العربية ما بين الترجمة والتعريب
يتساوى التَّعْريِب والإِعْراب في المَعْنَى الُّلغَويّ ويقصد بهما "الإِبانة"، والكلمتان مشتقتان من لفظي "عَرَّب وأَعْرَب" بمعنى أَبَان وأفْصَح، فالإِعْرَاب يفصح عن المَعَانِي بالحَرَكَاتِ التي تُفَرِّقُ بين الوَظَائِف النَّحْويَّة، وقد صار من المتفق عليه أن الإعراب هو توضيح معاني الألفاظ، وتوضيح الفوارق بينها من خلال استخدام علامات الإعراب المختلفة، ومن هنا وقياساً على ذلك فإن التعريب هو تخصص في توضيح دلالة الألفاظ، ويتناول نقل اللفظ الأعجمي إلى اللغة العربية.
من رحم اللغة خرج مصطلح أكثر تخصصاً وأضيق مجالاً وهو مصطلح "التعريب"، وهو مصطلح ينسب للعرب ويشير إلى استعمال العرب لفظاً أعجميّاً بتغييره على طريقة لغتهم، وهذا هو المفهوم الشائع لدى اللغويّين باختلافٍ في تعريفه، فمنهم من عرّفه بأنه: ما استعملته العرب من الألفاظ الموضوعة لمعانٍ في غير لغتها فهو يعني النقل من اللغة الأجنبية إلى اللغة العربية، فهو ترجمة من اللغة الأجنبية للغة العربية، كما أن التعريب يعني في عدد من البلدان الاستخدام الشامل للغة العربية بدل اللغة الأجنبية.
إن ما يميز المفهوم أو اللفظ المعرب هو قبوله للصرف والوزن العربي، أما الألفاظ الجامدة التي يتم استيرادها من اللغات الأخرى، واقتصار الأمر على رسم نطقها بحروف عربية، فهي ألفاظ دخيلة مقحمة على المحتوى اللغوي العربي، وعلى الرغم من أن جوهر مشكلة الترجمة في عالمنا العربي يتمثل في قلة النتاج الترجمي من وإلى اللغة العربية مقارنةً بنتاج أية لغة أخرى، إلا أن المشكلة تأخذ بُعداً أكبر إذا وضعنا عنصر الفقر الإعلاني عن النصوص المترجمة من وإلى العربية، فنكتشف أن المكتبة العربية تحفل بالعديد من درر التراجم، والتي لا يعرف القارئ العربي أو الغربي منها إلا النذر اليسير.
يرتبط التعريب بالترجمة لأنهما يتعلقان بنقل العلوم الأجنبية إلى اللغة العربية. فالتعريب ظاهرة من ظواهر التقاء اللغات بالتقاء أهلها بطريقة مباشرة كالحرب والاحتلال والدراسة والترحال والتجاور أو غير مباشرة كالإعلام والتجارة والاتصال بوسائل حديثة كالهاتف والشبكة الدولية للمعلومات. والتعريب يعني استعمال اللغة العربية في مختلف فروع المعرفة كلاماً وكتابةً، دراسةً وتدريساً، وبحثاً وترجمةً وتأليفاً.(زهير غازي زاهد- العربية والأمن اللغوي - 2000)
أما التباين بين الترجمة والتعريب فيبرز في أن الترجمة لا تسعى إلى تعريب اللسان، وتغيير منطوق ولفظ اللغة، وإنما تهتم بنقل المعنى باستخدام ألفاظ اللغة المستهدفة، بينما يتمثل التعريب في نقل المفهوم والمصطلح الأجنبي وصياغته باللفظ العربي في حال توافره، أو إيجاد لفظ جديد يعبر عن المفهوم أو المصطلح المعرب، ومن ذلك نستشف أن التعريب نسق خاص مستقل متفرد، لا يمكن خلطه بالترجمة على عمومها فله مميزات وقواعد خاصة، أهمها ما يتعلق بأمور الاشتقاق والصياغة اللفظية، والتطويع اللغوي والصرفي، والتعريب علم مستقل وضرب من ضروب فنون اللغة، إلا أنه لم يحظ بما يستحقه من تأطير منهجي أكاديمي، رغم أهميته والضرورات التي تدفع إلى التركيز عليه خاصة خلال هذه الفترة من تاريخ الحضارة العربية، وهناك من يرى أن التعريب أمرٌ يبدأ ويصب في المحتوى التعليمي والمناهج والمقررات المطبقة في عالمنا العربي، ويقول بأن التعريب هو استخدام اللغة العربية في تدريس العلوم جميعها وفي الاستخدامات الحكومية كلها، كما أن هناك مَن يرى التعريب جسراً يقوم على أعمدة الترجمة، ويسعى إلى سد الفجوة الناشئة عن التناول القومي للعلوم الأجنبية وأسسها وقواعدها، ويمكننا أن ننظر إلى التعريب والترجمة بوصفهما وجهَيْن لعُملة واحدة، الوجه الأول يجعلنا نركز على التأصيل اللغوي، والآخر يحقق التطور اللغوي.
وهناك من يُبرر وضع قيود على حركة التعريب لاختلاف القناعات الدينية والثقافية بين العرب والكثير من الأمم الأخرى، وأن وضع هذه العراقيل يعمل على تنظيم التغلغل والحد من عملية الاختراق الثقافي الآخر!!! ورغم نبل هذه الغاية إلا أن الواقع والمنطق يفرغها من كل مميزاتها، فالحماية لا يمكن أن تستمر في ظل النخر الداخلي، ومهما زاد سمُك الدرع فلا يمكن أن يشفي جسداً مريضاً معتلاً، بل الأحْرى أن نعمد إلى تأصيل ثوابتنا وتأكيد هويتنا، وترسيخ المبادئ والأخلاق، وبعدها سيصبح الفردُ حَكَماً ومُقيّماً لما قد يراه في الآخر كلما استشرف نافذة الترجمة، وأطلَّ منها على ما لدى الآخر من أفكارٍ وقناعات، فينتخبُ منها ما يتفق مع معتقداته وثقافته، ويعزفُ عن كل ما خالف تلك المعتقدات، بل قد يعمد إلى نقده وتصحيحه وتصويبه، ومن هنا يمكننا أن نتجاوز عامل التأثير العددي والقياس الكمي للناطقين باللغة، ويصبح القياس ساعتها بحجم التأثير والتفاعل الثقافي على المستوى العالمي، ساعتها ستفرض اللغة العربية نفسها وتنتشر لتغطي المساحة التي تستحقها على خارطة اللغات العالمية، وستصبح لغة "تقييم" ثقافي، وفاعل مؤثر في تشكيل الحضارة الإنسانية، وإن من عجيب الأمور أن نجدَ الكثيرَ من معاهدنا ومؤسساتنا التعليمية تتعمد استخدام لغات أجنبية في نظمها التعليمية، وهي ظاهرة لا نجدها عند أية أمة أو دولة أخرى، وذلك باستثناء التجمعات متعددة اللغات والتي لا يتخطى فيها تعداد الناطقين باللغة بضعة آلاف ....
كذا فهناك من يقول بأن "العلم لا يدرس إلا بلغته"، لكن ذلك يدفعنا إلى قياس حجم العوائق التي يستوجبها دراسة العلوم بلغة غير اللغة العربية، وما قد ينجم عن ذلك من قصور في إدراك المحتوى المعرفي. كما أن هناك مَن يرى أنه لا سبيل إلى السير بشأن التعريب ليجاري الخطى المتسارعة التي تسير بها العلوم والتقنيات، ولكن هذا لم ينتج إلا عندما ثبتت خطى التعريب عند نقطة محددة ولم تتخطاها منذ عقود، أما إذا أرخينا عقال التعريب وحررناه فإنه سيلحق بها بكل تأكيد إذا أضفنا متغيراً جديداً هو تأهيل وتأصيل الكوادر والمؤسسات المنوط بها القيام بعملية التعريب.. وهناك من يرى أن التعريب أمرٌ يبدأ ويصبُّ في المحتوى التعليمي والمناهج والمقررات المطبقة في عالمنا العربي، ويقول بأن التعريب هو استخدام اللغة العربية في تدريس العلوم جميعها وفي الاستخدامات الحكومية كلها، كما أن هناك مَن يرى التعريب جسراً يقوم على أعمدة الترجمة ويسعى إلى سد الفجوة الناشئة عن التناول القومي للعلوم الأجنبية وأسسها وقواعدها.
لقد أثبت الواقع أن هناك ارتباطاً طردياً بين عدد ما تترجمه الأمم من مؤلفات، وما تحرزه من تطور وتقدم، فالشعوب التي تعيش في رخاء اقتصادي وازدهار معرفي، هي تلك التي تترجم أكثر من غيرها، فمن خلال الترجمة تكتسب المعرفة، وتزدهر العلوم وتتطور الأمم.. والترجمة واحدة من أهم المعايير التي تميز بين الثقافات المختلفة، فبالرغم من أن الترجمة تنقل من الثقافات وإليها، إلا أن نشاط حركة الترجمة هو الذي يحدد إذا ما كانت هذه الثقافة (مرسلة) أم (مستقبلة)، فكلما تزايد النقل من لغة معينة كلما أمكننا القول بأن ثقافة هذه اللغة (ثقافة مرسلة)، أما إذا كان ما يُترجم إليها أكثر مما يُترجم عنها فهذا مفاده أنها (ثقافة مستقبلة).
إن للترجمة دورها المهم أيضاً في تطوير المحتوى اللغوي، فتدفع اللغة (المتلقية) إلى استحداث ألفاظ ومصطلحات لم تكن موجودة في محتواها اللغوي السابق، وبقدر اتساع هذا المحتوى اللغوي كلما أمكن للغة المتلقية أن تستوعب معاني ودلالات الألفاظ المستحدثة أو الوافدة إليها، كما أن الترجمة تساعد اللغة (المرسلة) على نشر مصطلحاتها وألفاظها وتبيان مدى تقدمها العلمي ورقيها الثقافي. كذلك فإن تأثير الترجمة لا يقتصر على الثقافة والمكون اللغوي، بل يمتد ليشمل المجتمع بسائر أنشطته، فغالبية الحركات الاجتماعية والسياسية التي شهدها عالمنا المعاصر يظهر فيها أثر ترجمة المحتوى الفكري والاحتكاك بين الثقافات وتفعلها مع بعضها البعض.
هناك حاجة متزايدة وملحة إلى زيادة نشاط الترجمة وصناعتها، والتأسيس لها كصنعة لها قيمتها ودورها في المجتمع، فقد أشارت الإحصائيات إلى أن جُملة ما تم ترجمته إلى العربية خلال الخمسين عاماً الأخيرة يقدّر بنحو 10 آلاف كتاب فقط، أي أن حصة القارئ العربي تقدّر بنحو كتاب واحد لكل 2.3 مليون قارئ، بينما يصل هذا المتوسط في اللغات الأخرى إلى كتاب واحد لكل 80 ألف فرد.
وأشار تقرير التنمية الإنسانية العربية الأول الصادر عام 2002 إلى الوضع الكارثي لحركة الترجمة العربية، وحجمها الضئيل الذي لا يكاد يصل إلى حجم ما تترجمه اليونان والتي يقل عدد سكانها عن (5٪) مقارنة بإجمالي عدد العرب، وأن إجمالي ما ترجم طوال عمر الحضارة العربية يوازي ما ترجمته أسبانيا في عام واحد حالياً.(تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002)
وإذا ما تغاضينا عن هذه الحقيقة المؤلمة، فإننا نجد أنفسنا أمام إشكالية مهمة، وهي أن أبناء وطننا العربي يعجزون عن الاستفادة الكاملة من العلوم التي يتم تدريسها باللغات الأجنبية، وذلك لسببين جوهريين: أولهما صعوبة الانتقال بين المستوى اللغوي المعرفي العام الذي يدرسه الطالب حتى المرحلة الثانوية إلى المستوى التخصصي العلمي الذي يبدأ في التعامل معه في مرحلة الجامعة، وهي المرحلة التي يتم فيها تدريس أدق التفاصيل العلمية التخصصية، وهذا بالتالي يؤثر على جودة التحصيل لدى الدارس ويقود إلى رداءة المنتج النهائي، سواء تمثل في البحث العلمي أو التطبيق العملي. أما السبب الثاني فيتمثل في انعدام العدالة وتساوي الفرص، فهناك قطاع عريض من الدارسين الذين يمكنهم التميز في صنوف العلم المختلفة، وإثراء المحتوى العلمي الإنساني، إلا أن الأوضاع الاقتصادية قد تفرض عليهم الإحجام عن فرص الاستزادة العلمية.
التعريب أداة قوية لابد لنا أن نستغلها لتأكيد هويتنا وفرض وجودنا، وبدلاً من أن نستورد العلوم والأفكار وندسها في عقول أبنائنا، أحرى بنا أن نعرّبها ونصبغها بصبغتنا.. إن هناك خطراً داهماً ناتجاً عن التراخي في مسيرة التعريب، وهذا الخطر يتمثل في هجرة العقول والكفاءات العربية إلى البلدان التي درست العلوم بلغاتها، وهذا خطر يمس الأمن القومي العربي على وجهين، أولهما تجريف سهل الكفاءات البشرية العربية، وخفض وتقليل العقول والكفاءات العالمة في وطننا العربي، وثانيهما ما ينتج عن استمرار تقوقعنا دون نقل عادل لجوهر هذه العلوم عبر من نثق فيهم من المترجمين أبناء عروبتنا، والوجه الأخير اختلال ميزان التأثير الثقافي لصالح الآخر مما يضعنا في حالة خنوعٍ وتبعية.
يتساوى التَّعْريِب والإِعْراب في المَعْنَى الُّلغَويّ ويقصد بهما "الإِبانة"، والكلمتان مشتقتان من لفظي "عَرَّب وأَعْرَب" بمعنى أَبَان وأفْصَح، فالإِعْرَاب يفصح عن المَعَانِي بالحَرَكَاتِ التي تُفَرِّقُ بين الوَظَائِف النَّحْويَّة، وقد صار من المتفق عليه أن الإعراب هو توضيح معاني الألفاظ، وتوضيح الفوارق بينها من خلال استخدام علامات الإعراب المختلفة، ومن هنا وقياساً على ذلك فإن التعريب هو تخصص في توضيح دلالة الألفاظ، ويتناول نقل اللفظ الأعجمي إلى اللغة العربية.
من رحم اللغة خرج مصطلح أكثر تخصصاً وأضيق مجالاً وهو مصطلح "التعريب"، وهو مصطلح ينسب للعرب ويشير إلى استعمال العرب لفظاً أعجميّاً بتغييره على طريقة لغتهم، وهذا هو المفهوم الشائع لدى اللغويّين باختلافٍ في تعريفه، فمنهم من عرّفه بأنه: ما استعملته العرب من الألفاظ الموضوعة لمعانٍ في غير لغتها فهو يعني النقل من اللغة الأجنبية إلى اللغة العربية، فهو ترجمة من اللغة الأجنبية للغة العربية، كما أن التعريب يعني في عدد من البلدان الاستخدام الشامل للغة العربية بدل اللغة الأجنبية.
إن ما يميز المفهوم أو اللفظ المعرب هو قبوله للصرف والوزن العربي، أما الألفاظ الجامدة التي يتم استيرادها من اللغات الأخرى، واقتصار الأمر على رسم نطقها بحروف عربية، فهي ألفاظ دخيلة مقحمة على المحتوى اللغوي العربي، وعلى الرغم من أن جوهر مشكلة الترجمة في عالمنا العربي يتمثل في قلة النتاج الترجمي من وإلى اللغة العربية مقارنةً بنتاج أية لغة أخرى، إلا أن المشكلة تأخذ بُعداً أكبر إذا وضعنا عنصر الفقر الإعلاني عن النصوص المترجمة من وإلى العربية، فنكتشف أن المكتبة العربية تحفل بالعديد من درر التراجم، والتي لا يعرف القارئ العربي أو الغربي منها إلا النذر اليسير.
يرتبط التعريب بالترجمة لأنهما يتعلقان بنقل العلوم الأجنبية إلى اللغة العربية. فالتعريب ظاهرة من ظواهر التقاء اللغات بالتقاء أهلها بطريقة مباشرة كالحرب والاحتلال والدراسة والترحال والتجاور أو غير مباشرة كالإعلام والتجارة والاتصال بوسائل حديثة كالهاتف والشبكة الدولية للمعلومات. والتعريب يعني استعمال اللغة العربية في مختلف فروع المعرفة كلاماً وكتابةً، دراسةً وتدريساً، وبحثاً وترجمةً وتأليفاً.(زهير غازي زاهد- العربية والأمن اللغوي - 2000)
أما التباين بين الترجمة والتعريب فيبرز في أن الترجمة لا تسعى إلى تعريب اللسان، وتغيير منطوق ولفظ اللغة، وإنما تهتم بنقل المعنى باستخدام ألفاظ اللغة المستهدفة، بينما يتمثل التعريب في نقل المفهوم والمصطلح الأجنبي وصياغته باللفظ العربي في حال توافره، أو إيجاد لفظ جديد يعبر عن المفهوم أو المصطلح المعرب، ومن ذلك نستشف أن التعريب نسق خاص مستقل متفرد، لا يمكن خلطه بالترجمة على عمومها فله مميزات وقواعد خاصة، أهمها ما يتعلق بأمور الاشتقاق والصياغة اللفظية، والتطويع اللغوي والصرفي، والتعريب علم مستقل وضرب من ضروب فنون اللغة، إلا أنه لم يحظ بما يستحقه من تأطير منهجي أكاديمي، رغم أهميته والضرورات التي تدفع إلى التركيز عليه خاصة خلال هذه الفترة من تاريخ الحضارة العربية، وهناك من يرى أن التعريب أمرٌ يبدأ ويصب في المحتوى التعليمي والمناهج والمقررات المطبقة في عالمنا العربي، ويقول بأن التعريب هو استخدام اللغة العربية في تدريس العلوم جميعها وفي الاستخدامات الحكومية كلها، كما أن هناك مَن يرى التعريب جسراً يقوم على أعمدة الترجمة، ويسعى إلى سد الفجوة الناشئة عن التناول القومي للعلوم الأجنبية وأسسها وقواعدها، ويمكننا أن ننظر إلى التعريب والترجمة بوصفهما وجهَيْن لعُملة واحدة، الوجه الأول يجعلنا نركز على التأصيل اللغوي، والآخر يحقق التطور اللغوي.
وهناك من يُبرر وضع قيود على حركة التعريب لاختلاف القناعات الدينية والثقافية بين العرب والكثير من الأمم الأخرى، وأن وضع هذه العراقيل يعمل على تنظيم التغلغل والحد من عملية الاختراق الثقافي الآخر!!! ورغم نبل هذه الغاية إلا أن الواقع والمنطق يفرغها من كل مميزاتها، فالحماية لا يمكن أن تستمر في ظل النخر الداخلي، ومهما زاد سمُك الدرع فلا يمكن أن يشفي جسداً مريضاً معتلاً، بل الأحْرى أن نعمد إلى تأصيل ثوابتنا وتأكيد هويتنا، وترسيخ المبادئ والأخلاق، وبعدها سيصبح الفردُ حَكَماً ومُقيّماً لما قد يراه في الآخر كلما استشرف نافذة الترجمة، وأطلَّ منها على ما لدى الآخر من أفكارٍ وقناعات، فينتخبُ منها ما يتفق مع معتقداته وثقافته، ويعزفُ عن كل ما خالف تلك المعتقدات، بل قد يعمد إلى نقده وتصحيحه وتصويبه، ومن هنا يمكننا أن نتجاوز عامل التأثير العددي والقياس الكمي للناطقين باللغة، ويصبح القياس ساعتها بحجم التأثير والتفاعل الثقافي على المستوى العالمي، ساعتها ستفرض اللغة العربية نفسها وتنتشر لتغطي المساحة التي تستحقها على خارطة اللغات العالمية، وستصبح لغة "تقييم" ثقافي، وفاعل مؤثر في تشكيل الحضارة الإنسانية، وإن من عجيب الأمور أن نجدَ الكثيرَ من معاهدنا ومؤسساتنا التعليمية تتعمد استخدام لغات أجنبية في نظمها التعليمية، وهي ظاهرة لا نجدها عند أية أمة أو دولة أخرى، وذلك باستثناء التجمعات متعددة اللغات والتي لا يتخطى فيها تعداد الناطقين باللغة بضعة آلاف ....
كذا فهناك من يقول بأن "العلم لا يدرس إلا بلغته"، لكن ذلك يدفعنا إلى قياس حجم العوائق التي يستوجبها دراسة العلوم بلغة غير اللغة العربية، وما قد ينجم عن ذلك من قصور في إدراك المحتوى المعرفي. كما أن هناك مَن يرى أنه لا سبيل إلى السير بشأن التعريب ليجاري الخطى المتسارعة التي تسير بها العلوم والتقنيات، ولكن هذا لم ينتج إلا عندما ثبتت خطى التعريب عند نقطة محددة ولم تتخطاها منذ عقود، أما إذا أرخينا عقال التعريب وحررناه فإنه سيلحق بها بكل تأكيد إذا أضفنا متغيراً جديداً هو تأهيل وتأصيل الكوادر والمؤسسات المنوط بها القيام بعملية التعريب.. وهناك من يرى أن التعريب أمرٌ يبدأ ويصبُّ في المحتوى التعليمي والمناهج والمقررات المطبقة في عالمنا العربي، ويقول بأن التعريب هو استخدام اللغة العربية في تدريس العلوم جميعها وفي الاستخدامات الحكومية كلها، كما أن هناك مَن يرى التعريب جسراً يقوم على أعمدة الترجمة ويسعى إلى سد الفجوة الناشئة عن التناول القومي للعلوم الأجنبية وأسسها وقواعدها.
لقد أثبت الواقع أن هناك ارتباطاً طردياً بين عدد ما تترجمه الأمم من مؤلفات، وما تحرزه من تطور وتقدم، فالشعوب التي تعيش في رخاء اقتصادي وازدهار معرفي، هي تلك التي تترجم أكثر من غيرها، فمن خلال الترجمة تكتسب المعرفة، وتزدهر العلوم وتتطور الأمم.. والترجمة واحدة من أهم المعايير التي تميز بين الثقافات المختلفة، فبالرغم من أن الترجمة تنقل من الثقافات وإليها، إلا أن نشاط حركة الترجمة هو الذي يحدد إذا ما كانت هذه الثقافة (مرسلة) أم (مستقبلة)، فكلما تزايد النقل من لغة معينة كلما أمكننا القول بأن ثقافة هذه اللغة (ثقافة مرسلة)، أما إذا كان ما يُترجم إليها أكثر مما يُترجم عنها فهذا مفاده أنها (ثقافة مستقبلة).
إن للترجمة دورها المهم أيضاً في تطوير المحتوى اللغوي، فتدفع اللغة (المتلقية) إلى استحداث ألفاظ ومصطلحات لم تكن موجودة في محتواها اللغوي السابق، وبقدر اتساع هذا المحتوى اللغوي كلما أمكن للغة المتلقية أن تستوعب معاني ودلالات الألفاظ المستحدثة أو الوافدة إليها، كما أن الترجمة تساعد اللغة (المرسلة) على نشر مصطلحاتها وألفاظها وتبيان مدى تقدمها العلمي ورقيها الثقافي. كذلك فإن تأثير الترجمة لا يقتصر على الثقافة والمكون اللغوي، بل يمتد ليشمل المجتمع بسائر أنشطته، فغالبية الحركات الاجتماعية والسياسية التي شهدها عالمنا المعاصر يظهر فيها أثر ترجمة المحتوى الفكري والاحتكاك بين الثقافات وتفعلها مع بعضها البعض.
هناك حاجة متزايدة وملحة إلى زيادة نشاط الترجمة وصناعتها، والتأسيس لها كصنعة لها قيمتها ودورها في المجتمع، فقد أشارت الإحصائيات إلى أن جُملة ما تم ترجمته إلى العربية خلال الخمسين عاماً الأخيرة يقدّر بنحو 10 آلاف كتاب فقط، أي أن حصة القارئ العربي تقدّر بنحو كتاب واحد لكل 2.3 مليون قارئ، بينما يصل هذا المتوسط في اللغات الأخرى إلى كتاب واحد لكل 80 ألف فرد.
وأشار تقرير التنمية الإنسانية العربية الأول الصادر عام 2002 إلى الوضع الكارثي لحركة الترجمة العربية، وحجمها الضئيل الذي لا يكاد يصل إلى حجم ما تترجمه اليونان والتي يقل عدد سكانها عن (5٪) مقارنة بإجمالي عدد العرب، وأن إجمالي ما ترجم طوال عمر الحضارة العربية يوازي ما ترجمته أسبانيا في عام واحد حالياً.(تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002)
وإذا ما تغاضينا عن هذه الحقيقة المؤلمة، فإننا نجد أنفسنا أمام إشكالية مهمة، وهي أن أبناء وطننا العربي يعجزون عن الاستفادة الكاملة من العلوم التي يتم تدريسها باللغات الأجنبية، وذلك لسببين جوهريين: أولهما صعوبة الانتقال بين المستوى اللغوي المعرفي العام الذي يدرسه الطالب حتى المرحلة الثانوية إلى المستوى التخصصي العلمي الذي يبدأ في التعامل معه في مرحلة الجامعة، وهي المرحلة التي يتم فيها تدريس أدق التفاصيل العلمية التخصصية، وهذا بالتالي يؤثر على جودة التحصيل لدى الدارس ويقود إلى رداءة المنتج النهائي، سواء تمثل في البحث العلمي أو التطبيق العملي. أما السبب الثاني فيتمثل في انعدام العدالة وتساوي الفرص، فهناك قطاع عريض من الدارسين الذين يمكنهم التميز في صنوف العلم المختلفة، وإثراء المحتوى العلمي الإنساني، إلا أن الأوضاع الاقتصادية قد تفرض عليهم الإحجام عن فرص الاستزادة العلمية.
التعريب أداة قوية لابد لنا أن نستغلها لتأكيد هويتنا وفرض وجودنا، وبدلاً من أن نستورد العلوم والأفكار وندسها في عقول أبنائنا، أحرى بنا أن نعرّبها ونصبغها بصبغتنا.. إن هناك خطراً داهماً ناتجاً عن التراخي في مسيرة التعريب، وهذا الخطر يتمثل في هجرة العقول والكفاءات العربية إلى البلدان التي درست العلوم بلغاتها، وهذا خطر يمس الأمن القومي العربي على وجهين، أولهما تجريف سهل الكفاءات البشرية العربية، وخفض وتقليل العقول والكفاءات العالمة في وطننا العربي، وثانيهما ما ينتج عن استمرار تقوقعنا دون نقل عادل لجوهر هذه العلوم عبر من نثق فيهم من المترجمين أبناء عروبتنا، والوجه الأخير اختلال ميزان التأثير الثقافي لصالح الآخر مما يضعنا في حالة خنوعٍ وتبعية.
تعليق