الـمـولــود مـوظـفــًا .. (1)
الموظف! وما أدراك ما الموظف؟!
في بلاد الفرنجة، والدول التي لا تنقطع فيها الكهرباء –مثل النيجر وساحل العاج- يسمون الموظف "خادمًا مدنيَّا"، أو "مْتُوميشي وَسيريكالي" باللغة السواحيلية. أما الإفرنج فيسمونه سِفِل سِرْفَنْت، مع نطق الفاء /ﭪ/. ومع الاقتراب الصوتي للفظة (سِفِل) من "السفالة"، إلا أن الواقع هو أن هذا الخادم المدني الإفرنجي ليس سافلاً في غالب تعاملاته مع عموم الناس الذين هم عماد وظيفته، ولولاهم لما وجد لنفسه عملاً، ولا اقتطعت له الحكومات من ضرائب الناس أجرًا.
وقد تبيَّن من الأبحاث العلمية أن الموظف/الخادم المدني يولد وفي تركيبته جينات تجعلُه غيرَ صالح لأن يتولى أي عمل آخر؛ فلا يصلح أن يكون طبيبًا، ولا مهندسًا، ولا مُعلِّمًا، ولا مديرًا، ولا مخطِّطًا، بل ولا حتى غطَّاسًا في مصلحة المجاري. ولذلك يصاب المرء ذو الجينات والكروموسومات الخدمية بصدمة عصبية سيريبلَّمية شديدة حين يبحث عن عمل ولا يجد في حياته المهنية عملاً موظَّفيًّا، وتزداد عند هذه الفئة من الناس أمراض الاكتئاب والإحباط والسوداوية وجنون العظمة، والقَزَع، وهو قص الشعر على طريقة "كابوريا". ويتهكم الباحثون النفسيون فيما بينهم على ما يسمونه "المولود موظَّفًا" بقولهم إن هذا النوع من البشر "يولد وفي بطنه مكتب، وفي مؤخرته كرسي دوَّار"؛ ذلك أن "المولود موظَّفًا" لا يقوم بذاته، وإنما يرتكز دائمًا على غيره، ويظل طيلة حياة يدور حول نفسه، ولا يتحرك من مكانه قدر أنملة. فضلاً عن أن الدراسات الفسيولوجية والتشريحية أوضحت أن من السمات الجسدية التكوينية التي لا تخطؤها العين هي أن المولود موظَّفًا يتسم بمؤخرة مربعة أشبه بقعدة الكرسي، وهي مع ذلك قابلة للتكيُّف حسب شكل الكرسي طولاً وعرضًا، نعومة وخشونة، بل وما إذا كان الكرسي مبطَّنًا بالكشمير أو صلباً كالحديد، أو قائمًا كالخابور. ولعل هذه من النقاط التي ينبغي لمنكري نظرية النشوء والتطور أن يتفكروا فيها ويأخذونها في الحسبان قبل رفض الفكرة قولاً واحدًا.
ولأن لِـلُّغة تأثيرًا على تفكير الناس أشبهَ بتأثير أفخم عطور الفاتنات على عقول الغلابة وأحلام العصافير من الرجال ممن لا يشمون إلا رائحة البصل تنبعث من أفواه نسائهم وأجسادهن، فقد ترسَّخ في أذهان الخادم المدني الإفرنجي أنه بالفعل خادم؛ فهو يسمع الكلمة تتردد كثيرًا على ألسنة الناس، ويشير إليه بها كلُّ إنسان، وتخاطبه الدولة في مكاتباتها الرسمية وإعلامها باللفظة نفسها، بل هناك دول كثيرة خصصت للخدمة المدنية وزارة بهذا الاسم. والخلاصة أنه لا فكاك له من سماع الكلمة ليل نهار، ومن ثم ترسَّب المعنى في أعماقه، وأصبح جزءًا من كيانه، ومن ثم توارثته الأجيال جينًا بعد جين، حتى أنه طفح على أحلامه؛ فالدراسات النفسية التي أجراها كبار علماء الاختصاص –كابرًا عن كابر- مثل البروفيسور "لامباكا عقدنيوف" والعالمة "سردينيا معكوشان" تؤكد لنا يقينًا أن أحلام الخادم المدني في بلاد الفرنجة تتأثر أيضًا بصفة الخدمة هذه؛ فكثيرًا ما يرى الخادم المدني نفسه فيما يرى النائم "طرطورًا" تعبث به زوجُه أو رئيسُه في العمل أو حتى سائق الميكروباص، وهو لا حيلة له، لا يصد ولا يرد كالكرة الكاوتش، إن تركلها تقفز، وإن توقفها تقف. وأحيانًا أخرى يرى نفسه "جوربًا" في قدم امرأة جميلة، ويشعر أنه ساعتها في أقصى لحظات سعادته، بل أظهرت الدراسات أن الابتسامة ترتسم على وجهه حينها وهو نائم، حتى ولو كانت المرأة المذكورة تفرك قدمها في الأرض، وتمرِّغ كرامةَ الجورب في التراب، وتمسح به البلاط. وحين يبدأ هذا الخادم النائم في الاندماج في الحلم تتحول تلك القدم النحيلة إلى رِجْل فيل، أشبه بقدم زوجة حاكم بلاد بُنت في زمان حتشبسوت. ثم تنزع تلك الحيزبون ذاك الجوربَ الأبخر بكل شراسة، وقد سال عرقًا، وامتزج بالتراب، فأُهْدِرت كرامته إهدارًا، ثم تلقي به في سلة المهملات، ليسقط إلى جوار قشر بصل، أو رغيف مبلول عافَ عافي البطِّ عِرْفَانَه.
أما طموح المولود موظَّفًا فمحدود، إذ يتمحور سعيه في الحياة حول البحث عن كرسيٍّ يجلس عليه، وكوبٍ من الشاي يشربه، وكرشٍ يربيه ليسند عليه ذراعيه إلى أن تأتي له جهة عمله بمكتب أو حتى قفص لتكتمل منظومة الراحة الموظفية. فإن وُجِدَ القفصُ قبل الكرش توجهت طاقته إلى كرشه. ولذا يلحظ المدقق أن الموظف عمومًا كثيرًا ما يربت على كرشه، وكأنه يتأكد من وجوده. والحقيقة أن السبب في ذلك هو وجود علاقة حميمة بين الموظف والكرش لا يسمح كلاهما بأن يتدخل بينهما طرف ثالث، حتى وإن كان ذاك الطرف صاحب مصلحة لجأ للموظف لقضائها له بحكم عمله. ويا داخل بين الموظف وكرشه ما يصيبك إلا تطنيشته، فالموظف والكرش اثنان لا ثالث لهما، ولا يحبان أن يكون بينهما عزول.
ولغياب الطموح عنده، وحب التبطُّل، والجلوس المتكعبر مثل حَبَّةِ البطاطس دون هشٍّ أو نشٍّ نجد الموظف يتمتع بضيق الأفق، وانعدام الخيال، وغياب القدرة على الإبداع، والميل الشديد لتكرار الكلام والخطأ، والتمرغ في الميري، وهز الرأس بطريقة مريبة، فضلاً عن القهقهة دون مبرر يعقبها صمت مبهم لا يعرف سببه، هذا غير الانطوائية في الأوقات التي تحتاج إلى تدخل سريع، وتصرف آنيٍّ، فضلاً عن التسرُّع في إصدار القرارات وقت الأزمات والنوازل والجوائح دون تفكير أو تريث.
ولهذه الأسباب وغيرها عمدت بلاد الفرنجة، والدول التي لا تنقطع فيها الكهرباء إلى عزل كل المؤثرات الخارجية عن موظفيها حتى لا تضطر إلى العيش في ظل قوانين طوارئ إلى أبد الآبدين.
وللحديث بقيـة ...
تعليق