تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ)
{ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } * { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَتبع هَوَاهُ فَتَرْدَى }
قوله تعالى: { إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } آية مشكلة؛ فروي عن سعيد بن جبير أنه قرأ «أَكَادُ أَخْفِيهَا» بفتح الهمزة؛ قال: أظهرها. { لِتُجْزَى } أي الإظهار للجزاء؛ رواه أبو عبيد عن الكسائي عن محمد بن سهل عن وِقَاء بن إياس عن سعيد بن جبير. وقال النحاس: وليس لهذه الرواية طريق غير هذا.
قلت: وكذا رواه أبو بكر الأنباري في كتاب الرد؛ حدثني أبي حدثنا محمد بن الجهم حدثنا الفراء حدثنا الكسائي؛ ح ـ وحدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا يوسف حدثنا يحيـى الحِمانيّ حدثنا محمد بن سهل.
قال النحاس؛ وأجود من هذا الإسناد ما رواه يحيـى القطان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد عن جبير: أنه قرأ «أَكَادُ أُخْفيها» بضم الهمزة.
قلت: وأما قراءة ابن جبير «أَخْفِيهَا» بفتح الهمزة بالإسناد المذكور فقال أبو بكر الأنباري قال الفراء: معناه أظهرها من خفيت الشيء أخفيه إذا أظهرته. وأنشد الفراء لامرىء القيس:
فإنْ تَدفِنُوا الدَّاءَ لا نَخْفِهِ **** وإنْ تَبعثُوا الحربَ لا نَقعُد
أراد لا نظهره؛ وقد قال بعض اللغويين: يجوز أن يكون «أخْفِيهَا» بضم الهمزة معناه أظهرها لأنه يقال: خَفيتُ الشيء وأَخفيته إذا أظهرتَه؛ فأخفيته من حروف الأضداد يقع على الستر والإظهار. وقال أبو عبيدة: خَفيت وأَخفيت بمعنى واحد. النحاس: وهذا حسن؛ وقد حكاه عن أبي الخطّاب وهو رئيس من رؤساء اللغة لا يشك في صدقه؛ وقد روى عنه سيبويه وأنشد:
وإِنْ تَكتُموا الداءَ لا نُخْفِهِ ***** وإِنْ تَبعثُوا الحربَ لا نَقعُد
كذا رواه أبو عبيدة عن أبي الخطاب بضم النون. وقال امرؤ القيس أيضاً:
خَفَاهنَّ من أنفاقِهنَّ كأنما *** خفاهنَّ وَدْقٌ من عَشِيِّ مُجَلِّبِ
أي أظهرهن. وروي: «من سحاب مركَّب» بدل «من عَشيٍّ مجلِّب». وقال أبو بكر الأنباري: وتفسير للآية آخر: «إِن الساعة آتية أكاد» انقطع الكلام على «أكاد» وبعده مضمر أكاد آتي بها، والابتداء «أُخفيها لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ». قال ضابىء البُرْجميّ:
هَممْتُ ولم أَفعلْ وكِدتُ وليتَنِي **** تَركتُ على عثمانَ تَبْكِي حَلاَئِلُهْ
أراد وكدت أفعل، فأضمر مع كدت فعلاً كالفعل المضمر معه في القرآن.
قلت: هذا الذي اختاره النحاس؛ وزيف القول الذي قبله فقال يقال: خَفى الشيءَ يخفيه إذا أظهره، وقد حكى أنه يقال: أخفاه أيضاً إذا أظهره، وليس بالمعروف؛ قال: وقد رأيت علي بن سليمان لما أشكل عليه معنى «أُخْفيها» عدل إلى هذا القول، وقال: معناه كمعنى «أَخْفيها». قال النحاس: ليس المعنى على أظهرها ولا سيما و«أَخْفيها» قراءة شاذة، فكيف تردّ القراءة الصحيحة الشائعة إلى الشاذة، ومعنى المضمر أولى؛ ويكون التقدير: إن الساعة آتية أكاد آتي بها؛ ودل «آتية» على آتي بها؛ ثم قال: «أُخْفيها» على الابتداء. وهذا معنى صحيح؛ لأن الله عز وجل قد أخفى الساعة التي هي القيامة، والساعة التي يموت فيها الإنسان ليكون الإنسان يعمل، والأمر عنده مبهم، فلا يؤخر التوبة.
قلت: وعلى هذا القول تكون اللام في «لِتجزى» متعلقة بـ«ـأُخفِيها». وقال أبو علي: هذا من باب السلب وليس من باب الأضداد، ومعنى «أُخفِيها» أزيل عنها خفاءها، وهو سترها كخِفاء الأخفية (وهي الأكسية) والواحد خفاء بكسر الخاء (ما تلف به) القربة، وإذا زال عنها سترها ظهرت. ومن هذا قولهم: أشكيته، أي أزلت شكواه، وأعديته أي قبلت استعداءه ولم أحوجه إلى إعادته. وحكى أبو حاتم عن الأخفش: أن «كاد» زائدة مؤكدة.
( يتبع)
{ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } * { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَتبع هَوَاهُ فَتَرْدَى }
قوله تعالى: { إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } آية مشكلة؛ فروي عن سعيد بن جبير أنه قرأ «أَكَادُ أَخْفِيهَا» بفتح الهمزة؛ قال: أظهرها. { لِتُجْزَى } أي الإظهار للجزاء؛ رواه أبو عبيد عن الكسائي عن محمد بن سهل عن وِقَاء بن إياس عن سعيد بن جبير. وقال النحاس: وليس لهذه الرواية طريق غير هذا.
قلت: وكذا رواه أبو بكر الأنباري في كتاب الرد؛ حدثني أبي حدثنا محمد بن الجهم حدثنا الفراء حدثنا الكسائي؛ ح ـ وحدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا يوسف حدثنا يحيـى الحِمانيّ حدثنا محمد بن سهل.
قال النحاس؛ وأجود من هذا الإسناد ما رواه يحيـى القطان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد عن جبير: أنه قرأ «أَكَادُ أُخْفيها» بضم الهمزة.
قلت: وأما قراءة ابن جبير «أَخْفِيهَا» بفتح الهمزة بالإسناد المذكور فقال أبو بكر الأنباري قال الفراء: معناه أظهرها من خفيت الشيء أخفيه إذا أظهرته. وأنشد الفراء لامرىء القيس:
فإنْ تَدفِنُوا الدَّاءَ لا نَخْفِهِ **** وإنْ تَبعثُوا الحربَ لا نَقعُد
أراد لا نظهره؛ وقد قال بعض اللغويين: يجوز أن يكون «أخْفِيهَا» بضم الهمزة معناه أظهرها لأنه يقال: خَفيتُ الشيء وأَخفيته إذا أظهرتَه؛ فأخفيته من حروف الأضداد يقع على الستر والإظهار. وقال أبو عبيدة: خَفيت وأَخفيت بمعنى واحد. النحاس: وهذا حسن؛ وقد حكاه عن أبي الخطّاب وهو رئيس من رؤساء اللغة لا يشك في صدقه؛ وقد روى عنه سيبويه وأنشد:
وإِنْ تَكتُموا الداءَ لا نُخْفِهِ ***** وإِنْ تَبعثُوا الحربَ لا نَقعُد
كذا رواه أبو عبيدة عن أبي الخطاب بضم النون. وقال امرؤ القيس أيضاً:
خَفَاهنَّ من أنفاقِهنَّ كأنما *** خفاهنَّ وَدْقٌ من عَشِيِّ مُجَلِّبِ
أي أظهرهن. وروي: «من سحاب مركَّب» بدل «من عَشيٍّ مجلِّب». وقال أبو بكر الأنباري: وتفسير للآية آخر: «إِن الساعة آتية أكاد» انقطع الكلام على «أكاد» وبعده مضمر أكاد آتي بها، والابتداء «أُخفيها لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ». قال ضابىء البُرْجميّ:
هَممْتُ ولم أَفعلْ وكِدتُ وليتَنِي **** تَركتُ على عثمانَ تَبْكِي حَلاَئِلُهْ
أراد وكدت أفعل، فأضمر مع كدت فعلاً كالفعل المضمر معه في القرآن.
قلت: هذا الذي اختاره النحاس؛ وزيف القول الذي قبله فقال يقال: خَفى الشيءَ يخفيه إذا أظهره، وقد حكى أنه يقال: أخفاه أيضاً إذا أظهره، وليس بالمعروف؛ قال: وقد رأيت علي بن سليمان لما أشكل عليه معنى «أُخْفيها» عدل إلى هذا القول، وقال: معناه كمعنى «أَخْفيها». قال النحاس: ليس المعنى على أظهرها ولا سيما و«أَخْفيها» قراءة شاذة، فكيف تردّ القراءة الصحيحة الشائعة إلى الشاذة، ومعنى المضمر أولى؛ ويكون التقدير: إن الساعة آتية أكاد آتي بها؛ ودل «آتية» على آتي بها؛ ثم قال: «أُخْفيها» على الابتداء. وهذا معنى صحيح؛ لأن الله عز وجل قد أخفى الساعة التي هي القيامة، والساعة التي يموت فيها الإنسان ليكون الإنسان يعمل، والأمر عنده مبهم، فلا يؤخر التوبة.
قلت: وعلى هذا القول تكون اللام في «لِتجزى» متعلقة بـ«ـأُخفِيها». وقال أبو علي: هذا من باب السلب وليس من باب الأضداد، ومعنى «أُخفِيها» أزيل عنها خفاءها، وهو سترها كخِفاء الأخفية (وهي الأكسية) والواحد خفاء بكسر الخاء (ما تلف به) القربة، وإذا زال عنها سترها ظهرت. ومن هذا قولهم: أشكيته، أي أزلت شكواه، وأعديته أي قبلت استعداءه ولم أحوجه إلى إعادته. وحكى أبو حاتم عن الأخفش: أن «كاد» زائدة مؤكدة.
( يتبع)
تعليق