لك الله يا بلال
[align=justify]تعرفت عليه سنة 1990، عندما اتصل بي لأترجم له أوراقا من العربية إلى الهولندية. كان وقتها ثاني سوريٍّ أتعرف عليه في هذه البلاد، وفرحت بمعرفته خصوصا وأنه كان يسكن قريبا من مكان سكني. فترجمت له، ثم أصبحت أتردد من وقت لآخر على مطعمه الصغير للمأكولات الخفيفة. وتوطدت علاقتي به بعد سنة 1994، عندما بدأت العمل في جامعة مطعمه بإزائها، فأصبحت أراه مرتين في الأسبوع على الأقل.
كان غريب الأطوار، وكان قليل الثقة بالناس. ولكنه كان يطمئن إلي كثيرا، و"يتروحن" بي .. وكان، إذا رآني أمر من أمام مطعمه، وأسلم عليه من بعيد وأواصل طريقي إلى الجامعة، كان يترك ما بيده ويجري خلفي ويعاتبني على عدم التوقف لديه، ثم يدعوني على فنجان قهوة "بلدي" .. وعبثا أحاول أن أشرح له أن الدرس على وشك الابتداء، وأنه لا بد من احترام الوقت .. فكان لا يتركني أذهب إلا بعدما أعده بالعودة بعد الدرس .. وكنت أفي بوعدي وأعود فأجلس إليه فيحدثني عن أموره الشخصية .. فحدثني مرة عن أظافر يديه المقلوعة .. وعن أسنانه الصناعية .. وعن أذنه المبتورة .. فانتهزت الفرصة وسألته عما يصدر عنه أحيانا من تصرفات توحي بأنه غير طبيعي .. فقال: لست مجنونا .. ولست مصروعا .. لكنهم وضعوا ذات مرة رأسي بين فكي الملزمة وضغطوا عليه .. فكأن عظام جمجمتي طرطقت .. وكأن عقلي صار من يومها "يخض" .. ثم أخذ يضحك وضحكت معه وقلبي يبكي بكاء مرا من هول ما كنت أسمع منه ..
كان ذكيا لطيفا ذا نكتة حاضرة وبديهة سريعة .. وكان ذكيا في عمله التجاري حتى جمع ثروة لا يستهان بها، واشترى منزلا في مركز المدينة التاريخي .. ولكن حالته النفسية كانت تتدهور باستمرار. وأصبح مزاجه صعبا لا يُتنبأ به. وانقلب عصبيا لا يحتمل أحدا. وذات يوم دخل إلى مطعمه زبون روسي مع صديقته، فطردهما، فشتمه الروسي فتبعه بلال وطعنه عدة طعنات بالسكين وكاد أن يقتله .. ثم حكم عليه بالسجن عشر سنوات. زرته في السجن فقال لي إن نوبة اعترته فجعلته يفعل ما فعل، وإنه ليس عدوانيا إلى هذا الحد، لكن شيئا بداخله، أقوى منه، جعله يفعل ذلك. فحدثت له طبيبا نفسانيا خبيرا في طب النفس القضائي، وهو صديق لي، فأخرجه من السجن بعدما تأكد من إصابته بمرض نفساني ما، ونقله إلى مصح نفساني مفتوح، بشرط أن يلتزم بالعلاج من جهة، وأن أكون أنا القائم عليه حتى يبرأ من جهة أخرى. قبلت على الفور، وقبل بلال، وانتقل إلى مصح نفساني تابع لجامعة مدينة (غينت) في بلجيكا. والمصح مفتوح أي بدون حراسة .. وكنت تحدثت مع بلال بشأن العلاح فيه، وقبل بلال العلاج فيه لأن البديل هو السجن .. فبقي في المصح حوالي سنة، تحسنت في أثنائها حالته. وذات صباح، خرج بلال من المصح، ولم يعد إليه .. كان ذلك بداية سنة 2001 .. ثم بحثت كثيرا عن بلال لأني كنت خائفا عليه .. أبلغنا الإنتربول .. ولم يعثر أحد على أثر لبلال. ظننت أنه عاد إلى أرض الوطن الذي كان غاضبا عليه بسبب الظلم الذي لحقه فيه .. آيسنا من العثور عليه .. غاب بلال عن العين، فالتفت إليه القلب، ولا يزال يفعل ..
وأمس اتصل بي بلال .. فوجئت واضطربت كثيرا. أردت أن أعاتبه لكني شعرت بضعف في صوته، فأمسكت ، ثم أنصت إليه:
ـ "أتصل بك لكي أودعك .. قال الأطباء إني لن أعيش حتى الغد أو بعده .. لقد انتشر المرض الخبيث في جسدي منذ أشهر .. ولم أعد أستطيع تحمل العلاج الكيميائي والمورفين. ادعُ لي يا أخي".
ـ "ولكن أين أنت يا بلال؟ دلني على مكان إقامتك. أريد أن أراك" ..
ـ "في فرنسا، في بلدة صغيرة بين بواتييه وبوردو .. لا تعذب نفسك. فقط سامحني .. وادعُ لي".
إيه يا بلال .. بعد أيام سينقل جثمانك في صندوق خشبي موصد لتدفن في مدينتك التي أحببت، بعد ثلاثين سنة من حرمانك منها .. بعد أيام ستعود لترى أهلك وذويك الذين حرمت منهم ثلاثين عاما .. بعد أيام ستعود إلى الوطن الذي كنت تحن إليه، وستخلد فيه للراحة دون أن تخشى من أن يخرجك منه أحد .. ستعود يا بلال دون أن تخشى أحدا على الحدود .. ودون أن تخشى على أظافرك الصناعية، وأسنانك الصناعية، وجمجمتك .. إيه يا بلال لا يخشى ضيفُ الرحمن شيئا، فلا تخشى أحدا وأنت في ضيافة الرحمن ..
إيه يا بلال كم كان بودي أن أراك، وأن أودّعك .. يرحمك الله يا بلال .. وإني لأرجو أن يحتسب الله لك الظلم الذي أنزل بك، والعذاب الذي عانيت منه، وتهجيرك من ديارك بغير حق، فيغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.
لك الله يا بلال ..
[/align]
تعليق