مقـامَـــةُ التــَّوحيــد
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
فيا عجباً كيف يعصى الإله
وفي كل شيء له آية
أم كيف يجحده الجاحد
تدل على أنه واحد
التوحيد ، هو حق الله على العبيد ، وهو أول ما دعا إليه الرسل ، وبه كل كتاب نزل ، وهو أصل الأصول ، والطريق للوصول ، وبه عرف المعبود ، وعمر الوجود ، ولأجله أعدت الجنة والنار ، وسل السيف البتار ، وقوتل الكفار ، ولإقامته في الأرض دعت الأنبياء ، وعلمت العلماء ، وقتل الشهداء ، وهو أول مطلوب ، وأعظم محبوب ، وهو أشرف المقاصد ، وأعذب الموارد ، وأجل الأعمال ، وأحسن الأقوال ، وهو أول الأبواب ، وبداية الكتاب ، وأعظم القضايا ، وأهم الوصايا ، وخير زاد ، يحمله العباد ، ليوم التناد ، وهو قرة عيون الموحدين ، وبهجة صدور العابدين ، وهو غاية الآمال ، وأنبل الخصال ، بل هو أعظم الكفارات ، وأرفع الدرجات ، وأكبر الحسنات ، وهو منشور الولاية ، وتاج الرعاية ، والبداية والنهاية ، وهو الإكسير الذي إذا وضع على جبال الخطايا أصبحت تذوب ، وصارت حسنات بعد أن كانت من الذنوب .
وعلى هذا حديث (( يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة )) .
وهو الذي هز في طرفة عين قلوب السحرة . فقالوا بعزم ماض : اقض ما أنت قاض ، والمرأة التي سقت الكلب ، فغفر لها الذنب ، كان معها توحيد الرب ، والرجل الذي قتل مائة رجل ، وذهب إلى القرية على عجل ، فأدركه الأجل ، غفر له بالتوحيد عز وجل . والتوحيد كنـز جليل ، في قلب الخليل ، فقال لما شاهد الكرب الثقيل ، حسبنا الله ونعم الوكيل .
ولما قال الصدّيق في الغار ، لسيد الأبرار ، لو نظر أحدهما لرآنا ولسمعنا ، قال : لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ، إنما قال ذلك بلسان الموحد ، وقد سدد بتوفيق الله وأيد .
وما فلق الله البحر للكليم ، إلا لأنه صاحب توحيد عظيم ، ونهج كريم ، ولو وضعت السموات والأرض في كفة الميزان ، ولا إله إلا الله في كفة لكان لها الرجحان ، ولو كانت في حلقة حديد لفصمتها ، وفي صخرة لفجّرتها ، ولا إله إلا الله مفتاح الجنان ، وله أسنان ، من الواجبات والأركان ، وصاحبها لا يخلد في النار ، ولا يلحق بالكفار ، وقد قالوا لأحد العلماء وقد سجن ، وفي سبيل هذه الكلمة ذاق المحن ، قل كلمة التوحيد، قال من أجلها وضعت في الحديد ، وقالوا لأحد الأولياء وقد رفع على خشبة الموت ، وقرب منه الفوت ، قل لا إله إلا الله ولا تغفل ، قال : من أجلها أقتل .
وسمع أحد الصالحين رجلاً يقول لا إله إلا الله ومد بها صوته فبكى وقال :
وإني لتعروني لذكرك هزة
كما انتفض العصور بلله القطرُ
وسمع أحد العلماء رجلاً يقول : لا إله إلا الله ، قال : صدقت وبالحق نطقت .
فيا أيها العباد خذوا من التوحيد قطرة ، وضعوه على الفطرة ، وولّوا وجوهكم شطره . ويا من أثقله الهم ، وأحاط به الغم ، وهزه الألم الجم ، قل لا إله إلا الله .
ويا من أثقلته الديون ، أو غيبته الشجون ، وبات وهو محزون ، قل لا إله إلا الله .
ويا من اشتد به الكرب ، وعلاه الخطب ، اذكر الرب ، وقل لا إله إلا الله .
هي أجمل الكلمات قلها كلما
ضج الفؤاد وضاقت الأزمان
اقرأها بعين الروح ، قبل أن تقرأها بعينك في اللوح ، واكتبها في سويداء قلبك ، لتحملها إلى ربك ، وتتخلص من ذنبك .
ولما قيل لفرعون ، قل لا إله إلا الله ، تلعثم الحمار وتعثر ، فدس أنفه في الطين وتدثر . وقيل لأبي لهب قل لا إله إلا الله ، قال الخسيس ، أبى علي الجليس ، والأخ الرئيس ، إبليس . تقيأ شاعر البعث المخذول ، ليقول :
آمنت بالبعث رباً لا شريك له
وبالعروبة ديناً ما له ثاني
قلنا يا شاعر البعث ، وعزة ربي ليخزينك يوم البعث . يا شاعر الخمر والحشيشة ، قد أرغم أنفك أبو ريشة ، فقال :
أمتي كم صنم مجدته
لم يكن يحمل طهر الصنمِ
من يأخذ تعاليمه من باريس ، حشر مع شيخه إبليس .
يا مسكين ، تتعلم حروف الهجاء من بكين ، وتهجر رسالة نزل بها الروح الأمين ، على سيد المرسلين ، من رب العالمين .
يرضع الوليد حليب التوحيد ، حتى يأتيه الحليب الصناعي من مدريد ، ليرتد المريد .
صوت التوحيد يرتفع على كل صوت ، وقوته خير من كل قوت ، لخصه أبو بكر فقال : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت
لولا أن كلمة أحد ، في قلب بلال مثل جبل أحد ، ما صمد .
التوحيد له كتاب ، وله قلم جذّاب ، ومداد جميل ، وكاتب جليل ، فكتابه الكون وما فيه ، وقلمه قلبك النبيه ، ومداده دمعك المترقرق ، والكاتب إيمانك المتدفق .
التوحيد له رسالة أبدية ، ودعوة سرمدية ، ولأصحابه إلى مستقرهم ممر ، وبعد مرورهم مستقر . فرسالة التوحيد إفراد الباري بالألوهيه ، والربوبيه ، ودعوته اتباع سيد البشريه ، ورسول الإنسانيه . وممر أصحابه الصراط المستقيم ، ومستقرهم جنات النعيم .
للتوحيد منبر ، ومخبر ومظهر ، ومسك وعنبر .
فمنبره القلب ، إذا أخلص للرب ، ومخبره النيات الصالحات ، ومظهره عمل بالأركان ، وخدمة للديان ، ومسكه الدعاء والأذكار ، وعنبره التوبة والاستغفار .
للتوحيد عين وبستان ، وحرس وسلطان ، وسيف وميدان .
فعينه النصوص الواضحه ، وبستانه الأعمال الصالحه ، وحرسه الخوف والرجاء ، وسلطانه واعظ الله في القلب صباح مساء ، وسيفه الجهاد ، وميدانه حركات العباد .
وللتوحيد قضاة وشهود ، وأعلام وجنود ، وحدود وقيود .
فقضاته الرسل الكرام ، وشهوده العلماء الأعلام ، وأعلامه شعائر الدين ، وجنوده فيلق من الموحدين ، وحدوده ما جاء به الخبر ، وصح به الأثر ، وقيوده ما ورد من شروط ، للتوحيد المضبوط .
من دعائم التوحيد ، عدم صرف شيء من العبادة لغير المعبود ، وتحريم تقديم شيء من لوازم الألوهية لغير الله مما في الوجود ، وركيزته إخلاص ليس فيه رياء ، وعلامته إخبات ليس معه ادعاء .
فلا تُعبد النجوم ولكن يُعبد مُركبها ، ولا تعبد الكواكب بل يعبد مكوكبها ، ولا يُؤلّه حجر ، ولا بشر ، ولا شجر ، ولا مدر ، بل يؤلّه من فجر من الحجر الماء ، وأوجد الأحياء ، وخلق الشجر كأنها أصابع الأولياء ، فسبحان رب الأرض والسماء .
الوحي هز أبا جهل هزّا ، لأنه يتهزّى ، وسجد للاّت والعزّا . قاتل الله هبل ، ومن طاف حوله ورمل ، أو نذر له أيّ عمل ، يا من خاف على نفسه من الحريق ، والدمار والتمزيق ، احذر من الشرك وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ إذا أخلصت التوحيد جاءك النصر ، وادخر لك الأجر ، ومحا عنك الوزر .
سمع أحد العباد قارئاً يتلوا فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فقال أواه ، وارتفع بكاه ، وكان أحد الملوك الصالحين ، يسمع أحد القراء يقرأ بتلحين شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فجلس يبكي ويقول وأنا أشهد مع الشاهدين .
قال أبو معاذ الرازي ، لو تكلمت الأحجار ، ونطقت الأشجار ، وخطبت الأطيار، لقالت لا إله إلا الله الملك القهار . ولما قال فرعون اللعين : فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قال : رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ، فكأنما لكمه بالجواب ، ولطمه بالخطاب . ولما قال إمام التوحيد للنمرود العنيد فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ ، بهت وكُذّب ، وخسر وعُذِّب ، وهذا لظهور آيات التوحيد وقوة سلطانه ، وعزة أهله وأعوانه ، وقد أمهر يحيى بن زكريا التوحيد رأسه ، وقدم حمزة لما غمره من نور التوحيد رأسه ، ولما ذاقه جعفر ، تقطع وبالرمل تعفر ، وذبح الخلفاء على بساطه ، وضرب الأئمة على التوحيد بأيدي الظلم وسياطه ، ونحر الشهداء على فراش التوحيد وبلاطه ، وكم من موحد وضع في الزنزانة ، لما أعلن إيمانه .
ولما نطق حبيب بن زيد ، بكلمة التوحيد ، عند مسيلمة الكذاب العنيد . قطّعه بالسيف فما أَنْ ، ولا قال له تأن ، بل اشتاق إلى الجنة وحن ، ولما ذهبوا بعبد الله بن حذافة إلى القدور ، والجثث فيها تدور ، والتوحيد في قلبه يمور ، بكى وقال : يا ليت لي بعدد شعر رأسي أرواح ، لتذوق القتل في سبيل الله والجراح .
وضرب طلحة يوم أحد بالسيوف والرماح ، فما شكى ولا صاح ، حتى سال بالدم جبينه ، وشُلت يمينه ، ويبقى دينه ، لأن التوحيد قرينه . وقاتل مصعب قتال الأسود ، حتى وسّد اللحود ، لأنه وحّد المعبود . ولما حضر عبد الله بن جحش معركة أحد ، دعا واجتهد ، بكلام يبقى إلى الأبد ، فقال : اللهم هيئ لي عدواً لك شديد حرده ، قوي بأسه ، فيقتلني فيك فيجدع أنفي ، ويبقر بطني ، ويفقأ عيني ، ويقطع أذني ، فإذا لقيتك يا رب فقلت لي : يا عبد الله لم فعل بك هذا ؟ قلت : فيك يا رب . فهل سمعت نشيداً كهذا النشيد ، وهل أطربك قصيداً كهذا القصيد ، لأنه من ديوان التوحيد .
وضع أحدُ الظلمة أحدَ الأولياء ، بين يدي الأسد ليتركه أشلاء ، شمّه الأسد ثم تركه وذهب ، قيل للولي : لماذا تركك ؟ قال : بسبب التوحيد وهو أعظم سبب ، قالوا : فماذا كنت تفكر ؟ قال : كنت أفكر في سؤر الأسد هل هو طاهر أم نجس يطهر .
واعلم أن صدق التوحيد أقام بعض الأولياء ، في الليلة الظلماء ، في ذروة الشتاء ، يتوضأ بالماء ، ويقطع الليل بالصلاة والدعاء ، والمناجاة والبكاء ، وحرارة التوحيد أيقظت في الصالحين ، ذكر الله كل حين ، فلهم بالتسبيح زجل وحنين ، وعزيمة التوحيد دفعت المنفقين ، وجعلتهم بأموالهم متصدقين ، على الفقراء والمساكين .
إذا ناداك نوح التوحيد ، وقال اركب معنا أيها العبد الرشيد ، فلا تفوتك سفينة الحميد المجيد ، وَجَدَ إبراهيم بن أدهم ورقة مكتوب فيها الله وقد سقطت في الطريق فبكى وحملها ، وطهرها وطيبها ، فطهر الله نفسه ، وطيّب اسمه ، وقد أوصى صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل ، أن يكون أول ما يدعو إليه توحيد الله عز وجل . وكان يبدأ بالتوحيد خطبه ، ويخط به كتبه ، ويدعو إليه ليلاً ونهارا ، وسراً وجهارا .
المقـامَــــة الإلـهيـــة
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا
(( سـبحانك ما عبـدناك حـق عبـادتك ))
تأمل في نبات الأرض وانظر
عيون من لجين شاخصات
على قضب الزبرجد شاهدات
إلى آثار ما صنع المليك
بأحداق هي الذهب السبيك
بأن الله ليس له شريك
الله رحيم لطيف ، الله بيده الأمر والتصريف ، الله أعرف المعارف لا يحتاج إلى تعريف ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، ولا نرجو سواه ، عظيم السلطان والجاه ، أفلح من دعاه ، وسعد من رجاه ، وفاز من تولاه ، سبحان من خلق وهدى ، ولم يخلق الخلق سدى ، عظم سلطانه ، ارتفع ميزانه ، وجمل إحسانه ، كثر امتنانه .
إليك وإلا لا تشد الركائب
وفيك وإلا فالغـرام مضيّع
ومنك وإلا فالمـؤل خائبُ
وعنك وإلا فالمحدث كاذبُ
علام الغيوب ، غفار الذنوب ، ستار العيوب ، كاشف الكروب ، ميسر الخطوب ، مقدر المكتوب ، عظمت بركاته ، حسنت صفاته ، بهرت آياته ، أعجزت بيناته ، أفحمت معجزاته ، جلت أسماؤه ، عمت آلاؤه ، امتلأت بحمده أرضه وسماؤه ، كثرت نعماؤه ، حسن بلاؤه . ما أحسن قيله ، ما أجمل تفصيله ، ما أبهى تنـزيله ، ما أسرع تسهيله ، ليس إلا الخضوع له وسيلة ، وليس لما يقضيه حيلة .
قد كنت أشفق من دمعي على بصري
والله ما ذكرت نفسي معاهدكم
فاليوم كل عزيز بعدكم هانا
إلا رأيت دموع العين هتانا
يسقي ويطعم ، يقضي ويحكم ، ينسخ ويبرم ، يقصم ويفصم ، يهين ويكرم ، يروي ويشبع ، يصل ويقطع ، يعطي ويمنع ، يخفض ويرفع ، يرى ويسمع ، ينصر ويقمع وليّه مأجور ، والسعي إليه مبرور ، والعمل له مشكور ، وحزبه منصور ، وعدوه مدحور وخصمه مبتور ، يسحق الطغاة ، يمحق العصاة ، يدمر العتاة ، يمزق من آذاه .
سبحان من لو سجدنا بالجباه له
لم نبلغ العشر من مقدار نعمته
على لظى الجمر والمحمى من الأبرِ
ولا العشير ولو عشر من العشرِ
من انتصر به ما ذل ، ومن اهتدى بهداه ما ضل ، ومن اتقاه ما ذل ، ومن طلب غناه ما قل ، له الكبرياء والجبروت عز وجل .تم كمالهُ ، حسن جماله ، تقدس جلاله ، كرمت أفعاله ، أصابت أقواله ، نصر أوليائَه ، خذل أعدائَه ، قرّب أحبائه . اطلع فستر ، علم فغفر ، حلم بعد أن قدر ، زاد من شكر ، ذكر من ذكر ، قصم من كفر .
يا رب أول شيء قاله خلدي
فوالذي قد هدى قلبي لطاعته
أني ذكرتك في سري وإعلاني
لأُذهبن بوحي منك أحزاني
لو أن الأقلام هي الشجر ، والمداد هو المطر ، والكتبة هم البشر ، ثم أثنى عليه بالمدح من شكر ، لما بلغوا ذرة مما يستحقه جل في علاه وقهر . اعمر جنانك بحبه ، أصلح زمانك بقربه ، اشغل لسانك بمديحه ، احفظ وقتك بتسبيحه . العزيز من حماه ، المحظوظ من اجتباه ، الغني من أغناه ، السعيد من تولاه ، المحفوظ من رعاه . أرسل الرسل أفنى الدول ، هدى السبيل ، أبرم الحيل ، غفر الزلل ، شفى العلل ، ستر الخلل .
مهما كتبنا في علاك قصائداً
فلأنت أعظم من مديحي كله
بالدمع خطت أو دم الأجفان
وأجل مما دار في الحسبان
في حبك عذب بلال بن رباح ، وفي سبيلك هانت الجراح ، لدى عبيدة بن الجراح، ومن أجلك عرض مصعب صدره للرماح . ولإعلاء كلمتك قطعت يدا جعفر ، وتجندل على التراب وتعفر ، ومزق عكرمة في حرب بني الأصفر . أحبك حنظلة فترك عرسه ، وأهدى رأسه ، وقدّم نفسه ، وأحبك سعد بن معاذ فاستعذب فيك البلاء ، وجرت منه الدماء ، وشيعته الملائكة الكرماء ، واهتز له العرش من فوق السماء .
وأحبك حمزة سيد الشهداء ، فصال في الهيجاء ، ونازل الأعداء ، ثم سلم روحه ثمناً للجنة هاء وهاء . من أجلك سهرت عيون المتهجدين ، وتعبت أقدام العابدين ، وانحنت ظهور الساجدين ، وحلقت رؤوس الحجاج والمعتمرين ، وجاعت بطون الصائمين ، وطارت نفوس المجاهدين .
يا ربي حمداً ليس غيرك يحمد
أبواب كل مملّك قد أوصدت
يا من له كل الخلائق تصمدُ
ورأيت بابك واسعاً لا يوصدُ
أقلام العلماء ، تكتب فيه الثناء ، صباح مساء ، الرماح في ساحة الجهاد ، والسيوف الحداد ، ترفع اسمه على رؤوس الأشهاد ، جل عن الأنداد والأضداد .
للمساجد دوي بذكره ، للطيور تغريد بشكره ، وللملائكة نزول بأمره ، حارت الأفكار في علو قدره ، وتمام قهره .
من أجلك هاجر أبو بكر الصديق وترك عياله ، ولمرضاتك أنفق أمواله وأعماله ، وفي محبتك قتل الفاروق ومزق ، وفي سبيلك دمه تدفق ، ومن خشيتك دمعه ترقرق . ودفع عثمان أمواله لترضى ، فما ترك مالاً ولا أرضا ، جعلها عندك قرضا . وقدَّم عليُّ رأسه لمرضاتك في المسجد وهو يتهجد ، وفي بيتك يتعبد فما تردد .
أرواحنا يا رب فوق أكفنا
لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو
كنا نرى الأصنام من ذهب
نرجو ثوابك مغنما وجوارا
نصب المنايا حولنا أسوارا
فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
تفردت بالبقاء ، وكتبت على غيرك الفناء ، لك العزة والكبرياء ، ولك أجل الصفات وأحسن الأسماء . أنت عالم الغيب ، البريء من كل عيب ، تكتب المقدور ، وتعلم ما في الصدور ، وتبعثر ما في القبور ، وأنت الحاكم يوم النشور . ملكك عظيم ، جنابك كريم ، نهجك قويم ، أخذك أليم ، وأنت الرحيم الحليم الكريم .
من الذي سألك فما أعطيته ، والذي دعاك فما لبيته ، ومن الذي استنصرك فما نصرته ، ومن الذي حاربك فما خذلته . لا عيب في أسمائك لأنها حسنى ، لا نقص في صفاتك لأنها عليا . حي لا تموت ، حاضر لا تفوت ، لا تحتاج إلى القوت ، لك الكبرياء والجبروت ، والعزة والملكوت .
لو أن أنفاس العباد قصائد
ما أدركت ما تستحق وقصّرت
حفلت بمدحك في جلال علاكا
عن مجدك الأسما وحسن سناكا
كسرت ظهور الأكاسرة ، قصّرت آمال القياصرة ، هدمت معاقل الجبابرة ، وأرديتهم في الحافرة . من أطاعك أكرمته ، من خالفك أدّبته ، من عاداك سحقته ، من نادّك محقته ، من صادّك مزّقته .
تصمد إليك الكائنات ، تعنو إليك المخلوقات ، تجيب الدعوات ، بشتى اللغات ، وبمختلف اللهجات ، على تعدد الحاجات ، تفرج الكربات ، تظهر الآيات ، تعلم النيات وتظهر الخفيات ، تحيي الأموات . دعاك الخليل وقد وضع في المنجنيق ، وأوشك على الحريق ، ولم يجد لسواك طريق ، فلما قال : حسبنا الله ونعم الوكيل ، صارت النار عليه برداً وسلاماً في ظل ظليل ، بقدرتك يا جليل . وفلقت البحر للكليم ، وقد فر من فرعون الأثيم ، فمهدت له في الماء الطريق المستقيم . ودعاك المختار ، في الغار ، لما أحاط به الكفار ، فحميته من الأشرار ، وحفظته من الفجار . قريب تجيب كل حبيب .
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما
ما خاب من يرجوك عند ملمّةٍ
أنت القوي الواحد القهار
صمدت إليك البدو والحضار
لو أن الثناء ، لرب الأرض والسماء ، كتب بدماء الأولياء ، على خدود الأحياء ، لقرأت في تلك الخدود ، صحائف من مدح المعبود ، صاحب الجود ، بلا حدود .
ألسنة الخلق أقلام الحق ، فما لها لا تنطق بالصدق ، وتوحده بذاك النطق . لا تمن عليه دمعة في محراب ، فقد مزق من أجله عمر بن الخطاب ، ما لك إلى عبادتك الزهيدة تشير ، وقد نشر الأولياء في حبه بالمناشير .
فاز بلال لأنه ردد أحد أحد ، ودخل رجل الجنة لأنه أحب قل هو الله أحد ، ومدح سبحانه نفسه فقال : الله الصمد ، ورد على المشركين فقال : لم يلد ولم يولد .
سبحان من تحدى بالذباب المشركين ، وضرب العنكبوت مثلاً للضالين ، وذكر خلقه للبعوض إِزراءً بالكافرين ، وحمل الهدهد رسالة التوحيد فجاء بخبر يقين ، وأهلك ناقه أعداءه المعارضين . خلق الأبرار والفجار ، والمسلمين والكفار ، والليل والنهار ، والجنة والنار ، وأنزل كل شيء بمقدار . في القرآن برهانه ، في الكائنات امتنانه ، للمؤمنين إحسانه ، في الجنة رضوانه ، عم الكون سلطانه ، اللهم يا ذا العرش المجيد ، أنت المبدئ المعيد ، أنت الفعال لما تريد ، أنت ذا البطش الشديد ، لا ضد لك ولا نديد ، كورت الليل والنهار ، وجعلت النور في الأبصار ، وحببت العبادة إلى الأبرار ، وأجريت الماء في الأشجار ، أنت الملك الجبار ، والقوي القهار ، والعزيز الغفار ، أسألك بالأسماء التي بالسمو معروفة ، وأسألك بالصفات التي هي بالمجد موصوفة .
عن كل عيب تنـزهت ، وعن كل نقص تقدست ، وعلى كل حال تباركت ، وعن كل شين تعاليت ، منك الإمداد ، ومن لدنك الإرشاد ، ومن عندك الاستعداد ، وعليك الاعتماد ، وإليك يلجأ العباد ، في النوازل الشداد . حبوت الكائنات رحمةً وفضلا، ووسعت المخلوقات حكمةً وعدلا ، لا يكون إلا ما تريد ، تشكر فتزيد ، وتكفر فتبيد ، تفردت بالملك فقهرت ، وتوحدت بالربوبية فقدرت، تزيد من شكرك ، وتذكر من ذكرك ، وتمحق من كفرك ، حارت في حكمتك العقول ، وصارت من بديع صنعك في ذهول ، أدهشت بعجائب خلقك الألباب ، وأذهلت الخلائق بالحكم والأسباب ، باب جود عطائك مفتوح ، ونوالك لمن أطاعك وعصاك ممنوح ، وهباتك لكل كائن تغدو وتروح . لك السؤدد ، فمن ساد فبمجدك يسود ، وعندك الخزائن فمن جاد فمن جودك يجود ، صمد أنت فإليك الخلائق تصمد ، مقصود أنت فإليك القلوب تقصد ، تغلق الأبواب عن الطالبين إلا بابك ، ويسدل كل حجاب عن الراغبين إلا حجابك ، خصصت نفسك بالبقاء فأهلكت من سواك ، وأفردت نفسك بالملك فأهلكت من عداك، لا نعبد إلا إياك ، ولا نهتدي إلا بهداك ، أقمت الحجة فليس لمعترض كلام ، وأوضحت المحجة فليس لضال إمام . شرعت الشرائع فكانت لك الحجة البالغة على الضلال ، وبينت السنن فما حاد عنها إلا الجهال ، نوعت العقوبة لمن عصاك ، وغايرت بين النكال لمن عاداك ، جعلت أسباب حياته مماته ، علة إِنطاقه إِسكاته ، أحييت بالماء وبه قتلت ، وأنعشت الأرواح بالهواء وبه أمت ، أشهد أنك متوحد بالربوبية ، متفرد بالألوهية ، أنت الملك الحق المبين ، وأنت إله العالمين ، وكنف المستضعفين ، وأمل المساكين ، وقاصم الجبارين ، وقامع المستكبرين .
ولما جعلت التوحيد شعاري ، مدحت ربي بأشعاري ، فقلت في مدح الباري :
هذا أريج الزهر من بستانه
السحر من إخوانه والحب من
أنا ما رويت الشعر من روما
كلا وما ساجلت من عمران
دع لامرئ القيس الغويّ ضلاله
ضل الهداية شكسبير فما روى
لما دعوت الشعر جاء ملبيا
فعففت عن مدح الأنام ترفعاً
لا سيف ذي يزن يتوج مدحتي
أو عاد أو شداد أو ذو منصب
ملك الملوك قصدته ومدحته
والله لو أن السماء صحيفة
والدوح أقلام وقد كتب الورى
لم يبلغوا ما يستحق وقصروا
لو تستجير الشمس فيه من الدجى
أو شاء منع البدر في أفلاكه
حتى الحجارة فجرت من خوفه
وتصدعت شم الجبال لبأسه
وتفتح الزهر الندي بصنعه
والحوت قدسه بأجمل نغمة
حتى الضفادع في الغدير ترنمت
هذى النجوم عرائس في محفل
يا مسرح الأحباب ضيعت الهوى
مجنون ليلى ما اهتدى لرحابه
أو ما قرا عنه وثيقة عهده
الشمس تسجد تحت عرش إلهنا
شعر كأن الفجر في أجفانه
أخدانه والحسن من أعوانه
وما رتلت آي الحسن من لبنانه
أو حطان أو مجنونه أو قبانه
يلقي قفا نبك على شيطانه
إلا نزيف الوهم من هذيانه
يسقى كؤوس الشعر من حسانه
لا تمدحن العبد في طغيانه
أو شكر نابغة على ذبيانه
يُنمى إلى عدنان أو قحطانه
فتراكض الإبداع في ميدانه
والمزن يمطرها على إبانه
مدح المهيمن في جلالة شأنه
وزن الهباءة ضاع في ميزانه
لغدا الدجى والفجر من أكفانه
عن سيره لم يسرِ في حسبانه
والصخر خر له على أذقانه
والطلع خوفاً شق من عيدانه
يزهو مع التسبيح في بستانه
لغة تبز الحسن من سحبانه
بقصائد التقديس في غدرانه
تملي حديث الحب في سلطانه
وضللت يا ابن الطين عن عنوانه
متهتكاً عبثاً مع مجّانه
فيها حديث الصدق من قرآنه
والبدر رمز الحسن في أكوانه
والهدهد احتمل الرسالة غاضباً
غضباً على بلقيس تعبد شمسها
لولاه نوح ما نجا يوم الردى
لما دعاه يونس لباه في
يدعو إلى التوحيد من إيمانه
فسعى لنسف الملك من أركانه
في فلكه المشحون من طوفانه
قاع البحار يضج في حيتانه
اللهم صلى وسلم على نبيك خاتم المرسلين ، ورسول الناس أجمعين ، وعلى آله وصحبه والتابعين .
المقـامَــة الـنـَّبـويَّـــة
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ
صلى عليك الله يا علم الهدى
هتفت لك الأرواح من أشواقها
واستبشرت بقدومك الأيامُ
وازينت بحديثك الأقلامُ
ما أحسن الاسم والمسمَّى ، وهو النبي العظيم في سورة عمّ ، إذا ذكرته هلت الدموع السواكب ، وإذا تذكرته أقبلت الذكريات من كل جانب .
وكنت إذا ما اشتدّ بي الشوق والجوى
أُعلِّل نفسي بالتلاقي وقربه
وكادت عرى الصبر الجميل تفصمُ
وأوهمها لكنّنها تتوهم
المتعبد في غار حراء ، صاحب الشريعة الغراء ، والملة السمحاء ، والحنيفية البيضاء ، وصاحب الشفاعة والإسراء ، له المقام المحمود ، واللواء المعقود ، والحوض المورود ، هو المذكور في التوراة والإنجيل ، وصاحب الغرة والتحجيل ، والمؤيد بجبريل ، خاتم الأنبياء ، وصاحب صفوة الأولياء ، إمام الصالحين ، وقدوة المفلحين وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ .
السماوات شيّقات ظِمــاءُ
كلها لهفة إلى العلَم الها
والفضا والنجوم والأضواءُ
دي وشـوق لذاتــه واحتفـاءُ
تنظم في مدحه الأشعار ، وتدبج فيه المقامات الكبار ، وتنقل في الثناء عليه السير والأخبار ، ثم يبقى كنزاً محفوظاً لا يوفّيه حقه الكلام ، وعلماً شامخاً لا تنصفه الأقلام ، إذا تحدثنا عن غيره عصرنا الذكريات ، وبحثنا عن الكلمات ، وإذا تحدثنا عنه تدفق الخاطر ، بكل حديث عاطر ، وجاش الفؤاد ، بالحب والوداد ، ونسيت النفس همومها ، وأغفلت الروح غمومها ، وسبح العقل في ملكوت الحب ، وطاف القلب بكعبة القرب ، هو الرمز لكل فضيلة ، وهو قبة الفلك خصال جميلة ، وهو ذروة سنام المجد لكل خلال جليلة .
إنْ كان أحببت بعد الله مثـلك في
فلا اشتفى ناظري من منظرٍ حسنٍ
بدو وحضر وفي عرب وفي عجمِ
ولا تفوه بالقـول السديـد فمـي
مرحباً بالحبيب والأريب والنجيب الذي إذا تحدثت عنه تزاحمت الذكريات ، وتسابقت المشاهد والمقالات .
صلى الله على ذاك القدوة ما أحلاه ، وسلم الله ذاك الوجه ما أبهاه ، وبارك الله على ذاك الأسوة ما أكمله وأعلاه ، علم الأمة الصدق وكانت في صحراء الكذب هائمة ، وأرشدها إلى الحق وكانت في ظلمات الباطل عائمة ، وقادها إلى النور وكانت في دياجير الزور قائمة .
وشب طفل الهدى المحبوب متشحاً
بالخير متزّراً بالنور والنار
في كفه شعلة تهدي وفي دمه
عقيدة تتحدى كل جبارِ
كانت الأمة قبله في سبات عميق ، وفي حضيض من الجهل سحيق ، فبعثه الله على فترة من المرسلين ، وانقطاع من النبيين ، فأقام الله به الميزان ، وأنزل عليه القرآن ، وفرق به الكفر والبهتان ، وحطمت به الأوثان والصلبان ، للأمم رموز يخطئون ويصيبون ، ويسدّدون ويغلطون ، لكن رسولنا صلى الله عليه وسلم معصوم من الزلل ، محفوظ من الخلل ، سليم من العلل ، عصم قلبه من الزيغ والهوى ، فما ضل أبداً وما غوى ، إنْ هو إلا وحي يوحى .
للشعوب قادات لكنهم ليسوا بمعصومين ، ولهم سادات لكنهم ليسوا بالنبوة موسومين ، أما قائدنا وسيدنا فمعصوم من الانحراف ، محفوف بالعناية والألطاف .
أثني على مَنْ أتدري من أبجله
أما علمت بمن أهديتُه كلمي
في أصدق الناس لفظاً غير متَّهمٍ
وأثبت الناس قلباً غير منتقم
قصارى ما يطلبه سادات الدنيا قصور مشيدة ، وعساكر ترفع الولاء مؤيدة، وخيول مسومة في ملكهم مقيدة ، وقناطير مقنطرة في خزائنهم مخلدة ، وخدم في راحتهم معبدة.
أما محمّد عليه الصلاة والسلام فغاية مطلوبه ، ونهاية مرغوبه ، أن يعبد الله فلا يشرك به معه أحد ، لأنه فرد صمد ،لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد .
يسكن بيتاً من الطين ، وأتباعه يجتاحون قصور كسرى وقيصر فاتحين ، يلبس القميص المرقوع ، ويربط على بطنه حجرين من الجوع ، والمدائن تفتح بدعوته ، والخزائن تقسم لأمته .
إن البرية يوم مبعث أحمد
بل كرم الإنسان حين اختار من
لبس المرقع وهو قائد أمة
لما رآها الله تمشي نحوه
نظر الإله لها فبدّل حالها
خير البرية نجمها وهلالها
جبت الكنوز فكسّرت أعلامها
لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
ماذا أقول في النبي الرسول ؟ هل أقول للبدر حييت يا قمر السماء ؟ أم أقول للشمس أهلاً يا كاشفة الظلماء ، أم أقول للسحاب سلمت يا حامل الماء ؟
يا من تضوّع بالرضوان أعظمه
فطاب من طيب تلك القاع والأكمُ
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
فيه العفاف وفيه الجود والكرمُ
اسلك معه حيثما سلك ، فإن سنته سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها هلك ، نزل بزُّ رسالته في غار حراء ، وبيع في المدينة ، وفصل في بدر ، فلبسه كل مؤمن فيا سعادة من لبس ، ويا خسارة من خلعه فقد تعس وانتكس ، إذا لم يكن الماء من نهر رسالته فلا تشرب ، وإذا لم يكن الفرس مسوَّماً على علامته فلا تركب ، بلال بن رباح صار باتباعه سيداً بلا نسب ، وماجداً بلا حسب ، وغنيّاً بلا فضة ولا ذهب ، أبو لهب عمه لما عصاه خسر وتبّْ ، سيصلى ناراً ذات لهب .
الفرس والروم واليونان إن ذكروا
هم نمقوا لوحة بالـرق هائمـة
فعند ذكرك أسمال على قزم
وأنت لوحك محفوظ من التهمِ
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ، وإنك لعلى خلق عظيم ، وإنك لعلى نهج قويم ، ما ضلّْ ، وما زلّْ ، وما ذلّْ ، وما غلّْ ، وما ملّْ ، وما كلّْ ، فما ضلّ لأن الله هاديه، وجبريل يكلمه ويناديه ، وما زلّ لأن العصمة ترعاه ، والله أيده وهداه ، وما ذلّ لأن النصر حليفه ، والفوز رديفه ، وما غلّ لأنه صاحب أمانة ، وصيانة ، وديانة، وما ملّ لأنه أعطي الصبر ، وشرح له الصدر ، وما كلّ لأن له عزيمة ، وهمة كريمة ، ونفس طاهرة مستقيمة .
كأنك في الكتاب وجدت لاءً
محرمة عليك فلا تحلُّ
إذا حضر الشتاء فأنت شمس
وإن حل المصيف فأنت ظلُّ
صلى الله عليه وسلم ما كان أشرح صدره ، وأرفع ذكره ، وأعظم قدره ، وأنفذ أمره ، وأعلى شرفه ، وأربح صفقه ، من آمن به وعرفه ، مع سعة الفناء ، وعظم الآناء ، وكرم الآباء ، فهو محمد الممجد ، كريم المحتد ، سخي اليد ، كأن الألسنة والقلوب ريضت على حبه ، وأنست بقربه ، فما تنعقد إلا على وده ، ولا تنطق إلا بحمده ، ولا تسبح إلا في بحر مجده .
نور العرارة نوره ونسيمه
وعليه تاج محبة من ربه
نشر الخزامى في اخضرار الآسي
ما صيغ من ذهب ولا من ماسي
إن للفطر السليمة ، والقلوب المستقيمة ، حب لمنهاجه ، ورغبة عارمة لسلوك فجاجه ، فهو القدوة الإمام ، الذي يهدى به من اتبع رضوانه سبل السلام .
صلى الله عليه وسلم علم اللسان الذكر ، والقلب الشكر ، والجسد الصبر ، والنفس الطهر ، وعلم القادة الإنصاف ، والرعية العفاف ، وحبب للناس عيش الكفاف ، صبر على الفقر ، لأنه عاش فقيرا ، وصبر على جموع الغنى لأنه ملك ملكاً كبيرا ، بعث بالرسالة ، وحكم بالعدالة ، وعلم من الجهالة ، وهدى من الضلالة ، ارتقى في درجات الكمال حتى بلغ الوسيلة ، وصعد في سلّم الفضل حتى حاز كل فضيلة .
أتاك رسول المكرمـات مسلمـاً
فأقبل يسعى في البساط فما درى
يريد رسول الله أعظم متقي
إلى البحر يسعى أم إلى الشمس يرتقي
هذا هو النور المبارك يا من أبصر ، هذا هو الحجة القائمة يامن أدبر ، هذا الذي أنذر وأعذر ، وبشر وحذر ، وسهل ويسر ، كانت الشهادة صعبة فسهّلها من أتباعه مصعب ، فصار كل بطل بعده إلى حياضه يرغب ، ومن مورده يشرب ، وكان الكذب قبله في كل طريق ، فأباده بالصديق ، من طلابه أبو بكر الصديق ، وكان الظلم قبل أن يبعث متراكماً كالسحاب ، فزحزحه بالعدل من تلاميذه عمر بن الخطاب ، وهو الذي ربى عثمان ذو النورين ، وصاحب البيعتين ، واليمين والمتصدق بكل ماله مرتين ، وهو إمام علي حيدره ، فكم من كافر عفرّه ، وكم من محارب نحره ، وكم من لواء للباطل كسره ، كأن المشركين أمامه حمر مستنفرة ، فرت من قسوره .
إذا كان هذا الجيل أتباع نهجه
وقد حكموا السادات في البدو والحَضَرْ
فقل كيف كان المصطفى وهو رمزهم
مع نوره لا تذكر الشمس والقَمرْ
كانت الدنيا في بلابل الفتنة نائمة ، في خسارة لا تعرف الربح ، وفي اللهو هائمة ، فأذّن بلال بن رباح ، بحي على الفلاح ، فاهتزت القلوب ، بتوحيد علاّم الغيوب ، فطارت المهج تطلب الشهادة ، وسبحت الأرواح في محراب العبادة ، وشهدت المعمورة لهم بالسيادة .
كل المشارب غير النيل آسنة
وكل أرض سوى الزهراء قيعان
لا تنحر النفس إلا عند خيمته
فالموت فوق بلاط الحب رضوان
أرسله الله على الظلماء كشمس النهار ، وعلى الظمأ كالغيث المدرار ، فهز بسيوفه رؤوس المشركين هزّاً ، لأن في الرؤوس مسامير اللات والعزى ، عظمت بدعوته المنن ، فإرساله إلينا أعظم منّة ، وأحيا الله برسالته السنن ، فأعظم طريق للنجاة إتباع تلك السنة . تعلم اليهود العلم فعطلوه عن العمل ، ووقعوا في الزيغ والزلل ، وعمل النصارى بضلال ، فعملهم عليهم وبال ، وبعث عليه الصلاة والسلام بالعلم المفيد ، والعلم الصالح الرشيد .
أخوك عيسـى دعا ميْتـاً فقام له
وأنت أحييت أجيالاً من الرممِ
قحطان عدنان حازوا منك عزّتهم
بك التشرف للتـاريخ لا بهمِ
المقـامَــة الـكـونيــــة
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ
وكتابي الفضاء أقرؤ فيه
صوراً تدهش العقول وحسن
سوراً ما قرأتها في كتابي
يسكب السحر في الصخور الصلابِ
سبحان من له في كل شيء آية ، ليس لملكه نهاية ، وليس لعظمته غاية ، اقرأ آيات القدرة في صفحة الكون ، وطالع معجزة الخلق في الحركة والسكون ، في الليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس ، في السمك السارب ، في النمل الدائب ، في هالة النور تنشر رداء السناء ، في الفضاء ، في النهار يتماوج ، في البحر هائج مائج ، في النحل يلثم الأزهار ، في الليل يعانق النهار ، في الدمع يترقرق ، في الدماء تتدفق ، في الزهر يتشقق ، في الدواب السائمة ، في الوحوش الهائمة ، في الطيور الحائمة ، في الحيتان العائمة ، في العود يشتد ، في الظل يمتد ، في الجبال ترتدي عمائم الثلوج ، في القمر يهرول في البروج ، في الشمس تتبرج سافرة على العالم ، في النبت ما بين نائم وقائم .
في الأسرار تكنزها الضمائر ، في الأخبار تختزنها السرائر.
في الصخور كأنها تنتظر خبرًا من السماء فهي صامتة ، في الحجارة يكسرها الإنسان بفأسه وهي ساكتة ، في الفجر يطلق من عباءته النور ، في الأذهان بالأفكار تمور ، في الماء ينهمر من السماء ، ويغوص في الرمضاء ، يُقبِل بالخضرة والنماء ، ويدلف بالحياة للأحياء، يهيج أحيانا ويهدر ، ويزحف ويدمر ، لا تحدُّه الحدود ، ولا تردُّه السدود ، وعظمته سبحانه في خلق الإنسان ، وتركيبه في أحسن كيان ، حيث جعل في العينين سراجًا من النور، وأنشأ في القلب بصيرة تدرك الأمور ، وخلق العقل يقود هذا الكائن ، ويوجهه وهو ساكن ، في النبتة تشق طريقها إلى الفضاء ، وترفع رأسها إلى السماء ، في العندليب يرتجل على الغصن كالخطيب ، في الحمام يشدو بأحسن الأنغام ، يشكو الحب والهيام ، والعشق والغرام ، في الغراب يخبأ رزقه في الخراب ، ويدفن خصمه في التراب ، في الأسد يطارد القنيصة ، ويمزق الفريسة . في النحل يئِنّ ، والذباب يطِنّ ، في الزنبور يرِنّ .
في عالم النبات ، آلاف المذاقات ، ومئات الطعومات ، أخضر يعانق أحمر ، وأصفر يضم أغبر ، في الأوراق تميس في الطل ، في الحشرات تهرب إلى الظِّل .
في الناقة تحِنُّ إلى وليدها ، وتشتاق إلى وحيدها ، في الليل يخلع ثيابه على الآفاق ، في الضباب يخيّم على الأرض كالأطباق ، في النار تحرق ، في الماء يغرق .
في الضياء يسطع ، في الضوء يلمع ، في العين تدمع ، في البرق يكاد يذهب سناؤه بالأبصار ، في الصواعق تقصف الصخور والأشجار ، في الرعد يدوِّي فيملأ العالم ضجيجا ، في الروض يفوح فيعبق به الجو أريجا .
في أهل السلطان بين ولاية وعزل ، وأسرٍ وقَتْل ، وهزيمةٍ ونَصْر ، وسِجْنٍ وقَصْر ، في الموت يخترم النفوس ، ويسقط على الرؤوس ، ويأخذ الرئيس والمرؤوس ، ويبزّ العريس والعروس ، ويهدم الأعمار ، ويعطِّل الأفكار ، ويخلي الديار ، ويدخل كل دار .
في صنف من البشر ، يعيشون البطر ، له أموال كالجبال ، وآمال كأعمار الأجيال ، قصور تشاد ، كأنها لن تباد ، وحدائق غنّاء ، وبساتين فيحاء .
وفي صنف آخر فقير ، في دنياه حقير ، لا يملك الفتيل ولا القطمير ، يبحث عن الرغيف ، وينام على الرصيف ، ولقلبه من خوف الفقر رجيف .
في أهل العافية يمرحون ، وفي نعيمهم يسرحون ، وبما أوتوا يفرحون . وفي أهل البلاء ، وفي أصحاب الضنك والشقاء ، في ظلمات المحيطات ، وفي متاهات الغابات ، وفي مجاهل الفلوات . أرض تمتد بلا بشر ، صحارٍ قاحلة ليس فيها شجر ، وعوالم موحشة ما يسكنها بدو ولا حضر .
نجوم تسقط ، وكواكب تهبط ، ونيازك تلتهب ، ترمي بشرر ولهب ، مجرّات سميّة ، ومنازل قمريّة ، حدائق بأثواب الحسن تسر الناظرين ، ومشاهد في الكون جميلة تأخذ ألباب المبصرين ، رياض أنيقة تسرح فيها الغزلان ، باقات من الورود بهيجة يلعب بها الولدان .
كل في فلكٍ يسبح ، وكلٌّ في عالم يمرح ، شمس تجري كأنها تبحث عن مفقود ، قبل أن تطلع تسجد للمعبود ، آية باهرة ، وحكمة ظاهرة ، في خلق الإنسان ، ذلك الكيان ، الذي يحمل جامعات من السكنات والحركات ، فذهن متوقد ، وقلب متجدد ، وخيال يطوي الزمان والمكان ، ويناقل الإنسان ، بين خوف وأمان ، وذاكرة حافظة ، وألسنةٌ لافظة ، وشركات في كل الأعضاء ، منها يجذب الهواء ، ويسحب الماء ، ويهضم الغذاء ، ويجلب الدواءْ ، ويُذهب الداء ، ما بين دفعٍ وضغط ، وإخراج وشفط ، ومؤسّسات تشارك في بناء الجسم ، وفي قيام الرسم ، ليكون في أحسن تقويم ، وأكمل تنظيم ، في الطير وهو يبحث عن طعامه ، ويعود إلى مستقرّه ومنامه ، في الكائنات وهي في صراع محموم ، وفي هموم وغموم ، لتحصل على رزقها المقسوم ، وعيشها المعلوم ، في الإنسان وهو يفكِّر ويقدِّر ، ويقدِّم ويؤخِّر ، ويخطّط وينظر ، في الجبال ، واقفة في هيبة وجلال ، في الروابي الخضراء آية في الجمال ، في العافية والأسقام ، في الحقيقة والأحلام ، في اليقين والأوهام ، في الأقدام والأحِجام ، في السحاب والسراب ، والضباب والرضاب.
في الأحياء ، وحُبِّها للبقاء ، ومدافعتها للأعداء ، فهذا بمخلبه يصول ، وهذا بنابه يجول ، وهذا بمنقره يناضل ، وذاك بريشه يقاتل ، وآخر بسُمِّه يدفع ، وغيره بجناحه يردع ، منهم من يطير ، ومنهم من يسير ، ومنهم من يسبح ، ومنهم من يمرح ، ومنهم على رجلين ، ومنهم على يدين ، ومنهم من يطير بجناحين ، هذا يزحف ، وذاك يخطف ، وهذا في قيْدِه يرسُف ، في التقاء الأحباب والفراق ، في الضم والعناق ، في الركود والانطلاق .
في النجمة هائمة في صفحة السماء تبسم في حنادس الليل ، في البدر تفنيه الليالي ويدركه المحاق كأنه قتيل ، في روعة الإشراق ، وقد نشرت الشمس ضفائرها ونثرت جدائلها على التلال ، وبثَّت سِحْرها على الجبال .
في الطبيب يشفي من الداء ، فإذا أدركه الفناء ، بار فيه الدواء ، وعجز في علاجه الأطبّاء ، في المريض ييأس من العافية ، وتحار فيه الأدوية الظاهرة والخافية ، ثم تدركه من الله عناية شافية ، ورحمة كافية ، في البراكين تثور بالدمار ، في الزلازل تهز الديار ، في السُّم يُصنع منه الدواء ، في الماء يكون سبباً للفناء ، في الهواء يعصف فيدمر الأشياء ، في الريح تكون رخاءً فتلقح الثمار ، وتسوق الأمطار ، وتزجي السفن في البحار ، ثم تكون عاصفة هوجاء ، فتقتل الأحياء ، وتنقل الوباء ، في النخل باسقات لها طلع نضيد ، في الجبال تثبت الأرض وقد كادت تميد ، في الَّلبن يخرج من بين فرثٍ ودم، في كل مخلوق كيف وُجِد من العدم ، في الإبل كيف خُلقت ، في السماء كيف رُفعت ، في الجبال كيف نصبت ، في الأرض كيف سُطِحت ، في الضحى إذا ارتفع ، في الغيث إذا همع ، في خلق الإنسان كيف ينكس ، وفي عمره كيف يعكس ، يعمّر فيعود كالطفل ، فلا يُفرِّق بين فرضٍ ونفل ، في الطائر كيف يجمع القَش ، ويبني العُش ، ويختار عيضه ، ثم يضع بيضه ، في العجماوات ما بين جائع وبطين ، في الدود تبحث عن طعامها في الطين ، في البلبل يحبس في القفص فلا يبيض ، ويعيش بجناح مهيض ، في الحيّة وهي في الصحراء ، تنصب جسمها كأنه عود للإغراء ، فيقع عليها الهدهد ، يظنها عود مجرَّد ، فيكون طعامها ، بعد أن رأى قيامها ، في الثمرة تحمى بأشواك ، كأنها أسلاك ، في الأطعمة ما بين حلو وحامض ، وقلوي وقابض، في الناس ألف كواحد ، واحد كجيش حاشد ، في البشر ما بين عاقل حصيف، وطائش خفيف ، وتقيٍّ متنسِّك ، وفاجر متهتِّك ، في الأرواح كيف تتآلف وتتخالف ، في اختلاف الأصوات ، وتعدد الّلهجات ، وتباين النغمات ، وكثرة اللغات ، في الحر يكاد يذيب الحديد ، في البرد يحول الماء إلى جليد ، في الأرض يعلوها من الغيث بُرد أخضر ، ويكسوها من القحط رداء أغبر ، في المعادن تذوب بالنار ، فتسيل كأنها أنهار ، في السماء تتلبّد بالغيوم ، ولها وجوم ، كأن وجهها وجه مهموم ، أو طلعة مغموم ، في الشمس تكسف ، في القمر يخسف ، في كل ما ننكر ونعرف ، في كل مولود حين يوضع ، كيف يهتدي إلى الثدي فيرضع ، إن عاش الحيوان في جو معتدل كساه بالشعر ، وإن عاش في برد قارص غطاه بالوبر ، وإن عاش في الصحاري دثره بالصوف ، ليقاوم الحتوف ، حيوان الغاب يزوده بناب ، ويمنحه مخلاب ، وطير العريش يقويه بريش ليعيش ، ينبت في الصحراء شجرة جرداء ، تصبر لحرارة الرمضاء ، ووهج البيداء ، ويزرع في البستان شجرة ذات رواء وأغصان ، ندية الأفنان ، مختلفة الطعوم والألوان ، جعل الصيد في البيد ، ليحمي نفسه من التهديد ، علّم العنكبوت ، كيف تبني البيوت ، وهدى النملة لادّخار القوت ، جعل فوق العينين حاجبين ، ليحميهما من ضرر المعتدين ، وجعل أمامها رمشين ، لتكون في حرز أمين ، وجعل فيهما ماء تغتسلان به كل حين ، يسلط الرياح على السحاب ، فيقع التلاقح والإنجاب ، إن شاء جعل الهواء عليلاً ، يحمل نسيماً جميلاً ، وإن شاء جعله ريحاً عاصفة ً، مدمرة قاصفة ، سبحان من حكم الكون بالقهر ، مع علو القدر ، ونفاذ الأمر ، له الملكوت والجبروت ، وهو حي لا يموت ، أحسن كل شيء خلقه ، وتكفل بكل حي يوم رزقه ، أوجد الحب وفلقه ، تسمى بأحسن الأسماء، واتصف بأجمل الصفات والآلاء ، عطاؤه أنفع عطاء ، جلّ عن الشركاء ، نصر الأولياء ، وكبت الأعداء ، عبادته فرض ، والصدقة عنده قرض ، وسلطانه عمّ السماء والأرض ، يعلم الغيوب ، ويقدر المكتوب ، ويمحو الذنوب ، ويستر العيوب ، ويهدي القلوب ، وينقذ المكروب ، نعمه لا تعد ، ونقمه لا تصد ، وعظمته لا تحد ، وعطاياه لا ترد ، منصورٌ من والاه، سعيدٌ من دعاه ، موفَّق من رجاه ، مخذول من عصاه ، مدحور من عاداه .
من الذي قد استوى
ومن هو العظيم
ومن يجيب الداعي
ومن برى البرية
من أنزل الكتابا
من كسر الأكاسرة
من علم الإنسانا
من أسدل الظلاما
من أطعم الخليقة
الخير قد أسداه
والشر قد أباده
وهو عظيم القدرة
يفعل ما يريد
وهو المسمى بالصمد
يعرف بالآلاء
فلا تكيف في الصفة
ولا تجادل فيهِ
وقل نعم سلّمنا
واتبع الرسولا
وكن على نهج السلف
واحترم الصحابة
وكن تقيّاً واتبع
وعظم الحديثا
واطلب هديت علما
أوله التوحيدُ
واجتنب الكلاما
ومنطقاً وفلسفة
واتبع الأئمة
كالخلفاء الأربعة
كذا أبو حنيفة
ومالك بن أنسِ
والشافعي محمّدْ
وأحمد بن حنبل
وشيخنا سفيان
والبارع الأوزاعي
وأحمد الحرّاني
وبعده محمّد
وهذه وصيّة
موجزة لطيفة
نظمتها على عجل
فهو أحق من ذُكِر
أسأله التوفيقا
وأشرف الصلاةِ
المصطفى وصحبهِ
لملكه قد احتوى
والمنعم الكريم
لأشرف المساعي
ووسع البرّية
وعلم الصوابا
من قصر القياصرة
علمه البيانا
ونشر الغماما
وأوضح الطريقة
والعبد قد هداه
والحق قد أعاده
فقدرنَّ قدره
وبطشه شديد
فقل هو الله أحد
والوصف والأسماء
وغلّط المكيّفة
كمذهب السفيهِ
يا ربنا علّمنا
ولا تكن جهولا
واحذر أخي من الخلف
والآل والقرابة
ولا تطع أهل البدع
وسر له حثيثًا
حباك ربي الفهما
يعرفه العبيدُ
والزور والآثاما
فكل هاتيك سفه
فهم نجوم الأمة
أهل العلا والمنفعة
علومه شريفة
في العلم كالمؤسسِ
في علمه مجودْ
إمامنا المبجل
بزهده مزدانُ
قد جدّ في المساعيِ
العالِم الرباني
من نجد جا يجدد
أبياتها محصيّة
في لفظها خفيفة
في ربنا عز وجل
وهو أجلّ من شُكِرْ
والفهم والتحقيقا
لصاحب الآياتِ
آنسنا بحبه
المقـامَــــة الـحـديـثيـّــة
وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى
من زار بابك لم تبرح جوارحه
فالعين عن قرةٍ والكف عن صلة
تروي أحاديث ما أوليت من منن
والقلب عن جابر والسمع عن حسن
جاءني عطاء الله السمرقندي ، فبات عندي ، وكان أحد المحدثين ، ويكره الُمحْدِثين في الدين ، فقلنا : أيها الإمام ، عليك السلام : الوقت حثيث ، فحدثنا عن علم الحديث ، فتأوّه ثم قال : مات حفاظه ، فكادت تنسى ألفاظهُ ، ، وأهل الحديث هم الركب الأخيار ، أحباب المختار ، قوم تصدقوا بالأعمار على الآثار ، وقضوا الحياة في الأسفار ، لجمع كلام صفوة الأبرار :
في كل يوم لنا في الأرض مرتحل
نغدو بدار ونمسي بعد في دار
شدّوا العمائم ، وجدّوا في العزائم ، وتسلحوا بالصبر الدائم ، فلو رأيتهم وقد فتحوا الدفاتر ، وقربوا المحابر ، وكتبوا : حدثنا مسدّد بن مسرهد ، أو رواه أحمد في المسند ، أو أخرجه البخاري ، وشرحه في فتح الباري ، لهانت عندك الدنيا بما فيها ، وركبت سفينة الحديث وناديت باسم الله مجراها . ولأقبلت على العلم والكتب ، وهجرت اللهو واللعب ، واللغو والطرب .
يفوح من فم المحدث المسك التِّبتي ، لأن عليه سيماء ( نضَّر الله ، امرأً سمع مني مقالتي ) أنفاس المحدثين تنضح بالطيب ، لأنها حملت اسم الحبيب :
يكون أجاجاً دونكم فإذا انتهى
إليكم تلقى طيبكم فيطيب
بن
بنفسي ذاك المحدث إذا جلس على الكرسي ، وقد حف به الطلاب ، ونشر الكتاب ثم قال : حدثنا محمد بن شهاب ، عندها يرتحل قلبك ، ويكاد يطير لبك ، شوقاً لصاحب التركة ، لما جعل الله في كلامه من البركة . فتصبح الدنيا رخيصة مرفوضة ، لا تساوي جناح بعوضة ، وتشتاق النفوس إلى الجنة ، لما غشيتها أنوار السنة .
إني إذا احتوشتني ألف محبرةٍ
نادت بحضرتي الأقلام معلنة
يكتبن حدثني طوراً وأخبرني
تلك المكارم لا قعبان من لبنِ
أما أخبار المحدثين في الأسفار ، وقطع القفار ، وامتطاء البحار ، وركوب الأخطار ، فقد حفلت به الأسفار . ولكنهم في سفرهم يقرؤون كتاب الكون ، في كل حركة وسكون ، فإن المحدث يجد المتعة في ارتحاله ، والبهجة في انتقاله ، من ناد إلى ناد ، ومن جبل إلى واد ، فهو يعب من المناهل ، ويسرح طرفه في المنازل ، ويطلق بصره إلى دساكر الأقطار وغياضها ، وحدائق الديار ورياضها ، فيلمح عجائب البلدان ، ويتصفح غرائب الأوطان ، ويأنس بنغم الطيور في كل بستان ، فهو في تنقل بين حيطان وغيطان ، ووديان وأفنان وألوان ، تمر به الصور والمشاهد ، ويبيت في المساجد ، ويعب الماء النمير ، من كل غدير ، له في كل بلدة أصحاب ، وله في كل قرية أحباب .
يفترش الغبراء ، ويلتحف السماء ، سلم في سفره من أذى الجيران ، وضوضاء الصبيان ، والثقيل من الإخوان ، ينام على الثرا ، في العرا ، خارج القرى ، مركوبه رجلاه ، وخادمه يداه ، البسمة لا تغادر محياه :
ومشتت العزمات لا يأوي إلى
ألِفَ النوى حتى كأن رحيله
سكن ولا أهل ولا جيرانِ
للبين رحلته إلى الأوطانِ
قيل للفلاسفة : من سندكم ؟ قالوا : ابن سينا عن سرجيس بن ماهان ، عن أرسطاليس من اليونان .
وقيل لعلماء الكلام : من سندكم ؟ قالوا : محمد بن الجهم من خراسان ، عن الجهم بن صفوان .
وقيل للمحدثين : من سندكم ؟ قالوا : طاووس بن كيسان ، عن ابن عباس ترجمان القرآن ، عن الرسول سيد ولد عدنان ، عن الرحمن ، كان المحدِّث إذا ودّع أولاده ، وترك بلاده ، وحمل زاده ، يجد من راحة البال ، وطيب الحال ، ما يفوق فرحة أصحاب الأموال ، وما يربو على سرور من ملك الرجال .
إذا جمع بعضهم كلام الفلاسفة ، أهل الزيغ والسفه ، الذي يورث الجدال والمعاسفه ، جمع المحدثون كلام الذي ما ضل وما غوى ، وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى .
وإذا تفاخر أحدهم بجمع كلام علماء الكلام ، أهل الشقاق والخصام ، والفرقة والخصام . تفاخر المحدثون بحديث خير الأنام ، أزكى من صلى وصام ، وحج بالبيت الحرام . قال الشافعي : إذا رأيت محدثا فكأني رأيت أحد أصحاب محمد ، قلت : لأن نهجهم مسدد ، وعلمهم من الله مؤيد .
وقد أطال ثنائي طول لابسه
إن الثناء على التنبال تنبال
أنا لا أريد سَنَدي من إيوان كسرى أنو شروان ، ولا من الرومان ، ولا من اليونان، أريد سندي عن سفيان ، أو سليمان بن مهران ، أو سلمان عن رسول الإنس والجان .
تعلمني كلام الناس بلا دليل ، ولا تأصيل ، وتقول هذا كلام جميل ، وعندي التنـزيل ؟
قيل للحمار ، لماذا لا تجتر ؟ قال : أكره الكذب .
وقيل للجمل لماذا لا ترقص ؟ قال : لا أعرف الطرب .
وتعلمني الفلسفة والمنطق ، وأنا ما عندي وقت للعب .
أريد أن أسمع في المجلس ، حدثنا سبعين مرة ، لتكتمل المسرّة .
أهل الحديث هموا أهل النبي وإن
لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
الحديث النبوي كلام ، لم يخمر في عقول فلاسفة اليونان ، ولم يتعفن في أدمغة فلان وفلان ، ولم يأت من أهواء أهل الطغيان . وإنما قاله من أتى بالقرآن ، تقرأ استنباط أهل الفهوم ، وتطالع كتب أرباب العلوم ، ثم تتلو حديث المعصوم ، فإذا ماء الوحي يترقـرق في جنباته ، ورحيق العصمة يتدفق في قسماته ، فكان كل علم قرأته قبله نسي وانتهى ، لأنه لا يقاوم كلاماً أتى من عند سدرة المنتهى .
السموات شيقات ظماء
لكلام من الرسول جميل
والفضا والنجوم والأنواء
تتلاشى من نوره الأضواء
ما أحسن الضم والعناق ، لجملة حدثنا عبد الرزاق ، كلما قلت أخبرنا علي بن المديني ، حفظت ديني ، سهمي لكل مبتدع يسدد ، إذا قلت حدثنا مسدد بن مسرهد .
أشرقت أمامي المسالك ، كلما قرأت موطأ مالك ، سقيم الإرادة العلمية له علاج ، عند مسلم بن الحجاج ، أدْمغُ كل منحرف بذي ، بسنن الترمذي ، أنا في صباحي ومسائي ، أدعو للنسائي .
هاجر المحدثون إلى الله لطلب كلام رسوله الأمين ، فوجدوا في أول الطريق ثواب نية الصادقين ، ووجدوا في وسطه نضرة البهاء التي دعا بها سيد المرسلين ، ووجدوا في آخر الطريق جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين .
كل صاحب فن ، ينسب إلى صاحب ذاك الفن ، إلا المحدثون فإنهم ينسبون ، إلى من أتى بالسنن ، وأهدى لنا المتن ، وتنعمت بعلومه الفطن .
ما أروع الهمم الكبار لثلةٍ
معروفة بالبر والإحسانِ
يتصيدون كلام أكرم مرسلٍ
ينفون عنه سبيكة البهتانِ
سافر أحمد بن حنبل من بغداد إلى صنعاء ، يمتطي الرمضاء ، ويركب الظلماء ، يترك الأهل ، يدفعه الجبل إلى السهل ، تشيعه الدموع ، يرافقه الجوع . لأن الرجل مشتاق، وأحد العشاق ، لذاك الترياق ، من قوارير عبد الرزاق .
دخل مكحول القرى والبوادي ، وطاف على النوادي ، وعبر كل وادي ، يطلب حديث النبي الهادي ، فصار ريحانة الشام ، وشيخ الإسلام .
ومشى أبو حاتم ، ألف فرسخ على الأقدام ، لطلب حديث سيد الأنـام ، فأصبح بذلك أحد الأعلام .
تهون خطانا للمحب فلو مشى
إليكم فؤادي كان أبرد للشوقِ
المحدثون هم عسكر الرسالة ، وجنود البسالة ، ظهروا على البدع بكتائب حدثنا ، وسحقوا الملاحدة بجيوش أخبرنا .
لولا كتابة الحديث في الدفاتر ، وحمل المحدّثين للمحابر ، لخطب الدجَّال على المنابر
الله كم من أنف لمبتدع أرغم بصحيح البخاري ، وكم من صدر لمخالف ضاق بفتح الباري .
الحديث كسفينة نوح فيها من كل زوجين اثنين : رواية ودراية ، بداية ونهاية ، متون وأسانيد ، صحاح ومسانيد ، تراجم ومعاجم .
من ركب هذه السفينة نجا من غرق الضلالة ، وسلم من بحر الجهالة ، ووصل شاطئ الرسالة .
انطلقت هذه السفينة من المدينة ، ربانها المصطفى ، والركاب الصحابة الأوفياء ، نحن على مائدة المحدثين أضياف ، فلعلنا نعد منهم ، لأن المضاف إليه يأخذ حكم المضاف ، لكل طائفة رئيس ، والمحدِثّون محمد رئيسهم ، وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم ، ليتني خسرت ذهباً مثل ثهلان ، بمجلس واحد مع سفيان .
المحدثون بيوتهم المساجد ، وعصى التسيار التوكل ، وزادهم التقوى ، وكلامهم حدثنا وأخبرنا ، ويريدون وجهه ، والمطلب الجنة ، والمقصد رضوان الله ، والعمل الذب عن الملة ، والنسبة محمديّون .
هذه الطائفة : (( دعها فإن معها حذاؤها وسقاؤها ، ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها ، في جنات ونهر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر )) .
سلام على المحدِّثين ، ورحمة رب العالمين ، ورضوان عليهم في الخالدين ، وجمعنا بهم في الصالحين ، وإلى لقاء بعد حين :
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي
مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
المقـامَــة الـعـلـميّـــة
(( العلمـاء ورثـة الأنبيــاء ))
جعلت المال فوق العلم جهلاً
وبينهما بنص الوحي بون
لعمرك في القضية ما عدلتا
ستعمله إذا طه قرأتا
العلم أشرف مطلوب ، وأجل موهوب ، والعلماء ورثة الأنبياء ، وسادة الأولياء ، والشهداء على الألوهية ، والدعاة إلى الربوبية ، تستغفر لهم حيتان الماء ، وطيور السماء ، وتدعو لهم النملة ، وتستغفر لهم النحلة ، وَلاَيتهم لا تقبل العزل ، وأحكامهم ليس فيها هزل ، مجالسهم عبادة ، وكلامهم إفادة ، يوقعون عن رب العالمين ، ويفضلون الناس أجمعين ، وكما يُهتدى بالنجوم في ظلم البر والبحر ، فهم منائر الأرض يهتدى بهم في كل أمر ، العلم في صدورهم ، والله يهدي بنورهم ، وينـزّل عليهم الرضوان في قبورهم ، هم حملة الوثيقة ، والشهداء على الخليقة ، كلامهم محفوظ منقول ، وحكمهم ماضٍ مقبول ، بهم تصلح الديار ، وتعمر الأمصار ، ويكبت الأشرار ، وهم عز الدين ، وتاج الموحدين ، وصفوة العابدين ، هم أنصار الملة ، وأطباء العلة ، يذودون عن حياض الشريعة ، ويزجرون عن الأمور الفظيعة ، وينهون عن المعاصي الشنيعة ، هم خلفاء الرسول ، ثقات عدول ، ينفون عن الدين تأويل المبطلين ، وتحريف الجاهلين ، وأقوال الكاذبين ، مذاكرتهم من أعظم النوافل ، ومرافقتهم من أحسن الفضائل ، وهم زينة المحافل ، بهم تقام الجماعات والجمع ، وبهم تقمع البدع ، هم الكواكب في ليل الجهل ، وهم الغيث يعم الجبل والسهل ، عالِمٌ واحد ، أشد على الشيطان من ألف عابد ، لأن العالِم يُدرِك الحيل ، ولا تختلط عليه السبل ، يكشف الله به تلبيس إبليس ، ويدفع الله بهم كل دجّال خسيس ، أحياء بعد موتهم ، موجودون بعد فوتهم ، علمهم معهم في البيوت والأسواق ، ويزيد بكثرة الإنفاق ، أقلامهم قاضية ، على السيوف الماضية ، بصائرهم تنقب في مناجم النصوص ، وعقولهم تركب الدر في الفصوص ، الناس يتقاسمون الدرهم والدينار ، وهم يتوزعون ميراث النبي المختار ، لو صلّى العابد سبعين ركعة ، ما عادلت من العالم دمعة ، فهم أهل العقول الصحيحة ، وأرباب النصيحة .
أما العلم شرف الدهر ، ومجد العصر ، ذهب الملك بحراسه ، وبقيت بركة العالم في أنفاسه ، فنِيَ السلاطين ، ووُسِّدوا الطين ، وخلد ذكر أهل العلم أبدا، وبقي ثناؤهم سرمدا ، العلم أعلى من المال ، وأهيب من الرجال ، به عُبِدَ الديّان ، وقام الميزان ، وبه نزل جبريل ، على صاحب الغرة والتحجيل،وبه عرفت شرائع الإسلام ، ومُيِّز بين الحلال والحرام ، وبه وُصلت الأرحام ، وحُلَّ كلُّ نزاع وخصام ، وبالعلم قام صرح الإيمان ، وارتفع حصن الإحسان ، وبيّنت العبادات ، وشرحت المعاملات ، وهو الذي جاء بالزواجر ، عن الصغائر والكبائر ، وفَقِه الناس به الفرائض والنوافل ، والآداب والفضائل ، ونصبت به معالم السُّنن ، وكُشف به وجه الفتن ، ودُلَّ به على الجنة ، ودعي به إلى السنة ، وهو الذي سحق الوثنية ، وهدم كيان الجاهلية ، ونهى عن سبيل النار ، وموجبات العار ، ووسائل الدمار ، وبه حورب الكفرة ، وطورد الفجرة ، وهو من العلل دواء ، والشكوك شفاء ، ينسف الشبهات ، ويحجب الشهوات ، ويصلح القلوب ، ويرضي علاّم الغيوب ، وهو شرف الزمان ، وختم الأمان ، وهو حارس على الجوارح ، وبوَّابة إلى المصالح ، وصاحبه مهاب عند الملوك ، ولو كان صعلوك ، وحامله ممجّد مسوّد ، ولو كان عبداً أسود ، يجلس به صاحبه على الكواكب، وتمشي معه المواكب ، وتخدمه السادة ، وتهابه القادة ، وتكتب أقواله ، وتقتفى أعماله ، وتحترمه الخاصة والعامة ، ويدعى للأمور العامّة ، مرفوع الهامة ، ظاهر الفخامة ، عظيم في الصدور ، غني بلا دور ولا قصور ، الله بُغيته ، والزهد حليته ، مسامرته للعلم قيام ، وصمته عن الخنا صيام ، رؤيته تُذكِّر بالله ، لا يعجبه إلا الذكر وما والاه ، عرف الحقيقة ، وسلك الطريقة ، به تقام الحجة ، وتعرف المحجة، وهو بطل المنابر، وأستاذ المحابر، والمحفوظ اسمه في الدفاتر .
والعلم وسام لا يخلع ، وهو من الملك أرفع ، وهو إكليل على الهامة ، ونجاة يوم القيامة ، ينقذ صاحبه من ظلمات الشك والريبة ، ويخلصه من كل مصيبة، وهو علاج من الوسواس ، وفي الغربة رضا وإيناس ، وهو نعم الجليس والأنيس ، وهو المطلب النفيس .
يغنيك عن المسومة من الخيل ، والباسقات من النخيل ، ويكفيك عن القناطير المقنطرة ، والدواوين المعطّرة .
وحسبك كفاية عن كل بناء ، وعن الحدائق الغناء ، والبساتين الفيحاء ، وهو الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً ، والمُلْك الذي من أعطيه فقد أعطي ملكاً كبيرا ، وصاحب العلم غنيٌّ بلا تجارة ، أمير بلا إمارة ، قويٌّ بلا جنود ، والناس بالخير له شهود .
مات القادات والسادات ، وذكرهم معهم مات ، إلا العلماء فذكرهم دائم ، ومجدهم قائم ، فألسنة الخلق ، أقلام الحق ، تكتب وتخط لهم الثناء ، وأفئدة الناس صحف تحفظ لهم الحب والوفاء ، كان أبو حنيفة مولىً يبيع بزّا ، ولكنه بعلمه هز الدنيا هزّا ، وكان عطاء بن أبي رباح ، خادم لامرأة في البطاح، فنال بعلمه الإمامة ، وأصبح في الأمة علامة ، وابن المبارك عبد الله، المولى الإمام الأوّاه ، والأعمش ومكحول ، كانوا من الموالي ولكنهم أئمة فحول ، فالعلم يرفع صاحبه بلا نسب ، ويشرفه بلا حسب .
وإنما يحصل العلم بخدمته كلَّ حين ، وطلبه ليُعبد به رب العالمين ، وطيُّ الليل والنهار في تحصيله ، والسهر على تفصيله ، ومذاكرته كل يوم ، والاستغناء به عن حديث القوم ، ومطالعة مصنفاته ، ومدارسة مؤلفاته ، وتقييد أوابده ، وحفظ شوارده ، وتكرار متونه ، ومعرفة عيونه .
فمن طلبه بصدق ، وحرص عليه بحق ، فهو مهاجر إلى الله ورسوله ، تفتح له أبواب الجنة عند وصوله ، وهو مرابط في ثغور المرابطين ، وجواد في صفوف المعطين ، ومداده في الأوراق ، كدماء الشهداء المهراق ، لأنه مقاتل بسيف النصوص ، قطّاع طريق الملة واللصوص ، وقد يقمع الله به الأشرار، ما لا يقوم به جيش جرار ، فإن الله يجري حجّته على لسانه ، ويُسيِّر موعظته في بيانه ، فينـزع الله بكلامه حظَّ الشيطان من النفوس ، ويجتث به خطرات الزيغ من الرؤوس ، ويغسل الله بمعين علمه أوساخ القلوب .
وينفض بنصائحه أدران الذنوب ، فكلما بنى إبليس في الأرواح ضلالة جاء العالم فأزهقها ، وكلما نسج في الأنفس خيمة للباطل قام العالم فمزّقها .
صاحب المال مغموم مهموم ، خادم وليس بمخدوم ، حارس على ماله ، بخيل على عياله ، وصاحب العلم سعيد مسرور ، يعمره الحبور ، ويملأ فؤاده النور ، تعلم من السؤدد غايته ، ومن الشرف نهايته تجبى إليه ثمرات كل شيء من لطائف المعارف ، وتهوي إليه أفئدة الحكمة وهو واقف ، يأتيه طلبة العلم من كل فج عميق ، كأنما يؤمون البيت العتيق ، في قلبه نصوص الشريعة ، ينزل عليها ماء الفقه فتهتزّ وتربو ، وتنبت من كل زوج بهيج ، فترى العالم يجول فكره في الملأ الأعلى والناس في أمر مريج ، فقلب العالم له جولان في فضاء التوحيد ، وقلب الجاهل في غابات الجهل بليد ، أشرقت في قلب العالم مشكاة فيها مصباح ، وتنفس في نفسه نور الصباح ، أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها ، فاخضرت روضة العالم على أثرها.
صيد الكلب المعلّم حلال ، وصيد الكلب الجاهل حرام ووبال ، وما ذاك إلا لشرف العلم حتى في البهائم ، ومكانة المعرفة حتى في السوائم .
والهدهد حمل علماً إلى سليمان ، فسطّر الله اسمه في القرآن ،فهو بالحجة دمغ بلقيس، وأنكر عليهم عبادة إبليس ، وحمل من سليمان رسالة ، وأظهر بالعلم شجاعة وبسالة . فعليك بالعلم ، والفهم فيه الفهم ، وتصدَّق عليه بنوم الجفون ، وأنفِق عليه دمع العيون ، واكتبه في ألواح قلبك ، واستعِن على طلبه بتوفيق ربك ، وأتعِب في طلبه أقدامك ، وأشغل بتحصيله أيامك ، وإذا سهر الناس على الأغاني ، فاسهر على المثاني ، وإذا وقع القوم في الملذات ، وأدمنوا الشهوات ، فاعكف على الآيات البينات ، والحكم البالغات ، وإذا احتسى العصاة الصهباء فاكرع من معين الشريعة الغراء ، وإذا سمعت اللاهين يسمرون ، وعلى غيهم يسهرون ، فصاحب الكتاب ، فإنه أوفى الأصحاب ، وأصدق الأحباب ، وإذا رأيت الفلاّح يغرس الأشجار ، ويفجّر الأنهار ، فاغرس شجر العلم في النفوس ، وفجّر ينابيع الحكمة في الرؤوس ، وإذا أبصرت التجار يصرفون الفضة والذهب ، فاصرف الحجة كالشهب ، وأطلق الموعظة كاللهب .
يكفيك أن العلم يَدَّعيه غير أهله ، وأن الجهل ينتفي منه الجاهل وهو في جهله ، يرفع العالم الصادق بعلمه على الشهيد ، لأنه يقتل به كل يوم شيطان مريد ، العالم سيوفه أقلامه ، وصحفه أعلامه ، ومنبره ظهر حصانِه ، وحلقته حلبة ميدانه ، العالم يفرّ من الدنيا وهي تلحقه ، ويأبى المناصب وهي ترمقه ، والعلم هو العضْب المهند ليس ينبو ، وهو الجواد المضمّر الذي لا يكبو ، ولكن المقصود بهذا العلم علم الكتاب والسنة ، الذي يدلك على طريق الجنة ، وهو ما قادك إلى الاتباع ، ونهاك عن الابتداع ، فإن كسرك وهصرك ونصرك ، فهو علم نافع فإن أعجبك وأطربك وأغضبك فهو علم ضار ، ما كسرك عن الدنيا الدنية ، والمراكب الوطيّة ، والشهوات الشهية ، وهصرك عن العلو في الأرض ، ونسيان يوم العرض ، ونصرك على النفس الأمارة ، والأماني الغدارة ، فهذا هو العلم المفيد ، والعطاء الفريد .
وإن أعجبك فتكبرت ، وأطربك فتجبّرت ، وأغضبك فتهوّرت فاعلم أنه علم ضار، وبناء منهار ، علم لا يلزمك تكبيرة الإحرام مع الإمام ، فهو جهل وأوهام ، وعلم لا يدعوك إلى الصدق في الأقوال ، والإصلاح في الأعمال ، والاستقامة في الأحوال ، فهو وبال ، العلم ليس مناصب ومواكب ومراكب ومراتب ومكاسب .
بل العلم إيمان وإيقان وإحسان وعرفان وإذعان وإتقان ، فهو إيمان بما جاء به الرسول ، وإيقان بالمنقول والمعقول ، وإحسان يجوَّد به العمل ، ويحذَر به من الزلل ، وعرفان يحمل على الشكر ، ويدعو لدوام الذكر ، وإذعان يحمل على العمل بالمأمور ، واجتناب المحذور ، والرضا بالمقدور ، وإتقان تصلح به العبادة ، وتطلب به الزيادة .
المقـامَــة السـلفـيّــة
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا
أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
ولا يستطيع الفاعلون فعالهم
ولو حاولوا في النائبات وأجملوا
قال الراوي : نراك صاحب تحف ، فحدثنا عن مذهب السلف ، ليقتدي به الخلف فملأه السرور ، وحضره الحبور ، وغشيه النور ، ثم أنشد :
وداعٍ دعا إذ نحن بالخيف من منى
فهيّـج أشواق الفـؤاد وما ندري
دعـا باسم ليـلى غيـرها فكأنما
أطار بليلى طائراً كان في صدري
ثم قال ذكرتمونا خير القرون ، ونون العيون ، فحديثهم ذو شجون .
فهم أهل الاتّباع لا الابتداع ، وأهل الرواية والسماع ، والأُلفة والاجتماع ، نزل الوحي بناديهم ، وسارت السنة من واديهم ، شهدوا التنـزيل ، وعرفوا التأويل ، قولهم سديد ، وفعلهم رشيد ، ومنهجهم حميد ، ومذهبهم فريد ، اعتصموا بالدليل ، وتركوا القال والقيل ، فهم صفوة كل جيل ، وخلاصة كل قبيل :
هم النجوم مسائلها إذا التبست
عليك عند السرى يا صاحبي السبلُ
اتبع طريقتهم اعرف حقيقتهم
اقرأ وثيقتـهم بالحـب يـا رجـلُ
السلف أهدى الناس سبيلا ، وأصدقهم قيلا ، وأرجحهم تعديلا .
هم أعلام يُهتدى بهم في بيداء الضلالة ، وهم أقمار يستضاء بها في ليل الجهالة ، هم الموازين الصادقة للمذاهب ، وهم المعين العذب لكل شارب ، وهم الرعيل المختار المقتدي به كل طالب . تركوا التشدّق ، والتفيهق ، والتشقق ، والتحذلق ، والتمزق .
وهجروا التعسف والتكلف ، لهم منا الحب الصادق ، والعهد الواثق ، والإجلال والتقدير ، والإكرام والتوقير ، والنصرة والتعزير ، شرف الله تلك الأقدار ، وأنزلهم منازل الأبرار ، وأسكنهم أجل دار ، وأحسن قرار ، لو كتبت دموعنا على خدودنا لما كتبت إلا حبَهم ، لو تمنت قلوبنا غاية الأماني ما تمنّت إلا قربَهم .
أما والذي شق القلـوب وأوجـد
المحبة المحبة فيها حيث لا تتصرمُ
وحملهـا قلـب المحـب وإنـه
ليضعف عن حمل القميص ويألـمُ
لأنتـم على قرب الديـار وبعدها
أحبتنا إن غبتموا أو حضرتمـوا
سلوا نسمات الريح كم قد تحمّلت
محبة صبٍّ شوقـه ليس يكتـمُ
السلف خير منا ، ارتفع قدرهم عنا ، سبقوا بالإيمان ، وحب الديان ، والعمل بالقرآن ، ونيل درجة الإحسان ، هم أهل الهجرة والجهاد ، والصبر والجلاد ، عندهم خير زاد ، ليوم المعاد ، وهم صفوة العباد . السلف ليسوا معطلة ، ولا معتزلة ، ولا مؤوِّلة ، ولا مجهّلة ، ولا مخيّلة .
لأن المعطلة عطلوا الباري مما دلت عليه الأحاديث والآيات ، والمعتزلة نفوا الصفات والمؤولة أوّلوا ما أتت به النصوص الواضحات ، والمجهلة قالوا إن الرسل ليس عندهم إلا تخيلات ، فضلّ الجميع في العقليات ، وجهلوا النقليّات ، فهدى الله أهل السنة لأحسن الأقوال في الظنيات واليقينيات ، والصفات ، والذات .
والسلف ليسوا خوارج أقوالهم كفرية ، وليسوا جبرية ، ولا قدرية ، ولا أشعرية .
لأن الخوارج كفّروا بالكبيرة ، وأخرجوا المسلم من الدين بالجريرة ، وحملوا السيف على أئمة الحيف ، وخلدوا الفاسق في النار ، مع الكفار ، والجبرية قالوا : إن العباد جبروا على الذنوب ، وقهروا على معصية علام الغيوب .
والقدرية قالوا لم يسبق القدر علم ولا كتاب ، والأمر مستأنف خطأه والصواب .
والأشعرية أثبتوا الأسماء وسبعاً من الصفات ، وأوّلوا الباقيات ، ولهم مقالات زائفات ، والسلف قابلوا النصوص بالإذعان والتسليم ، والتوقير والتكريم ، فأمرُّوها على ظاهرها كما جاءت من غير تمثيل ، وقبلوها من غير تعطيل ، وعرفوها من غير تكييف وفهموها من غير تشبيه ولا تزييف .
وأنا إلى السلف انتسب ، لأنني رضعت منهجهم ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، والمبتدعة ليسوا منا ولا إلينا ، لأن البقر تشابه علينا .
إذا أتاني كتاب مختوم ، عليه توقيع المعصوم ، لثمتُه بدموعي وأنفاسي ، ووضعته على راسي ، وقلت سمعاً وطاعة ، لصاحب الحوض والشفاعة .
وإذا جاءني كتاب بالباطل منمرق ، وبالبدعة مزمرق ، وبالبهتان ممخرق ، مزقته كل ممزق . واعظ الله في كل سريرة ، فإذا ألقيت قميص يوسف على يعقوب البصيرة . عاد القلب بنور الوحي بصيرا ، وارتد طرف الباطل حسيرا ، وانفل حد الزور كسيرا . سلام على السلف ، من الخلف ، ما غرد حمام وهتف ، وما حَنّ حبيب لحبيب وعطف ، وما رقص قلب صب ورجف ، وما همع دمع ونزف .
جمرك البضاعة بختم محمد ، واكتب على البطاقة لا يستبدل ولا يجدد ، واقرأ على الكيس خرج من مدينة الرسول ، وحامل الكيس هو المسئول ، واحذر من التزوير ، فإن موزع البريد بصير، وقارئ الرسائل خبير، إذا طلع فجر البشرى من المدينة أَذّنّا ، وإذا رأينا الركب من طيبة أعلنّا ، وإذا سمعنا الهتاف المحمدي أمنّا ، وكلنا حول رايته دندنّا .
خبز كانون الرسالة أبيض ، لا يأكله كل معرض ، الدقيق بالصدق مطحون ، فلا يأكله المبطون ، مالك ؟ لا تهتدي في المسالك ؟ وتقع في المهالك ، نناديك إلى أحمد بن حنبل ، فتذهب إلى أحمد بن أبي دُؤاد المغفل ، ونقول رافق إبراهيم بن أدهم ، فترافق الجعد بن درهم ، تهجر الصادق السلفي يحيى بن معين ، وتصاحب ابن سينا ، وابن سبعين ، ويعجبك كلام ابن الراوندي اللعين ، عليك بمجلس مالك وسفيان ، واهرب من الجهم بن صفوان ، عندنا حماد بن زيد ، وعندهم عمرو بن عبيد ، احذر من الكشاف ، فإنه ليس بكاف شاف ، وأحذرك الفصوص ، فإن بين أسطره اللصوص ، السلف أبرياء من الاختلاف واللّجاج ، وظلم الحجّاج ، وخرافات الحلاّج .
السلف أطهر من ماء الغمام ، وأزكى من المسك والخزام ، حسبهم تزكية الملك العلاّم ، جمعنا الله بهم في دار السلام ، هجروا العلوم المنطقية ، والقضايا السفسطية ، والعقائد القرمطية ، ولزموا الطريقة الوسطيّة .
السلف صادقون لا يكذبون ، عدول لا يظلمون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، ولهذا أمر أبو بكر الصديق بقتل مسيلمة الكذاب ، فمُزق بالحِـراب : عندنا خالدان : سيف الله خالد بن الوليد ، وخالد القسري ذو البطش الشديد ، فخالد ذبح مسيلمة في اليمامة ، وخالد نحر الجعد بن درهم وهو في محراب الإمامة .
لدينا أحمدان ، ولديهم أحمدان ، صادقان ، وكاذبان ، عندنا أحمد بن حنبل ، إمام السنة المبجل ، وعلامة الحديث المفضل ، وأحمد بن تيميّة ، مجدد الأمة الإسلامية ، صاحب التدمرية والحمويّة .
وعندهم أحمد بن أبي دُؤاد ، صاحب البدعة والعناد ، والخلاف والفساد ، وأحمد غلام مرزا قاديان ، حامل الزور والبهتان ، والدجل والطغيان .
عندنا حمادان ، وعندهم حمادان ، عندنا حماد بن زيد ، الراوية المفيد ، والمحدث المجيد ، وحماد بن سلمة ، نصب للصدق علمه ، وأجرى في العلم قلمه ، وعندهم حماد عجرد ، الشاعر المعربد ، والضال الملحد ، وحماد الراوية ، صاحب الأفكار الخاوية ، أمه هاوية .
لشتان ما بين اليزيديـن في الندى
يزيد بن عمرو والأغر بن حاتمِ
فهمُّ الفتى الأزدي إتلاف مالـه
وهمُّ الفتى القيسيّ جمع الدراهمِ
السلف كالعيون ، علاجها أن لا تمس ، وكالدرر جماله أن لا يدس ، والسلف كالماء الزلال فلا تشوّبه بالطين ، وكلامهم مبارك متين ، لا يفهمه إلا فطين .
السلف أعلم ، وأحكم ، وأسلم ، وأحلم ، وأكرم ، والمبتدعة أظلم ، وأغشم ، وأشأم ، وأجرم ، قل لا يستوي الخبيث والطيب ، والقحط والصيّب .
الذباب إذا وقع في الإناء ، فاغمسه فإن في أحد جناحيه داء ، وفي الآخر دواء ، وإذا وقع المبتدع في إناء السنة النبوية ، فاهرقه بالكلية ، لأن في جناحيه كلها بلية .
الكلب المعلّم كُل ما صادَه ، لأنه جعل العلم زاده ، وإذا جاءك المبتدع بصيد ، فقل حرام صيدك يا بليد ، لأنك مفسد رعديد .
بشّر من سبّ السلف ، بكل تلف ، مزّق الله قلباً لا يحب الأسلاف ، وأزهق الله روحاً تهوى المبتدعة الأجلاف ، نفس لا تحترم السلف مريضة ، وروح لا توقّر السلف بغيضة . جزاء علماء الكلام الجريد والنعال ، والسياط الطوال ، والقيد والأغلال ، لأنهم اشتغلوا بالقشور وتركوا اللباب ، وفارقوا السنة والكتاب ، وخالفوا الأصحاب .
السلف : موحدون مسدّدون ، مقتصدون ، عابدون ، مجاهدون ، زاهدون ، متحدون ، متوادون ، متهجدون .
والمبتدعة : متفرقون ، متحذلقون ، متنطعون ، متفيهقون ، متشدقون ،
قلقون ، متمزقون.
نوح الهداية ، ينادي ابن الغواية : اركب معنا ، فإن القارب يسعنا ، فقال الهبل : سآوي إلى جبل ، وما علم أن أعظم جبل ، إتباع سيد الرسل ، وطاعة الملك الأجل ، والعمل بما نزل .
المقـامَــــة الـيوســفـيّـــة
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ
كأن الثريا علقت بجبينه
وفي جيده الشعرى وفي وجهه القمر
ولو نظرت شمس الضحى في خدوده
لقالت معاذ الله ما يوسف بشر
كنا نجلس كل يوم ، مع قوم ، ينتقون من الحديث درره ، ويذكرون لنا العالم بحره وبرّه . فدَلِف علينا يوماً من الأيام ، شيخ ممشوق المقام ، كثير الابتسام ، فصيح الكلام ، فنظر في وجوهنا وتوسّم ، ثم تبسّم وسلّم ، ثم جلس واتكى ، وتأوّه وشكى .
قلنا: ما الخبر ، أيها الشيخ الأغر ؟ قال : تذكرت من غبر ، أهل الأخبار والسير ، فعلمت أننا بالأثر ، قلنا : ما الاسم ، فقد أعجبنا الرسم .
قال : أنا عبيد الله بن حسان ، من أهل ميسان ، قلنا : كلامك محبوب ، فقص علينا قصة يوسف بن يعقوب ، فقال : مهما اهتم العالم بالحفظ وحرص ، لكن الذهن فتر والخاطر نكص . وكفى بقصص الله وهو يقول : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ، لكن سوف أخبركم بوقفات ، والعفو عما نسيناه وفات .
• لما نصح يعقوب يوسف أن لا يقص ما رأى ، لأنه يخشى عليه ما جرى ، فإنه ما خلا جسد من حسد ، وكم من قلب بنعم الغير فسد ، فيا أيها العبد استر جمال يوسف النعم ، خوفاً من أن تلقى في غيابة جب النقم ، فيسلط عليك ذئب البغضاء ، لا ذئب الصحراء :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوّت إنسان فكدت أطير
• لا تعتذر للمخالف ، فيأخذ العذر منك وأنت واقف ، أما ترى يعقوب ، يوم خاف على ابنه الخطوب ، قال : أخاف أن يأكل الذئب يوسف ، فقالوا : أكله الذئب فلا تأسف ، فكأنهّ هيأ لهم الحجة ، حينما ضلوا في المحجّة .
• وجاؤا على قميصه بدم كذب ، لأن الذئب ما خلع الثوب ، بل شقه وسحب ، والذئب لا يفتح الأزرار ، بل يمزقها بلا وقار :
يا ممعنا في السوء والعيب
لا ينفع التهذيب في الذيب
• لو علمت القافلة بمكانة يوسف : ما قالوا : يا بشرى هذا غلام ، بل لقالوا : يا بشرى هذا إمام ، وولي مقدام ، وسيد همام ، ولكن وما أدرى الليل ببدر التمام
• يوسف لديه جمال وجلال ، فردعه وازع الجلال ، عن نوازع الجمال ، لما قال : معاذ الله ، حماه ربه وتولاه .
• لو ترك يوسف كلمة اذكرني عند ربك وذكر هو ربَّه ، لكشف كربه ، وأزال خطبه ، وأسعد قلبه .
• يوسف ما نسي إيمانه ، سُئل عن الرؤى وهو في الزنزانة ، فدعا إلى التوحيد ، لأن التوحيد حياة العبيد ، لا يرده قيد ولا يمنعه حديد .
قد قلت للذئب الوفي لصحبهِ
أأكلت يوسف في العراء بخلسة
فأجابني والله لم أهمم به
إني أحب الأنبياء ومهجـتي
يا صاحب الأظفار والأنيابِ
ودم النبوة سال في الأثوابِ
هذا معاذ الله غير صوابِ
تفدي النبي ومقلتي وإهابي
• الذئاب ما تأكل الأنبياء ، ولا تلطخ أفواهها بدماء الأولياء ، لأنهم أصفياء أوفياء وإنما يقتل الأنبياء ذئاب الخليقة ، إذا عميت عليهم الحقيقة ، وأظلمت عليهم الطريقة:
الذئب أكرم عشرة من ثلة
خانوا عهود مودة الإخوان
• في سورة يوسف قميص بريء من الذئب ، وقميص بريء من العيب ، وقميص مضمخ بالطيب .
فالأول : قميص يوسف وقد مزّقه الإخوان ، والثاني : قميصه وقد مزّقته امرأة السلطان ، والثالث : قميصه وقد ألقي على يعقوب فأبصرت العينان :
كأن كل نداء في مسامعه
قميص يوسف في أجفان يعقوب
• لما قال إخوة يوسف له : وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ، نسوا أنهم هم الذين أوقعوه في هم كثير ، فهو بسبب ما فعلوه في حزنه أسير ، وفي بيته كسير ، فهم يحتجون به وقت الحاجة ، وينسونه وقت اللجاجة .
• لما قال يعقوب : لا تدخلوا من باب واحد ، لأنه خاف الحاسد ، فهو في مكان النعيم قاعد ، فإذا أقبلوا في حملة ، قتلهم جملة ، فَعمِّ على الحسود الأمر ، لتضع في عينيه الجمر .
• الدنيا وجهها نحس ، يباع يوسف بثمن بخس ، وحزن يعقوب يكاد يذهب بالنفس ، والفراعنة بملكهم يفرحون ، وفي دنياهم يمرحون ، وفي نعيمهم يسرحون لكن انظر إلى العواقب ، عندما تكشف عن الأولياء النوائب ، وتزول عنهم المصائب . فإذا الفرحة الغامرة ، والحياة العامرة ، و النعيم في الآخرة .
أما الفجار ، فسحابة نهار ، وراحة حمار ، ثم نكال في أسوء دار .
• هَمَّ يوسفُ هَمّة ، فتذكر علو الهمة ، وإمامة الأمّة ، ففر إلى الباب ، يطلب الطريق إلى الوهاب ، بعد ما هيئت له الأسباب ، لأن يوسف من سلالة الأطياب ، فتاب وأناب .
• يوسف شاب ، من العزاب ، تعرّضت له امرأة ذات منصب وجمال ، وحسن ودلال ، فغلقت الأبواب ، ورفلت في أبهى الثياب ، فتذكر يوم القيامة ، وساعة الندامة ، فقال : أواه معاذ الله ، فمنعه الله وكفاه ، وأنت تتعرض للنساء صباح مساء ، غرك الوجه المبرقع ، والحسن المرقع ، ولا تحذر وتتوقّع .
هب أن نظرتك التي أرسلتها
نظر المهيمن فيك أسرع موقعاً
عادت إليك مع الهوى بغزالي
فخف العظيم الواحد المتعالي
• في قلب يوسف من الوحي نصوص ، وفي قلبك من المعصية لصوص ، في شرايين يوسف دماء الإمامة والدين ، وفي شرايينك شهوة الماء والطين .
• يوسف تخرج من جامعة وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، وأنت تخرجت من جامعة : يشكو العيون السود قلبي والهوى .
لشتان ما بين اليزيدين في الندى
يزيد بن عمرو والأغر بن حاتمِ
• يوسف تربيته على شريعة ، وأخلاق رفيعة ، وبعضهم يربى على مجلات خليعة ، وآداب شنيعة .
• وا أسفي على منهج يوسف ، في هذا الواقع المؤسف ، صورة عارية ، وكأس وجارية ، وشهوات سارية ، كلها تقول : هيت لك ، وليس عند الجيل صرخة
معاذ الله .
• الآن حصحص الحق ، وبان الفرق ، فيا شباب الصدق ، قولوا في أحسن نطق : معاذ الله . من أراد السناء ، والثناء ، والعلياء ، وأن يحمي نفسه من الفحشاء ، والفعلة الشنعاء ، فليحفظ متن الأولياء : معاذ الله .
من عاذ بالله أعاذه ، وأكرم ملاذه .
المقـامَــــة الـسـليمـانيـــة
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
حتى سليمان ما تم الخلود له
دانت له الأرض والأجناد تحرسه
والريح تخدمه والبدو والحضر
فزاره الموت لا عين ولا أثر
ما مر من قديم الزمان ، ملك كملك سليمان ، فقد علم منطق الطير بلا ترجمان ، وقد اجتمعت في غيبته الحيوانات والطيور ، في يوم فرح وسرور ، وهناء وحبور ، فقالت البهائم للأسد : أيها الأمير ، اجلس على السرير ، فإنك أبونا الكبير ، فتربع جالساً ، ثم سكت عابساً ، فخاف الجميع ، وأصبحوا في موقف فظيع ، فقام الحمار ، أبو المغوار ، فقال : يا حيدرة ، سكوتك ما أنكره ، فقال الأسد : يا حمار البلد ، يا رمز الجلد ، سكتُ لأن الثعلب غاب ، وقسماً لو حضر لأغرزن في رأسه الناب ، فقام الذيب يتكلم وهو خطيب مصيب ، فقال للأسد : يا أبا أسامة ، إن الثعلب قليل الكرامة ، عديم الشهامة ، فليتك تورده الندامة ، فهو لا يستحق السلامة ، وكان أحد التيوس مع الجلوس ، فانسل إلى الثعلب فوجده يلعب فقال : انتبه أيها الصديق ، فالكمين في الطريق، إن الأسد يتوعدك بالذبح ، فاجتهد معه في الصلح ، فقال الثعلب : فمن الذي دهاني عنده ، وغير علي وده ، قال التيس : هو عدوك وعدوي ، الذي في وادٍ يدوي ، هو الذيب الغادر ، صاحب الخيانة الفاجر ، قال الثعلب : أنا الداهية الدهياء ، لأنثرن لحمه في العراء ، أما سمعت الشاعر أحمد ، إذ يقول في شعر مسدد :
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
فلما حضر الثعلب إلى الأسد ، ودخل مجلسه وقعد ، قال أبو أسامة ، والثعلب أمامه : ما لكَ تأخرت يا بليد ، تالله إن الموت أقرب إليك من حبل الوريد .
قال الثعلب : مهلا أبا أسامة ، أبقاك الله للزعامة ، سمعت أنك مريض ، فذهبت إلى البلد العريض ، ألتمس لك دواء ، جعله الله لك شفاء ، قال : أحسنت ، وسهلت عليّ الأمر وهونت ، فماذا وجدت ، قال : وجدت أن علاجك في كبد الذيب مع حفنة من زبيب ، فقال الأسد للذيب ، أمرك عجيب ، وشأنك غريب ، علاجي لديك ، وقد سبق أن شكوت عليك ، فلما دنا الذيب واقترب ، سحبه الأسد فانسحب ، فخلع رأسه ، وقطع أنفاسه ، ثم سلخ لبده ، وأخرج كبده ، فصاح الغراب ، وهو فوق بعض الأخشاب ، يا أبا أسامة ، ما تترك الظلم والغشامة ، فرد عليه الأسد ، اسكت سَدّ الله فاك ، أنسيت أنك قتلت أخاك ، ودفنته في تراب ، ما أقبحك من غراب .
قال الغراب : يا ظلوم يا غشوم يا مشؤوم . أنا الذي دل على بلقيس يا خسيس ، وجيت سليمان ملك الإنس والجان ، بنبأ من سبأ ، وحملت الرسالة في بسالة ، ودعوت للتوحيد ، وهو حق الله على العبيد ، فبلقيس أسلمت بسببي ، وحسبي معروف ونسبي ، ثم أنشد الغراب :
ولقد حملت رسالة مختومة
يهدي سليمان بها بلقيسا
فوضعتها في حجرها متلطفا
كانت تقدس شمسها تقديسا
فأعرض أبو أسامة ، وقطع كلامه ، وإذا بحية لها فحيح ، أقبلت تصيح ، قد ذبل شعر رأسها وشاب ، وما بقي لها إلا ناب ، فقال الأسد : من بالباب .
قالت الحية : أنا أم الجلباب ، فقال : ما اسمك يا حية ، وما معك من قضية ، قالت : اسمي لس ، وخبري على ظاهر فقس ، أنا كنت اسكن ، في قرية من قرى فلسطين ، رأسي في الماء ، وذنبي في الطين ، فعصى أهل القرية خالقهم ، وكفروا رازقهم ، فساقني إليهم ، وسلطني عليهم ، فقذفت في بيرهم من سمي زعافا ، فماتوا آلافاً ، وهلكوا أصنافاً ، وردم الله عليهم القرية ، لأنهم أهل فرية .
فلما ملك سليمان ، اختفت القرية عن العيان ، فأراد أن يرى القرية رأي العين ، فاستدعى الرياح في ذلك الحين ، فقال للريح الشمالية ، هبي قوية ، وأخرجي لنا تلك البئر المطوية ، والقرية المنسية ، قالت : يا نبي الله أنا أضعف من ذلك بكثير ، أنا خلقني ربي لتلقيح الثمار ، بقدرة القدير ، فقال للغربية : أنت لازلت فتية ، فهبي على هذه الدار ، لنرى ما تحتها من الآثار ، قالت : يا نبي الله ، أنا خلقني ربي لتلطيف الهواء ، وتبريد الماء ، ولكن عليك بالدبور ، فإنها التي أهلكت كل كفور .
فقال سليمان : أيها الدبور ، بأسك مشهور ، وبطشك مذكور ، فأخرجي لنا القرية المنكوبة ، لنرى كل أعجوبة ، فهبت ولها هرير ، وزلزلة وصرير ، فاقتلعت التراب والحجر ، ونسفت الشجر ، حتى خرجت القرية واضحة المعالم ، كل شيء فيها قائم ، فوجد الحية في البئر ، بناب واحد صغير ، فسمى القرية باسم البئر وناب الحية ، فصار اسمها نابلس كما في السيرة المرويّة .
فقال الأسد للحمامة ، يا أم يمامة ، حدثينا عن ملك سليمان ، فلن يملك أحد مثله إلى يوم القيامة ، قالت :
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
فيا عجباً كيف يعصى الإله
وفي كل شيء له آية
أم كيف يجحده الجاحد
تدل على أنه واحد
التوحيد ، هو حق الله على العبيد ، وهو أول ما دعا إليه الرسل ، وبه كل كتاب نزل ، وهو أصل الأصول ، والطريق للوصول ، وبه عرف المعبود ، وعمر الوجود ، ولأجله أعدت الجنة والنار ، وسل السيف البتار ، وقوتل الكفار ، ولإقامته في الأرض دعت الأنبياء ، وعلمت العلماء ، وقتل الشهداء ، وهو أول مطلوب ، وأعظم محبوب ، وهو أشرف المقاصد ، وأعذب الموارد ، وأجل الأعمال ، وأحسن الأقوال ، وهو أول الأبواب ، وبداية الكتاب ، وأعظم القضايا ، وأهم الوصايا ، وخير زاد ، يحمله العباد ، ليوم التناد ، وهو قرة عيون الموحدين ، وبهجة صدور العابدين ، وهو غاية الآمال ، وأنبل الخصال ، بل هو أعظم الكفارات ، وأرفع الدرجات ، وأكبر الحسنات ، وهو منشور الولاية ، وتاج الرعاية ، والبداية والنهاية ، وهو الإكسير الذي إذا وضع على جبال الخطايا أصبحت تذوب ، وصارت حسنات بعد أن كانت من الذنوب .
وعلى هذا حديث (( يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة )) .
وهو الذي هز في طرفة عين قلوب السحرة . فقالوا بعزم ماض : اقض ما أنت قاض ، والمرأة التي سقت الكلب ، فغفر لها الذنب ، كان معها توحيد الرب ، والرجل الذي قتل مائة رجل ، وذهب إلى القرية على عجل ، فأدركه الأجل ، غفر له بالتوحيد عز وجل . والتوحيد كنـز جليل ، في قلب الخليل ، فقال لما شاهد الكرب الثقيل ، حسبنا الله ونعم الوكيل .
ولما قال الصدّيق في الغار ، لسيد الأبرار ، لو نظر أحدهما لرآنا ولسمعنا ، قال : لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ، إنما قال ذلك بلسان الموحد ، وقد سدد بتوفيق الله وأيد .
وما فلق الله البحر للكليم ، إلا لأنه صاحب توحيد عظيم ، ونهج كريم ، ولو وضعت السموات والأرض في كفة الميزان ، ولا إله إلا الله في كفة لكان لها الرجحان ، ولو كانت في حلقة حديد لفصمتها ، وفي صخرة لفجّرتها ، ولا إله إلا الله مفتاح الجنان ، وله أسنان ، من الواجبات والأركان ، وصاحبها لا يخلد في النار ، ولا يلحق بالكفار ، وقد قالوا لأحد العلماء وقد سجن ، وفي سبيل هذه الكلمة ذاق المحن ، قل كلمة التوحيد، قال من أجلها وضعت في الحديد ، وقالوا لأحد الأولياء وقد رفع على خشبة الموت ، وقرب منه الفوت ، قل لا إله إلا الله ولا تغفل ، قال : من أجلها أقتل .
وسمع أحد الصالحين رجلاً يقول لا إله إلا الله ومد بها صوته فبكى وقال :
وإني لتعروني لذكرك هزة
كما انتفض العصور بلله القطرُ
وسمع أحد العلماء رجلاً يقول : لا إله إلا الله ، قال : صدقت وبالحق نطقت .
فيا أيها العباد خذوا من التوحيد قطرة ، وضعوه على الفطرة ، وولّوا وجوهكم شطره . ويا من أثقله الهم ، وأحاط به الغم ، وهزه الألم الجم ، قل لا إله إلا الله .
ويا من أثقلته الديون ، أو غيبته الشجون ، وبات وهو محزون ، قل لا إله إلا الله .
ويا من اشتد به الكرب ، وعلاه الخطب ، اذكر الرب ، وقل لا إله إلا الله .
هي أجمل الكلمات قلها كلما
ضج الفؤاد وضاقت الأزمان
اقرأها بعين الروح ، قبل أن تقرأها بعينك في اللوح ، واكتبها في سويداء قلبك ، لتحملها إلى ربك ، وتتخلص من ذنبك .
ولما قيل لفرعون ، قل لا إله إلا الله ، تلعثم الحمار وتعثر ، فدس أنفه في الطين وتدثر . وقيل لأبي لهب قل لا إله إلا الله ، قال الخسيس ، أبى علي الجليس ، والأخ الرئيس ، إبليس . تقيأ شاعر البعث المخذول ، ليقول :
آمنت بالبعث رباً لا شريك له
وبالعروبة ديناً ما له ثاني
قلنا يا شاعر البعث ، وعزة ربي ليخزينك يوم البعث . يا شاعر الخمر والحشيشة ، قد أرغم أنفك أبو ريشة ، فقال :
أمتي كم صنم مجدته
لم يكن يحمل طهر الصنمِ
من يأخذ تعاليمه من باريس ، حشر مع شيخه إبليس .
يا مسكين ، تتعلم حروف الهجاء من بكين ، وتهجر رسالة نزل بها الروح الأمين ، على سيد المرسلين ، من رب العالمين .
يرضع الوليد حليب التوحيد ، حتى يأتيه الحليب الصناعي من مدريد ، ليرتد المريد .
صوت التوحيد يرتفع على كل صوت ، وقوته خير من كل قوت ، لخصه أبو بكر فقال : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت
لولا أن كلمة أحد ، في قلب بلال مثل جبل أحد ، ما صمد .
التوحيد له كتاب ، وله قلم جذّاب ، ومداد جميل ، وكاتب جليل ، فكتابه الكون وما فيه ، وقلمه قلبك النبيه ، ومداده دمعك المترقرق ، والكاتب إيمانك المتدفق .
التوحيد له رسالة أبدية ، ودعوة سرمدية ، ولأصحابه إلى مستقرهم ممر ، وبعد مرورهم مستقر . فرسالة التوحيد إفراد الباري بالألوهيه ، والربوبيه ، ودعوته اتباع سيد البشريه ، ورسول الإنسانيه . وممر أصحابه الصراط المستقيم ، ومستقرهم جنات النعيم .
للتوحيد منبر ، ومخبر ومظهر ، ومسك وعنبر .
فمنبره القلب ، إذا أخلص للرب ، ومخبره النيات الصالحات ، ومظهره عمل بالأركان ، وخدمة للديان ، ومسكه الدعاء والأذكار ، وعنبره التوبة والاستغفار .
للتوحيد عين وبستان ، وحرس وسلطان ، وسيف وميدان .
فعينه النصوص الواضحه ، وبستانه الأعمال الصالحه ، وحرسه الخوف والرجاء ، وسلطانه واعظ الله في القلب صباح مساء ، وسيفه الجهاد ، وميدانه حركات العباد .
وللتوحيد قضاة وشهود ، وأعلام وجنود ، وحدود وقيود .
فقضاته الرسل الكرام ، وشهوده العلماء الأعلام ، وأعلامه شعائر الدين ، وجنوده فيلق من الموحدين ، وحدوده ما جاء به الخبر ، وصح به الأثر ، وقيوده ما ورد من شروط ، للتوحيد المضبوط .
من دعائم التوحيد ، عدم صرف شيء من العبادة لغير المعبود ، وتحريم تقديم شيء من لوازم الألوهية لغير الله مما في الوجود ، وركيزته إخلاص ليس فيه رياء ، وعلامته إخبات ليس معه ادعاء .
فلا تُعبد النجوم ولكن يُعبد مُركبها ، ولا تعبد الكواكب بل يعبد مكوكبها ، ولا يُؤلّه حجر ، ولا بشر ، ولا شجر ، ولا مدر ، بل يؤلّه من فجر من الحجر الماء ، وأوجد الأحياء ، وخلق الشجر كأنها أصابع الأولياء ، فسبحان رب الأرض والسماء .
الوحي هز أبا جهل هزّا ، لأنه يتهزّى ، وسجد للاّت والعزّا . قاتل الله هبل ، ومن طاف حوله ورمل ، أو نذر له أيّ عمل ، يا من خاف على نفسه من الحريق ، والدمار والتمزيق ، احذر من الشرك وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ إذا أخلصت التوحيد جاءك النصر ، وادخر لك الأجر ، ومحا عنك الوزر .
سمع أحد العباد قارئاً يتلوا فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فقال أواه ، وارتفع بكاه ، وكان أحد الملوك الصالحين ، يسمع أحد القراء يقرأ بتلحين شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فجلس يبكي ويقول وأنا أشهد مع الشاهدين .
قال أبو معاذ الرازي ، لو تكلمت الأحجار ، ونطقت الأشجار ، وخطبت الأطيار، لقالت لا إله إلا الله الملك القهار . ولما قال فرعون اللعين : فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قال : رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ، فكأنما لكمه بالجواب ، ولطمه بالخطاب . ولما قال إمام التوحيد للنمرود العنيد فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ ، بهت وكُذّب ، وخسر وعُذِّب ، وهذا لظهور آيات التوحيد وقوة سلطانه ، وعزة أهله وأعوانه ، وقد أمهر يحيى بن زكريا التوحيد رأسه ، وقدم حمزة لما غمره من نور التوحيد رأسه ، ولما ذاقه جعفر ، تقطع وبالرمل تعفر ، وذبح الخلفاء على بساطه ، وضرب الأئمة على التوحيد بأيدي الظلم وسياطه ، ونحر الشهداء على فراش التوحيد وبلاطه ، وكم من موحد وضع في الزنزانة ، لما أعلن إيمانه .
ولما نطق حبيب بن زيد ، بكلمة التوحيد ، عند مسيلمة الكذاب العنيد . قطّعه بالسيف فما أَنْ ، ولا قال له تأن ، بل اشتاق إلى الجنة وحن ، ولما ذهبوا بعبد الله بن حذافة إلى القدور ، والجثث فيها تدور ، والتوحيد في قلبه يمور ، بكى وقال : يا ليت لي بعدد شعر رأسي أرواح ، لتذوق القتل في سبيل الله والجراح .
وضرب طلحة يوم أحد بالسيوف والرماح ، فما شكى ولا صاح ، حتى سال بالدم جبينه ، وشُلت يمينه ، ويبقى دينه ، لأن التوحيد قرينه . وقاتل مصعب قتال الأسود ، حتى وسّد اللحود ، لأنه وحّد المعبود . ولما حضر عبد الله بن جحش معركة أحد ، دعا واجتهد ، بكلام يبقى إلى الأبد ، فقال : اللهم هيئ لي عدواً لك شديد حرده ، قوي بأسه ، فيقتلني فيك فيجدع أنفي ، ويبقر بطني ، ويفقأ عيني ، ويقطع أذني ، فإذا لقيتك يا رب فقلت لي : يا عبد الله لم فعل بك هذا ؟ قلت : فيك يا رب . فهل سمعت نشيداً كهذا النشيد ، وهل أطربك قصيداً كهذا القصيد ، لأنه من ديوان التوحيد .
وضع أحدُ الظلمة أحدَ الأولياء ، بين يدي الأسد ليتركه أشلاء ، شمّه الأسد ثم تركه وذهب ، قيل للولي : لماذا تركك ؟ قال : بسبب التوحيد وهو أعظم سبب ، قالوا : فماذا كنت تفكر ؟ قال : كنت أفكر في سؤر الأسد هل هو طاهر أم نجس يطهر .
واعلم أن صدق التوحيد أقام بعض الأولياء ، في الليلة الظلماء ، في ذروة الشتاء ، يتوضأ بالماء ، ويقطع الليل بالصلاة والدعاء ، والمناجاة والبكاء ، وحرارة التوحيد أيقظت في الصالحين ، ذكر الله كل حين ، فلهم بالتسبيح زجل وحنين ، وعزيمة التوحيد دفعت المنفقين ، وجعلتهم بأموالهم متصدقين ، على الفقراء والمساكين .
إذا ناداك نوح التوحيد ، وقال اركب معنا أيها العبد الرشيد ، فلا تفوتك سفينة الحميد المجيد ، وَجَدَ إبراهيم بن أدهم ورقة مكتوب فيها الله وقد سقطت في الطريق فبكى وحملها ، وطهرها وطيبها ، فطهر الله نفسه ، وطيّب اسمه ، وقد أوصى صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل ، أن يكون أول ما يدعو إليه توحيد الله عز وجل . وكان يبدأ بالتوحيد خطبه ، ويخط به كتبه ، ويدعو إليه ليلاً ونهارا ، وسراً وجهارا .
المقـامَــــة الإلـهيـــة
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا
(( سـبحانك ما عبـدناك حـق عبـادتك ))
تأمل في نبات الأرض وانظر
عيون من لجين شاخصات
على قضب الزبرجد شاهدات
إلى آثار ما صنع المليك
بأحداق هي الذهب السبيك
بأن الله ليس له شريك
الله رحيم لطيف ، الله بيده الأمر والتصريف ، الله أعرف المعارف لا يحتاج إلى تعريف ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، ولا نرجو سواه ، عظيم السلطان والجاه ، أفلح من دعاه ، وسعد من رجاه ، وفاز من تولاه ، سبحان من خلق وهدى ، ولم يخلق الخلق سدى ، عظم سلطانه ، ارتفع ميزانه ، وجمل إحسانه ، كثر امتنانه .
إليك وإلا لا تشد الركائب
وفيك وإلا فالغـرام مضيّع
ومنك وإلا فالمـؤل خائبُ
وعنك وإلا فالمحدث كاذبُ
علام الغيوب ، غفار الذنوب ، ستار العيوب ، كاشف الكروب ، ميسر الخطوب ، مقدر المكتوب ، عظمت بركاته ، حسنت صفاته ، بهرت آياته ، أعجزت بيناته ، أفحمت معجزاته ، جلت أسماؤه ، عمت آلاؤه ، امتلأت بحمده أرضه وسماؤه ، كثرت نعماؤه ، حسن بلاؤه . ما أحسن قيله ، ما أجمل تفصيله ، ما أبهى تنـزيله ، ما أسرع تسهيله ، ليس إلا الخضوع له وسيلة ، وليس لما يقضيه حيلة .
قد كنت أشفق من دمعي على بصري
والله ما ذكرت نفسي معاهدكم
فاليوم كل عزيز بعدكم هانا
إلا رأيت دموع العين هتانا
يسقي ويطعم ، يقضي ويحكم ، ينسخ ويبرم ، يقصم ويفصم ، يهين ويكرم ، يروي ويشبع ، يصل ويقطع ، يعطي ويمنع ، يخفض ويرفع ، يرى ويسمع ، ينصر ويقمع وليّه مأجور ، والسعي إليه مبرور ، والعمل له مشكور ، وحزبه منصور ، وعدوه مدحور وخصمه مبتور ، يسحق الطغاة ، يمحق العصاة ، يدمر العتاة ، يمزق من آذاه .
سبحان من لو سجدنا بالجباه له
لم نبلغ العشر من مقدار نعمته
على لظى الجمر والمحمى من الأبرِ
ولا العشير ولو عشر من العشرِ
من انتصر به ما ذل ، ومن اهتدى بهداه ما ضل ، ومن اتقاه ما ذل ، ومن طلب غناه ما قل ، له الكبرياء والجبروت عز وجل .تم كمالهُ ، حسن جماله ، تقدس جلاله ، كرمت أفعاله ، أصابت أقواله ، نصر أوليائَه ، خذل أعدائَه ، قرّب أحبائه . اطلع فستر ، علم فغفر ، حلم بعد أن قدر ، زاد من شكر ، ذكر من ذكر ، قصم من كفر .
يا رب أول شيء قاله خلدي
فوالذي قد هدى قلبي لطاعته
أني ذكرتك في سري وإعلاني
لأُذهبن بوحي منك أحزاني
لو أن الأقلام هي الشجر ، والمداد هو المطر ، والكتبة هم البشر ، ثم أثنى عليه بالمدح من شكر ، لما بلغوا ذرة مما يستحقه جل في علاه وقهر . اعمر جنانك بحبه ، أصلح زمانك بقربه ، اشغل لسانك بمديحه ، احفظ وقتك بتسبيحه . العزيز من حماه ، المحظوظ من اجتباه ، الغني من أغناه ، السعيد من تولاه ، المحفوظ من رعاه . أرسل الرسل أفنى الدول ، هدى السبيل ، أبرم الحيل ، غفر الزلل ، شفى العلل ، ستر الخلل .
مهما كتبنا في علاك قصائداً
فلأنت أعظم من مديحي كله
بالدمع خطت أو دم الأجفان
وأجل مما دار في الحسبان
في حبك عذب بلال بن رباح ، وفي سبيلك هانت الجراح ، لدى عبيدة بن الجراح، ومن أجلك عرض مصعب صدره للرماح . ولإعلاء كلمتك قطعت يدا جعفر ، وتجندل على التراب وتعفر ، ومزق عكرمة في حرب بني الأصفر . أحبك حنظلة فترك عرسه ، وأهدى رأسه ، وقدّم نفسه ، وأحبك سعد بن معاذ فاستعذب فيك البلاء ، وجرت منه الدماء ، وشيعته الملائكة الكرماء ، واهتز له العرش من فوق السماء .
وأحبك حمزة سيد الشهداء ، فصال في الهيجاء ، ونازل الأعداء ، ثم سلم روحه ثمناً للجنة هاء وهاء . من أجلك سهرت عيون المتهجدين ، وتعبت أقدام العابدين ، وانحنت ظهور الساجدين ، وحلقت رؤوس الحجاج والمعتمرين ، وجاعت بطون الصائمين ، وطارت نفوس المجاهدين .
يا ربي حمداً ليس غيرك يحمد
أبواب كل مملّك قد أوصدت
يا من له كل الخلائق تصمدُ
ورأيت بابك واسعاً لا يوصدُ
أقلام العلماء ، تكتب فيه الثناء ، صباح مساء ، الرماح في ساحة الجهاد ، والسيوف الحداد ، ترفع اسمه على رؤوس الأشهاد ، جل عن الأنداد والأضداد .
للمساجد دوي بذكره ، للطيور تغريد بشكره ، وللملائكة نزول بأمره ، حارت الأفكار في علو قدره ، وتمام قهره .
من أجلك هاجر أبو بكر الصديق وترك عياله ، ولمرضاتك أنفق أمواله وأعماله ، وفي محبتك قتل الفاروق ومزق ، وفي سبيلك دمه تدفق ، ومن خشيتك دمعه ترقرق . ودفع عثمان أمواله لترضى ، فما ترك مالاً ولا أرضا ، جعلها عندك قرضا . وقدَّم عليُّ رأسه لمرضاتك في المسجد وهو يتهجد ، وفي بيتك يتعبد فما تردد .
أرواحنا يا رب فوق أكفنا
لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو
كنا نرى الأصنام من ذهب
نرجو ثوابك مغنما وجوارا
نصب المنايا حولنا أسوارا
فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
تفردت بالبقاء ، وكتبت على غيرك الفناء ، لك العزة والكبرياء ، ولك أجل الصفات وأحسن الأسماء . أنت عالم الغيب ، البريء من كل عيب ، تكتب المقدور ، وتعلم ما في الصدور ، وتبعثر ما في القبور ، وأنت الحاكم يوم النشور . ملكك عظيم ، جنابك كريم ، نهجك قويم ، أخذك أليم ، وأنت الرحيم الحليم الكريم .
من الذي سألك فما أعطيته ، والذي دعاك فما لبيته ، ومن الذي استنصرك فما نصرته ، ومن الذي حاربك فما خذلته . لا عيب في أسمائك لأنها حسنى ، لا نقص في صفاتك لأنها عليا . حي لا تموت ، حاضر لا تفوت ، لا تحتاج إلى القوت ، لك الكبرياء والجبروت ، والعزة والملكوت .
لو أن أنفاس العباد قصائد
ما أدركت ما تستحق وقصّرت
حفلت بمدحك في جلال علاكا
عن مجدك الأسما وحسن سناكا
كسرت ظهور الأكاسرة ، قصّرت آمال القياصرة ، هدمت معاقل الجبابرة ، وأرديتهم في الحافرة . من أطاعك أكرمته ، من خالفك أدّبته ، من عاداك سحقته ، من نادّك محقته ، من صادّك مزّقته .
تصمد إليك الكائنات ، تعنو إليك المخلوقات ، تجيب الدعوات ، بشتى اللغات ، وبمختلف اللهجات ، على تعدد الحاجات ، تفرج الكربات ، تظهر الآيات ، تعلم النيات وتظهر الخفيات ، تحيي الأموات . دعاك الخليل وقد وضع في المنجنيق ، وأوشك على الحريق ، ولم يجد لسواك طريق ، فلما قال : حسبنا الله ونعم الوكيل ، صارت النار عليه برداً وسلاماً في ظل ظليل ، بقدرتك يا جليل . وفلقت البحر للكليم ، وقد فر من فرعون الأثيم ، فمهدت له في الماء الطريق المستقيم . ودعاك المختار ، في الغار ، لما أحاط به الكفار ، فحميته من الأشرار ، وحفظته من الفجار . قريب تجيب كل حبيب .
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما
ما خاب من يرجوك عند ملمّةٍ
أنت القوي الواحد القهار
صمدت إليك البدو والحضار
لو أن الثناء ، لرب الأرض والسماء ، كتب بدماء الأولياء ، على خدود الأحياء ، لقرأت في تلك الخدود ، صحائف من مدح المعبود ، صاحب الجود ، بلا حدود .
ألسنة الخلق أقلام الحق ، فما لها لا تنطق بالصدق ، وتوحده بذاك النطق . لا تمن عليه دمعة في محراب ، فقد مزق من أجله عمر بن الخطاب ، ما لك إلى عبادتك الزهيدة تشير ، وقد نشر الأولياء في حبه بالمناشير .
فاز بلال لأنه ردد أحد أحد ، ودخل رجل الجنة لأنه أحب قل هو الله أحد ، ومدح سبحانه نفسه فقال : الله الصمد ، ورد على المشركين فقال : لم يلد ولم يولد .
سبحان من تحدى بالذباب المشركين ، وضرب العنكبوت مثلاً للضالين ، وذكر خلقه للبعوض إِزراءً بالكافرين ، وحمل الهدهد رسالة التوحيد فجاء بخبر يقين ، وأهلك ناقه أعداءه المعارضين . خلق الأبرار والفجار ، والمسلمين والكفار ، والليل والنهار ، والجنة والنار ، وأنزل كل شيء بمقدار . في القرآن برهانه ، في الكائنات امتنانه ، للمؤمنين إحسانه ، في الجنة رضوانه ، عم الكون سلطانه ، اللهم يا ذا العرش المجيد ، أنت المبدئ المعيد ، أنت الفعال لما تريد ، أنت ذا البطش الشديد ، لا ضد لك ولا نديد ، كورت الليل والنهار ، وجعلت النور في الأبصار ، وحببت العبادة إلى الأبرار ، وأجريت الماء في الأشجار ، أنت الملك الجبار ، والقوي القهار ، والعزيز الغفار ، أسألك بالأسماء التي بالسمو معروفة ، وأسألك بالصفات التي هي بالمجد موصوفة .
عن كل عيب تنـزهت ، وعن كل نقص تقدست ، وعلى كل حال تباركت ، وعن كل شين تعاليت ، منك الإمداد ، ومن لدنك الإرشاد ، ومن عندك الاستعداد ، وعليك الاعتماد ، وإليك يلجأ العباد ، في النوازل الشداد . حبوت الكائنات رحمةً وفضلا، ووسعت المخلوقات حكمةً وعدلا ، لا يكون إلا ما تريد ، تشكر فتزيد ، وتكفر فتبيد ، تفردت بالملك فقهرت ، وتوحدت بالربوبية فقدرت، تزيد من شكرك ، وتذكر من ذكرك ، وتمحق من كفرك ، حارت في حكمتك العقول ، وصارت من بديع صنعك في ذهول ، أدهشت بعجائب خلقك الألباب ، وأذهلت الخلائق بالحكم والأسباب ، باب جود عطائك مفتوح ، ونوالك لمن أطاعك وعصاك ممنوح ، وهباتك لكل كائن تغدو وتروح . لك السؤدد ، فمن ساد فبمجدك يسود ، وعندك الخزائن فمن جاد فمن جودك يجود ، صمد أنت فإليك الخلائق تصمد ، مقصود أنت فإليك القلوب تقصد ، تغلق الأبواب عن الطالبين إلا بابك ، ويسدل كل حجاب عن الراغبين إلا حجابك ، خصصت نفسك بالبقاء فأهلكت من سواك ، وأفردت نفسك بالملك فأهلكت من عداك، لا نعبد إلا إياك ، ولا نهتدي إلا بهداك ، أقمت الحجة فليس لمعترض كلام ، وأوضحت المحجة فليس لضال إمام . شرعت الشرائع فكانت لك الحجة البالغة على الضلال ، وبينت السنن فما حاد عنها إلا الجهال ، نوعت العقوبة لمن عصاك ، وغايرت بين النكال لمن عاداك ، جعلت أسباب حياته مماته ، علة إِنطاقه إِسكاته ، أحييت بالماء وبه قتلت ، وأنعشت الأرواح بالهواء وبه أمت ، أشهد أنك متوحد بالربوبية ، متفرد بالألوهية ، أنت الملك الحق المبين ، وأنت إله العالمين ، وكنف المستضعفين ، وأمل المساكين ، وقاصم الجبارين ، وقامع المستكبرين .
ولما جعلت التوحيد شعاري ، مدحت ربي بأشعاري ، فقلت في مدح الباري :
هذا أريج الزهر من بستانه
السحر من إخوانه والحب من
أنا ما رويت الشعر من روما
كلا وما ساجلت من عمران
دع لامرئ القيس الغويّ ضلاله
ضل الهداية شكسبير فما روى
لما دعوت الشعر جاء ملبيا
فعففت عن مدح الأنام ترفعاً
لا سيف ذي يزن يتوج مدحتي
أو عاد أو شداد أو ذو منصب
ملك الملوك قصدته ومدحته
والله لو أن السماء صحيفة
والدوح أقلام وقد كتب الورى
لم يبلغوا ما يستحق وقصروا
لو تستجير الشمس فيه من الدجى
أو شاء منع البدر في أفلاكه
حتى الحجارة فجرت من خوفه
وتصدعت شم الجبال لبأسه
وتفتح الزهر الندي بصنعه
والحوت قدسه بأجمل نغمة
حتى الضفادع في الغدير ترنمت
هذى النجوم عرائس في محفل
يا مسرح الأحباب ضيعت الهوى
مجنون ليلى ما اهتدى لرحابه
أو ما قرا عنه وثيقة عهده
الشمس تسجد تحت عرش إلهنا
شعر كأن الفجر في أجفانه
أخدانه والحسن من أعوانه
وما رتلت آي الحسن من لبنانه
أو حطان أو مجنونه أو قبانه
يلقي قفا نبك على شيطانه
إلا نزيف الوهم من هذيانه
يسقى كؤوس الشعر من حسانه
لا تمدحن العبد في طغيانه
أو شكر نابغة على ذبيانه
يُنمى إلى عدنان أو قحطانه
فتراكض الإبداع في ميدانه
والمزن يمطرها على إبانه
مدح المهيمن في جلالة شأنه
وزن الهباءة ضاع في ميزانه
لغدا الدجى والفجر من أكفانه
عن سيره لم يسرِ في حسبانه
والصخر خر له على أذقانه
والطلع خوفاً شق من عيدانه
يزهو مع التسبيح في بستانه
لغة تبز الحسن من سحبانه
بقصائد التقديس في غدرانه
تملي حديث الحب في سلطانه
وضللت يا ابن الطين عن عنوانه
متهتكاً عبثاً مع مجّانه
فيها حديث الصدق من قرآنه
والبدر رمز الحسن في أكوانه
والهدهد احتمل الرسالة غاضباً
غضباً على بلقيس تعبد شمسها
لولاه نوح ما نجا يوم الردى
لما دعاه يونس لباه في
يدعو إلى التوحيد من إيمانه
فسعى لنسف الملك من أركانه
في فلكه المشحون من طوفانه
قاع البحار يضج في حيتانه
اللهم صلى وسلم على نبيك خاتم المرسلين ، ورسول الناس أجمعين ، وعلى آله وصحبه والتابعين .
المقـامَــة الـنـَّبـويَّـــة
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ
صلى عليك الله يا علم الهدى
هتفت لك الأرواح من أشواقها
واستبشرت بقدومك الأيامُ
وازينت بحديثك الأقلامُ
ما أحسن الاسم والمسمَّى ، وهو النبي العظيم في سورة عمّ ، إذا ذكرته هلت الدموع السواكب ، وإذا تذكرته أقبلت الذكريات من كل جانب .
وكنت إذا ما اشتدّ بي الشوق والجوى
أُعلِّل نفسي بالتلاقي وقربه
وكادت عرى الصبر الجميل تفصمُ
وأوهمها لكنّنها تتوهم
المتعبد في غار حراء ، صاحب الشريعة الغراء ، والملة السمحاء ، والحنيفية البيضاء ، وصاحب الشفاعة والإسراء ، له المقام المحمود ، واللواء المعقود ، والحوض المورود ، هو المذكور في التوراة والإنجيل ، وصاحب الغرة والتحجيل ، والمؤيد بجبريل ، خاتم الأنبياء ، وصاحب صفوة الأولياء ، إمام الصالحين ، وقدوة المفلحين وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ .
السماوات شيّقات ظِمــاءُ
كلها لهفة إلى العلَم الها
والفضا والنجوم والأضواءُ
دي وشـوق لذاتــه واحتفـاءُ
تنظم في مدحه الأشعار ، وتدبج فيه المقامات الكبار ، وتنقل في الثناء عليه السير والأخبار ، ثم يبقى كنزاً محفوظاً لا يوفّيه حقه الكلام ، وعلماً شامخاً لا تنصفه الأقلام ، إذا تحدثنا عن غيره عصرنا الذكريات ، وبحثنا عن الكلمات ، وإذا تحدثنا عنه تدفق الخاطر ، بكل حديث عاطر ، وجاش الفؤاد ، بالحب والوداد ، ونسيت النفس همومها ، وأغفلت الروح غمومها ، وسبح العقل في ملكوت الحب ، وطاف القلب بكعبة القرب ، هو الرمز لكل فضيلة ، وهو قبة الفلك خصال جميلة ، وهو ذروة سنام المجد لكل خلال جليلة .
إنْ كان أحببت بعد الله مثـلك في
فلا اشتفى ناظري من منظرٍ حسنٍ
بدو وحضر وفي عرب وفي عجمِ
ولا تفوه بالقـول السديـد فمـي
مرحباً بالحبيب والأريب والنجيب الذي إذا تحدثت عنه تزاحمت الذكريات ، وتسابقت المشاهد والمقالات .
صلى الله على ذاك القدوة ما أحلاه ، وسلم الله ذاك الوجه ما أبهاه ، وبارك الله على ذاك الأسوة ما أكمله وأعلاه ، علم الأمة الصدق وكانت في صحراء الكذب هائمة ، وأرشدها إلى الحق وكانت في ظلمات الباطل عائمة ، وقادها إلى النور وكانت في دياجير الزور قائمة .
وشب طفل الهدى المحبوب متشحاً
بالخير متزّراً بالنور والنار
في كفه شعلة تهدي وفي دمه
عقيدة تتحدى كل جبارِ
كانت الأمة قبله في سبات عميق ، وفي حضيض من الجهل سحيق ، فبعثه الله على فترة من المرسلين ، وانقطاع من النبيين ، فأقام الله به الميزان ، وأنزل عليه القرآن ، وفرق به الكفر والبهتان ، وحطمت به الأوثان والصلبان ، للأمم رموز يخطئون ويصيبون ، ويسدّدون ويغلطون ، لكن رسولنا صلى الله عليه وسلم معصوم من الزلل ، محفوظ من الخلل ، سليم من العلل ، عصم قلبه من الزيغ والهوى ، فما ضل أبداً وما غوى ، إنْ هو إلا وحي يوحى .
للشعوب قادات لكنهم ليسوا بمعصومين ، ولهم سادات لكنهم ليسوا بالنبوة موسومين ، أما قائدنا وسيدنا فمعصوم من الانحراف ، محفوف بالعناية والألطاف .
أثني على مَنْ أتدري من أبجله
أما علمت بمن أهديتُه كلمي
في أصدق الناس لفظاً غير متَّهمٍ
وأثبت الناس قلباً غير منتقم
قصارى ما يطلبه سادات الدنيا قصور مشيدة ، وعساكر ترفع الولاء مؤيدة، وخيول مسومة في ملكهم مقيدة ، وقناطير مقنطرة في خزائنهم مخلدة ، وخدم في راحتهم معبدة.
أما محمّد عليه الصلاة والسلام فغاية مطلوبه ، ونهاية مرغوبه ، أن يعبد الله فلا يشرك به معه أحد ، لأنه فرد صمد ،لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد .
يسكن بيتاً من الطين ، وأتباعه يجتاحون قصور كسرى وقيصر فاتحين ، يلبس القميص المرقوع ، ويربط على بطنه حجرين من الجوع ، والمدائن تفتح بدعوته ، والخزائن تقسم لأمته .
إن البرية يوم مبعث أحمد
بل كرم الإنسان حين اختار من
لبس المرقع وهو قائد أمة
لما رآها الله تمشي نحوه
نظر الإله لها فبدّل حالها
خير البرية نجمها وهلالها
جبت الكنوز فكسّرت أعلامها
لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
ماذا أقول في النبي الرسول ؟ هل أقول للبدر حييت يا قمر السماء ؟ أم أقول للشمس أهلاً يا كاشفة الظلماء ، أم أقول للسحاب سلمت يا حامل الماء ؟
يا من تضوّع بالرضوان أعظمه
فطاب من طيب تلك القاع والأكمُ
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
فيه العفاف وفيه الجود والكرمُ
اسلك معه حيثما سلك ، فإن سنته سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها هلك ، نزل بزُّ رسالته في غار حراء ، وبيع في المدينة ، وفصل في بدر ، فلبسه كل مؤمن فيا سعادة من لبس ، ويا خسارة من خلعه فقد تعس وانتكس ، إذا لم يكن الماء من نهر رسالته فلا تشرب ، وإذا لم يكن الفرس مسوَّماً على علامته فلا تركب ، بلال بن رباح صار باتباعه سيداً بلا نسب ، وماجداً بلا حسب ، وغنيّاً بلا فضة ولا ذهب ، أبو لهب عمه لما عصاه خسر وتبّْ ، سيصلى ناراً ذات لهب .
الفرس والروم واليونان إن ذكروا
هم نمقوا لوحة بالـرق هائمـة
فعند ذكرك أسمال على قزم
وأنت لوحك محفوظ من التهمِ
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ، وإنك لعلى خلق عظيم ، وإنك لعلى نهج قويم ، ما ضلّْ ، وما زلّْ ، وما ذلّْ ، وما غلّْ ، وما ملّْ ، وما كلّْ ، فما ضلّ لأن الله هاديه، وجبريل يكلمه ويناديه ، وما زلّ لأن العصمة ترعاه ، والله أيده وهداه ، وما ذلّ لأن النصر حليفه ، والفوز رديفه ، وما غلّ لأنه صاحب أمانة ، وصيانة ، وديانة، وما ملّ لأنه أعطي الصبر ، وشرح له الصدر ، وما كلّ لأن له عزيمة ، وهمة كريمة ، ونفس طاهرة مستقيمة .
كأنك في الكتاب وجدت لاءً
محرمة عليك فلا تحلُّ
إذا حضر الشتاء فأنت شمس
وإن حل المصيف فأنت ظلُّ
صلى الله عليه وسلم ما كان أشرح صدره ، وأرفع ذكره ، وأعظم قدره ، وأنفذ أمره ، وأعلى شرفه ، وأربح صفقه ، من آمن به وعرفه ، مع سعة الفناء ، وعظم الآناء ، وكرم الآباء ، فهو محمد الممجد ، كريم المحتد ، سخي اليد ، كأن الألسنة والقلوب ريضت على حبه ، وأنست بقربه ، فما تنعقد إلا على وده ، ولا تنطق إلا بحمده ، ولا تسبح إلا في بحر مجده .
نور العرارة نوره ونسيمه
وعليه تاج محبة من ربه
نشر الخزامى في اخضرار الآسي
ما صيغ من ذهب ولا من ماسي
إن للفطر السليمة ، والقلوب المستقيمة ، حب لمنهاجه ، ورغبة عارمة لسلوك فجاجه ، فهو القدوة الإمام ، الذي يهدى به من اتبع رضوانه سبل السلام .
صلى الله عليه وسلم علم اللسان الذكر ، والقلب الشكر ، والجسد الصبر ، والنفس الطهر ، وعلم القادة الإنصاف ، والرعية العفاف ، وحبب للناس عيش الكفاف ، صبر على الفقر ، لأنه عاش فقيرا ، وصبر على جموع الغنى لأنه ملك ملكاً كبيرا ، بعث بالرسالة ، وحكم بالعدالة ، وعلم من الجهالة ، وهدى من الضلالة ، ارتقى في درجات الكمال حتى بلغ الوسيلة ، وصعد في سلّم الفضل حتى حاز كل فضيلة .
أتاك رسول المكرمـات مسلمـاً
فأقبل يسعى في البساط فما درى
يريد رسول الله أعظم متقي
إلى البحر يسعى أم إلى الشمس يرتقي
هذا هو النور المبارك يا من أبصر ، هذا هو الحجة القائمة يامن أدبر ، هذا الذي أنذر وأعذر ، وبشر وحذر ، وسهل ويسر ، كانت الشهادة صعبة فسهّلها من أتباعه مصعب ، فصار كل بطل بعده إلى حياضه يرغب ، ومن مورده يشرب ، وكان الكذب قبله في كل طريق ، فأباده بالصديق ، من طلابه أبو بكر الصديق ، وكان الظلم قبل أن يبعث متراكماً كالسحاب ، فزحزحه بالعدل من تلاميذه عمر بن الخطاب ، وهو الذي ربى عثمان ذو النورين ، وصاحب البيعتين ، واليمين والمتصدق بكل ماله مرتين ، وهو إمام علي حيدره ، فكم من كافر عفرّه ، وكم من محارب نحره ، وكم من لواء للباطل كسره ، كأن المشركين أمامه حمر مستنفرة ، فرت من قسوره .
إذا كان هذا الجيل أتباع نهجه
وقد حكموا السادات في البدو والحَضَرْ
فقل كيف كان المصطفى وهو رمزهم
مع نوره لا تذكر الشمس والقَمرْ
كانت الدنيا في بلابل الفتنة نائمة ، في خسارة لا تعرف الربح ، وفي اللهو هائمة ، فأذّن بلال بن رباح ، بحي على الفلاح ، فاهتزت القلوب ، بتوحيد علاّم الغيوب ، فطارت المهج تطلب الشهادة ، وسبحت الأرواح في محراب العبادة ، وشهدت المعمورة لهم بالسيادة .
كل المشارب غير النيل آسنة
وكل أرض سوى الزهراء قيعان
لا تنحر النفس إلا عند خيمته
فالموت فوق بلاط الحب رضوان
أرسله الله على الظلماء كشمس النهار ، وعلى الظمأ كالغيث المدرار ، فهز بسيوفه رؤوس المشركين هزّاً ، لأن في الرؤوس مسامير اللات والعزى ، عظمت بدعوته المنن ، فإرساله إلينا أعظم منّة ، وأحيا الله برسالته السنن ، فأعظم طريق للنجاة إتباع تلك السنة . تعلم اليهود العلم فعطلوه عن العمل ، ووقعوا في الزيغ والزلل ، وعمل النصارى بضلال ، فعملهم عليهم وبال ، وبعث عليه الصلاة والسلام بالعلم المفيد ، والعلم الصالح الرشيد .
أخوك عيسـى دعا ميْتـاً فقام له
وأنت أحييت أجيالاً من الرممِ
قحطان عدنان حازوا منك عزّتهم
بك التشرف للتـاريخ لا بهمِ
المقـامَــة الـكـونيــــة
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ
وكتابي الفضاء أقرؤ فيه
صوراً تدهش العقول وحسن
سوراً ما قرأتها في كتابي
يسكب السحر في الصخور الصلابِ
سبحان من له في كل شيء آية ، ليس لملكه نهاية ، وليس لعظمته غاية ، اقرأ آيات القدرة في صفحة الكون ، وطالع معجزة الخلق في الحركة والسكون ، في الليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس ، في السمك السارب ، في النمل الدائب ، في هالة النور تنشر رداء السناء ، في الفضاء ، في النهار يتماوج ، في البحر هائج مائج ، في النحل يلثم الأزهار ، في الليل يعانق النهار ، في الدمع يترقرق ، في الدماء تتدفق ، في الزهر يتشقق ، في الدواب السائمة ، في الوحوش الهائمة ، في الطيور الحائمة ، في الحيتان العائمة ، في العود يشتد ، في الظل يمتد ، في الجبال ترتدي عمائم الثلوج ، في القمر يهرول في البروج ، في الشمس تتبرج سافرة على العالم ، في النبت ما بين نائم وقائم .
في الأسرار تكنزها الضمائر ، في الأخبار تختزنها السرائر.
في الصخور كأنها تنتظر خبرًا من السماء فهي صامتة ، في الحجارة يكسرها الإنسان بفأسه وهي ساكتة ، في الفجر يطلق من عباءته النور ، في الأذهان بالأفكار تمور ، في الماء ينهمر من السماء ، ويغوص في الرمضاء ، يُقبِل بالخضرة والنماء ، ويدلف بالحياة للأحياء، يهيج أحيانا ويهدر ، ويزحف ويدمر ، لا تحدُّه الحدود ، ولا تردُّه السدود ، وعظمته سبحانه في خلق الإنسان ، وتركيبه في أحسن كيان ، حيث جعل في العينين سراجًا من النور، وأنشأ في القلب بصيرة تدرك الأمور ، وخلق العقل يقود هذا الكائن ، ويوجهه وهو ساكن ، في النبتة تشق طريقها إلى الفضاء ، وترفع رأسها إلى السماء ، في العندليب يرتجل على الغصن كالخطيب ، في الحمام يشدو بأحسن الأنغام ، يشكو الحب والهيام ، والعشق والغرام ، في الغراب يخبأ رزقه في الخراب ، ويدفن خصمه في التراب ، في الأسد يطارد القنيصة ، ويمزق الفريسة . في النحل يئِنّ ، والذباب يطِنّ ، في الزنبور يرِنّ .
في عالم النبات ، آلاف المذاقات ، ومئات الطعومات ، أخضر يعانق أحمر ، وأصفر يضم أغبر ، في الأوراق تميس في الطل ، في الحشرات تهرب إلى الظِّل .
في الناقة تحِنُّ إلى وليدها ، وتشتاق إلى وحيدها ، في الليل يخلع ثيابه على الآفاق ، في الضباب يخيّم على الأرض كالأطباق ، في النار تحرق ، في الماء يغرق .
في الضياء يسطع ، في الضوء يلمع ، في العين تدمع ، في البرق يكاد يذهب سناؤه بالأبصار ، في الصواعق تقصف الصخور والأشجار ، في الرعد يدوِّي فيملأ العالم ضجيجا ، في الروض يفوح فيعبق به الجو أريجا .
في أهل السلطان بين ولاية وعزل ، وأسرٍ وقَتْل ، وهزيمةٍ ونَصْر ، وسِجْنٍ وقَصْر ، في الموت يخترم النفوس ، ويسقط على الرؤوس ، ويأخذ الرئيس والمرؤوس ، ويبزّ العريس والعروس ، ويهدم الأعمار ، ويعطِّل الأفكار ، ويخلي الديار ، ويدخل كل دار .
في صنف من البشر ، يعيشون البطر ، له أموال كالجبال ، وآمال كأعمار الأجيال ، قصور تشاد ، كأنها لن تباد ، وحدائق غنّاء ، وبساتين فيحاء .
وفي صنف آخر فقير ، في دنياه حقير ، لا يملك الفتيل ولا القطمير ، يبحث عن الرغيف ، وينام على الرصيف ، ولقلبه من خوف الفقر رجيف .
في أهل العافية يمرحون ، وفي نعيمهم يسرحون ، وبما أوتوا يفرحون . وفي أهل البلاء ، وفي أصحاب الضنك والشقاء ، في ظلمات المحيطات ، وفي متاهات الغابات ، وفي مجاهل الفلوات . أرض تمتد بلا بشر ، صحارٍ قاحلة ليس فيها شجر ، وعوالم موحشة ما يسكنها بدو ولا حضر .
نجوم تسقط ، وكواكب تهبط ، ونيازك تلتهب ، ترمي بشرر ولهب ، مجرّات سميّة ، ومنازل قمريّة ، حدائق بأثواب الحسن تسر الناظرين ، ومشاهد في الكون جميلة تأخذ ألباب المبصرين ، رياض أنيقة تسرح فيها الغزلان ، باقات من الورود بهيجة يلعب بها الولدان .
كل في فلكٍ يسبح ، وكلٌّ في عالم يمرح ، شمس تجري كأنها تبحث عن مفقود ، قبل أن تطلع تسجد للمعبود ، آية باهرة ، وحكمة ظاهرة ، في خلق الإنسان ، ذلك الكيان ، الذي يحمل جامعات من السكنات والحركات ، فذهن متوقد ، وقلب متجدد ، وخيال يطوي الزمان والمكان ، ويناقل الإنسان ، بين خوف وأمان ، وذاكرة حافظة ، وألسنةٌ لافظة ، وشركات في كل الأعضاء ، منها يجذب الهواء ، ويسحب الماء ، ويهضم الغذاء ، ويجلب الدواءْ ، ويُذهب الداء ، ما بين دفعٍ وضغط ، وإخراج وشفط ، ومؤسّسات تشارك في بناء الجسم ، وفي قيام الرسم ، ليكون في أحسن تقويم ، وأكمل تنظيم ، في الطير وهو يبحث عن طعامه ، ويعود إلى مستقرّه ومنامه ، في الكائنات وهي في صراع محموم ، وفي هموم وغموم ، لتحصل على رزقها المقسوم ، وعيشها المعلوم ، في الإنسان وهو يفكِّر ويقدِّر ، ويقدِّم ويؤخِّر ، ويخطّط وينظر ، في الجبال ، واقفة في هيبة وجلال ، في الروابي الخضراء آية في الجمال ، في العافية والأسقام ، في الحقيقة والأحلام ، في اليقين والأوهام ، في الأقدام والأحِجام ، في السحاب والسراب ، والضباب والرضاب.
في الأحياء ، وحُبِّها للبقاء ، ومدافعتها للأعداء ، فهذا بمخلبه يصول ، وهذا بنابه يجول ، وهذا بمنقره يناضل ، وذاك بريشه يقاتل ، وآخر بسُمِّه يدفع ، وغيره بجناحه يردع ، منهم من يطير ، ومنهم من يسير ، ومنهم من يسبح ، ومنهم من يمرح ، ومنهم على رجلين ، ومنهم على يدين ، ومنهم من يطير بجناحين ، هذا يزحف ، وذاك يخطف ، وهذا في قيْدِه يرسُف ، في التقاء الأحباب والفراق ، في الضم والعناق ، في الركود والانطلاق .
في النجمة هائمة في صفحة السماء تبسم في حنادس الليل ، في البدر تفنيه الليالي ويدركه المحاق كأنه قتيل ، في روعة الإشراق ، وقد نشرت الشمس ضفائرها ونثرت جدائلها على التلال ، وبثَّت سِحْرها على الجبال .
في الطبيب يشفي من الداء ، فإذا أدركه الفناء ، بار فيه الدواء ، وعجز في علاجه الأطبّاء ، في المريض ييأس من العافية ، وتحار فيه الأدوية الظاهرة والخافية ، ثم تدركه من الله عناية شافية ، ورحمة كافية ، في البراكين تثور بالدمار ، في الزلازل تهز الديار ، في السُّم يُصنع منه الدواء ، في الماء يكون سبباً للفناء ، في الهواء يعصف فيدمر الأشياء ، في الريح تكون رخاءً فتلقح الثمار ، وتسوق الأمطار ، وتزجي السفن في البحار ، ثم تكون عاصفة هوجاء ، فتقتل الأحياء ، وتنقل الوباء ، في النخل باسقات لها طلع نضيد ، في الجبال تثبت الأرض وقد كادت تميد ، في الَّلبن يخرج من بين فرثٍ ودم، في كل مخلوق كيف وُجِد من العدم ، في الإبل كيف خُلقت ، في السماء كيف رُفعت ، في الجبال كيف نصبت ، في الأرض كيف سُطِحت ، في الضحى إذا ارتفع ، في الغيث إذا همع ، في خلق الإنسان كيف ينكس ، وفي عمره كيف يعكس ، يعمّر فيعود كالطفل ، فلا يُفرِّق بين فرضٍ ونفل ، في الطائر كيف يجمع القَش ، ويبني العُش ، ويختار عيضه ، ثم يضع بيضه ، في العجماوات ما بين جائع وبطين ، في الدود تبحث عن طعامها في الطين ، في البلبل يحبس في القفص فلا يبيض ، ويعيش بجناح مهيض ، في الحيّة وهي في الصحراء ، تنصب جسمها كأنه عود للإغراء ، فيقع عليها الهدهد ، يظنها عود مجرَّد ، فيكون طعامها ، بعد أن رأى قيامها ، في الثمرة تحمى بأشواك ، كأنها أسلاك ، في الأطعمة ما بين حلو وحامض ، وقلوي وقابض، في الناس ألف كواحد ، واحد كجيش حاشد ، في البشر ما بين عاقل حصيف، وطائش خفيف ، وتقيٍّ متنسِّك ، وفاجر متهتِّك ، في الأرواح كيف تتآلف وتتخالف ، في اختلاف الأصوات ، وتعدد الّلهجات ، وتباين النغمات ، وكثرة اللغات ، في الحر يكاد يذيب الحديد ، في البرد يحول الماء إلى جليد ، في الأرض يعلوها من الغيث بُرد أخضر ، ويكسوها من القحط رداء أغبر ، في المعادن تذوب بالنار ، فتسيل كأنها أنهار ، في السماء تتلبّد بالغيوم ، ولها وجوم ، كأن وجهها وجه مهموم ، أو طلعة مغموم ، في الشمس تكسف ، في القمر يخسف ، في كل ما ننكر ونعرف ، في كل مولود حين يوضع ، كيف يهتدي إلى الثدي فيرضع ، إن عاش الحيوان في جو معتدل كساه بالشعر ، وإن عاش في برد قارص غطاه بالوبر ، وإن عاش في الصحاري دثره بالصوف ، ليقاوم الحتوف ، حيوان الغاب يزوده بناب ، ويمنحه مخلاب ، وطير العريش يقويه بريش ليعيش ، ينبت في الصحراء شجرة جرداء ، تصبر لحرارة الرمضاء ، ووهج البيداء ، ويزرع في البستان شجرة ذات رواء وأغصان ، ندية الأفنان ، مختلفة الطعوم والألوان ، جعل الصيد في البيد ، ليحمي نفسه من التهديد ، علّم العنكبوت ، كيف تبني البيوت ، وهدى النملة لادّخار القوت ، جعل فوق العينين حاجبين ، ليحميهما من ضرر المعتدين ، وجعل أمامها رمشين ، لتكون في حرز أمين ، وجعل فيهما ماء تغتسلان به كل حين ، يسلط الرياح على السحاب ، فيقع التلاقح والإنجاب ، إن شاء جعل الهواء عليلاً ، يحمل نسيماً جميلاً ، وإن شاء جعله ريحاً عاصفة ً، مدمرة قاصفة ، سبحان من حكم الكون بالقهر ، مع علو القدر ، ونفاذ الأمر ، له الملكوت والجبروت ، وهو حي لا يموت ، أحسن كل شيء خلقه ، وتكفل بكل حي يوم رزقه ، أوجد الحب وفلقه ، تسمى بأحسن الأسماء، واتصف بأجمل الصفات والآلاء ، عطاؤه أنفع عطاء ، جلّ عن الشركاء ، نصر الأولياء ، وكبت الأعداء ، عبادته فرض ، والصدقة عنده قرض ، وسلطانه عمّ السماء والأرض ، يعلم الغيوب ، ويقدر المكتوب ، ويمحو الذنوب ، ويستر العيوب ، ويهدي القلوب ، وينقذ المكروب ، نعمه لا تعد ، ونقمه لا تصد ، وعظمته لا تحد ، وعطاياه لا ترد ، منصورٌ من والاه، سعيدٌ من دعاه ، موفَّق من رجاه ، مخذول من عصاه ، مدحور من عاداه .
من الذي قد استوى
ومن هو العظيم
ومن يجيب الداعي
ومن برى البرية
من أنزل الكتابا
من كسر الأكاسرة
من علم الإنسانا
من أسدل الظلاما
من أطعم الخليقة
الخير قد أسداه
والشر قد أباده
وهو عظيم القدرة
يفعل ما يريد
وهو المسمى بالصمد
يعرف بالآلاء
فلا تكيف في الصفة
ولا تجادل فيهِ
وقل نعم سلّمنا
واتبع الرسولا
وكن على نهج السلف
واحترم الصحابة
وكن تقيّاً واتبع
وعظم الحديثا
واطلب هديت علما
أوله التوحيدُ
واجتنب الكلاما
ومنطقاً وفلسفة
واتبع الأئمة
كالخلفاء الأربعة
كذا أبو حنيفة
ومالك بن أنسِ
والشافعي محمّدْ
وأحمد بن حنبل
وشيخنا سفيان
والبارع الأوزاعي
وأحمد الحرّاني
وبعده محمّد
وهذه وصيّة
موجزة لطيفة
نظمتها على عجل
فهو أحق من ذُكِر
أسأله التوفيقا
وأشرف الصلاةِ
المصطفى وصحبهِ
لملكه قد احتوى
والمنعم الكريم
لأشرف المساعي
ووسع البرّية
وعلم الصوابا
من قصر القياصرة
علمه البيانا
ونشر الغماما
وأوضح الطريقة
والعبد قد هداه
والحق قد أعاده
فقدرنَّ قدره
وبطشه شديد
فقل هو الله أحد
والوصف والأسماء
وغلّط المكيّفة
كمذهب السفيهِ
يا ربنا علّمنا
ولا تكن جهولا
واحذر أخي من الخلف
والآل والقرابة
ولا تطع أهل البدع
وسر له حثيثًا
حباك ربي الفهما
يعرفه العبيدُ
والزور والآثاما
فكل هاتيك سفه
فهم نجوم الأمة
أهل العلا والمنفعة
علومه شريفة
في العلم كالمؤسسِ
في علمه مجودْ
إمامنا المبجل
بزهده مزدانُ
قد جدّ في المساعيِ
العالِم الرباني
من نجد جا يجدد
أبياتها محصيّة
في لفظها خفيفة
في ربنا عز وجل
وهو أجلّ من شُكِرْ
والفهم والتحقيقا
لصاحب الآياتِ
آنسنا بحبه
المقـامَــــة الـحـديـثيـّــة
وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى
من زار بابك لم تبرح جوارحه
فالعين عن قرةٍ والكف عن صلة
تروي أحاديث ما أوليت من منن
والقلب عن جابر والسمع عن حسن
جاءني عطاء الله السمرقندي ، فبات عندي ، وكان أحد المحدثين ، ويكره الُمحْدِثين في الدين ، فقلنا : أيها الإمام ، عليك السلام : الوقت حثيث ، فحدثنا عن علم الحديث ، فتأوّه ثم قال : مات حفاظه ، فكادت تنسى ألفاظهُ ، ، وأهل الحديث هم الركب الأخيار ، أحباب المختار ، قوم تصدقوا بالأعمار على الآثار ، وقضوا الحياة في الأسفار ، لجمع كلام صفوة الأبرار :
في كل يوم لنا في الأرض مرتحل
نغدو بدار ونمسي بعد في دار
شدّوا العمائم ، وجدّوا في العزائم ، وتسلحوا بالصبر الدائم ، فلو رأيتهم وقد فتحوا الدفاتر ، وقربوا المحابر ، وكتبوا : حدثنا مسدّد بن مسرهد ، أو رواه أحمد في المسند ، أو أخرجه البخاري ، وشرحه في فتح الباري ، لهانت عندك الدنيا بما فيها ، وركبت سفينة الحديث وناديت باسم الله مجراها . ولأقبلت على العلم والكتب ، وهجرت اللهو واللعب ، واللغو والطرب .
يفوح من فم المحدث المسك التِّبتي ، لأن عليه سيماء ( نضَّر الله ، امرأً سمع مني مقالتي ) أنفاس المحدثين تنضح بالطيب ، لأنها حملت اسم الحبيب :
يكون أجاجاً دونكم فإذا انتهى
إليكم تلقى طيبكم فيطيب
بن
بنفسي ذاك المحدث إذا جلس على الكرسي ، وقد حف به الطلاب ، ونشر الكتاب ثم قال : حدثنا محمد بن شهاب ، عندها يرتحل قلبك ، ويكاد يطير لبك ، شوقاً لصاحب التركة ، لما جعل الله في كلامه من البركة . فتصبح الدنيا رخيصة مرفوضة ، لا تساوي جناح بعوضة ، وتشتاق النفوس إلى الجنة ، لما غشيتها أنوار السنة .
إني إذا احتوشتني ألف محبرةٍ
نادت بحضرتي الأقلام معلنة
يكتبن حدثني طوراً وأخبرني
تلك المكارم لا قعبان من لبنِ
أما أخبار المحدثين في الأسفار ، وقطع القفار ، وامتطاء البحار ، وركوب الأخطار ، فقد حفلت به الأسفار . ولكنهم في سفرهم يقرؤون كتاب الكون ، في كل حركة وسكون ، فإن المحدث يجد المتعة في ارتحاله ، والبهجة في انتقاله ، من ناد إلى ناد ، ومن جبل إلى واد ، فهو يعب من المناهل ، ويسرح طرفه في المنازل ، ويطلق بصره إلى دساكر الأقطار وغياضها ، وحدائق الديار ورياضها ، فيلمح عجائب البلدان ، ويتصفح غرائب الأوطان ، ويأنس بنغم الطيور في كل بستان ، فهو في تنقل بين حيطان وغيطان ، ووديان وأفنان وألوان ، تمر به الصور والمشاهد ، ويبيت في المساجد ، ويعب الماء النمير ، من كل غدير ، له في كل بلدة أصحاب ، وله في كل قرية أحباب .
يفترش الغبراء ، ويلتحف السماء ، سلم في سفره من أذى الجيران ، وضوضاء الصبيان ، والثقيل من الإخوان ، ينام على الثرا ، في العرا ، خارج القرى ، مركوبه رجلاه ، وخادمه يداه ، البسمة لا تغادر محياه :
ومشتت العزمات لا يأوي إلى
ألِفَ النوى حتى كأن رحيله
سكن ولا أهل ولا جيرانِ
للبين رحلته إلى الأوطانِ
قيل للفلاسفة : من سندكم ؟ قالوا : ابن سينا عن سرجيس بن ماهان ، عن أرسطاليس من اليونان .
وقيل لعلماء الكلام : من سندكم ؟ قالوا : محمد بن الجهم من خراسان ، عن الجهم بن صفوان .
وقيل للمحدثين : من سندكم ؟ قالوا : طاووس بن كيسان ، عن ابن عباس ترجمان القرآن ، عن الرسول سيد ولد عدنان ، عن الرحمن ، كان المحدِّث إذا ودّع أولاده ، وترك بلاده ، وحمل زاده ، يجد من راحة البال ، وطيب الحال ، ما يفوق فرحة أصحاب الأموال ، وما يربو على سرور من ملك الرجال .
إذا جمع بعضهم كلام الفلاسفة ، أهل الزيغ والسفه ، الذي يورث الجدال والمعاسفه ، جمع المحدثون كلام الذي ما ضل وما غوى ، وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى .
وإذا تفاخر أحدهم بجمع كلام علماء الكلام ، أهل الشقاق والخصام ، والفرقة والخصام . تفاخر المحدثون بحديث خير الأنام ، أزكى من صلى وصام ، وحج بالبيت الحرام . قال الشافعي : إذا رأيت محدثا فكأني رأيت أحد أصحاب محمد ، قلت : لأن نهجهم مسدد ، وعلمهم من الله مؤيد .
وقد أطال ثنائي طول لابسه
إن الثناء على التنبال تنبال
أنا لا أريد سَنَدي من إيوان كسرى أنو شروان ، ولا من الرومان ، ولا من اليونان، أريد سندي عن سفيان ، أو سليمان بن مهران ، أو سلمان عن رسول الإنس والجان .
تعلمني كلام الناس بلا دليل ، ولا تأصيل ، وتقول هذا كلام جميل ، وعندي التنـزيل ؟
قيل للحمار ، لماذا لا تجتر ؟ قال : أكره الكذب .
وقيل للجمل لماذا لا ترقص ؟ قال : لا أعرف الطرب .
وتعلمني الفلسفة والمنطق ، وأنا ما عندي وقت للعب .
أريد أن أسمع في المجلس ، حدثنا سبعين مرة ، لتكتمل المسرّة .
أهل الحديث هموا أهل النبي وإن
لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
الحديث النبوي كلام ، لم يخمر في عقول فلاسفة اليونان ، ولم يتعفن في أدمغة فلان وفلان ، ولم يأت من أهواء أهل الطغيان . وإنما قاله من أتى بالقرآن ، تقرأ استنباط أهل الفهوم ، وتطالع كتب أرباب العلوم ، ثم تتلو حديث المعصوم ، فإذا ماء الوحي يترقـرق في جنباته ، ورحيق العصمة يتدفق في قسماته ، فكان كل علم قرأته قبله نسي وانتهى ، لأنه لا يقاوم كلاماً أتى من عند سدرة المنتهى .
السموات شيقات ظماء
لكلام من الرسول جميل
والفضا والنجوم والأنواء
تتلاشى من نوره الأضواء
ما أحسن الضم والعناق ، لجملة حدثنا عبد الرزاق ، كلما قلت أخبرنا علي بن المديني ، حفظت ديني ، سهمي لكل مبتدع يسدد ، إذا قلت حدثنا مسدد بن مسرهد .
أشرقت أمامي المسالك ، كلما قرأت موطأ مالك ، سقيم الإرادة العلمية له علاج ، عند مسلم بن الحجاج ، أدْمغُ كل منحرف بذي ، بسنن الترمذي ، أنا في صباحي ومسائي ، أدعو للنسائي .
هاجر المحدثون إلى الله لطلب كلام رسوله الأمين ، فوجدوا في أول الطريق ثواب نية الصادقين ، ووجدوا في وسطه نضرة البهاء التي دعا بها سيد المرسلين ، ووجدوا في آخر الطريق جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين .
كل صاحب فن ، ينسب إلى صاحب ذاك الفن ، إلا المحدثون فإنهم ينسبون ، إلى من أتى بالسنن ، وأهدى لنا المتن ، وتنعمت بعلومه الفطن .
ما أروع الهمم الكبار لثلةٍ
معروفة بالبر والإحسانِ
يتصيدون كلام أكرم مرسلٍ
ينفون عنه سبيكة البهتانِ
سافر أحمد بن حنبل من بغداد إلى صنعاء ، يمتطي الرمضاء ، ويركب الظلماء ، يترك الأهل ، يدفعه الجبل إلى السهل ، تشيعه الدموع ، يرافقه الجوع . لأن الرجل مشتاق، وأحد العشاق ، لذاك الترياق ، من قوارير عبد الرزاق .
دخل مكحول القرى والبوادي ، وطاف على النوادي ، وعبر كل وادي ، يطلب حديث النبي الهادي ، فصار ريحانة الشام ، وشيخ الإسلام .
ومشى أبو حاتم ، ألف فرسخ على الأقدام ، لطلب حديث سيد الأنـام ، فأصبح بذلك أحد الأعلام .
تهون خطانا للمحب فلو مشى
إليكم فؤادي كان أبرد للشوقِ
المحدثون هم عسكر الرسالة ، وجنود البسالة ، ظهروا على البدع بكتائب حدثنا ، وسحقوا الملاحدة بجيوش أخبرنا .
لولا كتابة الحديث في الدفاتر ، وحمل المحدّثين للمحابر ، لخطب الدجَّال على المنابر
الله كم من أنف لمبتدع أرغم بصحيح البخاري ، وكم من صدر لمخالف ضاق بفتح الباري .
الحديث كسفينة نوح فيها من كل زوجين اثنين : رواية ودراية ، بداية ونهاية ، متون وأسانيد ، صحاح ومسانيد ، تراجم ومعاجم .
من ركب هذه السفينة نجا من غرق الضلالة ، وسلم من بحر الجهالة ، ووصل شاطئ الرسالة .
انطلقت هذه السفينة من المدينة ، ربانها المصطفى ، والركاب الصحابة الأوفياء ، نحن على مائدة المحدثين أضياف ، فلعلنا نعد منهم ، لأن المضاف إليه يأخذ حكم المضاف ، لكل طائفة رئيس ، والمحدِثّون محمد رئيسهم ، وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم ، ليتني خسرت ذهباً مثل ثهلان ، بمجلس واحد مع سفيان .
المحدثون بيوتهم المساجد ، وعصى التسيار التوكل ، وزادهم التقوى ، وكلامهم حدثنا وأخبرنا ، ويريدون وجهه ، والمطلب الجنة ، والمقصد رضوان الله ، والعمل الذب عن الملة ، والنسبة محمديّون .
هذه الطائفة : (( دعها فإن معها حذاؤها وسقاؤها ، ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها ، في جنات ونهر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر )) .
سلام على المحدِّثين ، ورحمة رب العالمين ، ورضوان عليهم في الخالدين ، وجمعنا بهم في الصالحين ، وإلى لقاء بعد حين :
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي
مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
المقـامَــة الـعـلـميّـــة
(( العلمـاء ورثـة الأنبيــاء ))
جعلت المال فوق العلم جهلاً
وبينهما بنص الوحي بون
لعمرك في القضية ما عدلتا
ستعمله إذا طه قرأتا
العلم أشرف مطلوب ، وأجل موهوب ، والعلماء ورثة الأنبياء ، وسادة الأولياء ، والشهداء على الألوهية ، والدعاة إلى الربوبية ، تستغفر لهم حيتان الماء ، وطيور السماء ، وتدعو لهم النملة ، وتستغفر لهم النحلة ، وَلاَيتهم لا تقبل العزل ، وأحكامهم ليس فيها هزل ، مجالسهم عبادة ، وكلامهم إفادة ، يوقعون عن رب العالمين ، ويفضلون الناس أجمعين ، وكما يُهتدى بالنجوم في ظلم البر والبحر ، فهم منائر الأرض يهتدى بهم في كل أمر ، العلم في صدورهم ، والله يهدي بنورهم ، وينـزّل عليهم الرضوان في قبورهم ، هم حملة الوثيقة ، والشهداء على الخليقة ، كلامهم محفوظ منقول ، وحكمهم ماضٍ مقبول ، بهم تصلح الديار ، وتعمر الأمصار ، ويكبت الأشرار ، وهم عز الدين ، وتاج الموحدين ، وصفوة العابدين ، هم أنصار الملة ، وأطباء العلة ، يذودون عن حياض الشريعة ، ويزجرون عن الأمور الفظيعة ، وينهون عن المعاصي الشنيعة ، هم خلفاء الرسول ، ثقات عدول ، ينفون عن الدين تأويل المبطلين ، وتحريف الجاهلين ، وأقوال الكاذبين ، مذاكرتهم من أعظم النوافل ، ومرافقتهم من أحسن الفضائل ، وهم زينة المحافل ، بهم تقام الجماعات والجمع ، وبهم تقمع البدع ، هم الكواكب في ليل الجهل ، وهم الغيث يعم الجبل والسهل ، عالِمٌ واحد ، أشد على الشيطان من ألف عابد ، لأن العالِم يُدرِك الحيل ، ولا تختلط عليه السبل ، يكشف الله به تلبيس إبليس ، ويدفع الله بهم كل دجّال خسيس ، أحياء بعد موتهم ، موجودون بعد فوتهم ، علمهم معهم في البيوت والأسواق ، ويزيد بكثرة الإنفاق ، أقلامهم قاضية ، على السيوف الماضية ، بصائرهم تنقب في مناجم النصوص ، وعقولهم تركب الدر في الفصوص ، الناس يتقاسمون الدرهم والدينار ، وهم يتوزعون ميراث النبي المختار ، لو صلّى العابد سبعين ركعة ، ما عادلت من العالم دمعة ، فهم أهل العقول الصحيحة ، وأرباب النصيحة .
أما العلم شرف الدهر ، ومجد العصر ، ذهب الملك بحراسه ، وبقيت بركة العالم في أنفاسه ، فنِيَ السلاطين ، ووُسِّدوا الطين ، وخلد ذكر أهل العلم أبدا، وبقي ثناؤهم سرمدا ، العلم أعلى من المال ، وأهيب من الرجال ، به عُبِدَ الديّان ، وقام الميزان ، وبه نزل جبريل ، على صاحب الغرة والتحجيل،وبه عرفت شرائع الإسلام ، ومُيِّز بين الحلال والحرام ، وبه وُصلت الأرحام ، وحُلَّ كلُّ نزاع وخصام ، وبالعلم قام صرح الإيمان ، وارتفع حصن الإحسان ، وبيّنت العبادات ، وشرحت المعاملات ، وهو الذي جاء بالزواجر ، عن الصغائر والكبائر ، وفَقِه الناس به الفرائض والنوافل ، والآداب والفضائل ، ونصبت به معالم السُّنن ، وكُشف به وجه الفتن ، ودُلَّ به على الجنة ، ودعي به إلى السنة ، وهو الذي سحق الوثنية ، وهدم كيان الجاهلية ، ونهى عن سبيل النار ، وموجبات العار ، ووسائل الدمار ، وبه حورب الكفرة ، وطورد الفجرة ، وهو من العلل دواء ، والشكوك شفاء ، ينسف الشبهات ، ويحجب الشهوات ، ويصلح القلوب ، ويرضي علاّم الغيوب ، وهو شرف الزمان ، وختم الأمان ، وهو حارس على الجوارح ، وبوَّابة إلى المصالح ، وصاحبه مهاب عند الملوك ، ولو كان صعلوك ، وحامله ممجّد مسوّد ، ولو كان عبداً أسود ، يجلس به صاحبه على الكواكب، وتمشي معه المواكب ، وتخدمه السادة ، وتهابه القادة ، وتكتب أقواله ، وتقتفى أعماله ، وتحترمه الخاصة والعامة ، ويدعى للأمور العامّة ، مرفوع الهامة ، ظاهر الفخامة ، عظيم في الصدور ، غني بلا دور ولا قصور ، الله بُغيته ، والزهد حليته ، مسامرته للعلم قيام ، وصمته عن الخنا صيام ، رؤيته تُذكِّر بالله ، لا يعجبه إلا الذكر وما والاه ، عرف الحقيقة ، وسلك الطريقة ، به تقام الحجة ، وتعرف المحجة، وهو بطل المنابر، وأستاذ المحابر، والمحفوظ اسمه في الدفاتر .
والعلم وسام لا يخلع ، وهو من الملك أرفع ، وهو إكليل على الهامة ، ونجاة يوم القيامة ، ينقذ صاحبه من ظلمات الشك والريبة ، ويخلصه من كل مصيبة، وهو علاج من الوسواس ، وفي الغربة رضا وإيناس ، وهو نعم الجليس والأنيس ، وهو المطلب النفيس .
يغنيك عن المسومة من الخيل ، والباسقات من النخيل ، ويكفيك عن القناطير المقنطرة ، والدواوين المعطّرة .
وحسبك كفاية عن كل بناء ، وعن الحدائق الغناء ، والبساتين الفيحاء ، وهو الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً ، والمُلْك الذي من أعطيه فقد أعطي ملكاً كبيرا ، وصاحب العلم غنيٌّ بلا تجارة ، أمير بلا إمارة ، قويٌّ بلا جنود ، والناس بالخير له شهود .
مات القادات والسادات ، وذكرهم معهم مات ، إلا العلماء فذكرهم دائم ، ومجدهم قائم ، فألسنة الخلق ، أقلام الحق ، تكتب وتخط لهم الثناء ، وأفئدة الناس صحف تحفظ لهم الحب والوفاء ، كان أبو حنيفة مولىً يبيع بزّا ، ولكنه بعلمه هز الدنيا هزّا ، وكان عطاء بن أبي رباح ، خادم لامرأة في البطاح، فنال بعلمه الإمامة ، وأصبح في الأمة علامة ، وابن المبارك عبد الله، المولى الإمام الأوّاه ، والأعمش ومكحول ، كانوا من الموالي ولكنهم أئمة فحول ، فالعلم يرفع صاحبه بلا نسب ، ويشرفه بلا حسب .
وإنما يحصل العلم بخدمته كلَّ حين ، وطلبه ليُعبد به رب العالمين ، وطيُّ الليل والنهار في تحصيله ، والسهر على تفصيله ، ومذاكرته كل يوم ، والاستغناء به عن حديث القوم ، ومطالعة مصنفاته ، ومدارسة مؤلفاته ، وتقييد أوابده ، وحفظ شوارده ، وتكرار متونه ، ومعرفة عيونه .
فمن طلبه بصدق ، وحرص عليه بحق ، فهو مهاجر إلى الله ورسوله ، تفتح له أبواب الجنة عند وصوله ، وهو مرابط في ثغور المرابطين ، وجواد في صفوف المعطين ، ومداده في الأوراق ، كدماء الشهداء المهراق ، لأنه مقاتل بسيف النصوص ، قطّاع طريق الملة واللصوص ، وقد يقمع الله به الأشرار، ما لا يقوم به جيش جرار ، فإن الله يجري حجّته على لسانه ، ويُسيِّر موعظته في بيانه ، فينـزع الله بكلامه حظَّ الشيطان من النفوس ، ويجتث به خطرات الزيغ من الرؤوس ، ويغسل الله بمعين علمه أوساخ القلوب .
وينفض بنصائحه أدران الذنوب ، فكلما بنى إبليس في الأرواح ضلالة جاء العالم فأزهقها ، وكلما نسج في الأنفس خيمة للباطل قام العالم فمزّقها .
صاحب المال مغموم مهموم ، خادم وليس بمخدوم ، حارس على ماله ، بخيل على عياله ، وصاحب العلم سعيد مسرور ، يعمره الحبور ، ويملأ فؤاده النور ، تعلم من السؤدد غايته ، ومن الشرف نهايته تجبى إليه ثمرات كل شيء من لطائف المعارف ، وتهوي إليه أفئدة الحكمة وهو واقف ، يأتيه طلبة العلم من كل فج عميق ، كأنما يؤمون البيت العتيق ، في قلبه نصوص الشريعة ، ينزل عليها ماء الفقه فتهتزّ وتربو ، وتنبت من كل زوج بهيج ، فترى العالم يجول فكره في الملأ الأعلى والناس في أمر مريج ، فقلب العالم له جولان في فضاء التوحيد ، وقلب الجاهل في غابات الجهل بليد ، أشرقت في قلب العالم مشكاة فيها مصباح ، وتنفس في نفسه نور الصباح ، أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها ، فاخضرت روضة العالم على أثرها.
صيد الكلب المعلّم حلال ، وصيد الكلب الجاهل حرام ووبال ، وما ذاك إلا لشرف العلم حتى في البهائم ، ومكانة المعرفة حتى في السوائم .
والهدهد حمل علماً إلى سليمان ، فسطّر الله اسمه في القرآن ،فهو بالحجة دمغ بلقيس، وأنكر عليهم عبادة إبليس ، وحمل من سليمان رسالة ، وأظهر بالعلم شجاعة وبسالة . فعليك بالعلم ، والفهم فيه الفهم ، وتصدَّق عليه بنوم الجفون ، وأنفِق عليه دمع العيون ، واكتبه في ألواح قلبك ، واستعِن على طلبه بتوفيق ربك ، وأتعِب في طلبه أقدامك ، وأشغل بتحصيله أيامك ، وإذا سهر الناس على الأغاني ، فاسهر على المثاني ، وإذا وقع القوم في الملذات ، وأدمنوا الشهوات ، فاعكف على الآيات البينات ، والحكم البالغات ، وإذا احتسى العصاة الصهباء فاكرع من معين الشريعة الغراء ، وإذا سمعت اللاهين يسمرون ، وعلى غيهم يسهرون ، فصاحب الكتاب ، فإنه أوفى الأصحاب ، وأصدق الأحباب ، وإذا رأيت الفلاّح يغرس الأشجار ، ويفجّر الأنهار ، فاغرس شجر العلم في النفوس ، وفجّر ينابيع الحكمة في الرؤوس ، وإذا أبصرت التجار يصرفون الفضة والذهب ، فاصرف الحجة كالشهب ، وأطلق الموعظة كاللهب .
يكفيك أن العلم يَدَّعيه غير أهله ، وأن الجهل ينتفي منه الجاهل وهو في جهله ، يرفع العالم الصادق بعلمه على الشهيد ، لأنه يقتل به كل يوم شيطان مريد ، العالم سيوفه أقلامه ، وصحفه أعلامه ، ومنبره ظهر حصانِه ، وحلقته حلبة ميدانه ، العالم يفرّ من الدنيا وهي تلحقه ، ويأبى المناصب وهي ترمقه ، والعلم هو العضْب المهند ليس ينبو ، وهو الجواد المضمّر الذي لا يكبو ، ولكن المقصود بهذا العلم علم الكتاب والسنة ، الذي يدلك على طريق الجنة ، وهو ما قادك إلى الاتباع ، ونهاك عن الابتداع ، فإن كسرك وهصرك ونصرك ، فهو علم نافع فإن أعجبك وأطربك وأغضبك فهو علم ضار ، ما كسرك عن الدنيا الدنية ، والمراكب الوطيّة ، والشهوات الشهية ، وهصرك عن العلو في الأرض ، ونسيان يوم العرض ، ونصرك على النفس الأمارة ، والأماني الغدارة ، فهذا هو العلم المفيد ، والعطاء الفريد .
وإن أعجبك فتكبرت ، وأطربك فتجبّرت ، وأغضبك فتهوّرت فاعلم أنه علم ضار، وبناء منهار ، علم لا يلزمك تكبيرة الإحرام مع الإمام ، فهو جهل وأوهام ، وعلم لا يدعوك إلى الصدق في الأقوال ، والإصلاح في الأعمال ، والاستقامة في الأحوال ، فهو وبال ، العلم ليس مناصب ومواكب ومراكب ومراتب ومكاسب .
بل العلم إيمان وإيقان وإحسان وعرفان وإذعان وإتقان ، فهو إيمان بما جاء به الرسول ، وإيقان بالمنقول والمعقول ، وإحسان يجوَّد به العمل ، ويحذَر به من الزلل ، وعرفان يحمل على الشكر ، ويدعو لدوام الذكر ، وإذعان يحمل على العمل بالمأمور ، واجتناب المحذور ، والرضا بالمقدور ، وإتقان تصلح به العبادة ، وتطلب به الزيادة .
المقـامَــة السـلفـيّــة
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا
أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
ولا يستطيع الفاعلون فعالهم
ولو حاولوا في النائبات وأجملوا
قال الراوي : نراك صاحب تحف ، فحدثنا عن مذهب السلف ، ليقتدي به الخلف فملأه السرور ، وحضره الحبور ، وغشيه النور ، ثم أنشد :
وداعٍ دعا إذ نحن بالخيف من منى
فهيّـج أشواق الفـؤاد وما ندري
دعـا باسم ليـلى غيـرها فكأنما
أطار بليلى طائراً كان في صدري
ثم قال ذكرتمونا خير القرون ، ونون العيون ، فحديثهم ذو شجون .
فهم أهل الاتّباع لا الابتداع ، وأهل الرواية والسماع ، والأُلفة والاجتماع ، نزل الوحي بناديهم ، وسارت السنة من واديهم ، شهدوا التنـزيل ، وعرفوا التأويل ، قولهم سديد ، وفعلهم رشيد ، ومنهجهم حميد ، ومذهبهم فريد ، اعتصموا بالدليل ، وتركوا القال والقيل ، فهم صفوة كل جيل ، وخلاصة كل قبيل :
هم النجوم مسائلها إذا التبست
عليك عند السرى يا صاحبي السبلُ
اتبع طريقتهم اعرف حقيقتهم
اقرأ وثيقتـهم بالحـب يـا رجـلُ
السلف أهدى الناس سبيلا ، وأصدقهم قيلا ، وأرجحهم تعديلا .
هم أعلام يُهتدى بهم في بيداء الضلالة ، وهم أقمار يستضاء بها في ليل الجهالة ، هم الموازين الصادقة للمذاهب ، وهم المعين العذب لكل شارب ، وهم الرعيل المختار المقتدي به كل طالب . تركوا التشدّق ، والتفيهق ، والتشقق ، والتحذلق ، والتمزق .
وهجروا التعسف والتكلف ، لهم منا الحب الصادق ، والعهد الواثق ، والإجلال والتقدير ، والإكرام والتوقير ، والنصرة والتعزير ، شرف الله تلك الأقدار ، وأنزلهم منازل الأبرار ، وأسكنهم أجل دار ، وأحسن قرار ، لو كتبت دموعنا على خدودنا لما كتبت إلا حبَهم ، لو تمنت قلوبنا غاية الأماني ما تمنّت إلا قربَهم .
أما والذي شق القلـوب وأوجـد
المحبة المحبة فيها حيث لا تتصرمُ
وحملهـا قلـب المحـب وإنـه
ليضعف عن حمل القميص ويألـمُ
لأنتـم على قرب الديـار وبعدها
أحبتنا إن غبتموا أو حضرتمـوا
سلوا نسمات الريح كم قد تحمّلت
محبة صبٍّ شوقـه ليس يكتـمُ
السلف خير منا ، ارتفع قدرهم عنا ، سبقوا بالإيمان ، وحب الديان ، والعمل بالقرآن ، ونيل درجة الإحسان ، هم أهل الهجرة والجهاد ، والصبر والجلاد ، عندهم خير زاد ، ليوم المعاد ، وهم صفوة العباد . السلف ليسوا معطلة ، ولا معتزلة ، ولا مؤوِّلة ، ولا مجهّلة ، ولا مخيّلة .
لأن المعطلة عطلوا الباري مما دلت عليه الأحاديث والآيات ، والمعتزلة نفوا الصفات والمؤولة أوّلوا ما أتت به النصوص الواضحات ، والمجهلة قالوا إن الرسل ليس عندهم إلا تخيلات ، فضلّ الجميع في العقليات ، وجهلوا النقليّات ، فهدى الله أهل السنة لأحسن الأقوال في الظنيات واليقينيات ، والصفات ، والذات .
والسلف ليسوا خوارج أقوالهم كفرية ، وليسوا جبرية ، ولا قدرية ، ولا أشعرية .
لأن الخوارج كفّروا بالكبيرة ، وأخرجوا المسلم من الدين بالجريرة ، وحملوا السيف على أئمة الحيف ، وخلدوا الفاسق في النار ، مع الكفار ، والجبرية قالوا : إن العباد جبروا على الذنوب ، وقهروا على معصية علام الغيوب .
والقدرية قالوا لم يسبق القدر علم ولا كتاب ، والأمر مستأنف خطأه والصواب .
والأشعرية أثبتوا الأسماء وسبعاً من الصفات ، وأوّلوا الباقيات ، ولهم مقالات زائفات ، والسلف قابلوا النصوص بالإذعان والتسليم ، والتوقير والتكريم ، فأمرُّوها على ظاهرها كما جاءت من غير تمثيل ، وقبلوها من غير تعطيل ، وعرفوها من غير تكييف وفهموها من غير تشبيه ولا تزييف .
وأنا إلى السلف انتسب ، لأنني رضعت منهجهم ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، والمبتدعة ليسوا منا ولا إلينا ، لأن البقر تشابه علينا .
إذا أتاني كتاب مختوم ، عليه توقيع المعصوم ، لثمتُه بدموعي وأنفاسي ، ووضعته على راسي ، وقلت سمعاً وطاعة ، لصاحب الحوض والشفاعة .
وإذا جاءني كتاب بالباطل منمرق ، وبالبدعة مزمرق ، وبالبهتان ممخرق ، مزقته كل ممزق . واعظ الله في كل سريرة ، فإذا ألقيت قميص يوسف على يعقوب البصيرة . عاد القلب بنور الوحي بصيرا ، وارتد طرف الباطل حسيرا ، وانفل حد الزور كسيرا . سلام على السلف ، من الخلف ، ما غرد حمام وهتف ، وما حَنّ حبيب لحبيب وعطف ، وما رقص قلب صب ورجف ، وما همع دمع ونزف .
جمرك البضاعة بختم محمد ، واكتب على البطاقة لا يستبدل ولا يجدد ، واقرأ على الكيس خرج من مدينة الرسول ، وحامل الكيس هو المسئول ، واحذر من التزوير ، فإن موزع البريد بصير، وقارئ الرسائل خبير، إذا طلع فجر البشرى من المدينة أَذّنّا ، وإذا رأينا الركب من طيبة أعلنّا ، وإذا سمعنا الهتاف المحمدي أمنّا ، وكلنا حول رايته دندنّا .
خبز كانون الرسالة أبيض ، لا يأكله كل معرض ، الدقيق بالصدق مطحون ، فلا يأكله المبطون ، مالك ؟ لا تهتدي في المسالك ؟ وتقع في المهالك ، نناديك إلى أحمد بن حنبل ، فتذهب إلى أحمد بن أبي دُؤاد المغفل ، ونقول رافق إبراهيم بن أدهم ، فترافق الجعد بن درهم ، تهجر الصادق السلفي يحيى بن معين ، وتصاحب ابن سينا ، وابن سبعين ، ويعجبك كلام ابن الراوندي اللعين ، عليك بمجلس مالك وسفيان ، واهرب من الجهم بن صفوان ، عندنا حماد بن زيد ، وعندهم عمرو بن عبيد ، احذر من الكشاف ، فإنه ليس بكاف شاف ، وأحذرك الفصوص ، فإن بين أسطره اللصوص ، السلف أبرياء من الاختلاف واللّجاج ، وظلم الحجّاج ، وخرافات الحلاّج .
السلف أطهر من ماء الغمام ، وأزكى من المسك والخزام ، حسبهم تزكية الملك العلاّم ، جمعنا الله بهم في دار السلام ، هجروا العلوم المنطقية ، والقضايا السفسطية ، والعقائد القرمطية ، ولزموا الطريقة الوسطيّة .
السلف صادقون لا يكذبون ، عدول لا يظلمون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، ولهذا أمر أبو بكر الصديق بقتل مسيلمة الكذاب ، فمُزق بالحِـراب : عندنا خالدان : سيف الله خالد بن الوليد ، وخالد القسري ذو البطش الشديد ، فخالد ذبح مسيلمة في اليمامة ، وخالد نحر الجعد بن درهم وهو في محراب الإمامة .
لدينا أحمدان ، ولديهم أحمدان ، صادقان ، وكاذبان ، عندنا أحمد بن حنبل ، إمام السنة المبجل ، وعلامة الحديث المفضل ، وأحمد بن تيميّة ، مجدد الأمة الإسلامية ، صاحب التدمرية والحمويّة .
وعندهم أحمد بن أبي دُؤاد ، صاحب البدعة والعناد ، والخلاف والفساد ، وأحمد غلام مرزا قاديان ، حامل الزور والبهتان ، والدجل والطغيان .
عندنا حمادان ، وعندهم حمادان ، عندنا حماد بن زيد ، الراوية المفيد ، والمحدث المجيد ، وحماد بن سلمة ، نصب للصدق علمه ، وأجرى في العلم قلمه ، وعندهم حماد عجرد ، الشاعر المعربد ، والضال الملحد ، وحماد الراوية ، صاحب الأفكار الخاوية ، أمه هاوية .
لشتان ما بين اليزيديـن في الندى
يزيد بن عمرو والأغر بن حاتمِ
فهمُّ الفتى الأزدي إتلاف مالـه
وهمُّ الفتى القيسيّ جمع الدراهمِ
السلف كالعيون ، علاجها أن لا تمس ، وكالدرر جماله أن لا يدس ، والسلف كالماء الزلال فلا تشوّبه بالطين ، وكلامهم مبارك متين ، لا يفهمه إلا فطين .
السلف أعلم ، وأحكم ، وأسلم ، وأحلم ، وأكرم ، والمبتدعة أظلم ، وأغشم ، وأشأم ، وأجرم ، قل لا يستوي الخبيث والطيب ، والقحط والصيّب .
الذباب إذا وقع في الإناء ، فاغمسه فإن في أحد جناحيه داء ، وفي الآخر دواء ، وإذا وقع المبتدع في إناء السنة النبوية ، فاهرقه بالكلية ، لأن في جناحيه كلها بلية .
الكلب المعلّم كُل ما صادَه ، لأنه جعل العلم زاده ، وإذا جاءك المبتدع بصيد ، فقل حرام صيدك يا بليد ، لأنك مفسد رعديد .
بشّر من سبّ السلف ، بكل تلف ، مزّق الله قلباً لا يحب الأسلاف ، وأزهق الله روحاً تهوى المبتدعة الأجلاف ، نفس لا تحترم السلف مريضة ، وروح لا توقّر السلف بغيضة . جزاء علماء الكلام الجريد والنعال ، والسياط الطوال ، والقيد والأغلال ، لأنهم اشتغلوا بالقشور وتركوا اللباب ، وفارقوا السنة والكتاب ، وخالفوا الأصحاب .
السلف : موحدون مسدّدون ، مقتصدون ، عابدون ، مجاهدون ، زاهدون ، متحدون ، متوادون ، متهجدون .
والمبتدعة : متفرقون ، متحذلقون ، متنطعون ، متفيهقون ، متشدقون ،
قلقون ، متمزقون.
نوح الهداية ، ينادي ابن الغواية : اركب معنا ، فإن القارب يسعنا ، فقال الهبل : سآوي إلى جبل ، وما علم أن أعظم جبل ، إتباع سيد الرسل ، وطاعة الملك الأجل ، والعمل بما نزل .
المقـامَــــة الـيوســفـيّـــة
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ
كأن الثريا علقت بجبينه
وفي جيده الشعرى وفي وجهه القمر
ولو نظرت شمس الضحى في خدوده
لقالت معاذ الله ما يوسف بشر
كنا نجلس كل يوم ، مع قوم ، ينتقون من الحديث درره ، ويذكرون لنا العالم بحره وبرّه . فدَلِف علينا يوماً من الأيام ، شيخ ممشوق المقام ، كثير الابتسام ، فصيح الكلام ، فنظر في وجوهنا وتوسّم ، ثم تبسّم وسلّم ، ثم جلس واتكى ، وتأوّه وشكى .
قلنا: ما الخبر ، أيها الشيخ الأغر ؟ قال : تذكرت من غبر ، أهل الأخبار والسير ، فعلمت أننا بالأثر ، قلنا : ما الاسم ، فقد أعجبنا الرسم .
قال : أنا عبيد الله بن حسان ، من أهل ميسان ، قلنا : كلامك محبوب ، فقص علينا قصة يوسف بن يعقوب ، فقال : مهما اهتم العالم بالحفظ وحرص ، لكن الذهن فتر والخاطر نكص . وكفى بقصص الله وهو يقول : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ، لكن سوف أخبركم بوقفات ، والعفو عما نسيناه وفات .
• لما نصح يعقوب يوسف أن لا يقص ما رأى ، لأنه يخشى عليه ما جرى ، فإنه ما خلا جسد من حسد ، وكم من قلب بنعم الغير فسد ، فيا أيها العبد استر جمال يوسف النعم ، خوفاً من أن تلقى في غيابة جب النقم ، فيسلط عليك ذئب البغضاء ، لا ذئب الصحراء :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوّت إنسان فكدت أطير
• لا تعتذر للمخالف ، فيأخذ العذر منك وأنت واقف ، أما ترى يعقوب ، يوم خاف على ابنه الخطوب ، قال : أخاف أن يأكل الذئب يوسف ، فقالوا : أكله الذئب فلا تأسف ، فكأنهّ هيأ لهم الحجة ، حينما ضلوا في المحجّة .
• وجاؤا على قميصه بدم كذب ، لأن الذئب ما خلع الثوب ، بل شقه وسحب ، والذئب لا يفتح الأزرار ، بل يمزقها بلا وقار :
يا ممعنا في السوء والعيب
لا ينفع التهذيب في الذيب
• لو علمت القافلة بمكانة يوسف : ما قالوا : يا بشرى هذا غلام ، بل لقالوا : يا بشرى هذا إمام ، وولي مقدام ، وسيد همام ، ولكن وما أدرى الليل ببدر التمام
• يوسف لديه جمال وجلال ، فردعه وازع الجلال ، عن نوازع الجمال ، لما قال : معاذ الله ، حماه ربه وتولاه .
• لو ترك يوسف كلمة اذكرني عند ربك وذكر هو ربَّه ، لكشف كربه ، وأزال خطبه ، وأسعد قلبه .
• يوسف ما نسي إيمانه ، سُئل عن الرؤى وهو في الزنزانة ، فدعا إلى التوحيد ، لأن التوحيد حياة العبيد ، لا يرده قيد ولا يمنعه حديد .
قد قلت للذئب الوفي لصحبهِ
أأكلت يوسف في العراء بخلسة
فأجابني والله لم أهمم به
إني أحب الأنبياء ومهجـتي
يا صاحب الأظفار والأنيابِ
ودم النبوة سال في الأثوابِ
هذا معاذ الله غير صوابِ
تفدي النبي ومقلتي وإهابي
• الذئاب ما تأكل الأنبياء ، ولا تلطخ أفواهها بدماء الأولياء ، لأنهم أصفياء أوفياء وإنما يقتل الأنبياء ذئاب الخليقة ، إذا عميت عليهم الحقيقة ، وأظلمت عليهم الطريقة:
الذئب أكرم عشرة من ثلة
خانوا عهود مودة الإخوان
• في سورة يوسف قميص بريء من الذئب ، وقميص بريء من العيب ، وقميص مضمخ بالطيب .
فالأول : قميص يوسف وقد مزّقه الإخوان ، والثاني : قميصه وقد مزّقته امرأة السلطان ، والثالث : قميصه وقد ألقي على يعقوب فأبصرت العينان :
كأن كل نداء في مسامعه
قميص يوسف في أجفان يعقوب
• لما قال إخوة يوسف له : وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ، نسوا أنهم هم الذين أوقعوه في هم كثير ، فهو بسبب ما فعلوه في حزنه أسير ، وفي بيته كسير ، فهم يحتجون به وقت الحاجة ، وينسونه وقت اللجاجة .
• لما قال يعقوب : لا تدخلوا من باب واحد ، لأنه خاف الحاسد ، فهو في مكان النعيم قاعد ، فإذا أقبلوا في حملة ، قتلهم جملة ، فَعمِّ على الحسود الأمر ، لتضع في عينيه الجمر .
• الدنيا وجهها نحس ، يباع يوسف بثمن بخس ، وحزن يعقوب يكاد يذهب بالنفس ، والفراعنة بملكهم يفرحون ، وفي دنياهم يمرحون ، وفي نعيمهم يسرحون لكن انظر إلى العواقب ، عندما تكشف عن الأولياء النوائب ، وتزول عنهم المصائب . فإذا الفرحة الغامرة ، والحياة العامرة ، و النعيم في الآخرة .
أما الفجار ، فسحابة نهار ، وراحة حمار ، ثم نكال في أسوء دار .
• هَمَّ يوسفُ هَمّة ، فتذكر علو الهمة ، وإمامة الأمّة ، ففر إلى الباب ، يطلب الطريق إلى الوهاب ، بعد ما هيئت له الأسباب ، لأن يوسف من سلالة الأطياب ، فتاب وأناب .
• يوسف شاب ، من العزاب ، تعرّضت له امرأة ذات منصب وجمال ، وحسن ودلال ، فغلقت الأبواب ، ورفلت في أبهى الثياب ، فتذكر يوم القيامة ، وساعة الندامة ، فقال : أواه معاذ الله ، فمنعه الله وكفاه ، وأنت تتعرض للنساء صباح مساء ، غرك الوجه المبرقع ، والحسن المرقع ، ولا تحذر وتتوقّع .
هب أن نظرتك التي أرسلتها
نظر المهيمن فيك أسرع موقعاً
عادت إليك مع الهوى بغزالي
فخف العظيم الواحد المتعالي
• في قلب يوسف من الوحي نصوص ، وفي قلبك من المعصية لصوص ، في شرايين يوسف دماء الإمامة والدين ، وفي شرايينك شهوة الماء والطين .
• يوسف تخرج من جامعة وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، وأنت تخرجت من جامعة : يشكو العيون السود قلبي والهوى .
لشتان ما بين اليزيدين في الندى
يزيد بن عمرو والأغر بن حاتمِ
• يوسف تربيته على شريعة ، وأخلاق رفيعة ، وبعضهم يربى على مجلات خليعة ، وآداب شنيعة .
• وا أسفي على منهج يوسف ، في هذا الواقع المؤسف ، صورة عارية ، وكأس وجارية ، وشهوات سارية ، كلها تقول : هيت لك ، وليس عند الجيل صرخة
معاذ الله .
• الآن حصحص الحق ، وبان الفرق ، فيا شباب الصدق ، قولوا في أحسن نطق : معاذ الله . من أراد السناء ، والثناء ، والعلياء ، وأن يحمي نفسه من الفحشاء ، والفعلة الشنعاء ، فليحفظ متن الأولياء : معاذ الله .
من عاذ بالله أعاذه ، وأكرم ملاذه .
المقـامَــــة الـسـليمـانيـــة
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
حتى سليمان ما تم الخلود له
دانت له الأرض والأجناد تحرسه
والريح تخدمه والبدو والحضر
فزاره الموت لا عين ولا أثر
ما مر من قديم الزمان ، ملك كملك سليمان ، فقد علم منطق الطير بلا ترجمان ، وقد اجتمعت في غيبته الحيوانات والطيور ، في يوم فرح وسرور ، وهناء وحبور ، فقالت البهائم للأسد : أيها الأمير ، اجلس على السرير ، فإنك أبونا الكبير ، فتربع جالساً ، ثم سكت عابساً ، فخاف الجميع ، وأصبحوا في موقف فظيع ، فقام الحمار ، أبو المغوار ، فقال : يا حيدرة ، سكوتك ما أنكره ، فقال الأسد : يا حمار البلد ، يا رمز الجلد ، سكتُ لأن الثعلب غاب ، وقسماً لو حضر لأغرزن في رأسه الناب ، فقام الذيب يتكلم وهو خطيب مصيب ، فقال للأسد : يا أبا أسامة ، إن الثعلب قليل الكرامة ، عديم الشهامة ، فليتك تورده الندامة ، فهو لا يستحق السلامة ، وكان أحد التيوس مع الجلوس ، فانسل إلى الثعلب فوجده يلعب فقال : انتبه أيها الصديق ، فالكمين في الطريق، إن الأسد يتوعدك بالذبح ، فاجتهد معه في الصلح ، فقال الثعلب : فمن الذي دهاني عنده ، وغير علي وده ، قال التيس : هو عدوك وعدوي ، الذي في وادٍ يدوي ، هو الذيب الغادر ، صاحب الخيانة الفاجر ، قال الثعلب : أنا الداهية الدهياء ، لأنثرن لحمه في العراء ، أما سمعت الشاعر أحمد ، إذ يقول في شعر مسدد :
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
فلما حضر الثعلب إلى الأسد ، ودخل مجلسه وقعد ، قال أبو أسامة ، والثعلب أمامه : ما لكَ تأخرت يا بليد ، تالله إن الموت أقرب إليك من حبل الوريد .
قال الثعلب : مهلا أبا أسامة ، أبقاك الله للزعامة ، سمعت أنك مريض ، فذهبت إلى البلد العريض ، ألتمس لك دواء ، جعله الله لك شفاء ، قال : أحسنت ، وسهلت عليّ الأمر وهونت ، فماذا وجدت ، قال : وجدت أن علاجك في كبد الذيب مع حفنة من زبيب ، فقال الأسد للذيب ، أمرك عجيب ، وشأنك غريب ، علاجي لديك ، وقد سبق أن شكوت عليك ، فلما دنا الذيب واقترب ، سحبه الأسد فانسحب ، فخلع رأسه ، وقطع أنفاسه ، ثم سلخ لبده ، وأخرج كبده ، فصاح الغراب ، وهو فوق بعض الأخشاب ، يا أبا أسامة ، ما تترك الظلم والغشامة ، فرد عليه الأسد ، اسكت سَدّ الله فاك ، أنسيت أنك قتلت أخاك ، ودفنته في تراب ، ما أقبحك من غراب .
قال الغراب : يا ظلوم يا غشوم يا مشؤوم . أنا الذي دل على بلقيس يا خسيس ، وجيت سليمان ملك الإنس والجان ، بنبأ من سبأ ، وحملت الرسالة في بسالة ، ودعوت للتوحيد ، وهو حق الله على العبيد ، فبلقيس أسلمت بسببي ، وحسبي معروف ونسبي ، ثم أنشد الغراب :
ولقد حملت رسالة مختومة
يهدي سليمان بها بلقيسا
فوضعتها في حجرها متلطفا
كانت تقدس شمسها تقديسا
فأعرض أبو أسامة ، وقطع كلامه ، وإذا بحية لها فحيح ، أقبلت تصيح ، قد ذبل شعر رأسها وشاب ، وما بقي لها إلا ناب ، فقال الأسد : من بالباب .
قالت الحية : أنا أم الجلباب ، فقال : ما اسمك يا حية ، وما معك من قضية ، قالت : اسمي لس ، وخبري على ظاهر فقس ، أنا كنت اسكن ، في قرية من قرى فلسطين ، رأسي في الماء ، وذنبي في الطين ، فعصى أهل القرية خالقهم ، وكفروا رازقهم ، فساقني إليهم ، وسلطني عليهم ، فقذفت في بيرهم من سمي زعافا ، فماتوا آلافاً ، وهلكوا أصنافاً ، وردم الله عليهم القرية ، لأنهم أهل فرية .
فلما ملك سليمان ، اختفت القرية عن العيان ، فأراد أن يرى القرية رأي العين ، فاستدعى الرياح في ذلك الحين ، فقال للريح الشمالية ، هبي قوية ، وأخرجي لنا تلك البئر المطوية ، والقرية المنسية ، قالت : يا نبي الله أنا أضعف من ذلك بكثير ، أنا خلقني ربي لتلقيح الثمار ، بقدرة القدير ، فقال للغربية : أنت لازلت فتية ، فهبي على هذه الدار ، لنرى ما تحتها من الآثار ، قالت : يا نبي الله ، أنا خلقني ربي لتلطيف الهواء ، وتبريد الماء ، ولكن عليك بالدبور ، فإنها التي أهلكت كل كفور .
فقال سليمان : أيها الدبور ، بأسك مشهور ، وبطشك مذكور ، فأخرجي لنا القرية المنكوبة ، لنرى كل أعجوبة ، فهبت ولها هرير ، وزلزلة وصرير ، فاقتلعت التراب والحجر ، ونسفت الشجر ، حتى خرجت القرية واضحة المعالم ، كل شيء فيها قائم ، فوجد الحية في البئر ، بناب واحد صغير ، فسمى القرية باسم البئر وناب الحية ، فصار اسمها نابلس كما في السيرة المرويّة .
فقال الأسد للحمامة ، يا أم يمامة ، حدثينا عن ملك سليمان ، فلن يملك أحد مثله إلى يوم القيامة ، قالت :
تعليق