أقدم لكم ترجمة فيصل كريم للسلسلة الوثائقية
Blood and Gold: The Making of Spain
الدم والذهب: نشوء أسبانيا
أهدي ترجمة هذا العمل إلى معلمنا الجليل
أ. د. طارق عبد الله فخر الدين
| رائد من رواد الترجمة، على خطاه نسير |
Blood and Gold: The Making of Spain
الدم والذهب: نشوء أسبانيا
أهدي ترجمة هذا العمل إلى معلمنا الجليل
أ. د. طارق عبد الله فخر الدين
| رائد من رواد الترجمة، على خطاه نسير |
تتطرق هذه السلسلة الوثائقية، التي عرضتها شبكة البي بي سي وقدمها المؤرخ البريطاني سايمون صبّاغ مونتيفيوري، إلى تاريخ أسبانيا منذ القِّدم إلى الوقت الراهن، وإن كان بكثير من الإيجاز والاختزال. ونتعرف من خلالها على تاريخ شبه الجزيرة الآيبيرية على مدار ألفي عام.
وقبل أن أسرد رؤيتي للعمل، سأعرض هنا حلقات السلسلة مع ملخصات لها ليتسنى للقارئ الكريم الإطلاع على أفكارها قبل المشاهدة
(ستأخذكم الروابط أدناه إلى صفحة غوغل درايف، فالرجاء تفعيل زر CC فيها لتظهر الترجمة مع كل فيديو)
الحلقة الأولى
“الفتح”
https://drive.google.com/file/d/0B50...ew?usp=sharing
الحلقة الأولى
“الفتح”
https://drive.google.com/file/d/0B50...ew?usp=sharing
ملخص: يعود مونتيفيوري إلى ماضي هذه المنطقة ليبدأ من الحرب البونيقيةوالتأثير الذي تركه القائد القرطاجي الشهير حنبعل بن حملقار إذ نكتشف أن تاريخ ما يسمى “أسبانيا” الحالية يبدأ فقط من هذه النقطة التاريخية، ولا شيء يذكر قبل ذلك. ثم يعرّج مونتيفيوري على وقوع شبه الجزيرة بيد الإمبراطورية الرومانية وأباطرتها الأقوياء الذين جاء بعضهم من الأرض الأسبانيا كـ هادريان وتراجان وماركوس أوريليوس. ونتعرف على قصة القديستين جوستا ورافينيا. ثم وقوع المنطقة بقبضة القبائل البربرية التي هاجمت روما ومنهم “الفاندل”الذي جاء اسم “الأندلس” منهم. ثم نزوح القوط الغربيين جنوب نهر الدانوب بعد ضعف الرومان وسيطرتهم على أسبانيا.، وتفجّر المشكلة بين الملك القوطي الفاجر رودريك (أو رذريق كما أسماه العرب) وأحد نبلائه ويدعى جوليان الذي انتهك عرض ابنته، فاستنجد الأخير بالمسلمين وموسى بن نصير وطارق بن زياد الذين فتحا أسبانيا سنة 711 ميلادي، ثم حُكم الأمير الأموي عبد الرحمن بن معاوية (الشهير بعبد الرحمن الداخل) لمعظم البلاد بدءا من سنة 756 وأبرز إنجازاته فيها وشهرة مدينة قرطبة كأبرز حاضرة للعالم في ذلك الوقت. ثم الضعف السياسي الذي اعترى الدولة الأموية في الأندلس بعد ذلك بثلاثمائة سنة ونشوء ما سمي بحقبة “ملوك الطوائف”. برزت لاحقًا أحد أجمل المدن الأندلسية .ألا وهي مدينة غرناطة كعلامة مضيئة لهذه الحقبة
ملخص: يعرض لنا مونتيفيوري في الحلقة الثانية تداعيات زوال خلافة بني أمية وكيف أنها كانت “مظلة لحماية الأقليات والأعراق” التي عاشت في هذه الأرض زمنًا طويلاً، ومنهم اليهود الذي ينتمي إليهم مقدم السلسلة ذاته، وسيرى بأم عينه كيف انتهى حال عائلته إلى التعذيب والاضطهاد في محاكم التفتيش. وسيروي قصة الشخصية الأسطورية التي يمجّدها الأسبان: (إل سيد). فهل هو بطل منقذ أو مرتزق أفّاق؟ ثم سنتعرف على المرابطين ودخولهم الإندلس ومعركة سهل الزلاقة بدءًا من سنة 1086، وقائدهم يوسف بن تاشفين ومدى تأثيرهم في البلاد. ومن بعدهم سيأتي الموحدون وسيطرتهم على الأجزاء الجنوبية من الأندلس بدءا من 1146 وما هي الآثار التي خلفوها وراءهم؟ وهل هم فعلاً نسخة مبكرة من “داعش” ورؤيتها المتشددة للإسلام كما يزعم مقدم البرنامج؟ ثم سيعرض العمل صورة واقعية لملكي قشتالة وليون فيردناند وإيزابيلا وكيف وعدا بنشر التسامح وحرية العقيدة إذا تسلما المناطق الإسلامة ونقضهما لهذا العهد وإطلاقهما لشرور محاكم التفتيش التي ما سلم منها أحد لمئات السنين بما فيهم أمراء كاثوليك مقربين من السلطة، إذ ستعرض هذه الحلقة نماذج مقززة من جرائم محاكمات التفتيش وانتهاكاتها وفظائعها. في ظل فوضى فتح أسبانيا للنصرانية من جديد، سيبرز من بعيد اسم كرستوفر كولمبوس ورغبة الملكين باستغلال مشروع الرحالة الإيطالي تحقيقًا لنشر معتقدهما وفرضه على العالم الجديد. سنتعرف في هذه الحلقة كذلك على أصل تسمية “الموريسكيين” التي يستخدمها بعض العنصريين الأسبان حتى حاليا.
ملخص: تبدأ الحلقة الختامية بقصة صعود نجم أسبانيا وهيمنتها على العالم الجديد وأجزاء من أوروبا وجنوب شرق آسيا الأقصى بفعل الاكتشافات الجديدة وتأثير التوارث من إباطرة الإمبراطورية الرومانية المقدسة (التي أطلق عليها النازيون مسمى “الرايخ الأول”) وذلك بدءا من القرن السادس عشر ميلادي وإثر تولي الملك فيليب الثاني عرش أسبانيا. ويبدو أن المصطلح التاريخي الشائع “الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس” ينسب أصلا للإمبراطورية الأسبانية، قبل البريطانية، إذ تمددت الأولى تمددًا تعذرت السيطرة عليه، مما أدخلها في حروب وصراعات وثورات أحده الصراع الطويل مع إنجلترا البروتستانتية وانتهى بانتصار ملكة إنجلترا إليزابيث الأولى في معركة الأرمادا سنة 1588 وسقوط فيليب مريضًا ووفاته بعد ذلك وبدء انحدار أسبانيا من مركزها كقوة عظمى عالمية مع تضعضع فرع عائلة هابسبيرغ الذي يحكم البلاد بسبب الأمراض الوراثية والصراع على السلطة. ليصل الحكم بعدها إلى عائلة بوربون الفرنسية مع تولي فيليب الخامس أواخر سنة 1700. ثم ما لبثت أسبانيا أن واجهت تداعيات الثورة الفرنسية سنة 1789 واعتلاء نابليون بونابرت عرشًا إمبراطوريًا غيّر به أحكام اللعبة في أوروبا بأسرها، فوقعت أسبانيا تحت الاحتلال الفرنسي المباشر حيث نصّب نابليون أخاه جوزيف ملكًا على أسبانيا رغم أنوف الأسبان. فاندلعت الانتفاضة الأسبانية وساعدهم الإنجليز على تمردهم ضد الحكم النابليوني (وهم الذين كانوا أعداء الأمس). غير أن الأفكار والمبادئ التي أحدثتها الثورة الفرنسية ونابليون تركت أثارًا عميقةً في أوساط المجتمع الأسباني كما تسبب شيوع المعتقدات الاشتراكية والشيوعية والليبرالية في أوساط الطبقات العمالية في نهاية القرن التاسع عشر بالرغبة من الخلاص من تحالف الطبقة الرأسمالية الزراعية والعقارية مع المؤسسة الدينية الكاثوليكية وكذلك القوى العسكرية ذات الأصول الأرستقراطية. ومع أن أسبانيا تجنبت الوقوع في الحرب العالمية الأولى (1914-18)، إلا أن مخاضات الصراع الاجتماعي والطبقي أدى إلى إلغاء الملكية سنة 1931 ونشوء الجمهورية التي عملت على إجراء تغييرات ثورية آنذاك لم تتقبلها القوى الرجعية والوطنية وتحالفاتها وهو ما أدى إلى ارتقاء الجنرال فرانكو واندلاع الحرب الأهلية الأسبانية سنة 1936 (سنفرد لها موضوعا وثائقيا خاصا في هذه المدونة) واستمرت 3 سنين عجاف أكلت الأخضر واليابس. ثم تنتهي هذه الحلقة بتسليم فرانكو الحكم إلى الأمير البوربوني الشاب خوان كارلوس سنة 1975 الذي حول مسار البلاد نحو الديمقراطية والنظام البرلماني المنتخب، وانتهاءً باعتزاله العرش سنة 2014 وتسليمه الحكم إلى إبنه فيليب السادس الذي يواجه الآن ظهور نزعات إنفصالية متجددة، بدءًا من قيام إقليم قطالونيا باستفتاء شعبي للمطالبة بالاستقلال، وهو ما تكهّن به البرنامج في آخر الحلقة.
عن السلسلة الوثائقية ومونتيفيوري
أنتجت شبكة بي بي سي هذه السلسلة الوثائقية وعرضتها في أواخر سنة 2015 وقدمها المؤرخ البريطاني الشهير سايمون صباغ مونتيفيوري الذي قدم منذ بداية هذا العقد الثاني عددا من ثلاثيات السلاسل الوثائقية منها “القدس: نشوء مدينة مقدسة” سنة 2011، ثم “روما: تاريخ مدينة خالدة” سنة 2012، ثم “بيزنطة: حكاية ثلاث مدن” سنة 2013 (كلمتني بشأن ترجمة هذه السلسلة السيدة سناء بركات وقالت إنها بدأت بترجمتها)، ثم قدم العمل الذي نعرضه اليوم، ثم قدم أواخر سنة 2016 “فيينا: الإمبراطورية والسلالة والحلم” وقد بدأ بترجمته كذلك الأستاذان أمير علم الدين ومحمد كمال المرموشي على أمل الانتهاء منه بداية العام المقبل إن شاء الله. على أن مونتيفيوري في الأصل كاتب أكاديمي في التاريخ وله كذلك كتابات روائية، أما أهم مؤلفاته التاريخية فهو كتاب “ستالين بلاط القيصر الأحمر” الصادر سنة 2003، ثم أردف هذا الموضوع بكتاب آخر بعنوان “ستالين شابًا” وصدر سنة 2007، أما أحدث كتبه التاريخية فبعنوان “آل رومانوف 1613-1918” وصدر سنة 2016. تعرفتُ قدرًا على مونتيفيوري أثناء تصفحي لكتاب أوليغ خليفينيوك ونورا ساليغمان بعنوان “ستالين: سيرة طاغية جديدة” حيث امتدح الكاتبان مونتيفيوري كمؤرخ “يتقن توظيف جمع مواد الأرشيف والمذكرات والقصاصات التاريخية لتقديمها بعمل تاريخي مشوق وينجح بجذب جمهور عريض نحو الكتابات التاريخية” كما ذكرا في الصفحة الثانية من تمهيد كتابهما. وبالتالي، نحن أمام قارئ جيد لصفحات التاريخ وأكاديمي بارز يجيد عرض التطور التاريخي وسياقاته وملابساته. وثمة معلومة عن هذا المؤرخ عرفتها مؤخرًا عن مونتيفيوري وهي أن له علاقة وطيدة مع عائلة روثتشيلد البريطانية اليهودية الشهيرة ماليًا ومصرفيًا، ويبدو أنه احتفل معهم بذكرى وعد بلفور في لندن مع لفيف من الحضور.
في مهرجان دار كلايفدن الأدبي بحضور: اللورد روثتشيلد وسايمون شاما وهاوارد جاكوبسن وديفيد رينولدز وسايمون صباغ مونتيفيوري
بيد أن التشكك المنطقي في المعلومة ومصدرها ومرجعها التي تعرضها الوثائقيات حاضر دومًا، وهو ما واجهني به كثير من الأصدقاء في وسائل التواصل الاجتماعي. وكانت إجابتي أن طبيعة العمل الوثائقي أو التسجيلي تجعل من العسير ذكر مصادر معلومة معينة (وإن كان هذا يمكن تغييره عبر ابتكار طرق معينة بعرض المادة الوثائقية)، فهي تختلف عن نمطية المادة أو النص المكتوب في كتاب أو بحث أو دراسة التي تقتضي تسطير المراجع المصدرية المذيلة في الصفحات أو في نهاية كل فصل وذلك لأية معلومة تورد بذكر المرجع ومؤلفه وسنة النشر ورقم الطبع، وإلا لن يقبل هذا النص المكتوب كمادة موضوعية ذات قيمة يُرجع إليها عن الحاجة. الحل بطبيعة الحال هو توفيقي ويتطلب جهدًا من مشاهد الوثائقيات المهتم، وهو ببساطة أن يعود هذا المشاهد للمراجع التي عالجت المعلومة التي يعرضها الوثائقي فيدققها ويوازن بين الغث والسمين في المعلومات التي قد يدحرجها علينا صانعو هذا العمل الوثائقي أو ذاك.
لا شك أن هذه السلسلة الوثائقية عن أسبانيا تختصر تاريخ هذا البلد وتوجزه في ثلاث ساعات فقط، وهي بطبيعة الحال مدة غير كافية لتسليط الضوء على موضوع واسع النطاق كتاريخ بلد معين مثل أسبانيا. لكن يبدو أن الاختزال في عرض المعلومات الغزيرة والتفاصيل الدقيقة أصبح فنًا قائمًا بحد ذاته. فإذا تقبلنا هذا الصنف السردي للمعلومة التاريخية من هذا الباب، أمكننا وضع هذه المرئيات التي تدمج المعلومة بالصورة وتلمس أماكن الحدث الفعلية في مكانها الصحيح وإطارها القابل للبناء عليه والحصول من خلاله على ثمار نافعة. الركيزة الأساسية التي أشدد عليها دائمًا أن مثل هذه الوثائقيات التاريخية ما هي إلا بوابات معرفية وفواتح معلوماتية ولا يصح تحميلها أكثر مما تتحمل، فهي ليست الحصيلة الكبرى لأي موضوع تتطرق له، بل استهلال تشويقي وجذب معرفي خلاب يرتقي مستواه بارتقاء محرري العمل الوثائقي وصانعيه ومقدميه. وفي عملنا الذي نتطرق إليه اليوم، لاحظت السلاسة في الانتقال ما بين حقبة وأخرى، وكأننا خلال هذه الساعات الثلاث نتابع قصة مشوّقة تروى وإن تغيرت الأحداث والأزمان والشخصيات. فمثلاً ربط السياق السابق لوصول عبد الرحمن الداخل إلى عرش الأندلس مع السياق اللاحق، اتسم بالمنطقية والتسلسل الطبيعي مع عدم إغفال النقاط الهامة بالأحداث. وكذا، في موضوع الحرب الأهلية الأسبانية، إذ شاهدنا ربطًا جيدًا لما سبقها من سياقات جعلتنا ندرك أهم أسباب سقوط الجمهورية الأسبانية وصعود الطاغية فرانكو على سدة السلطة. وشرح العوامل المؤدية لهذا الصراع الأسباني الأهلي لم تتطرق إليه كثيرا السلسلة الوثائقية التي أنتجها تلفزيون غرانادا سنة 1983 والتي سنعرضها هنا لاحقا بإذن الله، بل ركزَت على يوميات الحرب وتعدد الفصائل المتناحرة ورؤواها وآراء ناشطيها وقادتها.
أسبانيا: نقيض الدولة ووهم الأمة
(تأملات وأفكار)
تبرز أولى مفاجأت العمل في أن تاريخ هذه البقعة الناتئة من أوروبا والمشرفة على شمال أفريقيا وأقصى المغرب العربي لا يظهر على السطح سوى بعد مغامرة حنبعل ومحاولته الهائلة بغزو روما سنة 214 قبل الميلاد، وهو تاريخ غير بعيد نسبيًا إذا ما قورن بالمناطق المحيطة به كاليونان وإيطاليا وبريطانيا، ناهيك عن بلدان الحضارات الكبرى كالعراق ومصر والصين والهند، فهي منطقة إذًا تفتقد لبعدي الأصالة والعراقة. لعل هذا المظهر يدعوني إلى التساؤل هنا: هل تاريخ هذا المكان المسمى حاليا “أسبانيا” لا يبرز ولا منه حدث إلا مع قصة حنبعل؟ يجبرنا التساؤل على البحث في عمق هذه المنطقة والبقعة الجغرافية الواقعة في جنوب غرب أوروبا، وما إذا كان هذا الشكل الذي وصلت إليه بتكوين دولتين لاتينيتين مثل اسبانيا والبرتغال يجسّد جوهرًا طبيعيًا في نشأة الكيانات السياسية الموحّدة. فالمسألة هنا ترتبط بفلسفة تكوين شكل الدولة (أو الشعب أو الأمة) ومسماها وتأثيرها في وعي أفراد هذا الشعب أو ذاك وكيفية استحضارها لروح الولاء والانتماء في نفوسهم. وهنا مكمن المفاجأة الثانية، الشعوب التي تقطن أسبانيا لا تشعر بهذه العوامل والمؤثرات التي نجدها في بلدان كثيرة. فيبدو أنهم ليسوا قومية واحدة ارتبطت ببقعة أرض واحدة لكي يحدث التفاعل الطبيعي بين الإنسان والمكان، فهم بونيقيون في البداية (كما يسميهم الرومان نسبة إلى الفينيقيين) ثم هم قوطيون غربيون بما فيهم من قبائل مختلفة كالفاندال والسويبيين، ثم هم أندلسيون ذوي ثقافة مزجت الحضارة الإسلامية بالعنصر القوطي وكذلك أصحاب الديانات كاليهود مثلا، ثم هم أوروبيون كاثوليك متحمسون يسوسهم آل هابسبيرغ والإمبراطورية الرومانية المقدسة، ثم أصبحوا غربييين أدخلوا الفكر اليساري والاشتراكي. فهذا المزيج القومي والعرقي عبر مختلف الأزمان يمكن أن يقدم لنا منتوجًا إيجابيًا (كما في الملكية الأسبانية المتسامحة لخوان كارلوس وكذلك نموذج الخلافة المتسامحة والتعددي التي قدمها عبد الرحمن الداخل) أو صورة شوفينية مشوهة (كالتي قدمها فيرديناند وإيزابيلا ومحاكم التفتيش وكذلك النمط الإجرامي الإقصائي لدى الجنرال فرانكو ونظامه العسكري). فمفهوم الدولة يحتاج إلى قواعد صحيحة لتبنى عليها، سواء ركائز فكرية وأخلاقية وعملية واتفاق إجتماعي وذلك حتى تكتمل شروط العقد الذي ترتكز عليه هذه الدولة لتثبت في وجه العواصف الداخلية والخارجية. وكيف يطمئن الناس أن الدولة لن تتغول عليهم أو حتى تحط من كراماتهم -كما شاهدنا من إهانة القطالونيين في عقر دارهم عندما قررووا عمل استفتاء لتقرير مصيرهم. الدولة قد تأخذ أشكالاً متعددةً: الشكل الديني، أو الشكل الإمبريالي، أو الشكل الاستبدادي، أو الشكل الديمقراطي، لكن لا علاقة لهذا كله بالأساس الذي يجب أن تنبني عليه الدولة الأمة Nation التي تنشأ بالاتفاق والعقد وتوافق معظم مكونات الشعب الرئيسة عليه. فهل هذا حدث في أسبانيا؟ لعله حدث، لكن نتيجته فرانكو وذبح آلاف مؤلفة من الأسبان بدءا من سنة 1936.
مونتيفيوري داخل المسجد الإمبراطوري الكبير
الشعوب الواعية لا تبكي على اللبن المسكوب، بل تصحح وتراجع مواقفها لترى أين هي سائرة في طريق المستقبل. لقد دخل المسلمون إلى شبه الجزيرة الآيبيرية في القرن الثاني الميلادي، لكنهم توقفوا عند هذا الحد دون مبرر. فإذا آمن المسلمون أنهم الأقدر والأجدر بحماية الحريات والتعددية واحترام الاختلاف كسنّة إلهية وقانون طبيعي لدى البشر، فلا شك أن التوقف عند حدود جبال البرانس لهي خيانة للبشرية التي حُرمت من هذه الركائز الجليلة التي تُبنى عليها الحضارات والأمم. يؤكد سايمون صباغ مونتيفيوري هذه الحقيقة في الحلقة الثانية من السلسلة عندما رثى سقوط خلافة بني أمية في الأندلس لكونها “حامية حمى الأقليات وحرياتها الدينية” كما قال بنفسه، وهو لا يقولها من فراغ فهو وعائلته اليهودية ممن انكووا بنار محاكم التفتيش بعد انحسار المسلمين من أسبانيا التي تحولت إلى كاثوليكية. لعل هذا الرثاء ينعكس على صدى الذاكرة الرومانسية لدينا عن إرث الدولة العباسية المتألق حين صرخت امرأة “وامعتصماه” عندما هجمت على مدينة عموريةقوة رومانية، فقيل حينها إن المعتصم جهّز حملة عسكرية لتأديب الروم، فكان أن أندثرت المدينة بعد حصار طويل. غير أن هذا يعد بكاءً على لبن مسكوب أيضًا ولا قيمة من ذكره سوى أنه من ضمن الحقائق السالفة التي اتفق عليها معظم الناس. أما المنفعة الحقيقة تقتضي نبش الأسباب التي أدت لتراجع المسلمين عن المبادئ السامية التي تتوق لتحقيقها البشرية وصولاً نحو إحقاق الحق والحرية والعدالة والمساواة، وهذا مبحث طويل وكبير لا تكفيه هذه المساحة الضيقة، إلا إن كل المؤشرات تكشف النقاب عن العامل المؤدي لكل الأسباب، فمهما أبحرنا وتعمقنا سنصل دائمًا إلى النتيجة ذاتها، فالسبب يكمن بالاستبداد ورضوخ الأمم والشعوب له، الذي هو مدمر لها ومودي بها إلى المهالك. لقد استثمرت المنطقة الأسبانية وشمال أفريقيا الدفع الحضاري للإسلام في عصوره الأولى ومكتسباته النافعة للبشرية طوال سبعة قرون ونيف، إلى أن أطل الاستبداد برأسه فهدم كل شيء. لكن هناك من فهم الدرس وأيقن المحاذير، فقد أدى احتكاك الأوروبيين بالمسلمين سواء في الأندلس أو من خلال الحروب الصليبية، إلى التفطن إلى وجوب التخلص من داء الاستبداد بكافة أشكاله السياسية والدينية، ولعل جزءا من مسببات الحروب الكثيرة التي وقعوا فيها أن قطاعا من المجتمع عاش على هذه النمطية ولا يريد الخروج منها، كما أن بعض التغييرات في المقابل اتسمت بالراديكالية الشديدة وهو ما أدى إلى كثير من الحروب الأهلية في عديد من البلدان الأوروبية، كالحرب الأهلية الأسبانية التي انتصر فيها الاستبداد (مؤقتًا). إلا أن أسبانيا ومع انطواء حقبة فرانكو تحولت نحو الملكية الدستورية والنظام ذي الشكل الديمقراطي، لكن يخطئ من يظن أنها تجاوزت أشباح الماضي. فبالرغم من النجاح الاقتصادي التدريجي الذي صعدت له البلاد منذ نهاية السبعينيات، والدفع بقوة نحو الانضمام للاتحاد الأوروبي والاستفادة من منافعه التجارية والإقتصادية، تبقى البلاد معرضةً للاهتزاز السياسي في أية لحظة. وقد اتضح أن أسبانيا تقف على برميل متفجر. لا تتعلق المسألة -حسب رأيي- وكما ذكر مونتيفيوري بالنزعة الأقليمية الانفصالية كما في أقليم قطالونيا أو الباسك -الذي يتشوق للانفصال أكثر من جيرانه في الشمال الشرقي- أو أقليم الأندلس جنوبًا. هذا مجرد سطح للجليد، فالمشكلة تتجذّر نحو مفهوم الدولة الناشئة على أنقاض ممالك الأندلس. فهل مطلوب من هذه الأقوام أن يذيبوا هوياتهم وثقافاتهم ولغاتهم الخاصة بهم؟ إذًا ستصبح الدولة هنا كالقطار الذي يخطف الناس من الطريق ليكمم أفواههم فيه ويجعلهم يعملون بالسخرة فوق عجلاته. ومن هنا، نلحظ كذلك أن الشكل الديمقراطي للدولة لم يغيّر التوجه القمعي الباطن والرؤية الأحادية لها. فالوجه المشترك بين القصف بالمدافع والطائرات الذي أقدم عليه فرانكو وبين ضرب المصوتين وأفراد لجان الاستفتاء كما شهدنا في قطلونيا مؤخرا هو قتل الإرادة وإلغاء الهوية التعددية لشعوب البلاد. وفيليب السادس (الملك الجديد) وحكومة راخوي لا يختلفان عن فرانكو إلا بالفرق بين الفتك الفعلي والقتل المعنوي، في حين أن العقلية هي ذاتها ولا فرق يذكر بين الإثنين من هذه الناحية.
مشهد تكرر في أسبانيا كما في البلدان العربية: عندما يريد شعب نيل حريته
ربما يقترب هذا الطرح من منهج مدرسة الفلسفة السياسية المعروف بـ “اللاسلطة” (أو ما يطلق عليه المذهب الفوضوي Anarchy) التي نظّر لها الفيلسوف إيمانويل كانت الذي قسّم الحكومة إلى أربعة أصناف، كما فصّل فيها عالم الأنثروبولوجيا ديفيد جرابر في كتابه”جزيئات من أنثروبولوجيا لاسلطوية” ، وكذلك عالم الأعراق الفرنسي بيير كلاستريه الذي دوّن دراسة بعنوان “المجتمع ضد الدولة“، كما أن من المعلوم أن عالم اللغويات ذائع الصيت نعوم تشومسكي ينتمي إلى هذا المذهب. والفكرة العامة التي يرتكز عليها هذا المذهب في الفلسفة السياسية أن السلطة أو الحكومة بمظهرها وطبيعتها الهرمية تحد من قدرة المجتمع على التطور الطبيعي وتكبّل من حرياته وتعمل على نهب خيراته، وأن كل المزاعم حول القانون الذي تفرضه الدولة لصالح المجتمع إنما هو، بطريقة أو بأخرى، وسيلة للهيمنة والسيطرة، مهما اختلف شكل الدولة وطابعها، سواء أكان الاستبداد يغلب على شكلها أو مالت نحو الحكم المنتخب والتعددي. ومن المثير للاهتمام أن أحد المجموعات التي انتمت لجانب الجبهة الشعبية التي شكلت الحكومة قبيل اندلاع الحرب الأهلية الأسبانية كانت فرقة تُصنف ضمن المذهب اللاسلطوي، وذكرت مصادر يوميات الحرب أنها شكلت مجتمعات عاشت بلا حكومة أو سلطة أثناء الحرب. والحق أننا نعيش في حقبة تاريخية معاصرة ظهر فيها أن الدولة بأجهزتها ومؤسساتها العميقة تغوّلت على المجتمع والفرد ولجأت إلى سحقهما ونزع معظم مقدرات الحرية المكفولة لهما. فهي تمتلك كل الوسائل الصلبة والناعمة التي يحتاجها المجتمع كالصحة والتعليم والثقافة والشرطة والجيش والإعلام، وتعمد الدولة أحيانًا كثيرة إلى منحها وتطويعها لمن تشاء وتمنعها وتحتكرها عمن تشاء، كما أنها تعرقل المجتمع عن فرض رقابته على السلطة ومنع فسادها، حتى في أكبر الدول الديمقراطية. وللأسف الشديد، ثبت أن هذا المنظور فيه شيء كثير من الصحة، كما رأينا مثلا في عالمنا العربي من توغل الدولة وتوحشها الجنوني تجاه المجتمع الذي يحاول فقط التعبير عن رأيه سلميًا. ولم تكتفِ الدولة بهذا الفجور، بل حرضت كبار المفكرين والمثقفين وأهل العلم والرأي على السير بطريقها الأعوج، وهو ما أدى إلى وقوع شرخ عمودي بين طبقات المجتمع بما يحتويه من تيارات فكرية وحزبية وأكاديمية. لكن، في المقابل، هذا المذهب السياسي الفلسفي لا يقدم لنا سوى جانبًا من المشكلة -وإن نجح بتوصيفها جزئيًا- ولا يعرض لنا حلولا قابلة للبناء عليها ويمكن ترسيخها على أرض الواقع. فالمشهد الطوباوي والمدينة الفاضلة (اليوتوبيا) إنما هو حلم تتمناه البشرية جمعاء، في حين أنه غير موجود في هذا العالم. فهكذا هي طبيعة البشر حسب قوانين الأرض ونواميس الكون: فيهم من الخير كما فيهم من الشر، وفيهم من الطيبة كما فيهم من القبح، وتتنازعهم الرغبات والأهواء كما يسكنهم الصفاء يرققهم الإيثار. على أن الدولة الحديثة إذا تمادت بهذا الطريق الوعر ومضت بهذه المغبة بلا تعقل فإن عاقبتها وخيمة بلا شك، إذ تتناسى الدول وأنظمتها المتجبرة إن الأنسان بلا حرية “ذكرى إنسان” مع الاعتذار من نزار قباني.
قصر الحمراء البديع والمنيع
تقدّم لنا هذه السلسلة الموجزة لتاريخ بلد يتمتع بمكان استراتيجي خطير كأسبانيا نموذجًا لضرورة الوفاق والتعايش السلمي والحريات العقائدية والازدهار الإقتصادي كأسس يرتكز عليها بناء أية أمة وإنشاء دولة سواءً قديمًا أو حديثًا. وكيف أن الاستبداد السياسي والديني له تداعيات طويلة المدى تؤثر على أجيال متعاقبة ولا يندثر أثرها بسهولة. عانت أسبانيا من هذا الإرث الثقيل، فهل تسعى إلى حلّه بالهروب إلى الأمام عبر غطاء النجاحات الإقتصادية والتطلعات الوحدوية مع أوروبا؟ وأنا أكتب هذه السطور الختامية، أشاهد أحدث الأنباء التي تذكر أن الحكومة الأسبانية تستعد لمعاقبة إقليم قطلونيا بتهمة “التمرد” ومحاكمة قادتها ونوابها، وربما شعبها بأسره. فيبدو أن نظام أسبانيا لا يريد أن يدرك طبيعة البلاد أو التوافق مع شعوبها على عقد صحيح جديد. والمسلسل قائم ومستمر إلى أجل غير مسمى.
عن ترجمة السلسلة
بدأت ترجمة هذه السلسلة في منتصف شهر يونيو الماضي وقدمت الحلقة الأولى في بداية يوليو من هذا العام، ثم الحلقة الثانية في أواخر شهر أغسطس، ثم ترجمة الحلقة الختامية قبل يومين من كتابة هذا الموضوع. وتخلل هذه الترجمات الثلاث بطبيعة الحال ترجمتي للفيلم التوليودي “الذبابة” وكذلك تنقيحي المستمر لترجمة مقدمة كتاب “الهيمنة الغربية على العالم” بمشاركة بعض اللغويين الكرام.
الأسلوب اللغوي الذي عرضه وتلاه سايمون صباغ مونتيفيوري تميّز بالسلاسة والسهولة الممتنعة، على خلاف زميله المؤرخ الأكبر منه خبرة وتجربة البروفيسور سايمون شاما الذي رأيناه في سلسلة تاريخ بريطانيا يكثر من المواربة والمجاز والمداورة حول صلب المعنى وعدم طرقه مباشرة، مما جعلنا أنا وزميلي في الترجمة أحمد الزعبي نحتار أحيانًا في المعنى المقصود. كما أن لغة مونتيفيوري أبسط وأوضح نسبيا من الأسلوب الذي تحدث به الدبلوماسي كرستوفر ماير في سلسلته الوثائقية التاريخية التي عنونتها “الهدف المنشود” وقدمت ترجمتها قبل خمس سنين.
إلا إن مسألتين اعترضتنا في هذه الترجمة:
- أولاهما: ترجمة العنوان الفرعي The Making of Spain فهل يقابله نشوء فعلا، أو تاريخ نشوء، أو نشأة، أو تأسيس وصناعة، أو ما يدور حول هذه الألفاظ والمفاهيم؟ لعل هناك ما هو أفضل من هذه الترجمة المسطورة في العنوان، وما من مانع يمنع تعديل هذا العنوان الفرعي إلى صيغة أبلغ أو تأويله لمعنى أعمق. لكنه في نهاية المطاف مجرد لفظ وصيغة يفترض ألا تفسد أفكار العمل بمجمله. فإذا رأى بعض المشاهدين في هذا العنوان ركاكة واضحة، فربما يشفق بعضهم على ترجمة العمل العامة من هذه الركاكة الترجمية.
- ثانيهما: ورد في الحلقتين الثانية والثالثة مصطلح The four horsemen of the apocalypse وقد صادفته أيضا في أواخر مقدمة كتاب “الهيمنة الغربية” للبروفيسور إيان موريس الذي زادهم في كتابه “فارسا” فأصبحوا خمسة. ويبدو أن لهذا المصطلح بعدًا دينيًا توراتيًا. فموسوعة الوكيبيديا العربية تذكر أنهم “فرسان رؤيا يوحنا الأربعة” حيث ذُكروا في الإصحاح السادس لسفر رؤيا يوحنا. وهو تصوير خيالي مجازي وسوداوي لظواهر: الصراعات والحروب والمجاعات والموت. لكنني لم آخذ بهذا اللفظ “فرسان رؤيا يوحنا الأربع” بل لجأت إلى لفظ يدلل على المعنى السياقي وهو “فرسان الهاوية الأربعة”. ولا أعلم أن كان هذا التعبير موفقًا أو ملبيًا للمعنى الدقيق للمفهوم. وللأساتذة الكرام المختصين في الترجمة أن ينقدوا ذلك لنصل إلى مفهوم موحد مقبول.
تحميل الترجمة والسلسلة الوثائقية
للحصول على ملفات الترجمة العربية والإنجليزية من موقع صب سين
من هنا
ولتحميل السلسلة الوثائقية عبر برنامج التورنت
من هنا: ح1 – من هنا: ح2 – من هنا: ح3
كما يمكن متابعة السلسلة عبر الروابط أعلاه في الجوجل درايف مع التأكد من تفعيل زر CC لتظهر الترجمة بوضوح
حيث ستعرض على أجهزة الهواتف الذكية واللوحية والكمبيوتر الذي يتمتع بميزة تعديل الخط من ناحية تغيير لونه وتكبيره أو تصغيره وتغيير نوعه. فمشاهدة مفيدة وممتعة.
ترجم العمل وقدمه وكتب تقريره: فيصل كريم الظفيري
تقبلوا أطيب تحية
للحصول على ملفات الترجمة العربية والإنجليزية من موقع صب سين
من هنا
ولتحميل السلسلة الوثائقية عبر برنامج التورنت
من هنا: ح1 – من هنا: ح2 – من هنا: ح3
كما يمكن متابعة السلسلة عبر الروابط أعلاه في الجوجل درايف مع التأكد من تفعيل زر CC لتظهر الترجمة بوضوح
حيث ستعرض على أجهزة الهواتف الذكية واللوحية والكمبيوتر الذي يتمتع بميزة تعديل الخط من ناحية تغيير لونه وتكبيره أو تصغيره وتغيير نوعه. فمشاهدة مفيدة وممتعة.
ترجم العمل وقدمه وكتب تقريره: فيصل كريم الظفيري
تقبلوا أطيب تحية
تعليق