إماطَةُ اللِّثام عن القِناع والمَسخَرة والكِمام!
[align=justify]بينما كنتُ أطالع موقعًا إخباريًا شهيرًا نجمت أمامي دعاية لـ (مَسْكَرَة) تنتجها شركة تجميل شهيرة. قدَّمت الدعاية سيدة وضعت على وجهها كميات من المسكرة والمراهم والمساحيق والألوان تترك الشقي الذي يتصبَّح بها وهي على هذه الهيئة فرخًا في عصفورية من شدة الرعب! فذهبتُ إلى الواتس فإذا بي أطالع مقطعًا مرئيًا لرئيس أحد مجامع اللغة العربية يُخَطِّئ فيها من يستعمل (كَمَّامَة) لغطاء الفم وذلك للوقاية من الإصابة بالحُمَة التاجية (كورونا)، ويقول جَنابُه إن الكلمة الصحيحة لغطاء الفم هي الـ (قِناع) الذي يغطي الفم والأنف بعكس الـ (ِلثام) الذي يغطي الفم فقط. بعد ذلك لفت زميل في مجموعة لغوية نظري إلى بحث منشور الشبكة العنكبية بذل فيه كاتبُه جهدًا واضحًا للتدليل على أن (قِناع) هي الترجمة العربية الدقيقة لكلمة (mask) الإنكليزية وأنها – أي قِناع – أفضل من (كمَّامة) للدلالة على معنى كلمة (mask) الإنكليزية. فارتأيتُ أن أكتب هذه المقالة لإلقاء الضوء على الموضوع من جهة العربية وجهة الترجمة.
إن القناع في الأصل غطاءُ الرأس لا غطاء الوجه. ثم إن القناع، كما ذكر الأستاذ الدكتور سليمان العيوني، "إنما يكون غطاءً لبعض الوجه أو كله بإنزال بعضه إلى الوجه، فيقال: أغدفَ أو أرسلَ أو أسدفَ القناع على وجهه، فلما كثر ذلك جرى استعمال القناع للوجه". وأضاف الدكتور سليمان: "إن أقرب اسم عربي قديم لما يوضع اليوم على الأنف والفم هو الـ (لِفام)، وهو غطاء على طرف الأنف وما أسفله من الوجه".
كما أن كِمامَة صحيحة وكمَّامَة كذلك صحيحة وهذه الأخيرة صيغة مبالغة من الكمّ وهو التغطية. والكمَّامَة هي الشائعة اليوم ولا فائدة ترجى من المجادلة في صحتها. واعتراض من يستدل بأن كمّامَة للحيوان فيه نظر. "فالعرب"، كما أفاد به الدكتور ظافر العمري، "قد تستعير من الحيوان للإنسان فيسمون الشفة مشفرًا والمشفر للبعير". وأضاف الدكتور ظافر: "ثم إنا نستعمل لفظ عِقال لما نضعه على رؤوسنا، وأصل العِقال للبعير أيضًا". فهب أن كمَّامة في الأصل للبعير، فيكون استعمالها لربّ البعير استعارة من البعير للإنسان مستساغة قياسًا بالعِقال وبالخفِّ الذي هو في الأصل للبعير أيضًا!
أما القول إن (قناع) هي الترجمة العربية الدقيقة لكلمة (mask) الإنكليزية فقول فيه نظر أيضًا. ويجدر بنا قبل التأمّل في هذا القول أن نتوقف عند أصل كلمة (mask).
انتشرت في العصور الوسيطة ظاهرة "حفلات المسخرة" وهي حفلات تَنكُّر عند الأكابر أولاً ثم العامة ثانيًا الذين كانوا يسترون وجوههم بأقنعة كانوا يضعونها على رؤوسهم ويرسلونها على وجوهم كي لا يعرفهم أحد. وبما أن المشاركين في حفلات التنكر هذه كانوا متنكرين بالأقنعة المغطية رؤوسهم ووجوههم فإنهم كانوا يتحللون من الضوابط الاجتماعية وربما الأخلاقية فيأتون بأفعال لا يمكن لهم أن يأتوا بها بدون أقنعة يتوارون خلفها كما يفعل أصحاب الأسماء المستعارة في وسائل التواصل الاجتماعي .. وكان الناس يسمون صنيعهم هذا "حفلات مَسْخَرَة". أخذ الأوربيون عن العرب حفلات المسخرة هذه وقلّدوهم فيها وسموها في لغاتهم الغربية (masquerade ball) في الإنكليزية أو (bal masqué) في الفرنسية وفي غيرهما من اللغات كذلك. وصارت المسخرة عادة عند الطبقات الأرستقراطية. فكانت (masquerade) أول كلمة منتشرة في معظم لغات العالم تولّدت عن كلمتنا العربية مسخرة.
لم يقف الحد عند هذه المسخرة بمعنى حفلة التنكر (masquerade) فحسب، بل تولّد عن مسخرتنا هذه كلمة ثانية هي (mascara) بمعنى مساحيق الزينة، فنحن نجد هذه الكلمة أيضًا في معظم لغات العالم كالإنكليزية والفرنسية والألمانية والهولندية وغيرها هكذا (mascara). والطريف في الأمر أن العرب استرجعوا هذه الكلمة أيضًا ولكن بشكلها العالمي، أي مَسْكَرَة، وذلك للدلالة على مساحيق التجميل. فهذه مسخرتُنا عادت إلينا (مَسْكَرَة) مثلما عادت إلينا بعض الكلمات العربية بحلتها العالمية بدلاً من حلتها العربية مثل شيك (من صَكّ) ومسّاج (من مَسَّدَ) وشِفْرَة (من صِفْر) ومثلها كثير. ولا نحتاج إلى كثير شرح لتوضيح التطور الدلالي من مسخرة بمعنى حفلة تنكر (masquerade) إلى مَسْكَرَة بمعنى مساحيق التجميل (mascara)، ذلك أن الأولى قِناع يُرسَل على الوجه كي لا يُعرف صاحبه فيأتي هذا الأخير بالمهازل وربما بالموبقات السبع بدون أن يشعر بالحرج، بينما الثانية قناع أيضًا يوضع على الوجه ليبرزه على غير حقيقته لأهدافٍ مختلفة. وكانت العرب تسمي المرأة الحسناء التي تستغني بحسنها عن المسكرة: غانِيَة! وكانت جداتنا رضي الله عنهن يسمين مساحيق التجميل العصرية بدهائهن المعهود: (بُويَة)! والبوية عند أهل الشام: المرهم الذي تُلَمَّع به الأحذية .. ويُسمّى صاحب الصنعة الذي ينظف لك الحذاء في الفضاء العمومي ويلمّعه لقاء دراهم معدودة: (بُويَجِي)! ولكن حديثنا هنا في المسخرة وليس في البوية فنعود إليها مرجحين بأن الكلمة دخلت اللغات الأوربية عبر الإسبانية (máscara) التي تنطق مَسْكَرَة لأن حفلات المسخرة كانت تُقام في الأندلس أيضًا.
والكلمة الثالثة التي تولَّدَت عن مسخرتنا هي (mask) بمعنى القناع الذي يغطي جميع الوجه. فهذه الكلمة موجودة وشائعة في كل لغات العالم أيضًا كالإنكليزية (mask) والفرنسية (masque) والألمانية (Maske) والهولندية (masker) والإسبانية (máscara) التي تعني في الأصل القناع الذي يغطي جميع الوجه كما تقدم.
إذن تعني الكلمة الإنكليزية (mask) القناع الذي يغطي جميع الوجه. أما الكمَّامة التي نرتديها اليوم لاتقاء عدوى الحُمَة التاجية (كورونا) فهي لا تغطي جميع الوجه بل الأنف والفم منه فقط. كما أن الـ (mask) الذي يرتديه الإنكليز وجميع سكان العالم اليوم إنما يغطي الأنف والفم فقط وليس جميع الوجه. إذن نحن هنا إزاء كلمة أجنبية – أي (mask) – اجتمع فيها حقلان دلاليان اثنان: حقل دلالي قديم هو القناع الذي يغطي جميع الوجه، وحقل دلالي حديث هو الغطاء الذي يغطي الأنف والفم فقط. نعبّر عن هذين الحقلين الدلاليين في العربية بكلمتين مختلفتين: "القناع" لجميع الوجه و"الكمَّامَة" للفم والأنف فقط. ونحن إذا ترجمنا (mask) إلى العربية في سياق حفلات التنكر، ترجمناها بقناع. وإذا ترجمنا (mask) كما يرتديها الناس اليوم لتفادي انتقال العدوى، ترجمناها بكمَّامة. وعليه فإن ترجمة (mask) في سياق الحُمَة التاجية (كورونا) بقناع خطأ ترجمي فادح لأن الـ (mask) المقصود اليوم هو الكمَّامة التي يغطي بها الواحد منا أنفه وفمه ليقي نفسه وغيره خطر الإصابة بكورونا، وليس قناع التّنكُّر في حفلات المسخرة. ومن يترجم (mask) في سياق الوقاية من العدوى بقناع إنما يترجم دون أخذ الحقول الدلالية للكلمات المُتَرْجَمَة بعين الاعتبار. ومَن يترجم بدون أخذ الحقول الدلالية للكلمات المُتَرْجَمَة بعين الاعتبار فإنه يخلط بين المعاني والدلالات ويرتكب بذلك مُنكرًا عظيمًا في علم الترجمة يرقى إلى مستوى "المسخرة"!
نختم بالقول إن كلمتنا العربية (مسخرة) ولَّدت ثلاث كلمات منتشرة ومستعملة في معظم لغات العالم هي (masquerade) بمعنى حفلة التنكر و(mascara) بمعنى مساحيق الزينة و(mask) بمعنى القِناع لجميع الوجه عمومًا وبمعنى الكَمَّامة للفم والأنف كما تستعمل اليوم في سياق جائحة الكورونا خصوصًا.
جريدة الرياض: https://www.alriyadh.com/1873343
[/align]