أحداث وقعت عشية ثورة الشريف حسين في مكة

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • kemalhocaoglu
    مشرف
    • Jun 2006
    • 132

    أحداث وقعت عشية ثورة الشريف حسين في مكة

    في هذه الوثيقة تجدون وقائع وأحداثا سبقت ثورة الشريف حسين بن علي في مكة وكانت علائم بارزة على تمرد الشريف ضد الحكومة العثمانية . وأهمية هذه الوثيقة ترجع إلى أن كاتبها هو الفريق فخر الدين باشا القائد العثماني في المدينة المنورة الذي وقف مثل الصخرة في وجه الإنجليز حتى آخر رصاصة في بندقيته، فبقي يدافع عن المدينة المنورة حتى بعد اجتياح الإنجليز للمنطقة بأسرها.

    كمال خوجة
    الدفتر الذي كتب فيه فخر الدين باشا بخط يده
    عمر فاروق شريف أوغلو
    ترجمة كمال خوجة
    مدخل: فخر الدين باشا أحد الوجوه المهمة في تاريخنا القريب ولكن للأسف لا يعرف كثيرا. ومما لا شك فيه أن لذلك أسبابه الكثيرة؛ وأهمها في رأينا نزاهة الباشا وشخصيته غير المتهاونة وإيمانه ، وعدم سكوته حيال التطورات التي يعتقد بأنها خاطئة.
    وفي دراستنا التي بدأناها بهذه الأفكار، لم يكتف نجلا الباشا رحمه الله وهما سليم باشا وأورهان باشا بتقديم كافة الوثائق والنصوص إلي بل ساعداني أيضا في كثير من النقاط التي لم نكن لنستطيع الوصول إليها. قبل فترة قصيرة فقدنا سليم باشا نشكره ونرجو له الرحمة والغفران.
    هذا الدفتر الذي كتب فيه فخر الدين باشا وهو عبارة عن 16 صفحة لم يعرف تاريخ كتابتها. لكن الاحتمال قوي بأنه كتبه في أعوام تقاعده بعد 1936 . في هذا الدفتر يجري تقييما حول تلك الأيام مع الجنرال حسين حسني قلقيش الذي كان برتبة يوزباشي تحت إمرة غالب باشا والي الحجاز. فرتبا معا وعلى شكل مواد دور غالب باشا والآخرين في التمرد والحركات. وهدفنا هنا ليس تجديد محاكمة قضية بقيت في الماضي مع متهميها وشهودها، بل نريد إلقاء الضوء من الماضي إلى يومنا الذي نعيش فيه.
    الأسباب التي تبين درجة تأثير وعلاقة غالب باشا والي الحجاز وقائدها بثورة أمير مكة عام 1332(1916):
    1- ما إن جاء غالب باشا واليا وقائدا للحجاز حتى طرد من الحجاز عددا من الشخصيات المعارضة لأمير الحجاز وبمعنى أصح ممن اشتهروا بولائهم للحكومة في عهد وهيب باشا بحجة كونهم من الاتحاديين. والشخصيات هم: عيسى روحي أفندي معلم المدرسة في الطائف وحقي بك مميز مكاتيب الولاية وراغب بك كاتب أول مجلس الإدارة.
    فإبعاد هؤلاء بهذه الصورة وتعرضهم لكثير من المشاق والصعاب في الطريق أدخل اليأس في قلوب الموالين للحكومة.
    2-بالرغم من صعود أمير مكة في صيف كل عام إلى الطائف فقد بقي عام 1916 في مكة. ومن المعروف أن الولاة أيضا يبقون ببقاء الأمير وبذلك لا يبقى الأمير بعيدا عن أعين الولاة. ونفس الأمر كان في عهد وهيب باشا. وفي السنة المذكورة صعد غالب باشا في وقت مبكر مثل شهر آذار لكن الأمير بقي في مكة. وبقاء الأمير في مكة لفت أنظار التجار وخاصة الأتراك المستوطنين في مكة. وعلى ما أشيع فإن الأمير فضل البقاء في مكة هذه السنة بسبب الحرب. وإذا كان وقوع مثل هذا الأمر محتملا ألا ينبغي أن يبقى الوالي هو الآخر في مكة؟ كما ينبغي البحث عن الأسباب الحقيقية لبقاء الأمير في مكة.
    3-لم يقتصر الأمر على عدم صعود الأمير إلى الطائف بل منع المعتادين من تجار مكة على قضاء فترة الصيف في الطائف من الصعود إليها ذلك العام. فلماذا يمنعهم، ولماذا لا يهتم الوالي بمثل هذا الأمر؟ وحتى إذا كانت الحجة في منع التجار من السفر إلى الطائف ضيق المعيشة التي يعاني منه الأهالي فإن تلك الحجة غير صحيحة. لأنه لا فرق بين البقاء في مكة وبين الصعود إلى الطائف بالنسبة للمعيشة.
    4-أبلغ حسين مبيريك شيخ رابغ متصرف جدة بأنه تلقى عرضا من أمير مكة بالإشتراك في الثورة ، ورجاه أن يبلغ الوالي بذلك فورا عن طريق البرقية المشفرة. وقد بلغ هذا الخبر إلى الوالي غالب باشا ، فقام الوالي بإرسال البكباشي سليمان بك رئيس انشاءات اللواء للتحقق من صحة الخبر.
    وكانت الخطة أن يقوم سليمان بك في الظاهر بجرد وتفتيش مواد الإنشاءات في مكة وجدة. لكن الحقيقة أنه نزل إلى مكة وجده للتحقق من نشاطات الأمير.
    أجرى سليمان بك تحقيقات حول عزم الأمير على التمرد مع الإنجليز ، وشرح الوضع لغالب باشا. حدث هذا خلال شهر نيسان عام 1916.
    ذكر سليمان بك للطبيب البكباشي سليمان سعودي بك بأنه أوصل المعلومات التي جمعها حول عزم الأمير على التمرد إلى غالب باشا وأبلغه ذلك بنفسه.وأضاف بأنه سيبلغ نظارة الحربية إذا اقتضى الأمر ذلك.
    5-وصل خمسة أو ستة من ضباط وجنود البارجة الألمانية التي أغرقت من اقصى الشرق من جزر جاوا إلى جدة عبر حضرموت واليمن وسلموا إلى أحد رجال الأمير كي يوصلهم إلى المدينة من غير حماية. وفي الطريق قتلتهم العربان شر قتلة. مثل هذه الجرائم لا تتم في هذه الديار إلا بتدبير من الأمير نفسه وقد فعل ذلك تعبيرا عن ولائه الصادق للإنجليز. وقد شهد هذه الحادثة اليوزباشي الاحتياط حسني أفندي ابن أخت سعيد باشا قائد اللواء في اليمن وكان مع هؤلاء الألمان ولم تقتله العربان بسبب كونه مسلما.
    هؤلاء الألمان الذين صاروا تحت ضمانة الحكومة منذ دخولهم اليمن والمفترض أن تؤمن لهم الحماية قتلوا في منطقة الحجاز شر قتلة لكن هذه الحادثة لم تحظ بالأهمية واعتبرت من الحوادث العادية. ولم يتخذ أي إجراء . فمقتل هؤلاء الألمان كان أول عملية فعلية للتمرد.
    6- في شهر نيسان 1916 نهب العربان 20 ألف ليرة كانت في الطريق من المدينة إلى مكة. وهذه الحادثة هي العملية الثانية والفعلية والواضحة لبداية الثورة. فمن المعروف منذ وقت طويلة أن الأمير يكون على علم بأي عملية نهب أو سلب في الطريق حتى ولو كانت ضد الرجل العادي. وهذه الحادثة المهمة لم تلق الاهتمام الذي تستحقه، فلم تجر التحقيقات ولم يقم المسئولون بأية محاولة لاسترداده.
    7- اجتماع كبير في قصر الإمارة:
    في الأيام الأولى من شهر أيار عام 1916( ويحتمل أن يكون اليوم الثاني أو الثالث) عقد اجتماع كبير في قصر الإمارة بمكة. وكان غالب باشا الوالي والقائد في الطائف.
    حضر الاجتماع كبار تجار مكة وأعيانها وعدد من شيوخ القبائل، ووصل عدد المجتمعين إلى حوالي خمسمائة. وكان الموضوع الظاهري للاجتماع هو شح المؤن في الحجاز. لكن الحقيقة هو الدعوة للثورة وتشكيل نواة لحكومة هاشمية. ذلك بأن الإنجليز كانوا منذ بداية الحرب يتسامحون في وصول المؤن إلى جدة لكنهم بعد ذلك منعوها وأعلنوا الحصار وحظروا إبحار السفن الشراعية المعروفة بالسنبوك، ونشروا بيانا في تعميم هذا الحظر.
    وحيال هذا الحظر وهذا البيان كانت الحاجة إلى إيجاد حل لخطر المجاعة في مكة وسائر بلاد الحجاز ، فقال الشريف حسين أمير مكة:" أنوي القيام بأمر فيه خير كثير فكونوا تابعين لي وانا سأفعل هذا الخير." وأعقبه ابنه عبد الله فذكر الحقيقة بلا لبس ولا غموض:" لم نعد نستطيع بعد الآن العمل مع الأتراك، فهم لا يستطيعون تأمين احتياجاتنا ، ولا نريد ان نموت جوعا علينا ان نجد حلا بأنفسنا علينا أن نتحالف مع الحكومات التي تقدر على حمايتنا وإطعامنا. وجملة القول بأن علينا أن نبقى أحرارا ونطرد الأتراك."
    وحتى عبد الله سراج أفندي مفتي الحنفية أكد على ضرورة القيام بمثل هذا العمل. وبعد ذلك أقسم المجتمعون على الولاء للأمير وأعطوه عهدا بالطاعة.
    وقد أبلغ بعض الحاضرين القيادة سرا بكل ما جرى في الاجتماع.كما لم يلبث أن انتشر الخبر في مكة. وصارت أحاديث طرد الأتراك وتشكيل حكومة عربية على ألسنة النساء والأطفال في أزقة وحواري مكة.
    كل هذه المعلومات تم الإبلاغ بها رسميا من قبل قائد الدرك وضباط الانضباط في مكة. وقام البكباشي محمد ضياء بك وكيل الوالي والقائد بإيصال هذه المعلومات إلى غالب باشا والي الحجاز وقائدها.
    8- ومع عدم وجود أي شك في وصول صورة من البيان الذي وزعه الإنجليز إلى الأمير عبر ميناء جدة ، فإن غالب باشا أرسل بالشيفرة صورة من البيان باللغة العربية إلى أمير مكة من الطائف.
    والنقطة المهمة هنا: أنه وإن كانت المسافة بين الطائف ومكة بمقدار مرحلة فإن الدواب سريعة الحركة الخاصة بتلك الديار تجعل وصول الرسائل في عشر ساعات على أكثر تقدير. ومع ذلك لوحظ عدم إرسال مثل هذا البيان شديد السرية والحساسية بطريق الدواب أو الهجن ونقله إلى قيادة مكة بالهاتف المرموز( الشيفرة) وطلب تقديم نسخة عنه إلى الإمارة. وإذا كان الأمر ممكنا فمن الأحسن والأجدى أن يبلغ أمير مكة بذلك هاتفيا وبصورة مباشرة؟

    9- على أثر تردد الشعائعات حول تعرض قلعة أجياد بمكة وهي بمثابة مستودع للأسلحة والذخائر بمكة وثكنة جرول وهي مهجع الجنود للهجوم ليلة 4-5 أيار 1916 تم بحث الوضع بين البكباشي ضياء بك والبكباشي حسين حسني بك، وتقرر إرسال سرية من الجنود إلى القلعة تحت جنح الظلام وتسيير دوريات أمنية حول الثكنة.
    ولم يعلم أحد عن هذه الإجراءات وتم القيام بها بكل هدوء لكن الأمير علم بها ، فأرسل برقية إلى غالب باشا الوالي والقائد في الطائف ويرسل نص البرقية إلى البكباشي محمد ضياء بك قائد مكة لتحويلها إلى شيفرة القيادة من ثم إرسالها إلى الطائف وجاء في برقية الأمير:" الإجراءات العسكرية التي قام بها قائد مكة دون أي داع أوقعت أهالي مكة في الخوف والاضطراب، وعمد بعض التجار إلى إغلاق محلاتهم وقد دعوت وجوه الأهالي إلى الإمارة ونصحتهم بالاقتصاد في المؤن، وأنت على علم بذلك وتفسير ذلك على غير معناه والقيام بالإجراءات العسكرية أمر يدعو للأسف" عندئذ يبادر غالب باشا إلى توبيخ قائد مكة ويأمر بمغادرة السرية القلعة وعودتها إلى الثكنة فورا.
    ويعد غالب باشا برقية طويلة بالشيفرة إلى أمير مكة لتحل عن طريق قيادة مكة جاء فيها على ما نذكر: " إنني على علم بالاجتماع الذي تم في قصر الإمارة ، وكان المفترض أن يكون اجتماعا واحدا لكنه تكرر، كما إن الأهالي يقسمون الأيمان. لقد وبخنا قائد مكة على إرساله سرية إلى القلعة.
    وصور هذه البرقيات موجودة لدى ضياء بك.
    10- لقد قام ضياء بك قائد مكة بالاستخبار عن استعدادات الثورة ، ونال التوبيخ على ذلك من غالب باشا. بالإضافة إلى :" أنه تبين قيام البعض من أهل الفتنة بنشر شائعات كاذبة بهدف تعكير العلاقة بين الولاية والإمارة، ويتعين اعتقال كل من يقوم بنشر هذه الشائعات فورا ومعاقبتهم"
    وبعد هذا الأمر من غالب باشا أحجم قائد الدرك وضباط الانضباط عن الإبلاغات الرسمية.
    فبسبب هذا الأمر صار الناس والموظفون يتحاشون نقل أصح الأخبار وأقواها خوفا من التنكيل بهم. وبذلك حرمت الدولة من تلقي أي شيء يتعلق بمصالحها العليا.
    11- في الخامس من أيار عام 1916 أبلغ اليوزباشي فريدون أفندي قائد الوحدة الأولى التابعة للطابور الأول في الكتيبة 128 ما سمعه من شخصية مهمة حضرت اجتماع قصر الأمير إلى البكباشي حسين حسني بك وفي صباح اليوم الباكر التقى حسين حسني بك بضياء بك وبحث معه الموضوع وفكرا وقررا إجراء بعض التدابير.
    ولجمع كل هذه المعلومات في قيادة مكة أرسل حسين حسني بك اليوزباشي فريدون إلى ضياء بك وطلب منه إبلاغه بكل ما سمعه، وقام ضياء بك بنقل كل ما سمعه من اليوزباشي فريدون إلى غالب باشا في الطائف ، لكن غالب باشا كرر ما أصدره من أوامر مسبقة ونهر ضياء بك كما أمره بإخضاع اليوزباشي فريدون للتحقيق فورا وإبلاغه نتيجة التحقيق، فتم تشكيل لجنة برئاسة البكباشي حسني بك للتحقيق مع فريدون أفندي وأرسل الملف.
    كان من المفروض أن القانون يعاقب كل من يسمع أو يعلم بأي تصرف أو حركة غير قانونية ضد الدولة والحكومة ولا يبلغ به، بقي أن نقول بأن الإبلاغ بمثل هذه النشاطات التي يقوم بها رجل له نفوذ مثل أمير مكة رغبة في الاستقلال من أكبر مراتب الوطنية والحمية. لكن استجواب من يبلغ ذلك في المحكمة العسكرية تمهيدا للزجر والعقوبة أمر يدعو للدهشة والاستغراب. ولا يمكن أن يفسر هذا الأمر إلا لشيء واحد وهو إجبار الناس على السكوت وعدم الإبلاغ عما سمعوه.
    12- صدقي بك قائمقام قضاء الليث رجل معروف بكراهية الأمير له منذ وقت طويل. عزله غالب باشا بطلب من الأمير .
    كان صدقي بك قائمقاما لليث مدة ستة أعوام فهو من المطلعين على أفكار ونوايا الأمير الفاسدة. وقد نقل إلى غالب باشا شخصيا ما علمه من مصادر موثقة بأن الأمير تفاهم في الفترة الأخيرة مع الإنجليز وأنه يستعد للقيام بالثورة. فرد عليه الباشا:" لا يمكنني أن أسمع أي كلمة ضد أمير مكة .أغرب عن وجهي" وطرده من مجلسه . لكن صدقي بك أكد على عزم الأمير على القيام بالثورة بالرغم من هذه تعرضه للإهانة.
    13-قابل أحد شيوخ العرب غالب باشا وأبلغه بأن الأمير تفاهم مع الإنجليز وعن عزمه القيام بالثورة خلال الأسابيع القليلة القادمة ، لكن غالب باشا طرده أيضا. وأراد هذا الشيخ إثبات صحة أقواله بأن أعلن عن استعداده لدخول السجن وإعدامه إذا تأكد عدم صحة ما يقوله.ذكر غالب باشا هذه الواقعة أمام خير الله أفندي مدير الحرم الشريف ومدير البريد وقاضي مكة وعدد من الأطباء الضباط.
    14-كان من المفروض بعد انتشار خبر عزم الأمير على الثورة أن تجتمع القوات المنتشرة بالحجاز في مكان واحد. لكنها على العكس من ذلك تم توزيعها على أماكن مختلفة بحيث لا تقدر على عمل أي شيء . وحتى يوم 4 أيار 1916 كانت القوات في الطائف عبارة عن طابوري مشاة وطابور مدفعية ، وفي مكة عبارة عن ثلاثة طوابير مشاة وكتيبة فيها وحدة رشاشات آلية ، وفي جدة طابور مشاة وبطارية مدافع جبلية. وفي الرابع من أيار تم نقل وحدة الرشاشات كما تم نقل طابور مشاة في الرابع عشر من أيار من مكة إلى جدة. ولما انفجرت الثورة كانت القوات على النحو التالي:
    -في مكة طابوران من المشاة.
    -في جدة : طابوران من المشاة ووحدة رشاشات وبطارية مدفعية
    والمسافة بين الطائف ومكة مسيرة ثلاثة أيام وبين مكة وجدة مسيرة يومين، وهذا يعني وضع طابورين في كل من الأماكن الثلاثة التي تبعد عن بعضها مسيرة يومين أو ثلاثة ، وفي هذه الحالة لا يمكن لهذه القوات أن تقاوم بمفردها إنزالا إنجليزيا ، أو تمردا داخليا. فليس هناك أسوأ من هذا التوزيع في المفهوم العسكري.
    خلال فترة قيادة وهيب باشا لقوات الحجاز كانت جميع القوات تتواجد في الطائف لهوائها الطيب وإمكانية إجراء التدريبات الجيدة فيها . وترسل القوات بالتناوب بين الوحدات إلى مكة وجدة حيث الهواء الذي لا يناسب التدريب إلا ساعة في اليوم . هذا التطبيق الصحيح تغير في عهد غالب باشا . وعند انفجار الثورة كانت القوات مشتتة بكل ما في الكلمة من معنى.
    ولا نفهم سبب إرسال وحدة الرشاشات من مكة إلى جدة. والطابور الذي أرسل من مكة إلى جدة مع حسين حسني بك كان بحجة تقديم المساعدة إلى المفرزة القادمة من المدينة في طريقها إلى اليمن. في حين لم يكن هناك أي داع لوجود كل هذه القوات في جدة.
    ولما كان الأمر يتعلق بتمرد الأمير فالمفروض أن تولى مكة كل الأهمية، ولا يمكن قطع رأس الأفعى إلا في مكة. ومع ذلك فقد تم إخلاء مكة من القوات. وكان هذا الإخلاء أكبر عامل في نجاح الأمير.
    15- تم وضع الشباب الذين هم في سن الجندية في مكة تحت السلاح ليكونوا جنود تموين وتسليح في حال الحرب . وكان هؤلاء من الأتراك المستوطنين في مكة. وكانوا يحافظون على تركيتهم كاملة. وقد قدموا خدمات استخبارية جيدة باعتبار أن لهم أصدقاء من العرب. هؤلاء الأتراك الذين بلغ عددهم الخمسين وقدموا خدمات كبيرة لكنهم أبعدوا من مكة إلى الطائف قبل موعد الثورة بأسبوع لأسباب ظاهرها التدريب وحقيقتها الحيلولة دون حصولنا على معلومات استخبارية عن طريقهم.
    16- تم تزويد قادة الطوابير بالأوامر اللازمة منذ الخامس من أيار بالاستعداد لمحاصرة الإمارة في حال حدوث تمرد في مكة . ومن المحتمل أن تسمع الإمارة بهذه الأوامر ولما كان قائد الكتيبة حسين حسني بك معروفا لدى الإمارة بأنه اتحادي وأنه لا يتردد على مقر الإمارة للزيارة، فإنه بقاءه في مكة لم يكن مرغوبا. ولذلك فقد أرسل إلى جدة وبدون أي داع قبل أسبوع من موعد التمرد. كما كان من المفروض أن يكون درويش بك رئيس أركان الفرقة إن يكون بجانب القائد لكنه أرسل إلى مكة وبذلك تم الإخلال بالتسلسل القيادي في أحرج الأوقات.
    17-قبل انفجار الثورة بأسبوع تلقى الضباط في مكة أمرا بعدم التردد على المقاهي والأسواق ، كان ذلك بهدف قطع الصلة بين الضباط والأهالي. لأن الاتصال بالناس في مثل هذه الأوقات قد يعود بالنفع الكثير من الناحية الاستخبارية.
    18- لواء المشاة الذي يبلغ عدد أفراده 3500 عنصرا والمقرر أن يتوجه إلى اليمن كان ينتظر في المدينة ، وكان نقلها إلى مكة يتوقف على الجمال لكن العرب امتثلوا لأمر سري من الأمير وامتنعوا عن تقديم الجمال.
    19- تم أخذ العهد من قسم من أهالي بمكة المكرمة بالاشتراك في ثورة الأمير، كما وزعت الأموال على قسم آخر منهم . وحتى إذا كانت هناك تأويلات بتوزيع هذه الأموال على شكل صدقة أو مساعدة للفقراء ، فإن مثل هذه المبادرة لم تكن مألوفة، وقد لجأوا إليها لتوثيق ولائهم للأمير. ولذلك فإن قسما منهم أحسوا بأن هذه الأموال وزعت عليهم لأهداف غير معلنة، وأخبروا غيرهم بذلك.
    فتوزيع الأموال لفت أنظار الناس العاديين ومع ذلك فإن السلطات الرسمية لم تهتم ولم تشعر بالحاجة إلى أي تحقيق.
    20-أرسل الأمير عددا من أبنائه ومن معهم إلى بعض القبائل المجاورة تحت بحجة تأديبها وردعها . لكن حقيقة الأمر هي إرسالهم إلى القبائل والمشايخ الموالين للأتراك بهدف إخضاعهم وإزعاجهم من جهة والإبقاء على قوات التمرد في حالة الاستعداد من جهة أخرى. وكان المفروض ألا يسمح المسئولون بذلك. وفي عهد وهيب باشا لم يكن يملك الشريف والأمير مثل هذه الصلاحية. لكن غالب باشا سمح بذلك وصفق له.
    كان التجار المقيمون في مكة والطائف وخاصة الأتراك منهم يعرفون بأن هذه الغزوات هي للتمويه على الحكومة وأخذ العهد والولاء من العربان تمهيدا للثورة. ولذلك فلم تكن هناك أية عملية تأديب وردع في هذه الغزوات. فقد لوحظ على أبناء الأمير قضاؤهم أوقاتا وأياما سعيدة مع شيوخ تلك القبائل التي زعموا بأنهم توجهوا لتأديبها، ولم تمارس الضغوط إلا على القبائل التي كانت موالية للأتراك.
    هذه الحادثة ليست بالأمر الهين أو البسيط . فتهديد العربان باسم الإمارة واستخدام سلطة الحكومة وعرض العضلات أمامهم ، وجعلهم يعترفون بأن العربان لا يخضعون إلا للإمارة يشكل أكبر الخطوات نحو الدولة داخل دولة. والفرق بين عدم وجود مثل هذه الحجج في عهد وهيب باشا وبين التوجه إلى الغزوات بالمراسم والتصفيق على درجة كبيرة من الأهمية والملاحظة.
    21- وبأمر غالب باشا ، صار ابتعاد العساكر عن الثكنات بمكة إلى مسافة كيلو متر واحد وخروجهم للتمرينات والتعليم مرتبطا بموافقة وإذن مسبق من الأمير قبل ثلاثة أيام .
    وبذلك صارت الوحدات العسكرية تحت مراقبة الأمير، وانعدمت إمكانية تحرك هذه القوات في احتمالات التعرض لأي هجوم.
    22-عندما توفي الشريف ناصر في الطائف وكان منافس الشريف حسين أمير مكة ، بيعت أملاكه من قبل أسرته فقام غالب باشا بشراء سيفه أو اشتراها له آخرون، ثم قدمه غالب باشا إلى الأمير بعريضة كبيرة.
    وفي الظاهر قدم هذا السيف للأمير نيابة عن الشريف فيصل الذي كان في مقر جمال باشا قائد الجيش الرابع. وكون هذا السيف للمرحوم الشريف ناصر يعني في حقيقة الأمر:" أنني آخذ سيف خصومكم وأقدمه لكم بنفسي" فالعرب يفسرونه على هذا النحو. وإذا كانت هناك ضرورة في تقديم السيف هدية فمن الممكن أن يكون سيف آخر وليس سيف الشريف ناصر.
    23- كانت هناك قلعة جياد ومخفرا جبل هندي وفلفل يمكن بها السيطرة على مكة. ويقال أنها بنيت من قبل عثمان باشا. أما قلعة جياد فكانت تستخدم مستودعا للأسلحة وأما قلعة فلفل فهي في مواجهة الأمير وتجعل المكان تحت المراقبة وبعض أماكنها خربة ولأهمية القلعة كان من المفروض إصلاح الأماكن الخربة منها لكن غالب باشا وجد أنها ليست بذات أهمية فحاول بيعها.
    تم تشكيل لجنة برئاسة عبد الله سراج أفندي مفتي الأحناف المعروف بأنه من رجال الأمير، وأدخل اليوزباشي ممتاز بك قائد الطابور الأول التابع للواء 130 في عضوية هذه اللجنة. والقيام ببيع القلاع والمخافر وغيرها من الأماكن المهمة في مثل هذه الظروف ليس إلا تقديم ضمانات فعلية للأمير.
    24- أرسلت الحكومة إلى الأمير مبلغ 60 ألف ليرة لتوزيعها على أهالي مكة المكرمة بمثابة ديون. وكانت ستة آلاف من هذا المبلغ أوراق نقدية ، ووصول أوراق نقدية عوضا عن الليرات الذهبية أسخط الأهالي لأن الأوراق النقدية وبأمر الأمير كانت دون قيمة الليرات الذهبية ، فانخفاض قيمة الأوراق النقدية وسخط الأهالي كل ذلك كان بأوامر من الأمير نفسه. بالإضافة إلى كميات كبيرة من القمح الذي تمتلكه الحكومة وجلبته من المدينة لتوزيعه على الأهالي مقابل قسم من الدين، لكن غالب باشا حال دون توزيع القمح وأمر بنقله إلى المخازن مما زاد من سخط الأهالي.
    25-بعد عودة غالب باشا وأحمد بك قائد اللواء من جدة ووصولهما إلى مكة بعدة أيام جاء لزيارتهما حسين حسني بك فوجد غلب باشا في قصره وحيدا. وتطرق الحديث إلى حرارة الحجاز وإلى مرض الأتراك في هذه المناطق، وبهذه المناسبة تحدث غالب باشا عن مسألة القومية التركية.
    - التركية، التركية! من أين جاءتنا هذه التركية ، ما معنى التركية ، أي معنى لها مع وجود الإسلام؟
    وبقوله هذا يعني أن الحكومة تتبع سياسة القومية التركية ، وأراد بذلك أنه لا يوافق على هذه السياسة. وكانت فكرة حسين حسني بك أن سياسة القومية التركية لا تتناقض مع السياسة الإسلامية، لكن عسكريته جعلته يفضل السكوت.
    26- يقول حسين حسني بك:
    عندما جاء غالب بك إلى مكة في كانون الثاني 1916 توجهنا معا إلى قصر الأمير وكان معنا أحمد بك قائد اللواء وثابت بك رئيس أركانه ، وقدمنا غالب باشا جميعا إلى الأمير. مع إننا كنا في السابق مقدمين إلى الأمير .وقد ذكر أسماء ورتب الجميع ، ولما جاء دوري قال:" البكباشي حسين حسني بك من قوادنا الشباب" وقصده من تعريفي بأنني من "القواد الشباب" من غير لزوم أو مناسبة هو السخرية من القواد الشباب الذين أنشأتهم الحكومة من جهة ، وإفهامه على أنني من أعضاء حزب الاتحاد والترقي ومن أنصار الحكومة الحالية. وتعبيره عن ذلك بالإيماءات والإشارات للأمير المعروف بعدائه للاتحاديين يقوي العلاقات الخفية بينهما.
    27-كنت ذات يوم في غرفة الوالي بقصر الحكومة في مكة بطلب من غالب باشا لبحث موضوع تصنيع أحذية للجنود باعتباري قائدا لمكة. كنت جالسا بجانبه عندما دخل مدير مالية الولاية ومعه بعض الأوراق، وتحدث عن طريقة صرف المبالغ وفقا لأحد قوانين المالية. فرد غالب باشا على مدير المالية بلهجة المستهزئ :" أي وزير للمالية تقصد؟ ها ها !… لا تجعلني أشتم وزير المالية وغيره! وكان وكيل وزير المالية في تلك الفترة طلعت بك، وأراد بذلك أن يقول أنه لا يحب أحدا من أعضاء الحكومة وأنهم لا يساوون شيئا عنده.
    28-عندما حوصر غالب باشا من قبل العربان في الطائف نشر أمرا يوميا جاء فيه أن الأمير أقسم لغالب باشا أمام الكعبة المعظمة بأنه لن يكون مع الإنجليز وأن غالب باشا خدع بهذا اليمين" لكن الحقيقة غالب باشا لم يكن من الرجال الذين يمكن خداعهم بيمين أمام الكعبة، بل هو اعتراف ضمني منه بأنه كان على علم بحركة التمرد لكنه بقي ساكتا حيالها"
  • ahmed_allaithy
    رئيس الجمعية
    • May 2006
    • 4024

    #2
    شكر الله لك ترجمتك يا أستاذ كمال.

    سبحان الله! له في خلقه شؤون.
    د. أحـمـد اللَّيثـي
    رئيس الجمعية الدولية لمترجمي العربية
    تلك الدَّارُ الآخرةُ نجعلُها للذين لا يُريدون عُلُوًّا فى الأَرضِ ولا فَسادا والعاقبةُ للمتقين.

    فَعِشْ لِلْخَيْرِ، إِنَّ الْخَيْرَ أَبْقَى ... وَذِكْرُ اللهِ أَدْعَى بِانْشِغَالِـي

    تعليق

    يعمل...