ترجمة معاني القرآن الكريم
د. سعيد إسماعيل صيني
بين التفريط والإفراط
من المعلوم أن المسلم أن سوف يتحدث في الجنة بالعربية، ولكن هذا مضمون وإن لم يعرفها في الدنيا. كما أنه من المعلوم أن الإسلام جاء لجميع المخلوقات المكلفة باختلاف لغاتهم وليس حكرا على من يتكلون العربية، وأن على المسلم أن يعمل لدخول الجنة وإن كان لا يعرف العربية. ومن المعلوم أيضا أن المسلم مطالب بالدعوة إلى الإسلام بدون تفريق بين أهل لغة أو لغة أخرى. وبهذا يتضح لنا ضرورة ترجمة –على الأقل- معاني المصادر الأساسية للإسلام، القرآن والسنة، إلى اللغات الأخرى أداء لواجب الدعوة وإنقاذا للبشرية.
ولهذا يمكننا أن تصور إنسانا جشعا وأنانيا يضع العراقيل أمام الآخرين حتى لا يكتسبوا ما اكتسبه بتعب أو بدون تعب، ولكن لا يمكن تصور مسلم يضع العراقيل أمام تعرف الآخرين على الإسلام والاستفادة منه للنجاة في الحياة الأبدية.
والمترجمون أو المقومون للتراجم بين تفريط وإفراط. فبعض المترجمين لمعاني القرآن الكريم يعتمدون في ترجماتهم على ترجمات أخرى، كأن يترجم معاني القرآن الكريم إلى اللغة الصينية وهو لا يعرف اللغة العربية، لغة القرآن الكريم، فيترجم من ترجمة باليابانية أو بالإنقليزية… وبعضهم قد لا يكلف نفسه العودة إلى كتب التفاسير ولكن يقتصر على معاجم اللغة العربية. ومن جهة أخرى، فإن بعض المترجمين أو الناقدين للترجمات يرون عدم جواز استخدام مفردات اللغة التي يترجم إليها بحجة أنها ملوثة بالمدلولات الأصلية الشركية أو غير اللائقة لهذه المفردات في تلك اللغة. ويثيرون ضجة كبيرة حول الترجمة التي بها بعض الأخطاء وإن لم تكن كثيرة أو خطيرة إلا إذا نظر القارئ إلى معانيها من زاوية ضيقة ومحدودة من حيث الإلمام باللغة الأجنبية والمعاني المتعددة للمفردة الواحدة، مثلها مثل اللغة العربية. ففي الصينية مثلا: كلمة "استوى على العرش" تُرجمت إلى: "بو زو" وعندما تسأل عددا من الصينيين عن معناها سيخبرك بعضهم أنها تعني "جلس مستقيما"، والبعض الآخر سيقول إنها تعني "جلس على كرسي الملك".
وهذا لا يعني أننا لا نحتاج إلى إعادة النظر في كثير من الترجمات وخاصة لمعاني القرآن الكريم أو السنة النبوية ولاسيما فيما يتعلق بالأسماء والصفات التي يكثر حولها الجدل حتى في اللغة العربية. ولكن قبل أن نقوم بذلك لابد أن يسبقه اتفاق بين علماء التفسير العرب على ترجيح تفسير محدد قابل للترجمة، ولابد أن يسبقه اتخاذ الناشر قرارا بخصوص إمكانية استخدام المفردات الموجودة حاليا في اللغات المختلفة أسوة بالقرآن الكريم الذي استخدم المفردات التي كانت موجودة قبل الإسلام. وذلك رغم أن هذه المفردات في الأصل مستخدمة للإنسان وغيره أو مفردات تتحدث عن الرب والإله ولكن مصبوغة بالشرك الشائع بين أصحاب هذه اللغات.
إن الاختلاف حول معاني الآيات القرآنية الكريمة شيء موجود حتى بين فطاحل المفسرين بالعربية. وذلك لأسباب عديدة منها تعدد واختلاف مدلولات كثير من الكلمات والعبارات في اللغات كلها بما في ذلك اللغة العربية أو الصينية. والتعدد ينجم بسبب اختلاف المواقع والظروف وبسبب التغير الذي يحدث مع مرور الزمان. وسألت عددا من المنتقدين بشدة لبعض هذه الترجمات: ما هو البديل؟ وكانت الإجابة –في الغالب- غير محددة. وسألت هل هناك معاني محددة متفق عليها بالعربية يمكن ترجمتها؟ فكانت الإجابة: نعتمد رأي أهل السنة والجماعة. فقيل له وإن كان رأي أهل السنة والجماعة يقول "الاستواء معلوم والكيف مجهول" كيف يمكن ترجمته؟. فهذا القول يفترض أن يكون جميع المسلمين يفهمون العربية بمستوى فهم هذا العالم تقريبا. وبعبارة أخرى، كيف يتم نقل هذه المعاني الموجودة في أذهان العلماء العرب إلى اللغات الأخرى بدون أن يتم التعبير عنها بمفردات معروفة لدى السامع والقارئ للترجمة؟ أليس المقصود بالتفسير وترجمته أن يفهم القارئ بواسطته معاني القرآن الكريم؟
ومن زاوية أخرى، فإنه من المعلوم أن الترجمة ليست للآيات القرآنية نفسها ولكنها ترجمة للمعاني التي فهمها المترجم أو ترجمة للتفسيرات التي انتقاها المترجم. والترجمة أو التفسير هي في النهاية من أعمال البشر التي لا تخلو من الخطأ. وفي الحقيقة، ليس هناك كتاب تفسير واحد يمكن اعتباره خاليا تماما من الاعتراضات. ولهذا فإن ابن تيمية يستخدم عبارة "أصحها" مشيرا إلى تفسير الطبري. فالترجمات والتفاسير ليست بديلا لآيات القرآن الكريم ولهذا يدرك معظم الناس أنها ليست معصومة من الخطأ.
ومن جهة ثالثة، فإن معظم أصحاب الديانات الأخرى لديهم صورة للمعبود الأعلى ذات قدسية خاصة، لا تماثلها قدسية أي إنسان يعرفونه، وذلك رغم تجسيد هذا المعبود في تماثيل وظواهر طبيعية محسوسة، يعبدونها. ولعل هذا هو ما عبر عنه المشركون بقولهم:{ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}(الزمر: 6).
ومن جهة رابعة، فإن اللغة من حيث هي مفردات وقواعد وأساليب كائن حي ينمو ويتغير ويموت، وأكثر النمو والتغيير والموت يحصل لمدلولات مفرداتها. ومثال ذلك، يؤكد الصينيون بأن اللغة الصينية القديمة تختلف كثيرا عن الحديثة. وعندما تتأكد أكثر تكتشف أن معظم التغيير يتمثل في مدلولات بعض المفردات. فقد فصلت الصينية الحديثة بعض المفردات القديمة الشاملة. وغيرت مدلولات بعض الكلمات مثل كلمة "شو" التي كانت تستخدم لتعني الكتابة في الصينية القديمة، أصبحت تستخدم للكتاب في الحديثة. وأما للكتابة ففي الحديثة تستخدم عبارة "شو شي" أو فقط "شي". وذلك إضافة إلى تبسيط الصينية الحديثة لبعض الرموز المعقدة كثيرة الخطوط واختصارها بالتقليل من خطوطها.
وهناك لهجة في الصينية تنتشر بين طلبة العلم في المساجد، تكثر فيها المفردات العربية ويقال أنها أيضا تطبق بعض قواعد اللغة العربية على اللغة الصينية. فلا يفهمها إلا من تلقى العلوم الإسلامية في المساجد بواسطة برنامج الخلفاء، حيث يتفرغ عدد من الطلبة للتعلم على يد الإمام الذين يقوم بتدريسهم العلوم الإسلامية ويدربهم على الإمامة والخطابة.
ولما كانت أكثر مشكلات الترجمة بالنسبة لترجمة معاني القرآن الكريم تنبع من المفردات فستحاول هذه المقالة إلقاء بعض الأضواء على مصادر المفردات ومدلولاتها وعلى طبيعتها وعلاقة ذلك بمشكلات الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى.
أولا – المصادر الأساسية للمفردات ومدلولاتها ثلاثة:
1 - التجربة الذاتية والتصورات الذاتية وتندرج فيها جميع الأسماء التي يطلقها الإنسان على الأشخاص أو الأشياء مثل أن يسمي الإنسان ابنه "أيمن" أو أن يسمي المخترع اختراعه "تلفون" أو المستكشف اكتشافه "الجاذبية…"
2 – تجارب الآخرين وتصوراتهم والتي تنتقل إلينا بسياقاتها المحددة أو العائمة.
3 - الوحي الرباني الذي قام بتبليغه الرسل مثل بعض المصطلحات الدينية كالزكاة والنوافل والفروض…
ثانيا – كثيرا ما تتعدد المدلولات للمفردة الواحدة في اللغة الواحدة. ومثال ذلك كلمة "استوى" ومشتقاتها التي وردت في "لسان العرب" لتشمل: المساواة في الارتفاع أو القيمة، النضج، الاستقرار على شيء محسوس، الظهور والسيطرة، والاستقامة، والتمام… ولهذا فمن الطبيعي أن يختلف الناطقون بلغة محددة حول مدلولات الكلمة الواحدة ومنها أسماء الله الحسنى وصفاته العليا. وينتج ذلك بسبب اختلاف الحصيلة اللغوية والثقافية عند السامع والقارئ. والمشكلة أن البعض يصرون على اعتبار مدلول واحد منها هو الصحيح وما عداه خطأ وإن كان السياق المعترف به يحتمل أكثر من مدلول.
ثالثا – عند استقراء الواقع وأدلة معاجم اللغة للمدلولات المختلفة نجد أن المفردات مقرونة في الأصل بأشياء محسوسة أو أن أبعادها حسية، غير أنها مع تعدد الاستعمالات وتعدد سياقات الاستعمال تبتعد عن الأشياء المحسوسة قليلا قليلا مع كل استعمال إضافي حتى تصبح شيئا معنويا عاما وتتفرع إلى تفاصيل خاصة. وبعبارة أخرى، فإن المفردات تبدأ أصلا بأشياء محسوسة ثم تتعدد مدلولاتها عند الإنسان فترقى إلى مستوى المعنويات. وتصبح مناسبة لوصف الموجودات المجهولة حسا.
مثال ذلك: كلمة "أحمد" قد يبدأ أمريكي بالتعرف على هذه الكلمة من خلال تعرفه على شخص محدد اسمه "أحمد" له صفات محددة، ثم يتعرف هذا الإنسان على أشخاص آخرين بالاسم نفسه وبصفات مختلفة (أشخاص خضعت للتجربة الحسية المباشرة)، ثم يقرأ في السيرة وفي القرآن الكريم أن "أحمد" هو أحد أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم …(أوصاف منقولة من الماضي) ويسمع عن أشخاص يحملون هذا الاسم ولم يقابلهم ثم يعرف أن كلمة أحمد مشتقة من الحمد… وأسباب الحمد ومواقف الحمد…طرق الحمد (السباحة في عالم المعنويات). وهذه الحقيقة تنطبق على المفردات بما في ذلك "الأسماء والصفات". ولعل الرسم التالي أصدق في التعبير عن هذه الحقيقة المتدرجة بين الحسي التام والمعنوي التام:
:---------:--------:--------:---------:---------:
........ محسوس جدا .................... معنوي جدا
أول شخص اسمه "أحمد" عرفه ........ كلمة "أحمد" المشتقة من الحمد
لهذا من الطبيعي أن يختلف الناطقون بلغة محددة حول مدلولات المفردات نفسها ومنها أسماء الله وصفاته. وهي تختلف من إنسان إلى آخر من حيث درجة القرب من المحسوسات أو الإغراق في عالم المعنويات تبعا لحصيلة الإنسان اللغوية وثقافته الدينية. وتظهر المشكلة عند البعض عدما يفترضون أنهم ولدوا بالمدلولات التي يفرضونها على الآخرين، وينسون أن مدلولات الكلمة المحددة عندهم قد مرت بمراحل متعددة بدأت بالصورة المجسدة.
رابعا – كما أن مدلولات المفردات معرضة للتعدد والنمو وللتدرج بين المجال الحسي والمعنوي فإنها أيضا معرضة للتغيير وللانقراض. وبعبارة أخرى فإن مدلولات المفردات كائنات حية قادرة على التكيف مع البيئة أو السياق. وهذا يفسر استخدام رب العالمين للكلمات نفسها في وصفه نفسه سبحانه وتعالى وفي وصفه مخلوقاته. (الحنبلي، مجموع فتاوى ابن تيمية ج3: 1-16) ويؤكد ابن تيمية هذه الحقيقة بقوله: "…ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء. وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره. وسمى بها بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم، مضافة إليهم، توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص. ولم يلزم من اتفاق الاسمين وتماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص اتفاقهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص، فضلا عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص."(الحنبلي، مجموع فتاوى ابن تيمية ج3: 10). ويضرب . ومن هذه الأمثلة التي ضربها ابن تيمية قوله: "ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه، فذكر ذلك في سبع مواضع من كتابه، أنه استوى على العرش، ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره في مثل قوله: {لتستووا على ظهوره} وقوله: فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك} وقوله: {واستوت على الجودي} وليس الاستواء كالاستواء"(الحنبلي، مجموع فتاوى ابن تيمية، ج3:29-30)
خامسا – تتدرج مدلولات المفردات من حيث درجة الانتشار. فبعض هذه المدلولات قد تكون خاصة بإنسان بعينه أو باثنين أو ثلاثة… وبعضها يكون شائعا بين العشيرة أو القبيلة أو على مستوى الشعب كله رسميا. وبعضها يكون مقتصرا على التحدث الشفوي وبعضها يكون مقتصرا على الكتابة الأدبية وبعضها يستعمل في لغة التحدث ولغة الكتابة الأدبية أيضا. وعموما فإن المدلولات صور ذهنية لا تخضع للرقابة إلا إذا وصفها الإنسان للآخرين. وليست معاجم اللغة وما تعارف عليه عدد من الناس إلا نوع من الضبط لهذه المدلولات وتوحيد لها وتعميم. ولكن مهما حاول الآخرون في ضبط هذه المدلولات عند الإنسان فإن نجاحهم في ذلك أمر نسبي.
سادسا – فالمفردات مرتبطة بالتجارب البشرية المحسوسة التي تمثل بيئة الإنسان ومحيطه. لهذا لا يملك الإنسان وهو يتعرض لأي مفردة من هذه المفردات إلا وتخطر في ذهنه صورة أو صور تتراوح بين المحسوسة والمعنوية إذا كان يعرف واحدا من مدلولاتها أو مجموعة منها. أما إذا كان لا يعرفها أو لا يعرف أي مدلول لها، فهي لا تعني له شيئا، مثلها مثل أي مفردة في لغة أجنبية. والإنسان بين حالات أربع:
1) إنسان مر شخصيا بتجربة محسوسة كانت المفردة وسيلة للتعبير عنها أو جزءا من وسيلة التعبير عنها. فهو كلما سمع بالمفردة أو قرأها استرجع تلك التجربة أو التجارب التي مرت به بسياقاتها المحسوسة. وكلما كثرت التجارب مع هذه المفردة فإن الاسترجاع إما أن يكون انتقائيا أو خليطا من الصور المهزوزة.
2) إنسان قرأ أو سمع عن تجربة لشخص أو أشخاص آخرين كانت المفردة وسيلة التعبير عنها أو جزءا من وسيلة التعبير عنها. فهو كلما سمع بالمفردة أو قرأها استرجع تلك التجربة أو التجارب التي سمع بها بسياقاتها المحسوسة.
3) إنسان سمع بالمفردة دون أن يكون لديه أي تصور مقترن بها.
4) إنسان لم يسمع بالمفردة بتاتا.
سابعا – معظم المفردات ذات دلالات متعددة ومتشعبة. وكثير منها يقبل التعدد –أيضا- بالإضافة مثل "يد" في اللغة العربية. فهناك يد الإنسان، ويد الحصان، ويد الكرسي ويد البراد ويد الفنجان… وهكذا بلا حدود. فالمفردات تشبه إلى حد كبير الأوعية التي نحفظ فيها الأشياء ويدل على ما فيها سياقاتها. أما في بعض اللغات الأجنبية فلا يوجد مثلا ما يعادل "يد" العامة في اللغة العربية، ولكن هناك "يد" محددة بالإنسان وأخرى محددة بأنواع من الحيوانات أو الجمادات. وهنا تأتي صعوبة الترجمة.
وفي هذه الحالة، لا يملك المترجم إلا أن يختار أقربها والزمن كفيل بتعديلها حتى تصبح متسقة مع سياقاتها. فالقارئ في اللغة الصينية مثلا يقرأ الترجمة المقابلة ل "اليد" العربية ولنفرض أنها الكلمة التي تطلق على يد الإنسان. ولكن مع مرور الزمن وكثرة قراءة هذه الكلمة في سياق الحديث عن رب العالمين ستتغير الصورة الذهنية لهذه المفردة التي أصلها خاص بالإنسان وتصبح متسقة مع صفات الخالق الذي تفرد بها. وبهذا يصبح لديه معنيان معنى يليق بالخالق وآخر يليق بالمخلوق ويميز بين المعنيين ليس بالمفردة ولكن بالسياق. وهذا ما نبه إليه ابن تيمية بالأمثلة التي أوردها حيث وصف الله سبحانه وتعالى نفسه بمفردات هي في الأصل مفردات تستخدم لوصف أشياء محسوسة في الإنسان وغير الإنسان مثل النفس واليد والوجه والعين. ووصف نفسه بصفات معنوية تستخدم للإنسان مثل العلم والحلم والكرم والحكمة… ووصف نفسه بصفات عاطفية تستخدم للإنسان مثل الغضب والحب والرضا. ولكن مع اختلاف في السياق ومع التأكيد في آيات أخرى على أن الله لا مثيل له ولا ند له ولا شريك له وليس له كفؤ… فلماذا نطالب غير العرب بضرورة استخدام مفردات جديدة غير معروفة لديهم بدلا من تطوير لغتهم التي يفهمونها لتصبح إسلامية المواصفات؟
ومثال آخر من واقع اللغة الصينية، فمثلا كلمة "خُدا" التي نقلها المسلمون في الصين عن الفارسية بديلا للفظ الجلالة، الله، هي في الأصل اسم صنم كان الفرس يعبدونه قبل الإسلام. ولكن مع مرور الزمن واستخدامها في ظل العقيدة الإسلامية أصبحت مرادفة للفظ الجلالة "الله" في الإسلام بصفاته التي تفرد بها، سواء في اللغة الفارسية أو الصينية.
فقولنا "الاستواء معروف" قد يكون معروفا لمن يعرف واحدة من المعاني المتعددة لهذه الكلمة بالعربية وله تجارب ذاتية معها كأن سمع أحدا استعملها في وضع معين، أو قرأها تصف وضعا معينا… ولكن من لا يعرف هذه الكلمة وليست له تجارب ولا سيما الناطقين بلغات أخرى ولا يعرفون العربية أصلا فإن هذه الكلمة لا تعني لهم شيئا وبالتأكيد مدلولها غير معروف تماما.
ونخلص من هذه الحقائق إلى ما يأتي:
1 – القول بأن "الاستواء معروف" لا يصدق في كل الأحوال ولا يصدق بتاتا بالنسبة لمئات وآلاف اللغات واللهجات البشرية.
2 – يستحيل أن تدخل أي مفردة في مجال إدراك الإنسان الذي يعرف لها معنى أن لا يتصور شيئا محسوسا في ذهنه. وقد يكون هذا الشيء محسوسا تماما أو يغرِق في عالم المعنويات أو يقع في درجة من الدرجات غير المحدودة بينهما.
مقترحات للتعامل مع الأسماء والصفات:
لهذا فإن الحل المقترح يتمثل فيما يلي بالنسبة للأسماء والصفات:
أ – تصنيف هذه المفردات حسب سياقاتها إلى:
1 - فئة لا تقبل المدلول الحسي مثل "يد الله فوق أيديهم" فيتم تأويلها إلى المدلول المعنوي الأقرب ويتم ترجمة هذا المدلول المعنوي.
2 – فئة تقبل المدلول الحسي مثل "بيمينه" و"استوى" نستعمل الأسماء التي وردت بها في الكتاب والسنة بالنسبة للغة العربية مؤكدين لأنفسنا أن صفات الله وأسماءه هي صفات خالق الكون وتختلف عن صفات المخلوقين. أما عند نقل هذه الأسماء والصفات إلى اللغات الأخرى للمسلمين الذين لا يعرفون العربية ولا هذه المفردات في سياقاتها المختلفة فنتفق على:
- صيغة محددة بالعربية قابلة –في الغالب- للترجمة إلى اللغات الأخرى. أما في حالة عدم وجود كلمة عامة تقابل كلمة "اليد" العامة في العربية نستخدم الكلمة التي تقابلها للإنسان أي استخدام أقرب المفردات في تلك اللغة إلى المدلول في العربية. وهذا ليس بدعا كما يظن البعض فقد سبق القرآن الكريم في ذلك كما تبين معنا فيما كتبه ابن تيمية. ويضاف إلى ذلك استعمال كلمة "إله" و"رب" المشبعة بالشرك المعروف بين الجاهليين والمسيحيين واليهود. وعموما يلاحظ أن الآلهة أو المعبودات حتى في الأديان الوثنية لها قداسة معينة ومكانتها عندهم أعلى من مكانة الإنسان والمفردات التي تطلق عليها وتستعمل لها وإن كانت تستخدم أيضا للإنسان فإن مدلولاتها عند استخدامه للآلهة تتميز بمدلولات متسقة مع تلك القداسة التي للآلهة نفسها.
- التنبيه إلى الاختلاف الكلي بين صفات الخالق والمخلوقات وإن تشابهت المفردات التي تعبر عنها.
وهنا ينبغي ملاحظة أن هذا التصرف لا علاقة له بمسألة إثبات أو نفي بعض الصفات الحسية والمعنوية لله سبحانه وتعالى. فكما يقول ابن تيمية: "…فالأصل أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفيا وإثباتا؛ فيثبت لله ما أثبته لنفسه ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل." (الحنبلي، فتاوى ابن تيمية ج3: 3).
خطوات تنظيمية مقترحة للترجمة
هناك مشكلات متعددة بالنسبة للترجمة وخاصة إلى اللغات أو من اللغات التي يقل فيها عدد الذين يتقنون كلتا اللغتين بدرجة متميزة، بل وكافية أحيانا وخاصة فيما يتعلق بترجمة النصوص الدينية. والأمر أكثر صعوبة فيما يتعلق ببعض المسائل العقدية، لأن هذه المسائل هي موضع خلاف كبير حتى في اللغة الأم. لهذا يحتاج الأمر إلى قدر كبير من الحيطة عند ترشيح المترجمين، ثم عند قبول ترجماتهم. وفي الغالب يصعب وجود أشخاص بأعيانهم يتقنون اللغتين بدرجة واحدة. وحتى في حالة وجود أمثال هؤلاء الأشخاص قد يصعب التعرف عليهم. ولهذا ربما يحتاج الأمر إلى إجراءات احتياطية خاصة للتغلب على هذه المشكلة. ومن المقترحات التي قد تساعد في هذا الموضوع القواعد العامة التنظيمية التالية: ترشيح ذوي الكفاية، مراحل عملية الترجمة.
ترشيح ذوي الكفاية:
أولا – استعراض الكفاءات الموثقة:
1 - يتم تجميع المعلومات عن الذين يرشحون أنفسهم أو يتم ترشيحهم من قبل بعض الأشخاص، وذلك في ضوء النموذج المرفق، وليس شرطا أن يكونوا من المسلمين، إذا تعذر وجود المسلمين.
2 – يتم استعراض عدد سنوات الدراسة في اللغة التي يراد الترجمة منها والتي يراد الترجمة إليها. ويراعى هنا ليس لغة الدراسة فحسب ولكن مستوى التحصيل في تلك اللغة، وتنوع الموضوعات أو علاقتها بموضوع الترجمة.
3 – يتم استعراض جميع الدورات التي التحق بها واللغة التي استعملتها الدورة، والموضوعات التي تم دراستها في الدورات المختلفة.
4 – يتم استعراض جميع الخبرات التي اكتسبها المرشح، سواء في تدريس بعض الموضوعات في إحدى اللغتين المرغوبتين أو التأليف فيها أو الترجمة منها أو إليها.
ثانيا – إجراء تجربة:
1 - يطلب من المرشح الذي يتم تصفيته من خلال كفاءاته الموثقة ترجمة نص عام إلى اللغة المراد الترجمة إليها. فمثلا إذا كانت الرغبة في ترجمة نصوص عربية إلى اللغة الصينية. يعطى المرشح نصا عربيا لا خلاف حول مدلولاته، أي مدلولاته واضحة وغير قابلة للتعدد. ويطلب من المرشح ترجمته ثم يتم التأكد من سلامة المضمون بالطرق التالية: 1) تقارن بترجمة أخرى، 2) أو بعرضه على شخص يعرف العربية ويجيد الصينية، 3) بإعادة ترجمة النص إلى العربية بواسطة شخص آخر يجيد اللغتين. وفي حالة كون المترجم للنصوص الإسلامية من غير المسلمين يتم التأكد بصفة خاصة من صدق المضمون.
2 – ومن حيث الأسلوب فتعطى الترجمة لشخص يجيد اللغة الصينية وإن كان ضعيفا في العربية أو لا يعرفها ليحدد مستوى الأسلوب والصياغة باللغة الصينية.
مراحل عملية الترجمة:
1 – عقب اختيار عدد من المترجمين على الأقل شخصين مثلا لترجمة أو مراجعة معاني القرآن الكريم أو كتاب آخر، يتم توزيع أجزاء القرآن الكريم أو أي كتاب على هؤلاء المترجمين بالتساوي.
2 – عقب انتهاء الترجمة يتبادل المترجمون الأجزاء المختلفة لمراجعتها.
3 – يتم تكوين لجنة مستقلة لم تشترك في الترجمة لمراجعة الترجمة. ويراعى في أعضائها:
- أن يكون من بينهم من يتميزون في اللغة التي يتم منها الترجمة ويعرفون اللغة الأخرى بصورة جيدة، ومنهم من يتميزون في اللغة المترجمة إليها، ويعرفون اللغة الأخرى بصورة جيدة.
- أن يكون من بينهم من يلم بموضوع النصوص المترجمة إلماما واضحا. وقد يكون من المناسب تمثيل وجهات النظر المختلفة المقبولة في هذا الموضوع، بدلا من الاقتصار على رأي واحد مقبول. وبعبارة أخرى، أن تكون هناك مرونة تسمح بعدد من الخيارات ترتب حسب الأولية يتم اختيار أفضلها في ظل الظروف اللغوية التي تتم الترجمة إليها. مثل الترجمة إلى اليد العامة في حالة توفر مثل هذه المفردة أو الترجمة إلى يد إنسان باعتبارها أفضلها.
4 – يتم التركيز بصفة خاصة على النقاط التي اختلف في ترجمتها المترجمون من جهة والنصوص التي هي موضوع اختلاف في المدلول. وللتأكد من هذه النقاط يتم إعادة ترجمتها إلى العربية بواسطة مترجم لم يشترك في ترجمة النص المذكور بأي صورة كانت. وذلك ليتم مرجعتها من قبل المختصين في موضوع الترجمة أو تعاد إلى المؤلف نفسه ليراجعها إذا كان ذلك ممكنا.
تقويم الأخطاء في الترجمات المطبوعة:
كثيرا ما يتم نشر ترجمات نكتشف فيها أخطاء، فتختلف وجهات النظر حول مصيرها. فمن قائل بإتلافه وإن كان بالآلاف؛ ومن قائل بعدم إتلافه وإن كانت نسخا ليست كثيرة جدا. وبعبارة أخرى، هناك حاجة إلى بعض القواعد التي نحتاج إليها ليكون القرار أقرب إلى الصواب. ومن هذه القواعد المقترحات التالية:
أولا - استقطاب أفضل المتوفر من الملمين باللغة العربية واللغة التي يتم الترجمة إليها وبشرط أن يكون - على الأقل – قويا في إحدى اللغتين.
ثانيا - ينضم إليهم علماء في التفسير يمثلون اتجاهات مختلفة وإن كانوا لا يعرفون اللغة التي يتم الترجمة إليها.
ثالثا – تقوم اللجنة بالمهمة اللجنة التالية:
أ – حصر جميع الأخطاء الموجودة على الترجمة المذكورة.
ب – مراجعة هذه الملاحظات وتصنيفها إلى مثلا:
- أخطاء متفق عليها.
- أخطاء مختلف عليها نسبيا.
- أخطاء مختلف عليها تماما بين أعضاء اللجنة.
ج - تصنيف الأخطاء إلى:
- أخطاء خطيرة وإن كانت الترجمة لا تمثل القرآن الكريم ويعتريها النقصان الذي يعتري العمل البشري،
- أخطاء خطيرة نسبيا.
- أخطاء ليست خطيرة.
د – اتخاذ قرار قد يتراوح بين:
- إتلاف المطبوع.
- توزيع الكمية الموجودة مع كتابة تنبيه عام إلى ما قد يكون من أخطاء بالنسبة للصفات والأسماء بسبب تباين اللغات أو تنبيه بأن الرابطة لا تؤيد كل التفسيرات الموجودة في الترجمة، وتلصق في بداية الترجمة.
- توزيع الكمية الموجودة مع كتابة تعليقات مفصلة على جميع الأخطاء التي تتفق عليها اللجنة في هيئة قائمة تلصق، في بداية الترجمة أو في نهايتها.
تعليق