بسم الله الرحمن الرحيم
عن العمل الوثائقي
قبل نقاش الموضوع، يفضّل مشاهدة العمل الوثائقي عبر اليوتيوب من هنا
هل حرب أكتوبر/تشرين 1973
انتصار أم هزيمة؟
مرت علينا منذ أيام قلائل الذكرى التاسعة والثلاثين من حرب أكتوبر/تشرين التي خاضتها كل من مصر وسورية إلى جانب عدد من الجيوش العربية الأخرى ضد الكيان الصهيوني الذي احتل بعد حرب عام 1967 كل من سيناء والجولان والضفة الغربية بما فيها القدس الشريف وقطاع غزة. وسنناقش بهذا الموضوع تلك الحرب وتحديدا جبهة الجولان الذي لا يزال محتلا منذ الهزيمة النكراء عام 1967 والتي سمّيت زورا وبهتانا بـ"النكسة". وسنرى من خلال هذا العمل الوثائقي جوانب تصويرية دقيقة من المعارك في جبهة الجولان. ورغم إن الكثيرين قد تحدثوا عن تفاصيل المعارك في جبهة سيناء، إلا إن مسألة الربط بين الجبهتين قد تبدو مشوّشة وغير واضحة لعموم الناس، وهي كذلك لأنها يراد لها أن تبقى كذلك، حتى لا ينكشف المستور، وتعي الشعوب مدى التلاعب بمصيره. ومع تقديمي لهذا الموضوع، أؤكد أنني لست خبيرًا عسكريًا أو محللاً استرتيجيًا، ولكن لا أظن أن هناك ما يمنع مناقشة أفكار هذا الموضوع وعرض التأملات والاستقراءات الناتجة عنه، وآمل من الله التوفيق بعرض هذه الأفكار.
عن العمل الوثائقي
العمل الوثائقي هو حلقة من ضمن سلسلة Greatest Battle Tanks وهي حلقة خاصة عن جبهة الجولان ومعارك الدبابات التي اندلعت بها في حرب أكتوبر/تشرين عام 1973. وكالعادة يركّز العمل على عرض وجهة النظر الصهيونية من خلال عرض وجهات نظر وتجارب قادة الجيش "الإسرائيلي" ممن خاضوا معارك الجولان. وحجتهم الدائمة هي أن المسؤلين العرب سواء المصريين أو السوريين يرفضون إجراء مثل هذه اللقاءات، إلا أن البرنامج عرض وجهة نظر الدكتور مرهف جويجاتي وهو أكاديمي سوري معارض لنظام الأسد، حيث أطلقها مدوية صريحة بالبرنامج أنه "لن هناك سلام بالشرق الأوسط ما لم يعد الجولان لسورية التي لم ولن تتنازل عن هذه المنطقة". وبذلك حاول البرنامج أن يكون متوازنًا قدر الإمكان، وهو غير ذلك بطبيعة الحال. ولكن من المفيد أن نرى كيفية وقوع المعارك بالجولان وتطورها بالأرض، وهو ما عرضته هذه الحلقة بشيء من الإيجاز من خلال تصوير الجرافيكس التجسيدي.
قبل نقاش الموضوع، يفضّل مشاهدة العمل الوثائقي عبر اليوتيوب من هنا
هل حرب أكتوبر/تشرين 1973
انتصار أم هزيمة؟
في البداية وقبل الخوض ببعض من تفاصيل معارك الجولان، لا بد من التأكيد أنه لا يوجد إنسان يحب تذوق طعم الهزيمة ولا يوجد إنسان طبيعي يتمتع بذكر أن هزيمة حاقت به دون أن يحدث ذلك فعلا. ولكن ما يفترض أن يكون صحيحا وسليما هو عدم التعالي على الحقائق ودفن الرأس بالرمال، ولا بد من تسمية الأسماء بأسمائها. فما وقع عام 1967 هو هزيمة شنيعة لنا جميعا كعرب، أما محاولة تلطيفها وتزيينها عبر تسميتها "بالنكسة" تارة أو أن "المهم أن إرادتنا لم تذعن" تارة أخرى، وهو كله كلام حق يراد به باطل فهي مجرد أوهام ننسجها لعقولنا. أما ما حدث في حرب عام 1973، فقد برز فيه مظهر غامض غريب، فهي ليست انتصارًا وليست هزيمة بذات الوقت، إلا أن الأمر المؤكد هو أن نتائج هذه الحرب كانت مخيبة للآمال بأفضل الأحوال، فلم تتحرر مرتفعات الجولان إلى يومنا هذا، ولم تتحرر سيناء إلا بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد التي كانت لها آثار سلبية على الشعب المصري الذي رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، بينما لا تزال الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة خاضعتان للاحتلال أو ألعوبتان بيد الصهاينة إن وضعنا قليلا من أدوات التبرج على الصورة. وهكذا، فإن خداع الذات أو إيهام النفس قضية سيئة وخاسرة، وإذا أردنا أن ننتصر فعلا فعلينا أن نتحلى بالجرأة لذكر الحقيقة، فعندما نهزَم نقول هزمنا وعندما ننتصر نقول انتصرنا، أما أن تقام احتفالات لدغدغة مشاعر الناس والإيهام بواقع تاريخي غير صحيح فهذا مردوده عكسي ولا شك. وهل نحن أفضل من رسول الله عليه الصلاة والسلام وصحابته رضوان الله عليهم حينما وصفوا ما جرى بموقعة أحد على أنه هزيمة ولم يزيّنوها أو يقولوا أننا انتصرنا بأولها وينسوا ما جرى بآخرها؟ على إن المظاهر المتباينة لتلك الحرب تعطي لمن يريد أن يهتف بالانتصار مجالاً (سواء عبر ملحمة العبور وتحطيم خط بارليف من جانب مصر أو عبر الاندفاع السوري الشرس وما أطلقوا عليه تحرير القنيطرة) فالكل حر بتفسير الأمور على هواه، ولكن هذا لا يغني ولا يغير من الحقيقة شيئا، فما هي الحقيقة؟ وما هو الثمن الحقيقي الذي ندفعه كشعوب جراء تغييب الحقيقة ووأدها؟
بداية قصة الحرب
بدأت القصة بعد هزيمة عام 1967، حيث شعرت الأمة بوقع الكارثة وأن كل ما جرى قبلها سيختلف عما يحدث بعدها. ويبدو أن الأنظمة العربية استشعرت هذا الأمر وخشيت من احتمال استفحاله شعبيًا وخطورته على كراسيها، فعملت على تناسي الخلافات السابقة فيما بينها (التقدميةxالرجعية والحدوديةxالحدودية وغيرها) ولو مؤقتًا، والتعاون الجدي "لإزالة آثار العدوان" كما قيل حينها. إلا إن الأمور أخذت منحى آخر من خلال استفراد كل من مصر وسورية بالتنسيق لشن حرب على جبهتيهما، بغض النظر عن اشتراك جبهة الأردن في هذه الحرب من عدمه، مع الحرص على عدم إطلاع الدول العربية الأخرى على هذه الخطط. ورغم أن هذا التكتم أدى لنجاح فكرة المفاجأة بشن الحرب، إلا أن العبرة يجب أن تكون بإيقاع المفاجأة على العدو لا على الحلفاء، لأنه يفترض بهم أن يساندوا الجبهات القتالية في حال وقوع أي أزمات محتملة خلال المعارك أو بعدها، وهو ما حدث فعلا بكل أسف بعد البداية الممتازة للحرب من جانب العرب. وقد خططت القيادتان المصرية والسورية للحرب معًا دون إشراك للآخرين، ولا بأس بهذا إن كان سيؤدي لنتائج مضمونة، إلا إن واقع المعارك أظهر جوانب كارثية بهذا التنسيق المشترك، فالمصريون بنيت خطتهم على تحطيم خط بارليف وعبوره وكسر الحاجز النفسي وإيقاع الصهاينة بالصدمة من جراء هذا العبور وبالتالي جعلهم يعيشون بتخبط وعدم قرار، وهو ما حدث، إلا إن الخطة المصرية واسمها الرمزي "بدر" مرتكزة على العبور ومن ثم عمل خط عرضي بعمق 15-18 كيلومتر شرق القناة وهو المدى الذي تصله الدفاعات الجوية المصرية التي تحمي ما يقع تحت هذا الخط من هجمات الطيران الصهيوني، وهو ما تدرّب عليه الجيش المصري طوال الفترات التي تلت 1970، إلا إن القيادة السورية تقول أن الجانب المصري عرض عليها خطة أخرى باسم "المآذن االعالية" التي تنص على وصول الوحدات العسكرية المصرية إلى المضائق التي تبعد عن مدى صواريخ الدفاع الجوي بكثير، وبالتالي تصبح القطعات العسكرية المهاجمة عرضة لهجمات الطيران الصهيوني وهو ما سيعرضها للتدمير، إلا إن هذا ما أعتقده الجانب السوري وبنى عليه الكثير من استرتيجياته العسكرية بالحرب والتي ثبت فشل معظمها. وقد وقع هذا المأزق حين تعثّر تقدم القوات السورية في الجولان، وهنا طالب السوريون المصريين بتطبيق الخطة التي عرضوها عليهم (المآذن العالية) وذلك بعد نجاح الجيشين الثاني والثالث في عبور القناة والتوقف عند خط 15-18 كيلومتر وهو ما أُطلق عليه "وقفة تعبوية". والحقيقة إن رئيس الأركان المصري أنذاك الفريق سعد الدين الشاذلي رحمه الله ذكر مرارًا عدة نقاط هامة حول مسألة التنسيق بين جبهتي الجولان وسيناء ومنها:
إلا إن تحذيرات الفريق الشاذلي لم تجد آذانا صاغية، والغريب بالأمر أن الفريق عبد الغني الجمسي ينتقد ما ذهب إليه الشاذلي قائلا إنه وافق على خطة التطوير ووقعها بنفسها، وهو ما نفاه الشاذلي بشدة. وعلى أي حال، من تحدّث بالنهاية معبرًا عن ذاته هي النتائج لا الأقاويل المتبادلة من كل جانب. ورغم أن موضوعنا يركّز على الحرب من جبهة الجولان، إلا إنه من المهم إدراك أن سبب وقوع ما أطلق عليه "ثغرة الدفرسوار" وعبور وحدات من الجيش الصهيوني لغرب القناة هو عملية تطوير الهجوم حسب تأكيد الفريق الشاذلي وكثير من الخبراء العسكريين المستقلين. وتطوير الهجوم أمر به الرئيس أنور السادات شخصيًا، ولا زال السبب الرئيسي والفعلي لهذا الأمر غامضًا إلى يومنا هذا، إلا أن من الأمور التي دفعت إليه دفعا كما يبدو هو إلحاح القيادة السورية على نظيرتها المصرية بتطبيق الخطة التي عرضوها عليهم قبل الحرب وهي المآذن العاليةـ أملا أن يخف الضغط على الجبهة السورية حيث تدافع جنود الاحتياط الصهاينة لجبهة الجولان بما إنها الجبهة الأخطر عليهم من جبهة سيناء التي ثبت فيها الجميع بمواقعه قبيل الثغرة. ومن هنا يتوجب علينا الانتقال لشرح ما جرى في جبهة الجولان بشكل عام.
مجريات معارك
جبهة الجولان
خطة بداية المعركة باليسار ثم التحركات التالية والتوغل الصهيوني داخل العمق السوري (الجيب الإسرائيلي) وتصدي القوات العراقية والأردنية باليمين
بدأت الحرب بعد عمليات تمويه كبرى قام بها الجانبان المصري والسوري وأرهقا بها الصهاينة، إلا إنه في ظهيرة السادس من أكتوبر/تشرين الأول الموافق للعاشر من رمضان، وهو موعد وسط بين رغبات المصريين الذين فضلوا وقت مغرب الشمس ورغبات السوريين الذين فضلوا وقت الفجر، شنّت القوات السورية هجوما شاملا على منطقة الجولان تفاجئت به القوات الصهيونية قليلة العدد، وذلك على ثلاثة محاور شمال ووسط وجنوب الجولان، فاحتلت القوات الخاصة السورية (الكوماندوز) مرصد جبل الشيخ الذي يقع شمالا وكبّدت القوات الإسرائيلية التي حاولت استعادته خسائر فادحة. إلا إن المحور الشمالي لم يتمكن من السيطرة على كافة الطرق التي تكفل تطويق القوات الإسرائيلية والوصول للجسور المطلة على نهر الأردن، بسبب صمود الصهاينة وكفاءتهم القتالية رغم تفوق السوريين بالعدد بشكل ساحق، وهذا مردّه ربما إلى وعورة مناطق الجولان الشمالية وصعوبة التقدم السريع بها. أما في المحور الجنوبي، حيث الأراضي السهلة، تقدمت القوات السورية بسرعة مذهلة وسحقت كل ما واجهها من قوات صهيونية كفوءة كانت أو غير كفوءة، وأصبحت على مشارف بحيرة طبرية، وقيل بروايات أخرى لضباط سوريين أنهم وصلوا فعلا لبحيرة طبرية وتوضأوا من مائها، وبذلك أصبحت قلب أراضي شمال فلسطين مفتوحة ويمكن الهجوم عليها عند تعزيز الهجوم. ولكن فيما يبدو لم يتمكن التعزيز القتالي من إعطاء الزخم الكافي للهجوم ولم ينجح بالتمسك بالأراضي التي تقدموا بها لا سيما بعد ثبات جبهة سيناء مما أدى إلى تركيز الطيران الصهيوني على جبهة الجولان وتعثّر هجوم المحور الشمالي واستشهاد قائده الفريق عمر الأبرش وهو من أهم القادة السوريين وأكثرهم خبرة. فأدّى هذا إلى تقهقر معظم القوات السورية، خاصة الفرقة الأولى المدرعة، وعودتها إلى نقاطها الأولية. ومن هنا بدأ التراجع من الجولان ككل، ولكن المرأة الخبيثة جولدا مائير أصرّت لاحقا على قادتها الصهاينة باستكمال الهجوم المرتد وصولا إلى دمشق لو تطلب الأمر. ورغم اعتراض عدد منهم، إلا إن هؤلاء القادة مضوا في خطتهم وحاولوا تطبيق كماشة كبيرة تبتلع بها القوات السورية المرهَقة من تقدمها في الجولان ثم تراجعها. إلا إن غرورهم وصلفهم كاد أن يوقعهم هم بالكماشة، فحال توغلهم بالعمق السوري فيما يعرف بـ"الجيب" انطلقت فرق كبيرة من الجيش العراقي انطلاقا سريعا وهائلا من أقصى الشرق وتجحفلت أمام القوات الصهيونية واصطدمت بها، وفي نفس الوقت اندفعت وحدات من الجيش الأردني لتتعاون مع العراقي باصطياد القوات الغازية موقعة إياها بمفاجئة أخرى لم تكن في حسبانها. ولكن علينا أن نكون صريحين، فلولا العناية الإلهية ثم نجدة الجيشين العراقي والأردني البطولية لكان الصهاينة احتلوا دمشق، خاصة وأن الأنباء قد تواترت عن هروب القيادة السورية من دمشق بعد وصول المعارك لمشارفها، والدليل على ذلك هو فتح السجون في دمشق وفرار عدد من المحكومين سياسيا من المعارضين لنظام حزب البعث. وعلى أي حال، نجح الدعم العربي ممثلا بالقوات العراقية والأردنية والوحدات السعودية والمغربية والكويتية التي كانت مرابطة هناك بإيقاف التقدم الإسرائيلي، وبدأت القوات المتحالفة العربية مع السورية بالاستعداد لشن هجوم مضاد كبير لاسترداد الجولان، إلا إنه في هذه الأثناء قرر حافظ الأسد الموافقة على قرار وقف إطلاق النار وقواته السورية والعربية في اسوأ موقف ممكن. وهو ما أدى لنشوء نقمة عليه خاصة من القوات العراقية وقيادتها التي لم توافق على هذا القرار المهين وقررت سحب قواتها من الجبهة. وبعد ذلك وقعت اشتباكات استنزافية استمرت حتى ربيع عام 1974، ولم تثمر واقعيًا عن شيء ملموس، حيث يؤكد الكثير من الخبراء والسياسيين أن القنيطرة، وهي مدينة صغيرة تقع في أقصى شرق الجولان لم تتحرر إلا بعد الموافقة الأمريكية على يد هنري كيسنجر كترضية للقيادة السورية حتى تظهر أمام شعبها بأي إنجاز يُسكت الانتقادات. وبهذا صمتت المدافع وظلت الجولان محتلة حتى يومنا هذا، ووقعت ضحية للصفقات السياسية الرخيصة.
وقفة صريحة مع النفس
قد يستغرب المرء من هذه النتائج المخيبة للآمال، ولكن هذا الاستغراب قد يتلاشى شيئا فشيئا إذا ما وقفنا بصراحة أمام أنفسنا وحاولنا التطرق للأسباب والمسبّبات. فما يطلقون عليه "إسرائيل" هو كيان يبلغ تعداد سكانه حاليًا 7 ملايين و700 ألف نسمة فقط، بينما مجموع سكان مصر وسورية لوحديهما يتجاوز المئة مليون نسمة، فكيف ينجح كيان صغير كهذا في الاستمرار بالوجود أمام كل هذا الطوفان البشري الممتد في الأمة العربية، فضلا عن قدرات هذه الأمة المادية والاستراتيجية الهائلة؟ قد يقول قائل أن الأمور لا تقاس بالكم بل باستثمار القدرات والكفاءة بالإنجاز، وهذا صحيح. وقد يقول آخر أن ذلك مردّه للدعم المادي والمعنوي الضخم من حلفاء هذا الكيان على اختلافهم وتغيّرهم على مر الزمان، وهذا أيضا صحيح. وقد يقول ثالث أن السبب هو تخلّف العرب الحضاري والعلمي عن ركب التقدم الحديث، وأيضا هذا صحيح. ولكن المسألة في جوهرها أكبر وأخطر، وهو ما يحتاج منا إلى مرونة بالفكر وعدم التصلب بأفكار خشبية عفى عليها الزمان.
أنظمة سايكس-بيكو
وعدم القدرة على الانتصار
من أهم العوامل التي يجب أن تبقى بأذهاننا عند مناقشة حرب 1973 أو غيرها من الحروب العربية الصهيونية أو حتى واقعنا العربي السياسي والفكري المعاصر، هو أننا نتعامل مع أنظمة منفصمة عن تطلعات وآمال شعوبها، واتفق الكل على أنها آمال لا تعني لهذه الأنظمة شيئا، والدليل ما يحصل حاليا من انتفاضات كبرى تجري في الوطن العربي اقتلعت أنظمة فاسدة من جذورها، والبقية لا زالت تنتظر. فكيف تستطيع مثل هذه الأنظمة التي لا تعبّر عن حقيقة الأمة أن تحقق نصرًا ولو محدودًا يحفظ ما وجهها أمام الناس؟ إن التاريخ لن يرحمنا إذا سرنا وراء جوقة مطبلي الأوهام لأننا سنبيع دماء من ضحى بنفسه فداء للأمة، فلا خير فينا إن لم نقلها ولا خير فيكم إن لم تسمعوها. إن المشكلة بصراحة لها علاقة باتفاقية سايكس-بيكو عام 1916 وتقسيمها للحدود بين الأقاليم العربية، وهذا أمر معروف. لكن ما يستعصي على الفهم هو استمرار هذه الحدود المختلقَة إلى يومنا هذا رغم أن الكل يردّد كالببغاء أنها سبب المشاكل. والمعضلة كذلك تتمثل بنشوء النظرة "الوطنية" المتقوقعة وتعاظم النّفَس الشوفيني إلى حد السلوك المَرَضي. والطّامة الأكبر أيضا تكون بالانقياد والخضوع والتقليد دونما سبب مقنع أو واضح. نعم، أصبحنا نقلد الآخرين دون فكر أو وعي. فما الذي جنيناه من انضمامنا لمنظومة الأمم المتحدة سوى تكريس لواقع سايكس-بيكو ماديًا ومعنويًا؟ ولماذا لا تشعر دولتين متقدمتين مثل سويسرا وتايوان بضرورة الانضمام للأمم المتحدة؟ إن تايةان مثلا كانت أفقر من مصر خلال الأربعينات والخمسينات وانظروا الآن كيف هي تقرض الدول ودون أن تكون عضوة بالأمم المتحدة. فما الذي يدفعنا للاعتراف بمنظمة لا تعترف بنا وتسلط على رقابنا مجلس الرعب/الأمن؟ ومن المعلوم أن هذه المنظومة هي من أعطت الوجود القانوني للكيان الغاصب لفلسطين. ومن خلق سايكس-بيكو ذكي، ويعي تماما أنه دون وجود وكيل له يكرّس هذا الواقع فلن يستمر طويلا، ولم يجد أفضل من الطنطنة بشعارات الوطنية والقومية البرّاقة لكي يعمل بها معول الهدم بجسد الأمة التي انساقت وراء هذه الأوهام وأصبحت عارية من المرجعية والهوية. وهذا الواقع لا يسمح للأنظمة العربية بإزالة الكيان الذي يتخندق بوسط الوطن العربي، ولكنه يسمح لها بتحقيق انتصارات وتحرّكات زائفة ضد بعضها البعض، كما في غزو الكويت 1990 ودخول القوات السورية للبنان 1976 ودخول القوات المصرية لليمن 1962. وبالتالي فإن العملية مركّبة لأن الشعوب يجب أن تتخلص من الأنظمة، ولكنها كذلك يجب أن تتحرر من هيمنة الخارج ويكون قرارها مستقلا فعلا، وهذا الخارج يدعّم من وجود الأنظمة عبر آليات معقدة جدا، فتارة تحت واجهة قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن وما يطلق عليه المجتمع الدولي، وتارة أخرى من خلال الآيديولوجيا كما في دعم الاتحاد السوفييتي السابق للأنظمة اليسارية أو التي تميل لليسار مثل أحزاب البعث والحركات القومية والناصرية، أو في دعم الدول التي تميل للغرب كالأردن ودول الخليج والمغرب، وتارة أخرى يكون ذلك من خلال الخنق الاقتصادي والإغراق بالديون كما في حالة مصر. وهذه الآليات أو العقبات المعقدة لم تهيئ للشعوب فرصة لاستيعاب الموقف ومن ثم تغييره. وهكذا فإن تحقيق أي انتصار حقيقي سواء على "إسرائيل" أو على غيرها هو أمر يقترب من المستحيل لأننا كدول عربية نخوض اللعبة بقواعد من خلق سايكس-بيكو التي لا تستطيع أن تقدم إلا مخرجات متوقعة سلفا ومدروسة والرد عليها (من المركز الذي خلق وضعية سايكس-بيكو) جاهز وقابل للتنفيذ الفوري. وكسر هذه العقبات، على صعوبة هذه المهمة، أمر ممكن في حال رأت الشعوب طريقها الصحيح وقررت السير فيه ثم نفّذت هذا القرار مهما كانت التبعات والتضحيات. ولعل التجربة أثبتت أن الأنظمة لم تكن تود خوض حرب مع إسرائيل، لولا أن الضغوط الشعبية هي التي جعلتها تضطر للاتجاه نحو هذا المنحى. فالمظاهرات الشعبية العارمة التي اجتاحت مصر عام 1972 والتي هتفت بشعار "نريد أن نحارب" خير دليل على هذا الواقع. إلا إن الأنظمة سرعان ما تحايلت على هذه الرغبة بتحرير الأرض، فأطلقت شعارها المهين "حرب تحريك وليس تحرير".
النظام السوري وخداع الأمة
رغم إن النظام السوري ادّعى- ولا يزال يمارس الكذب بادعاءاته- بشعاراته وأبجديات حزبه البعثي الخشبية أنه سيحرّر الأرض، إلا أن الحقيقة فضحتها النتائج والتحركات التالية لحرب تشرين/أكتوبر.
وليس على المرء سوى أن يقرأ مذكرات حياة حافظ الأسد التي كتبها باتريك سيل ليدرك أن هنري كيسنجر تلاعب بالرئيس السوري كيفما شاء وأوقعه بالخديعة وذلك بالمفاوضات التي أدت إلى توقيع فك الاشتباك عام 1974، وهذا غير جديد وليس صعبا على الفهم، ولكن ما يصعب على المرء فهمه ما ذكره سيل في ذات الكتاب في الفصل الخامس عشر بعنوان "مبارزة مع كيسنجر" وفي الصفحة 373 تحديدا حين قال:
((وشعر الأسد بأن في حضور كيسنجر تملقًا لمكانته أثار اهتمامه وفضوله، ولذك كان الأسد مستعدًا لإعطاء وزير الخارجية الأمريكي ثقة لا يستهان بها))
وهذه العبارة تحديدا تقدم لنا مؤشرًا واضحًا على إن هذه الأنظمة، مهما ادّعت من استقلال أو تحرر، تنتظر دائما رضا قوى المركز وتتلقف عطاياها وهباتها، وهذه الأنظمة مستعدة لتقديم كل ما يلزم تجاه هدف تثبيتها على السلطة. وما من دليل أبرز من بقاء الجولان محتلا دون أن تطلق لتحريره رصاصة واحدة منذ 40 سنة.
وإذا قرأنا المزيد من صفحات حياة حافظ الأسد وعلاقته مع كيسنجر بمفاوضات ما بعد الحرب سنكتشف ما هو غريب، فمثلا في الصفحة 386 نقرأ التالي:
((واستذكر كيسنجر فيما بعد أن ثورة الأسد المنضبطة (...) كانت ضد السادات ولكنها تجنبت أستاذ السادات، الأمريكي الخبيث، وهي تعكس مدى بعد الأسد عن الشك في النوايا والأهداف الحقيقية لاستراتيجية كيسنجر))
أي أن الرئيس السوري أخذ يشك بالسادات وتزداد ثقته بكيسنجر، بل إن الصفحات التالية تكشف عن إن الأسد شكا لكيسنجر من تصرفات الرئيس المصري، وهو هنا (أي الأسد)، من حيث يعلم أو لا يعلم، سلّم لهذا "الأمريكي الخبيث" ما يريده من اطمئنان على زيادة الانشقاق بين الرئيسين الذين خاض بلديهما الحرب، وهذه بحد ذاتها هزيمة.
((وان الأسد كان متشوقا لتعلم كثير عن العالم، ووجد في كيسنجر معلما خصوصيا جاهز (...) فقد كانت مناقشتهما تطول حتى لقد أصبح كل منهما يعجب بالآخر، بل يحبه...))
وهذه العبارة الواردة بصفحة 394 من الكتاب تدل دلالة واضحة على الإعجاب الشديد الذي يصل لدرجة "الحب" وذلك بعد عدة لقاءات متتالية بين الأسد وكيسنجر وصل عدد ساعاتها إلى 130 ساعة. وهذا يعبّر عن الواقع الحقيقي، بينما الشعارات الخشبية التي تعرض ليل نهار على الناس مثل الامبريالية والاستكبار العالمي ما هي إلا للاستهلاك المحلي فقط، على طريقة وزير الدعاية النازي جوبلز "اكذب اكذب اكذب، حتى يصدق الناس الكذبة".
ونستنتج من خلال هذا العرض المختصر أنه إذا كان نموذج الأنظمة المتطرفة قوميًا كحزب البعث بجناحه السوري يتصرف بهذا الشكل وفي لحظات حرجة جدا بعد الحرب، فكيف بالأنظمة الأخرى التي توصف بالاعتدال؟! فما الذي ستقدّمه وتسلم به أكثر من هذا؟ ونحن رأينا كيف سُلّمت القدس، وكيف سُمح للصهاينة بدخول بيروت عام 1982، وهذا دليل نهائي على فشل هذه الأنظمة باختبار الحرب. أما في اختبار السلام، فالصورة أكثر قتامة. فخطط التنمية العربية فشلت فشلا ذريعا، والفساد والسرقة مستفحلان إلى الحد الأقصى، والحكومات والحكّام لا يخضعون للمحاسبة والرقابة الشعبية، والمال العام أصبح خاصًا، والأوطان أصبحت مزارع خاصة وعزبا. ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.
إلا إن ما هو مؤكد أن سنّة الله بالتغيير قائمة إلى أن يرث الأرض وما عليها، فيقول الباري عز وجل:
{قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} آل عمران 137
{سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} الفتح 23
والله لا يأتي بالنصر المؤزر الكامل إلا لمن يقاتل في سبيله بإخلاص وإيمان. أما حروب هذه الأنظمة فأراد الله تعالى أن يظهرها للجميع بمظهر الضعف والهوان وعدم المكوث بالأرض والرسوخ بها في عقول الناس وقلوبهم.
{الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا} النساء 76
والسلام ورحمة الله وبركاته
فيصل كريم
بداية قصة الحرب
بدأت القصة بعد هزيمة عام 1967، حيث شعرت الأمة بوقع الكارثة وأن كل ما جرى قبلها سيختلف عما يحدث بعدها. ويبدو أن الأنظمة العربية استشعرت هذا الأمر وخشيت من احتمال استفحاله شعبيًا وخطورته على كراسيها، فعملت على تناسي الخلافات السابقة فيما بينها (التقدميةxالرجعية والحدوديةxالحدودية وغيرها) ولو مؤقتًا، والتعاون الجدي "لإزالة آثار العدوان" كما قيل حينها. إلا إن الأمور أخذت منحى آخر من خلال استفراد كل من مصر وسورية بالتنسيق لشن حرب على جبهتيهما، بغض النظر عن اشتراك جبهة الأردن في هذه الحرب من عدمه، مع الحرص على عدم إطلاع الدول العربية الأخرى على هذه الخطط. ورغم أن هذا التكتم أدى لنجاح فكرة المفاجأة بشن الحرب، إلا أن العبرة يجب أن تكون بإيقاع المفاجأة على العدو لا على الحلفاء، لأنه يفترض بهم أن يساندوا الجبهات القتالية في حال وقوع أي أزمات محتملة خلال المعارك أو بعدها، وهو ما حدث فعلا بكل أسف بعد البداية الممتازة للحرب من جانب العرب. وقد خططت القيادتان المصرية والسورية للحرب معًا دون إشراك للآخرين، ولا بأس بهذا إن كان سيؤدي لنتائج مضمونة، إلا إن واقع المعارك أظهر جوانب كارثية بهذا التنسيق المشترك، فالمصريون بنيت خطتهم على تحطيم خط بارليف وعبوره وكسر الحاجز النفسي وإيقاع الصهاينة بالصدمة من جراء هذا العبور وبالتالي جعلهم يعيشون بتخبط وعدم قرار، وهو ما حدث، إلا إن الخطة المصرية واسمها الرمزي "بدر" مرتكزة على العبور ومن ثم عمل خط عرضي بعمق 15-18 كيلومتر شرق القناة وهو المدى الذي تصله الدفاعات الجوية المصرية التي تحمي ما يقع تحت هذا الخط من هجمات الطيران الصهيوني، وهو ما تدرّب عليه الجيش المصري طوال الفترات التي تلت 1970، إلا إن القيادة السورية تقول أن الجانب المصري عرض عليها خطة أخرى باسم "المآذن االعالية" التي تنص على وصول الوحدات العسكرية المصرية إلى المضائق التي تبعد عن مدى صواريخ الدفاع الجوي بكثير، وبالتالي تصبح القطعات العسكرية المهاجمة عرضة لهجمات الطيران الصهيوني وهو ما سيعرضها للتدمير، إلا إن هذا ما أعتقده الجانب السوري وبنى عليه الكثير من استرتيجياته العسكرية بالحرب والتي ثبت فشل معظمها. وقد وقع هذا المأزق حين تعثّر تقدم القوات السورية في الجولان، وهنا طالب السوريون المصريين بتطبيق الخطة التي عرضوها عليهم (المآذن العالية) وذلك بعد نجاح الجيشين الثاني والثالث في عبور القناة والتوقف عند خط 15-18 كيلومتر وهو ما أُطلق عليه "وقفة تعبوية". والحقيقة إن رئيس الأركان المصري أنذاك الفريق سعد الدين الشاذلي رحمه الله ذكر مرارًا عدة نقاط هامة حول مسألة التنسيق بين جبهتي الجولان وسيناء ومنها:
- خطة المآذن العالية هي خطة نظرية وضعها الجيش المصري بعد 1967 وتبين لاحقا للجميع أنها غير واقعية وتحتاج لقدرات غير متوفرة بذلك الوقت. والخطة المعتمدة فعليا هي خطة بدر وتدربت عليها معظم القطعات المصرية التي اشتركت بالحرب. ويؤكد الشاذلي بمذكراته وبشهادته على العصر أنه شعر بالاشمئزاز عندما سمع أن السوريين عُرضت عليهم خطة المآذن العالية.
- أكد الفريق الشاذلي أنه صرّح مرارًا قبل الحرب (لا سيما في مؤتمر رؤساء أركان حرب الجيوش العربية عام 1972) أنه لا يمكن للجبهة المصرية تخفيف الضغط عن الجبهة السورية كما أنه لا يمكن للجبهة السورية تخفيف الضغط عن المصرية. ولعل هذا هو أحد دروس حرب 1967 حين اعتقد الفريق عبد المنعم رياض (وهو القائد العسكري العظيم) أن ما نقل إليه عن تقدم القوات المصرية داخل فلسطين هو صحيح، فنقل ثقل الجيش الأردني جنوبا لعمل مصيدة للجيش الصهيوني، فترك غور الضفة الغربية والقدس بلا دفاع. ويعني هذا الدرس أن كل جبهة يجب أن تعتمد على نفسها وتحسِن التخطيط والأداء القتالي، وأن التنسيق غرضه إحداث المفاجأة والصدمة للعدو.
- أكد الفريق الشاذلي أنه صرّح مرارًا قبل الحرب (لا سيما في مؤتمر رؤساء أركان حرب الجيوش العربية عام 1972) أنه لا يمكن للجبهة المصرية تخفيف الضغط عن الجبهة السورية كما أنه لا يمكن للجبهة السورية تخفيف الضغط عن المصرية. ولعل هذا هو أحد دروس حرب 1967 حين اعتقد الفريق عبد المنعم رياض (وهو القائد العسكري العظيم) أن ما نقل إليه عن تقدم القوات المصرية داخل فلسطين هو صحيح، فنقل ثقل الجيش الأردني جنوبا لعمل مصيدة للجيش الصهيوني، فترك غور الضفة الغربية والقدس بلا دفاع. ويعني هذا الدرس أن كل جبهة يجب أن تعتمد على نفسها وتحسِن التخطيط والأداء القتالي، وأن التنسيق غرضه إحداث المفاجأة والصدمة للعدو.
إلا إن تحذيرات الفريق الشاذلي لم تجد آذانا صاغية، والغريب بالأمر أن الفريق عبد الغني الجمسي ينتقد ما ذهب إليه الشاذلي قائلا إنه وافق على خطة التطوير ووقعها بنفسها، وهو ما نفاه الشاذلي بشدة. وعلى أي حال، من تحدّث بالنهاية معبرًا عن ذاته هي النتائج لا الأقاويل المتبادلة من كل جانب. ورغم أن موضوعنا يركّز على الحرب من جبهة الجولان، إلا إنه من المهم إدراك أن سبب وقوع ما أطلق عليه "ثغرة الدفرسوار" وعبور وحدات من الجيش الصهيوني لغرب القناة هو عملية تطوير الهجوم حسب تأكيد الفريق الشاذلي وكثير من الخبراء العسكريين المستقلين. وتطوير الهجوم أمر به الرئيس أنور السادات شخصيًا، ولا زال السبب الرئيسي والفعلي لهذا الأمر غامضًا إلى يومنا هذا، إلا أن من الأمور التي دفعت إليه دفعا كما يبدو هو إلحاح القيادة السورية على نظيرتها المصرية بتطبيق الخطة التي عرضوها عليهم قبل الحرب وهي المآذن العاليةـ أملا أن يخف الضغط على الجبهة السورية حيث تدافع جنود الاحتياط الصهاينة لجبهة الجولان بما إنها الجبهة الأخطر عليهم من جبهة سيناء التي ثبت فيها الجميع بمواقعه قبيل الثغرة. ومن هنا يتوجب علينا الانتقال لشرح ما جرى في جبهة الجولان بشكل عام.
مجريات معارك
جبهة الجولان
خطة بداية المعركة باليسار ثم التحركات التالية والتوغل الصهيوني داخل العمق السوري (الجيب الإسرائيلي) وتصدي القوات العراقية والأردنية باليمين
بدأت الحرب بعد عمليات تمويه كبرى قام بها الجانبان المصري والسوري وأرهقا بها الصهاينة، إلا إنه في ظهيرة السادس من أكتوبر/تشرين الأول الموافق للعاشر من رمضان، وهو موعد وسط بين رغبات المصريين الذين فضلوا وقت مغرب الشمس ورغبات السوريين الذين فضلوا وقت الفجر، شنّت القوات السورية هجوما شاملا على منطقة الجولان تفاجئت به القوات الصهيونية قليلة العدد، وذلك على ثلاثة محاور شمال ووسط وجنوب الجولان، فاحتلت القوات الخاصة السورية (الكوماندوز) مرصد جبل الشيخ الذي يقع شمالا وكبّدت القوات الإسرائيلية التي حاولت استعادته خسائر فادحة. إلا إن المحور الشمالي لم يتمكن من السيطرة على كافة الطرق التي تكفل تطويق القوات الإسرائيلية والوصول للجسور المطلة على نهر الأردن، بسبب صمود الصهاينة وكفاءتهم القتالية رغم تفوق السوريين بالعدد بشكل ساحق، وهذا مردّه ربما إلى وعورة مناطق الجولان الشمالية وصعوبة التقدم السريع بها. أما في المحور الجنوبي، حيث الأراضي السهلة، تقدمت القوات السورية بسرعة مذهلة وسحقت كل ما واجهها من قوات صهيونية كفوءة كانت أو غير كفوءة، وأصبحت على مشارف بحيرة طبرية، وقيل بروايات أخرى لضباط سوريين أنهم وصلوا فعلا لبحيرة طبرية وتوضأوا من مائها، وبذلك أصبحت قلب أراضي شمال فلسطين مفتوحة ويمكن الهجوم عليها عند تعزيز الهجوم. ولكن فيما يبدو لم يتمكن التعزيز القتالي من إعطاء الزخم الكافي للهجوم ولم ينجح بالتمسك بالأراضي التي تقدموا بها لا سيما بعد ثبات جبهة سيناء مما أدى إلى تركيز الطيران الصهيوني على جبهة الجولان وتعثّر هجوم المحور الشمالي واستشهاد قائده الفريق عمر الأبرش وهو من أهم القادة السوريين وأكثرهم خبرة. فأدّى هذا إلى تقهقر معظم القوات السورية، خاصة الفرقة الأولى المدرعة، وعودتها إلى نقاطها الأولية. ومن هنا بدأ التراجع من الجولان ككل، ولكن المرأة الخبيثة جولدا مائير أصرّت لاحقا على قادتها الصهاينة باستكمال الهجوم المرتد وصولا إلى دمشق لو تطلب الأمر. ورغم اعتراض عدد منهم، إلا إن هؤلاء القادة مضوا في خطتهم وحاولوا تطبيق كماشة كبيرة تبتلع بها القوات السورية المرهَقة من تقدمها في الجولان ثم تراجعها. إلا إن غرورهم وصلفهم كاد أن يوقعهم هم بالكماشة، فحال توغلهم بالعمق السوري فيما يعرف بـ"الجيب" انطلقت فرق كبيرة من الجيش العراقي انطلاقا سريعا وهائلا من أقصى الشرق وتجحفلت أمام القوات الصهيونية واصطدمت بها، وفي نفس الوقت اندفعت وحدات من الجيش الأردني لتتعاون مع العراقي باصطياد القوات الغازية موقعة إياها بمفاجئة أخرى لم تكن في حسبانها. ولكن علينا أن نكون صريحين، فلولا العناية الإلهية ثم نجدة الجيشين العراقي والأردني البطولية لكان الصهاينة احتلوا دمشق، خاصة وأن الأنباء قد تواترت عن هروب القيادة السورية من دمشق بعد وصول المعارك لمشارفها، والدليل على ذلك هو فتح السجون في دمشق وفرار عدد من المحكومين سياسيا من المعارضين لنظام حزب البعث. وعلى أي حال، نجح الدعم العربي ممثلا بالقوات العراقية والأردنية والوحدات السعودية والمغربية والكويتية التي كانت مرابطة هناك بإيقاف التقدم الإسرائيلي، وبدأت القوات المتحالفة العربية مع السورية بالاستعداد لشن هجوم مضاد كبير لاسترداد الجولان، إلا إنه في هذه الأثناء قرر حافظ الأسد الموافقة على قرار وقف إطلاق النار وقواته السورية والعربية في اسوأ موقف ممكن. وهو ما أدى لنشوء نقمة عليه خاصة من القوات العراقية وقيادتها التي لم توافق على هذا القرار المهين وقررت سحب قواتها من الجبهة. وبعد ذلك وقعت اشتباكات استنزافية استمرت حتى ربيع عام 1974، ولم تثمر واقعيًا عن شيء ملموس، حيث يؤكد الكثير من الخبراء والسياسيين أن القنيطرة، وهي مدينة صغيرة تقع في أقصى شرق الجولان لم تتحرر إلا بعد الموافقة الأمريكية على يد هنري كيسنجر كترضية للقيادة السورية حتى تظهر أمام شعبها بأي إنجاز يُسكت الانتقادات. وبهذا صمتت المدافع وظلت الجولان محتلة حتى يومنا هذا، ووقعت ضحية للصفقات السياسية الرخيصة.
وقفة صريحة مع النفس
قد يستغرب المرء من هذه النتائج المخيبة للآمال، ولكن هذا الاستغراب قد يتلاشى شيئا فشيئا إذا ما وقفنا بصراحة أمام أنفسنا وحاولنا التطرق للأسباب والمسبّبات. فما يطلقون عليه "إسرائيل" هو كيان يبلغ تعداد سكانه حاليًا 7 ملايين و700 ألف نسمة فقط، بينما مجموع سكان مصر وسورية لوحديهما يتجاوز المئة مليون نسمة، فكيف ينجح كيان صغير كهذا في الاستمرار بالوجود أمام كل هذا الطوفان البشري الممتد في الأمة العربية، فضلا عن قدرات هذه الأمة المادية والاستراتيجية الهائلة؟ قد يقول قائل أن الأمور لا تقاس بالكم بل باستثمار القدرات والكفاءة بالإنجاز، وهذا صحيح. وقد يقول آخر أن ذلك مردّه للدعم المادي والمعنوي الضخم من حلفاء هذا الكيان على اختلافهم وتغيّرهم على مر الزمان، وهذا أيضا صحيح. وقد يقول ثالث أن السبب هو تخلّف العرب الحضاري والعلمي عن ركب التقدم الحديث، وأيضا هذا صحيح. ولكن المسألة في جوهرها أكبر وأخطر، وهو ما يحتاج منا إلى مرونة بالفكر وعدم التصلب بأفكار خشبية عفى عليها الزمان.
أنظمة سايكس-بيكو
وعدم القدرة على الانتصار
من أهم العوامل التي يجب أن تبقى بأذهاننا عند مناقشة حرب 1973 أو غيرها من الحروب العربية الصهيونية أو حتى واقعنا العربي السياسي والفكري المعاصر، هو أننا نتعامل مع أنظمة منفصمة عن تطلعات وآمال شعوبها، واتفق الكل على أنها آمال لا تعني لهذه الأنظمة شيئا، والدليل ما يحصل حاليا من انتفاضات كبرى تجري في الوطن العربي اقتلعت أنظمة فاسدة من جذورها، والبقية لا زالت تنتظر. فكيف تستطيع مثل هذه الأنظمة التي لا تعبّر عن حقيقة الأمة أن تحقق نصرًا ولو محدودًا يحفظ ما وجهها أمام الناس؟ إن التاريخ لن يرحمنا إذا سرنا وراء جوقة مطبلي الأوهام لأننا سنبيع دماء من ضحى بنفسه فداء للأمة، فلا خير فينا إن لم نقلها ولا خير فيكم إن لم تسمعوها. إن المشكلة بصراحة لها علاقة باتفاقية سايكس-بيكو عام 1916 وتقسيمها للحدود بين الأقاليم العربية، وهذا أمر معروف. لكن ما يستعصي على الفهم هو استمرار هذه الحدود المختلقَة إلى يومنا هذا رغم أن الكل يردّد كالببغاء أنها سبب المشاكل. والمعضلة كذلك تتمثل بنشوء النظرة "الوطنية" المتقوقعة وتعاظم النّفَس الشوفيني إلى حد السلوك المَرَضي. والطّامة الأكبر أيضا تكون بالانقياد والخضوع والتقليد دونما سبب مقنع أو واضح. نعم، أصبحنا نقلد الآخرين دون فكر أو وعي. فما الذي جنيناه من انضمامنا لمنظومة الأمم المتحدة سوى تكريس لواقع سايكس-بيكو ماديًا ومعنويًا؟ ولماذا لا تشعر دولتين متقدمتين مثل سويسرا وتايوان بضرورة الانضمام للأمم المتحدة؟ إن تايةان مثلا كانت أفقر من مصر خلال الأربعينات والخمسينات وانظروا الآن كيف هي تقرض الدول ودون أن تكون عضوة بالأمم المتحدة. فما الذي يدفعنا للاعتراف بمنظمة لا تعترف بنا وتسلط على رقابنا مجلس الرعب/الأمن؟ ومن المعلوم أن هذه المنظومة هي من أعطت الوجود القانوني للكيان الغاصب لفلسطين. ومن خلق سايكس-بيكو ذكي، ويعي تماما أنه دون وجود وكيل له يكرّس هذا الواقع فلن يستمر طويلا، ولم يجد أفضل من الطنطنة بشعارات الوطنية والقومية البرّاقة لكي يعمل بها معول الهدم بجسد الأمة التي انساقت وراء هذه الأوهام وأصبحت عارية من المرجعية والهوية. وهذا الواقع لا يسمح للأنظمة العربية بإزالة الكيان الذي يتخندق بوسط الوطن العربي، ولكنه يسمح لها بتحقيق انتصارات وتحرّكات زائفة ضد بعضها البعض، كما في غزو الكويت 1990 ودخول القوات السورية للبنان 1976 ودخول القوات المصرية لليمن 1962. وبالتالي فإن العملية مركّبة لأن الشعوب يجب أن تتخلص من الأنظمة، ولكنها كذلك يجب أن تتحرر من هيمنة الخارج ويكون قرارها مستقلا فعلا، وهذا الخارج يدعّم من وجود الأنظمة عبر آليات معقدة جدا، فتارة تحت واجهة قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن وما يطلق عليه المجتمع الدولي، وتارة أخرى من خلال الآيديولوجيا كما في دعم الاتحاد السوفييتي السابق للأنظمة اليسارية أو التي تميل لليسار مثل أحزاب البعث والحركات القومية والناصرية، أو في دعم الدول التي تميل للغرب كالأردن ودول الخليج والمغرب، وتارة أخرى يكون ذلك من خلال الخنق الاقتصادي والإغراق بالديون كما في حالة مصر. وهذه الآليات أو العقبات المعقدة لم تهيئ للشعوب فرصة لاستيعاب الموقف ومن ثم تغييره. وهكذا فإن تحقيق أي انتصار حقيقي سواء على "إسرائيل" أو على غيرها هو أمر يقترب من المستحيل لأننا كدول عربية نخوض اللعبة بقواعد من خلق سايكس-بيكو التي لا تستطيع أن تقدم إلا مخرجات متوقعة سلفا ومدروسة والرد عليها (من المركز الذي خلق وضعية سايكس-بيكو) جاهز وقابل للتنفيذ الفوري. وكسر هذه العقبات، على صعوبة هذه المهمة، أمر ممكن في حال رأت الشعوب طريقها الصحيح وقررت السير فيه ثم نفّذت هذا القرار مهما كانت التبعات والتضحيات. ولعل التجربة أثبتت أن الأنظمة لم تكن تود خوض حرب مع إسرائيل، لولا أن الضغوط الشعبية هي التي جعلتها تضطر للاتجاه نحو هذا المنحى. فالمظاهرات الشعبية العارمة التي اجتاحت مصر عام 1972 والتي هتفت بشعار "نريد أن نحارب" خير دليل على هذا الواقع. إلا إن الأنظمة سرعان ما تحايلت على هذه الرغبة بتحرير الأرض، فأطلقت شعارها المهين "حرب تحريك وليس تحرير".
النظام السوري وخداع الأمة
رغم إن النظام السوري ادّعى- ولا يزال يمارس الكذب بادعاءاته- بشعاراته وأبجديات حزبه البعثي الخشبية أنه سيحرّر الأرض، إلا أن الحقيقة فضحتها النتائج والتحركات التالية لحرب تشرين/أكتوبر.
وليس على المرء سوى أن يقرأ مذكرات حياة حافظ الأسد التي كتبها باتريك سيل ليدرك أن هنري كيسنجر تلاعب بالرئيس السوري كيفما شاء وأوقعه بالخديعة وذلك بالمفاوضات التي أدت إلى توقيع فك الاشتباك عام 1974، وهذا غير جديد وليس صعبا على الفهم، ولكن ما يصعب على المرء فهمه ما ذكره سيل في ذات الكتاب في الفصل الخامس عشر بعنوان "مبارزة مع كيسنجر" وفي الصفحة 373 تحديدا حين قال:
((وشعر الأسد بأن في حضور كيسنجر تملقًا لمكانته أثار اهتمامه وفضوله، ولذك كان الأسد مستعدًا لإعطاء وزير الخارجية الأمريكي ثقة لا يستهان بها))
وهذه العبارة تحديدا تقدم لنا مؤشرًا واضحًا على إن هذه الأنظمة، مهما ادّعت من استقلال أو تحرر، تنتظر دائما رضا قوى المركز وتتلقف عطاياها وهباتها، وهذه الأنظمة مستعدة لتقديم كل ما يلزم تجاه هدف تثبيتها على السلطة. وما من دليل أبرز من بقاء الجولان محتلا دون أن تطلق لتحريره رصاصة واحدة منذ 40 سنة.
وإذا قرأنا المزيد من صفحات حياة حافظ الأسد وعلاقته مع كيسنجر بمفاوضات ما بعد الحرب سنكتشف ما هو غريب، فمثلا في الصفحة 386 نقرأ التالي:
((واستذكر كيسنجر فيما بعد أن ثورة الأسد المنضبطة (...) كانت ضد السادات ولكنها تجنبت أستاذ السادات، الأمريكي الخبيث، وهي تعكس مدى بعد الأسد عن الشك في النوايا والأهداف الحقيقية لاستراتيجية كيسنجر))
أي أن الرئيس السوري أخذ يشك بالسادات وتزداد ثقته بكيسنجر، بل إن الصفحات التالية تكشف عن إن الأسد شكا لكيسنجر من تصرفات الرئيس المصري، وهو هنا (أي الأسد)، من حيث يعلم أو لا يعلم، سلّم لهذا "الأمريكي الخبيث" ما يريده من اطمئنان على زيادة الانشقاق بين الرئيسين الذين خاض بلديهما الحرب، وهذه بحد ذاتها هزيمة.
((وان الأسد كان متشوقا لتعلم كثير عن العالم، ووجد في كيسنجر معلما خصوصيا جاهز (...) فقد كانت مناقشتهما تطول حتى لقد أصبح كل منهما يعجب بالآخر، بل يحبه...))
وهذه العبارة الواردة بصفحة 394 من الكتاب تدل دلالة واضحة على الإعجاب الشديد الذي يصل لدرجة "الحب" وذلك بعد عدة لقاءات متتالية بين الأسد وكيسنجر وصل عدد ساعاتها إلى 130 ساعة. وهذا يعبّر عن الواقع الحقيقي، بينما الشعارات الخشبية التي تعرض ليل نهار على الناس مثل الامبريالية والاستكبار العالمي ما هي إلا للاستهلاك المحلي فقط، على طريقة وزير الدعاية النازي جوبلز "اكذب اكذب اكذب، حتى يصدق الناس الكذبة".
ونستنتج من خلال هذا العرض المختصر أنه إذا كان نموذج الأنظمة المتطرفة قوميًا كحزب البعث بجناحه السوري يتصرف بهذا الشكل وفي لحظات حرجة جدا بعد الحرب، فكيف بالأنظمة الأخرى التي توصف بالاعتدال؟! فما الذي ستقدّمه وتسلم به أكثر من هذا؟ ونحن رأينا كيف سُلّمت القدس، وكيف سُمح للصهاينة بدخول بيروت عام 1982، وهذا دليل نهائي على فشل هذه الأنظمة باختبار الحرب. أما في اختبار السلام، فالصورة أكثر قتامة. فخطط التنمية العربية فشلت فشلا ذريعا، والفساد والسرقة مستفحلان إلى الحد الأقصى، والحكومات والحكّام لا يخضعون للمحاسبة والرقابة الشعبية، والمال العام أصبح خاصًا، والأوطان أصبحت مزارع خاصة وعزبا. ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.
إلا إن ما هو مؤكد أن سنّة الله بالتغيير قائمة إلى أن يرث الأرض وما عليها، فيقول الباري عز وجل:
{قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} آل عمران 137
{سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} الفتح 23
والله لا يأتي بالنصر المؤزر الكامل إلا لمن يقاتل في سبيله بإخلاص وإيمان. أما حروب هذه الأنظمة فأراد الله تعالى أن يظهرها للجميع بمظهر الضعف والهوان وعدم المكوث بالأرض والرسوخ بها في عقول الناس وقلوبهم.
{الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا} النساء 76
والسلام ورحمة الله وبركاته
فيصل كريم
تعليق