إن المتابع للشأن المصري يجد مؤيدي الانقلاب ينقِّبون في كل شيء ليثبتوا لكل من هب ودب أن أول رئيس شرعي منتخب في تاريخ مصر الحديث والمعاصر كان عميلاً لإسرائيل، وعبدًا لأمريكا. فنراهم يأتون بتفسيرات ما أنزل الله بها من سلطان لكل شاردة وواردة له. ومما انتشر "فيديو" يظهر فيه أنه اجتماع لمكتب إرشاد الإخوان، يتناولون فيه بعض القضايا الرسمية، ولقاءات مع الأمريكان، منهم كارتر ووليام بيريز، وما دار فيها. ولأن الانقلابيين يصطادون في المياه العكرة دائمًا فهو يضللون الناس بأن هذا الاجتماع كان بعد رئاسة مرسي، على الرغم من أنه لم يكن كذلك كما يظهر جليًّا من الفيديو نفسه. ولكن كما نقول "هي عادتهم والا هيشتروها". فالكذب والتضليل ديدن من لا سند له من حق أو واقع.
كذلك فهم يُعَنْوِنُون تلك المقاطع البصرية "الفيديو" بعناوين مثل "فضيحة مرسي التي تثبت عمالته وعمالة الإخوان" أو ما أشبه، مما لا يتفق والمحتوى، ولا غرض سوى الإثارة فقط؛ فقد علموا ان أغلب الناس لن تقعد لتشاهد الفيديو، أو تعلم محتواه، ويكفي التشويه فحسب لينالوا بعض غرضهم التضليلي. والغريب أن كثيرين ينخدعون بهذه المسميات وأمثالها، ثم يقنعون أنفسهم بصدقها، ولو أنصفوا لعلموا أنهم من "المضحوك عليهم والضالين". ومع هذا نجد من يروِّج لهذه الترهات ممن يظنهم الناس كبار كتاب ومسئولين وما أشبه. وللإنصاف فإن من جماعة الإخوان ومن مؤيدي الشرعية من يفعلون مثل هذه الأشياء ردًا على تلك المقاطع، ودعمًا لرفضهم للانقلاب، وتوضيحًا لخسته. وكلا الطرفين يقحمون تحليلاتهم الخاصة في تلك المقاطع ليثبتوا وجهة نظرهم، سواء عن حق وصدق، أو كذب وافتراء، أو علم وجهل، أو خليط من هذا وذاك.
ولمن يهوى ترويج الدجل الانقلابي، أقول: يا مولانا ... سيبك من العناوين، وممن يحاولون حشر معانٍ قد تكون غير موجودة أصلاً أو قد تكون موجودة ثم يبالَغ فيها. لسنا جميعًا حمقى حتى ننخدع بتعليق هذا أو ذاك، أو بتحليل ساذج من هذه أو تلك. فلنتجاوز هذه الأمور، وننظر للحقائق مجردة عن الأطراف.
ما نراه في المحتوى أنهما يقولان الشيء وعكسه، فإن صدق أحدهما فالآخر كاذب. وحسب الفيديو فإن مرسي -قبل رئاسته- يتحدث –وفقًا لزعمكم- في إطار "العلاقة الوثيقة بين الإخوان وأمريكا ومحاولة استرضاء الجانب الأمريكي وطمأنته بخصوص إسرائيل."
... جميل.
الواقع الفعلي –أيها الأشاوس- ينبؤنا أن الإسرائيليين والأمريكان أنفسهم لا يقولون بذلك، بل يقولون العكس، ويحلفون بالتوراة والإنجيل وتُربة أبيهم العم سام على نقيضه، ويعلنون عدم دعمهم للإخوان من ناحية، وللمشروع الإسلامي بأكمله، سواء كان إخوانيًّا أو غير إخواني من ناحية أخرى، ويعلنون بوقاحة متناهية دعمهم للانقلابيين -لا رضي الله عنهم ولا أرضاهم- ويفعلون كل شيء للتخلص من الإسلاميين أجمعين ليحرموهم من "الدخول في ملكوت الرب حتى الجيل العاشر"، إخوانًا وغير إخوان.
فبالله عليكم، نصدق من؟ الكلام أم الواقع؟
إن الثابت الذي لا ينتطح في عنزان ولا تيسان هو إن ما يقوله السياسيون لا يتعدى أن يكون هذا كله "كلام سياسيّ"، والكلام ما لم يُترجَم إلى واقع يطابقه، فليس مهمًا؛ لأن الواقع العملي هو الأهم.
فاليهود والأمريكان يلعنون مرسي وسياسته ليل نهار، وهي السياسة التي قطعت كل أمل لهم في أن تعود مصر لتلبس لباس العبودية كما كانت من قبل على مدى عقود طويلة. ليس مهمًا، فليقولوا ما يشاؤون. لكن المهم أنهم يُتْبِعون ذلك بأفعال تؤكد كلامهم، وعلى رأسها دعمهم للانقلاب بالمال والعتاد والتخطيط والاستخبارات والزيارات السرية والعلنية والاتصالات اليومية ... إلخ. فكيف يصدق عاقل ارتماء مرسي في أحضانهم، والواقع يكذِّب ذلك؟
ثم إن الانقلابيين يعلمون أن ما هو قائم قبل مرسي من معاهدات واتفاقيات وغيرها من البلاوي المتلتلة لا يمكن تغييره بين عشية وضحاها. وعلمهم هذا نابع من مشاركتهم في صنعه من قبل؛ فالثورة المصرية في 25 يناير انقلب عليها الفلول ومراكز القوى وجماعات المافيا التي تمكنت من نشب أظفارها في جسد مصر بعد أن كانت الثورة قد ركلتها في مقتل، تعافت منه بمساعدة قوى البطش التي استعملت القتل والتنكيل وما زالت لتضع أيديها على مقاليد الأمور في مصر بعد انقلاب العسكر. كذلك فإننا نعلم من الواقع المشاهَد أن الجبهة الداخلية المصرية مهترئة، نَخَرَ الفساد في عظامها. وعليه، فمن هذا المجنون الذي يظن أنه سينهي كل تلك الملفات، ويعادي كل الدنيا، ويخرج سالمًا قبل أن يدرك شهرزاد الصباحُ؟
أيها البلهاء، أنكم تخلطون عن عمد وقصد بين الكلام الذي يظهر فيه لكل ذي عينين أنه لذر الرماد في عيون الغربيين ومن شايعهم، وبين واقع يكذِّب الكلام ويناقضه، ثم تقولون: إنهما الشيء نفسه. تقولون هذا أسْوَد لأن القائل قال أبيض. مرسي يقول أو يكتب "صديقي العزيز وروح قلبي وجوز خالتي وقرة عيني وأبوس القدم وأبدي الندم لسيدي ومولاي وتاج راسي وولي نعمتي" شيمون بيريز أو نتنياهو، ثم يعاملهم في الواقع "بالضرب بالجزمة القديمة" متجاهلاً لمطالبهم، ويعلنون هم بأنفسهم (هو لم يعلن ذلك) أن مرسي لا يلتفت إليهم، ولا يسايرهم، ويخرجون ليلعنونه، ويدعون الدنيا لدعم الانقلابيين، سرًّا وعلانية.
هل نسيتم –يا جهابذة- أن أول عمل للبرادعي نائبًا للرئيس الانقلابي كان زيارة الكيان الصهيوني؟
فهل نصدق الكلام أم الأفعال؟ هل وصلت بنا السذاجة السياسية لهذا الحد؟
كذلك، هل كان لمرسي أخطاء؟ بلا شك. هو نفسه أقرِّ بذلك.
ولكن أحدًا لا يُتْبِع اسم مرسي بقوله (صلى الله عليه وسلم). فهو بشر، يخطئ ويصيب، ولا عصمة له. والمقارنة هي التي توضح الفرق، والواقع هو الذي يخرق عين الأعمى. فالأمريكان والصهاينة وشلتهما الذين تحدثوننا عنهم يقولون بعكس كلامكم ويفعلون بعكسه بما يطابق قولهم. هذا في حين أنهم يسبحون بحمد زعيم الانقلابيين، ويدعمونه آناء الليل وأطراف النهار.
أفيقوا يرحمكم الله!
لقد تعلمنا مما يدور في مصر أن هناك من يكرهون الإخوان أكثر من ولائهم لدين الله، وأكثر من حبهم لمصر.
فمتى تَعُون قول الله –عز وجل: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا، هو أقرب للتقوى".
وحتى لو أننا سلمنا أن الإخوان لديهم أجندات خفية، وسياسات تجر الخراب على مصر جرَّا -وهذا قول أحمق بصراحة، ولكن ما علينا- فالأمر حينئذ أشبه بأن لدينا شخصين: أحدهما بيده عصا، والآخر بيده مدفع رشاش، وكلاهما يريد قتل ثالث. فهل من الحكمة أن يتوجه هذا الثالث لمن بيده العصا ليحاول أن يدفع عن نفسه ضرره أولاً، وساعتها ينتهز الآخر الفرصة ليفرغ فيه رصاص مدفعه، أم يحاول دفع ضرر من بيده المدفع الرشاش أولاً، ثم يفرغ بعدها لمن بيده العصا؟!
هذا هو حالنا، يا بهوات، حال الشعب المصري.
ومع عدم تسليمنا ألبتة بأن مرسي كان يريد تدمير مصر، ويسعى في خرابها، بل إن الثابت لكل صاحب عقل وإنصاف أنه كان على عكس هذا تمامًا. لكن ما علينا، سنسايركم، في كلامكم. فمرسي وجماعته يخربون مصر بعصا، وأمريكا والصهاينة (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) يريدون خراب مصر بمدفع رشاش لتعود إلى سابق عبوديتها، فمن أولى بتوجه الجهد إليه أولاً لكف أذاه أو بعض أذاه؟
اقرأوا التقارير الرسمية الغربية، كلامهم من أفواههم في تقاريرهم الموثَّقة، استمعوا لحواراتهم عما فعلوه ويفعلونه.
لو كان الواقع بالكلام لكانت مصر متوجة على عرش الدنيا، والعرب ترفل في مجد السماء، وإسرائيل في قاع البحر، وأمريكا في قعر جهنم.
ولكن الواقع بالأفعال. الأفعال أعلى صوتًا من الأقوال، هكذا يقول الغربيون. والعرب تقول "السيف أصدق أنباءً من الكتب ... في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ واللَّعِبِ". فإن كنتم رضيتم لأنفسكم أن تغلقوا أعينكم حتى لا ترون الشمس، فلا يعني هذا غياب الشمس. ونبشركم بأن حرارتها ستلسعكم، شئتم أم أبيتم، إن عاجلاً وإن آجلاً.
ولكن نرجو ساعتها ألا تلبسوا "علينا" ثياب الأبطال، وتنسبون لأنفسكم فضل كرامة سحقتموها وما زلتم تسحقونها ببيادة غيركم. وإن كنا لا نمانع في أن نضحك منكم ساعتها وأنتم تركبون الحمير المطهَّمة، وتشهرون السيوف، وتهتفون بأعلى أصواتكم: "الله حيّ ... عنتر جايّ".
والله من وراء القصد.