلدوا إلى النوم أجلس في غرفة المكتب، بعدما صار لي بيت خاص فيه غرفة مخصصة للكتب، أقرأ أو أكتب و أتأمل في سكون تام في كثير من الأمور التي كانت تتراءى لي ساعتها.
و أخرج أحيانا في ساعة متأخرة من الليل إلى شرفة الشقة و أنظر إلى السماء السوداء المرشوشة بقناديل ذهبية تلمع بالسحر، و أنظر إلى الهلال فأحسبه قوسا تسيل منه شلالات من الفضة يرسلها على الأرض فتزيدها زينة.
و أبقى هكذا مدة من الزمن أتأمل و أفكر في سعة الكون و بسطته، و تنتابني حالات من الخشوع أمام عظمة الخلق و قدرة الخالق و أشعر ساعتها بالضآلة و التفاهة أمام ذلك المشهد الرائع، و تساورني بعض التخيلات الغريبة فأطلق العنان لخيالي ليجول و يصول و يحاول تصور أفعال العباد في تلك اللحظة في أرجاء العالم.
و هنا أذكر أن هناك عينا تراقب كل العباد و أفعالهم و أعود إلى نفسي فأشعر بالضعف أمام تلك العين الرقيبة. فأنا لا أستطيع أن أعلم ما يجري في الغرف المجاورة في الشقة ذاتها تخيلا أو تخمينا و أريد معرفة ما يجري في العالم؟ إن هذا لشيء عجاب !
و أصغي إلى الأصوات فلا أسمع إلا السكون التام، سكونا قد تمزقه أحيانا بعض الأصوات النشاز كضجيج قطار مار هناك، أو هدير سيارة تمر قرب العمارة هنا. و أنظر إلى العمارات المجاورة فأراها ساكنة تغط في النوم و قد أطفئت الأنوار بها فكساها الظلام بإزاره الحالك إلا موضع نافذة أو نافذتين لا يزال النور مضيئا فيهما لعله بسبب طفل زاعق أو مريض آرق، فلا تلبث حتى ينطفئ النور و يعم الظلام مرة أخرى، و أمكث هكذا حينا من الدهر في تلك المتعة، متعة التأمل.
و يفلت مني الخيال و يروح يرتع في حدائق الفكر كأنه فراشة ليلية ما إن يحط على فكرة حتى يرتحل إلى أخرى، و أجد في هذه الجولات الفكرية الليلية متعة لذيذة و أنتشي فيها نشوة لا يعرفها المنتشون، و أذكر أنني كثيرا ما كنت أصطاد مواضيع مقالاتي إلا في مثل هذه الجولات ثم أقيدها بالكتابة.
و أحيانا أُفكر في أولئك الذين يقضون سواد ليلهم و بعض نهارهم في اللهو و اللعب، و يقضون باقي نهارهم في النوم ليعودوا مرة أخرى إلى اللهو و اللعب في ليلتهم القادمة، و هكذا هم على الدوام بين لهو و نوم حتى يرحلوا عن الدنيا إلى ظلمة القبر و لا يعودون، و نادرا ما تجد من بينهم من يشتغل ليحصل على المال، فكثير منهم وجد المال متوفرا فراح يبدده كيفما تهيأ له، و هم ينظرون إلى الدنيا على أنها لعب و لهو و الحياة في نظرهم ساعة يجب قضاؤها في ألذ المتع و أقوى نشوة و لا يهمهم من أين جاء المال و لا يشغلهم إلا كيف يصرفونه فيما لذَ وطاب، و إذا نقص"المصروف" و هو قد لا ينقص أبدا، رأيتهم متذمرين مُستائين لأنهم ستفوتهم ليلة حمراء أو أنهم سيضيعون سهرة ملهاة، و تراهم يضيعون قدراتهم فيما لا ينفع و طاقاتهم فيما لا يجدي كأنهم أعداء أنفسهم و أمتهم و وطنهم.
و لا أعود من شرودي الفكري إلا بعدما أشعر بقشعريرة، لعلها قشعريرة انتابتني بسبب النسيم أو بسبب هول الموضوع الذي أفكر فيه، فأترك المكان و أعود أدراجي إلى غرفة المكتب فأواصل ما كنت بصدده أو أغيَر شُغلي و أقضي ردحا من الزمن فإذا شعرت بالتعب أو جاء النعاس يخامر عينَيَّ غادرت الحجرة و قصدت غرفة النوم و كُلي غبطة من ليلتي و أملي أن أستأنف في الغد ما لم أتممه الليلة!
(رحم الله من أهدى إلي عيوبي و دلني على الأخطاء مهما كانت : نحوية، صرفية، لغوية أو تعبيرية أو تصويرية و غيرها!)
__________________
تعليق