"لست إخوانيًّا" ... "لا أروِّج للأخوان"
هذه العبارات وأشباهها أصبحنا نقرأها ونسمعها كثيرًا في الآونة الأخيرة.
ولا يملك المرء عندها إلا الضحك أو الابتسام الساخر.
فهل أصبح الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين أو حتى الترويج لها تهمة يحتاج المثقف للتنصل منها؟
وماذا في الأمر لو أنك كنت إخوانيًّا أو مناصرًا لجماعتهم -بله لقضيتهم- أو مؤيدًا لما يدعون إليه؟
هل يعتذر العلمانيون والليبراليون والنصارى والناصريون واليساريون والشيوعيون والراقصون والداعرون عن انتمائاتهم الفكرية المنحرفة أو المعتدلة؟
وأراني لهذا السبب مجبرًا أن أقول إني لا أعرف أحدًا -من بين مَن أعرفهم- ينتمي لجماعة الإخوان، أو كان ينتمي لها سوى بضعة أشخاص لا يتعدون أصابع اليد الواحدة. بل كل من أعرفهم من الإخوان لم أقابل واحدًا منهم في حياتي ولو لربع ثانية، ولم تربطني -ولا تربطني- بهم صلة من أي نوع. بل لم أنتمِ لهذه الجماعة يومًا، ولا حتى تحدثني نفسي بالانتماء لها، ولا أظنني أفعل ما حييت. ولكن ليست هذه هي القضية، القضية قضية دين ثم وطن. ورغم ذلك، فلا يمنعني هذا من مساندتهم إن كان الحق معهم، ولا من معارضتهم إن رأيت منهم زيغًا عن الحق.
لقد نجح العلمانيون ومن سار سيرهم من المغفلين وأدعياء الثقافة في أن يضطروا جزءًا كبيرًا من الناس إلى إقرار عدم انتمائهم لفصيل ما أو مذهب ما أو أيديولوجية ما قبل إبداء رأي لهم في أي قضية، وكأن هذا الإقرار هو بوابة الدخول الوحيدة لإبداء أي رأي قد يعارضه الطرف الآخر. ولكن هذه هي النقطة: هناك طرف في مقابل طرف. الخلاف فكري، عقدي، مذهبي، ... إلخ، وكل يرى الحق من طريقه. ولكن ما لا نفرط فيه هو أننا ندور مع الحق أينما دار، فلو خرج من فم الإخوان كلمة حق قبلناها، ولو خرج من فم غيرهم كلمة حق قبلناها. فليست العصبية أو التحزب هو دافعنا، بل الحق الظاهر الذي تتضح لنا مسالكه كما بيَّن الله عز وجل من فوق سبع سماوات.
أما الأدعياء فيرون أن من يتفق مع الإخوان يكون إخوانيًا، ومن يتفق مع السلفيين سلفيًا، والعلمانيين علمانيًّا، وهكذا. وهذا لا يمت للحق ولا للواقع بصلة، ولا يقبل به عاقل. ثم بجهالتهم يقولون لك ما دمت ترى إن غيرك علماني كافر (وأنا أرى أن العلمانية كفر بواح) فإنك بهذا تهدر دمه وتدعو للقتل والعنف ... إلخ من تلك الاسطوانة البلهاء المشروخة الغبية التي يرددها السفهاء، وهذا لا يقول به عاقل، بله أن يقول به مسلم على أدنى درجات فهم الإسلام، بله أن يقول به عالم من العلماء الأفاضل.
ويأتي كذلك من يدلِّس على الناس، ويحرك الجبال يمنة ويسرة ليقول للتيار الإسلامي لو أنكم حقًّا مسلمون لقبلتم بالأمر الواقع، ولحقنتم الدماء، بعد أن فشل مرسي وجماعته وووووووووو. وهؤلاء ليسوا جميعًا حمقى، بل منهم أذكياء للغاية، بل لا أكون مبالغًا إن قلت إن من بينهم دهاة، ولكنهم أصحاب أغراض، والغرض مرض كما يقولون. وأرى أنهم مدلسون مضللون؛ لأنهم يأخذون بطرف من الحقيقة ثم يخلطونه بسم ناقع، ويحاولون تمرير كلامهم على أنه الحق الصراح الذي لا يخالطه دخن، رغم أن دخنه لا تخطئه الأنوف، ولا العقول، بل يكاد المرء يختنق منه.
ولو سلمنا بفشل مرسي وهو الذي كان -وما زال- يُحارب في كل ثانية، وكل التفاتة، وكل نفس، وكل زفرة، وكل طرفة عين -- أقول لو سلمنا بفشله، فما هي مظاهر نجاح الانقلابيين حتى هذه اللحظة؟ وأنا لا أسأل عن واقع ملموس، ولا عن نتائج مادية، بل أسأل عن أيسر من ذلك، أريد فقط معرفة "المظاهر". لقد أعادوا "جميع" المفسدين، واللصوص، والقتلة، والجهلاء، والرويبضات، وسلموا زمام مصر لمن خراب مصر عنده هو أول الأولويات ولو هلك في سبيل ذلك الهالكون. كان مرسي يعمل في ظل تلك الظروف بلا كلل ولا ملل، ولا تأفف. بل كان صمته وصبره مما يغيظ قلوب داعميه. فلماذا لا يعمل الانقلابيون ويروننا عبقريتهم في الخروج بمصر من مأزقها في ظل الظروف نفسها التي خلقوها بأيديهم منذ اول يوم تولى مرسي فيه الرئاسة؟
والأدهى أن أمريكا نفسها من واقع وثائقها التي أخرجتها للعالم بنفسها تثبت أنها تآمرت ودعمت -وما زالت- بكل قوة المعارضة في مصر، والقوى المضادة لثورة 25 يناير، وعملوا المستحيل وأنفقت مع غيرها من القوى الخارجية المليارات للإطاحة بنظام مرسي، ثم يأتي لنا بعد ذلك الحمقى والمغفلون والمدلسون والمضللون والبهائم الأعاجم ليقولوا لنا إنها لم تكن مؤامرة، وأن مظاهرة الست ساعات في التحرير يوم 30 يونيو لم تكن خطوة في مخططٍ موضوع من قبل بزمن طويل، وأن الانقلاب كان ثورة شعبية. أي بلاهة تلك؟ فليصدقوا ما شاؤوا، ولكن لا يمكنكم حشر هذه الترهات في حلوق الناس، بعد أن عرَّى كل طرف متآمر سوأته بنفسه. وهؤلاء البُله يسيرون بطريقة "ما تقولش كده! انت جميل. انت أمُّوووور".
يعلم العقلاء أن الفقيه ليس هو الذي يعرف الخير من الشر، وإنما الفقيه هو الذي يعرف أدنى الشرين. فلو أن مرسي كان شرًّا، فيا أيها المغفلون، تُقصون مرسي، لتضعوا مصر المسلمة الموحدة في قبضة العلمانيين وعملاء الغرب ولاعقي البيادات وأبناء القردة والخنازير؟ وتظنون أنها ستخلص لكم من بين أيديهم بعد أن خلصت من يد مرسي والإخوان؟
هل أصبحت مصر قاصرة على الإخوان، ومعارضيهم السياسيين فحسب؟
هل خلت مصر ممن لا ينتمون سياسيًّا إلى طرف من الأطراف؟
هل خلت مصر ممن الموت عندهم خير من العيش في ذلة وهوان وخنوع بعيدًا عن دين الله؟
هل المعتصمون بالملايين في الميادين منذ 6 أسابيع حتى الآن إخوان فقط؟
وبين حين وآخر يخرج علينا البُله ليقولوا صورتنا في الخارج كذا وكذا. يا أيها البُله، إن من شوَّه صورة مصر هو أنتم، والعالم في الخارج لا يهتم بصورتكم، إنما يهمه مصالحه فحسب. ولو كان خراب مصر يصب في صالحهم فلتخرب مصر بأيدي كل أحد، وأي أحد.
إن الحق لا يتجزأ، والمبادئ لا مداهنة فيها، والشرعية لا عبث بها.
بل أرى -وهذا رأيي لا أفرضه على أحد- أنه لا يحق لمرسي إن كتب الله له العودة، ومكَّن له أو لغيره من أبناء التيار الإسلامي حكم مصر، أن يعفو عن الانقلابيين وكل من دعمهم في مصر بدءًا من أفراد النخبة الفاسدة ومرورًا بقيادات الجيش والداخلية والقضاء وانتهاء بالإعلام الحقير. ومن تورط في الخيانة ولو بنصف كلمة، فالخيانة حكمها معروف في القانون.
كنت أَوَدُّ لو أن لي نفسًا حليمة كنفس النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لقريش يوم فتح مكة "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، ولكني لست بهذا السمو، ولا أظنني بالغه. ولا أرى -حتى هذه اللحظة- أي حل مقبول يكون الانقلابيون فيه طرفًا له كلمة.
اللهم أصلح نفوسنا، وارنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وردنا إلى الصواب ردًّا جميلاً بفضلك ومنِّك وكرمك.
ودمتم في طاعة الله.
تعليق