أخذ يجوبُ الغرفةَ جيئةً وذهابًا، وقد سيطرَ عليه القلقُ، وبدا عليه الضيقُ الشديد، وهو يردِّدُ:
أين كانت هذه اللعوبُ بين الرابعةِ والسادسة؟ رأسي يكادُ ينفجر! سألتُ طوبَ الأرض عن مكانها، ولكن لا أحدَ يعلم. حتى هواتفُ أبويْها وإخوتها لم ترد. قالتْ إنها ذاهبةٌ للقاء "لِيلِي"، وإنها ستكونُ معها لبعضِ الوقت. هذا هو ما أفزعني، ونغَّصَ عليَّ بقيةَ يومي، وأثارَ الشكوكَ في نفسي.
أيتها الكذَّابة هادمةُ اللذات ومفرِّقةُ الجماعات! لقد كنتُ أنا على موعدٍ مع لِيلْيَانَا من وراء ظهركِ. ولم أتمكنْ من الذهابِ بسببِكِ.
نعم، عزيزي القارئ، نحنُ -أنا ولِيلِي- نلتقي سرًّا منذ فترةٍ. ارتحت؟ ماذا؟ أرجوك لا تصدِّع رأسي، وركِّز معي. لِيلِي هي لِيلْيَانَا، لا تشغلني بأسئلتِكَ الآن.
آه يا لِيلْيَانا! يا حُورِيَّةً من الجنة! يا حَبَّةَ فراولة من أجمل بساتين الفاكهة الناضجة في توسكاني.
لعلكَ تسألُ الآن: ما الذي يجعلُ هذه الثمرةَ اليانعةَ وهي في فَوْرَةِ الشبابِ تقعُ في غرامِ خنشور ٍمثلي؟
لن أجيبَك بما يُهَدِّأُ خاطرَك، يكفي أنْ أقولَ لك إنَّ مرآةَ الحبِّ عمياءُ. ارتحتَ الآن؟
يا للخراب الْمُعَجَّل! أتكون "رَوْحِيَّة" قد علمتْ بعلاقتي بلِيلِي، ولذلك قالتْ إنها ستكونُ معها حتى ترى ردَّ فعلي، وتوقِعَ بي؟ لا أظنُّ أنها بهذا الخبث؛ فهي السذاجةُ متجسدة، ولا تعلمُ بعلاقتي بلِيلِي. لكنَّ النساءَ لا أمانَ لهن! يجعلنك تسبحُ في المحيط بحثًا عنهنَّ بينما هن جالساتٌ يلعقن الآيس كريم على الشاطئ. أيُّ خطةٍ ترسمين؟ أكادُ أُجَنُّ. سأتصل بلِيلِي وأسألها... لا، لن أفعل؛ فهذا هو ما قالتْه رَوْحيَّة حين سألتُها بعد عودتها أين ذهبتْ. قالتْ وهي تهزُّ كتفيْها غيرَ آبهة، كأنني قطعةُ أثاث: اتصل بلِيلِي واسألها. ثم تركتني وانصرفتْ للمطبخ، مكانِها المفضل.
لستُ أدري ماذا كانت تقصدُ بهذا. ستعلمُ حتمًا إذا هاتفتُ لِيلِي، فهما صديقتان، وستخبرُها لِيلِي أنني تكلمتُ معها هاتفيًّا، رغم أنه لا ينبغي لها أن تفعلَ ذلك؛ فهي تعلمُ أنَّ هذا يثيرُ الشكوكَ في علاقتنا. لكن لِيلِي تفعلُها، ولو من باب المزاحِ الثقيل؛ فهي تحبُّ أن ترى الغيرةَ في وجه زوجتي، وتحُّب أن تراني مغتاظًا من تصرفاتها اللئيمة. تظن أن هذه مداعبةٌ طريفة. قلتُ لها ألفَ مرةٍ ومرة أن تقطعَ علاقتَها بروحيَّة، لكنها تجد في هذا الوضعِ تسليةً ما بعدها تسلية.
لكن لابد مما منه بُد.
ياللنساء! ليس هذا وقتَ الحب!
الصبرُ منكَ وحدَك يا رَبُّ!
ليتني ما فتحتُ فمي! هل هذا وقت محاضرةٍ في الأدبِ العربيِّ وأنواعِ الشامبو؟ يا لغبائي! ما دخلُ هذه الإيطاليةِ الحمقاءَ ذاتِ الجمالِ الطائشِ بغزلِ الدولةِ الأموية! هي لا تعرفُ حتى أدبَ ثقافتِها ولا شعراءَ مِلَّتِها! ولماذا تعرفُهم؟ الجميلاتُ لا يحتجن للثقافة! لديهن كلُّ ما يحتجن له من مؤهلات. الحياةُ معهن نظرةٌ فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء. ليس شرطًا بهذا الترتيب، بل أحيانًا ما نتجاوزُ كلَّ هذا، ونختصرُ المسافات، فلا يكون إلا نظرةٌ فابتسامة فلمسة فورطة كالتي أنا فيها الآن. لو كانت جامعةُ هارفارد توظِّف النساءَ حسب جمالهن، لكانت لِيلْيَانا رئيسةَ الجامعة لقرنين من الزمان دون منازع. ولو كان كرسيُّ الفاتيكان كذلك لصنعوا منها (بابا) أبدَ الدهر. ستبدو فاتنةً في لباس البابوية! سأطلبُ منها أن ترتديَه في لقاء من لقاءاتنا الساخنةِ حَدَّ الالتهابِ. آه، قلبي الضعيفُ لا يتحمل! أفِق من أحلامِ اليقظةِ هذه يا أحمق! وركِّز!
رُحماك يا رب!
لا يمكن نسيان الكُلْيَة اليمنى؛ فقد تَبَرَّعَتْ روحيَّة بِكُلْيَتِهَا لي منذ بضع سنوات.
ياللهِ! هل هذا وقتُ فتحِ شجرةِ العائلة؟ ذاكرةُ المرأة كالحديد، وعقلُها يعملُ مثل مَقْسَم الكهرباء. في وسط أشدِّ معمعةٍ تطيحُ بالأخضرِ واليابس كالتسونامي تجدُها تتذكرُ كلَّ شيء، بدءً من انقطاع الحبل السُّرِّي، وربما قبلَه، حتى اللحظةِ الحالية، وتربطُ بينها جميعًا ربطًا يجعلُ إبليسَ ينحني أمامَها كلما أتى أو راح أو مرَّ – لِحَظِّهِ التَّعِسِ- بالغلطِ بجانبها وهو في طريقه لإشعالِ فتيل الحرب بين الشرق والغرب.
ارحمني يا رب!
صحيح، كيف ستعرفين اللهَ وأنا وأنت حين نلتقي تأتي الشياطينُ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حدبٍ وصوبٍ ينسِلون؛ لتلتقطَ لنا صورًا تذكارية؟
يا ستِّير يا رب! هكذا النساءُ يجرجرن الرجلَ على قفاه إلى الكفرِ جرًّا.
يا للغباء! لو كانتْ أمامي الآن لأَطْبَقْتُ بيديَّ ورجليَّ وجميع غضاريفي وأمعائي على زمارة رقبتِها!
لِيُطْلِقْ عليَّ أحدٌ الرصاصَ أو شلالًا من الأحذية القديمة أو بيادات العسكر إنْ ذكرتُ لهذه الحمقاءَ بارعةِ الجمالِ أيَّ شيءٍ له علاقةٌ بالثقافة أو التاريخ.
آهٍ يا ربي! تتعلمين "الألش" فيَّ يا بنتَ الْمُعْوَجَّة!
خَرَّبَ اللهُ بيتَك وبيتَ أهلِك أجمعين في ليلةٍ نسجَ الظلامُ خيوطَهَا! خبيرةٌ أنتِ في جَرِّي للكفر! أقسم بالله لو كنتِ زوجتي لكنتُ طلقتُك بالثلاثة الآن، بينونة كبرى. روحيَّة لا تفعل بي عُشْرَ مِعْشَارِ ما تفعلينه أنتِ.
يا لخبثِ النساءِ ودهائهن! فأين كانت هذه الخائنة إِذَنْ؟ أَفْسَدَتْ لقائي بلِيلْيَانا، وذهبتْ تسرحُ على حلِّ شعرها! أين كانتْ؟ لا بد أن أعرفَ الحقيقة مهما كان الثمن! لستُ طرطورًا يا هانم!
أسرعتُ وكلِّي غضبٌ تجاه الباب، وفتحتُه بكل ما لديَّ من قوة والشررُ يتطاير من عينيَّ، والدخانُ يتصاعد من أذنيَّ كموتور شفط المياه من رشَّاح بولاق الدكرور وقد أَوْشَكَ على العطب.
كانت روحيَّة تقف أمامي وخلفها الأولادُ في جمعٍ من أفراد أسرتي وأسرتها وأصدقائنا. كانت تحملُ على يديْها تورتة بها شمعةٌ مشتعلة، وفي نَفَسٍ واحد صاحَ الجميعُ: سنة حلوة يا جميــــــــــــــــــــــــــــــل.
أين كانت هذه اللعوبُ بين الرابعةِ والسادسة؟ رأسي يكادُ ينفجر! سألتُ طوبَ الأرض عن مكانها، ولكن لا أحدَ يعلم. حتى هواتفُ أبويْها وإخوتها لم ترد. قالتْ إنها ذاهبةٌ للقاء "لِيلِي"، وإنها ستكونُ معها لبعضِ الوقت. هذا هو ما أفزعني، ونغَّصَ عليَّ بقيةَ يومي، وأثارَ الشكوكَ في نفسي.
أيتها الكذَّابة هادمةُ اللذات ومفرِّقةُ الجماعات! لقد كنتُ أنا على موعدٍ مع لِيلْيَانَا من وراء ظهركِ. ولم أتمكنْ من الذهابِ بسببِكِ.
نعم، عزيزي القارئ، نحنُ -أنا ولِيلِي- نلتقي سرًّا منذ فترةٍ. ارتحت؟ ماذا؟ أرجوك لا تصدِّع رأسي، وركِّز معي. لِيلِي هي لِيلْيَانَا، لا تشغلني بأسئلتِكَ الآن.
آه يا لِيلْيَانا! يا حُورِيَّةً من الجنة! يا حَبَّةَ فراولة من أجمل بساتين الفاكهة الناضجة في توسكاني.
لعلكَ تسألُ الآن: ما الذي يجعلُ هذه الثمرةَ اليانعةَ وهي في فَوْرَةِ الشبابِ تقعُ في غرامِ خنشور ٍمثلي؟
لن أجيبَك بما يُهَدِّأُ خاطرَك، يكفي أنْ أقولَ لك إنَّ مرآةَ الحبِّ عمياءُ. ارتحتَ الآن؟
يا للخراب الْمُعَجَّل! أتكون "رَوْحِيَّة" قد علمتْ بعلاقتي بلِيلِي، ولذلك قالتْ إنها ستكونُ معها حتى ترى ردَّ فعلي، وتوقِعَ بي؟ لا أظنُّ أنها بهذا الخبث؛ فهي السذاجةُ متجسدة، ولا تعلمُ بعلاقتي بلِيلِي. لكنَّ النساءَ لا أمانَ لهن! يجعلنك تسبحُ في المحيط بحثًا عنهنَّ بينما هن جالساتٌ يلعقن الآيس كريم على الشاطئ. أيُّ خطةٍ ترسمين؟ أكادُ أُجَنُّ. سأتصل بلِيلِي وأسألها... لا، لن أفعل؛ فهذا هو ما قالتْه رَوْحيَّة حين سألتُها بعد عودتها أين ذهبتْ. قالتْ وهي تهزُّ كتفيْها غيرَ آبهة، كأنني قطعةُ أثاث: اتصل بلِيلِي واسألها. ثم تركتني وانصرفتْ للمطبخ، مكانِها المفضل.
لستُ أدري ماذا كانت تقصدُ بهذا. ستعلمُ حتمًا إذا هاتفتُ لِيلِي، فهما صديقتان، وستخبرُها لِيلِي أنني تكلمتُ معها هاتفيًّا، رغم أنه لا ينبغي لها أن تفعلَ ذلك؛ فهي تعلمُ أنَّ هذا يثيرُ الشكوكَ في علاقتنا. لكن لِيلِي تفعلُها، ولو من باب المزاحِ الثقيل؛ فهي تحبُّ أن ترى الغيرةَ في وجه زوجتي، وتحُّب أن تراني مغتاظًا من تصرفاتها اللئيمة. تظن أن هذه مداعبةٌ طريفة. قلتُ لها ألفَ مرةٍ ومرة أن تقطعَ علاقتَها بروحيَّة، لكنها تجد في هذا الوضعِ تسليةً ما بعدها تسلية.
لكن لابد مما منه بُد.
- هاي لِيلِي! كيف حالك؟ اسمعي، هل كانت روحيَّة معكِ اليوم بين الرابعة والسادسة؟ لا أسمعُكِ جيدًا. ماذا قلتِ؟ نعم، نعم، أنتِ حبيبتي، ومهجةُ فؤادي، وبَرْجَلُ دائرتي الهندسية، أقصد محور حياتي، ومِيُومُوري، لكن دَعْكِ من هذا الآن، أجيبي سؤالي. هل ...
ياللنساء! ليس هذا وقتَ الحب!
- نعم، سأقولُ لكِ كلَّ كلامِ الغزلِ والغرامِ حين نلتقي، أحلفُ لكِ بديوان قَيْسِ بْنِ الْمُلَوَّحِ ... حين أفرغُ من ملاطفتِكِ عندما نلتقي سيعلمُ قيسٌ ساعتَها أنه لم يكن سوى رُوَيْعِيٍّ بائس لغُنَيْمَاتٍ عَجْفَوَات، وأنَّ ليلاه كانت تحتاجُ لعلاج الحكَّةِ في فَرْوَةِ رأسِها التي غزاها القَمْلُ. أما أنتِ، فأنتِ الحبُّ كلُّه. لكن لِنَدَعْ قيسًا الآن يجمعُ غنماتِه الشاردات، ونتركُ لَيْلَى تُدَلِّكُ فروةَ رأسِها، وأخبريني، هل كنتِ مع روحيَّة اليومَ؟
الصبرُ منكَ وحدَك يا رَبُّ!
- يا حبيبتي، ليس هذا وقتًا مناسبًا كي أشرحَ لكِ مَنْ هما قيسٌ ولَيْلَى ولا حكايتَهما مع الغنم. أنا آسف. اعتبريني لم أذكر شيئًا من هذا. لا، فروةُ رأسكِ جميلة. كم تمنيتُ أنْ أكونَ أنا فروةَ رأسكِ. نعم، يا حبيبتي، مثل مرطِّب الشَّعْرِ. لا، لا تحتاجين لمرطب شعر، ولا لمنعِّم شعر، ولا لشامبو. أنا مرطبُّ الشعر. أنا ثلاثة في واحد، مثلما تشائين.
ليتني ما فتحتُ فمي! هل هذا وقت محاضرةٍ في الأدبِ العربيِّ وأنواعِ الشامبو؟ يا لغبائي! ما دخلُ هذه الإيطاليةِ الحمقاءَ ذاتِ الجمالِ الطائشِ بغزلِ الدولةِ الأموية! هي لا تعرفُ حتى أدبَ ثقافتِها ولا شعراءَ مِلَّتِها! ولماذا تعرفُهم؟ الجميلاتُ لا يحتجن للثقافة! لديهن كلُّ ما يحتجن له من مؤهلات. الحياةُ معهن نظرةٌ فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء. ليس شرطًا بهذا الترتيب، بل أحيانًا ما نتجاوزُ كلَّ هذا، ونختصرُ المسافات، فلا يكون إلا نظرةٌ فابتسامة فلمسة فورطة كالتي أنا فيها الآن. لو كانت جامعةُ هارفارد توظِّف النساءَ حسب جمالهن، لكانت لِيلْيَانا رئيسةَ الجامعة لقرنين من الزمان دون منازع. ولو كان كرسيُّ الفاتيكان كذلك لصنعوا منها (بابا) أبدَ الدهر. ستبدو فاتنةً في لباس البابوية! سأطلبُ منها أن ترتديَه في لقاء من لقاءاتنا الساخنةِ حَدَّ الالتهابِ. آه، قلبي الضعيفُ لا يتحمل! أفِق من أحلامِ اليقظةِ هذه يا أحمق! وركِّز!
- أرجوكِ، أخبريني، بين الرابعة والسادسة، هل كنتِ أنتِ وروحيَّة معًا؟ نعم، روحيَّة زوجتي. أعرف أنكما صديقتان. لستُ عن هذا أسأل. لا، ليس لدى روحيَّة مشكلة في فروة رأسها. نعم، إنها تهوى شراء مختلَف أنواع الشامبو. أعرف هذا. لكن، أرجوكِ، ركِّزي معي. بين الرابعة والسادسة ...
رُحماك يا رب!
- نعم، يا حبيبتي، كان بيننا موعدٌ الساعة الرابعة، أعلم هذا، نعم، لم آتِ لأنَّ روحيَّة ... أرجوكِ، لا تغضبي. ليس هذا وقتَ الغضب. نعم، كنا سنحتفلُ معًا بعيد ميلادي. أنا وأنتِ فقط. نعم، وثالثنا الشيطان. لا يمكن أن ننساه فوجودُه مهم. الآن ذهب مكسورَ الخاطر دون حتى أن نستعيذَ منه، بل ولم تكن في نيَّتِنا الاستعاذة على كل حال. سنتعاتبُ حين نلتقي. نعم، أقسمُ لكِ إنه ليس في قلبي أحدٌ غيرك. ولا حتى روحيَّة. يا حبيبتي، ليس هذا وقتَ لماذا تزوجتُها. شرحُ هذا يطول. نعم، كلامُك صحيح؛ روحيَّة تحتلُ جزءًا من معدتي، جزءًا كبيرًا، يتدلَّـى أمامي الآن، ونتشاركُ في فصيلة الدم. نعم، نعم، والأولاد كذلك. نعم، والكُلْيَة اليُمْنَى، صدَقْتِ.
لا يمكن نسيان الكُلْيَة اليمنى؛ فقد تَبَرَّعَتْ روحيَّة بِكُلْيَتِهَا لي منذ بضع سنوات.
- ولكن أجيبيني باللهِ عليكِ، ... نعم، يا لِيلْيَانا، هي ابنةُ عمي كذلك.
ياللهِ! هل هذا وقتُ فتحِ شجرةِ العائلة؟ ذاكرةُ المرأة كالحديد، وعقلُها يعملُ مثل مَقْسَم الكهرباء. في وسط أشدِّ معمعةٍ تطيحُ بالأخضرِ واليابس كالتسونامي تجدُها تتذكرُ كلَّ شيء، بدءً من انقطاع الحبل السُّرِّي، وربما قبلَه، حتى اللحظةِ الحالية، وتربطُ بينها جميعًا ربطًا يجعلُ إبليسَ ينحني أمامَها كلما أتى أو راح أو مرَّ – لِحَظِّهِ التَّعِسِ- بالغلطِ بجانبها وهو في طريقه لإشعالِ فتيل الحرب بين الشرق والغرب.
- لكن أَ ... يا لِيلْيَانا، يا حبيبتي، لا، أنتِ في أعماقِ فؤادي، أوردتي معقودةٌ عليكِ، حبُّكِ ملتبسٌ بشراييني، مشتبكٌ برئتيَّ، أتنفسُكِ مع كل شهيقٍ وزفير. ولو كان باستطاعتي لكتمتُ الزفيرَ أيضًا حتى لا تخرجين ... ماذا؟ لماذا أقول لِيلْيَانا، ولا أقول لِيلِي؟
ارحمني يا رب!
- لا، لستُ غاضبًا منكِ يا حبيبتي. نعم، أعلمُ أنه لا حقَ لي أصلًا في الغضب منكِ. لستُ غاضبًا. أقسم لكِ بالله إني ... ماذا؟ لا تعرفين الله؟ معكِ حق في هذا. كان ينبغي أن أنتبهَ لهذه المسألة.
صحيح، كيف ستعرفين اللهَ وأنا وأنت حين نلتقي تأتي الشياطينُ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حدبٍ وصوبٍ ينسِلون؛ لتلتقطَ لنا صورًا تذكارية؟
- حسنًا يا حبيبتي، أقسمُ لك بالرب، بآلهةِ الإغريقِ والرومان، بقبرِ موسوليني، ببرجِ بيزا المائل ...
يا ستِّير يا رب! هكذا النساءُ يجرجرن الرجلَ على قفاه إلى الكفرِ جرًّا.
- لِيلِي، يا قُرَّةَ عيني، أُقبِّلُ رجليْكِ قَبْلَ يديْكِ، أخبريني ... نعم، كلُّ أوامرِكِ مطاعةٌ؛ سأقبِّلُ خَدَّيْكِ أيضًا، وكذا كلَّ منعطفاتِك، ومنحنياتِك وثنياتِك وتجاعيدِك، بل سأقبِّل كلَّ تضاريس جبال الهمالايا من أجلكِ، فقط أحبُّ أنْ أعرف ... ماذا؟ لا يا حبيبتي، لم أقصدْ أنك منتفخةٌ ومملوءةٌ بالتجاعيد، لِتَسْقُط السماءُ على أمِّ رأسي وتدفني في سابع أرض إن كنتُ قصدتُ هذا. على العكس أنتِ أجمل من أفروديتي، ولو كان مايكل أنجلو حيًّا لما وَسِعَهُ أن ينحتَ تمثالًا للجمال إلَّا على مثالِكِ. ماذا قلتِ؟ لا، لا أعرفُ امرأةً اسمها أفروديتي ... هي من أثينا ... لا يا حبيبتي، لا أعرف أيَّ امرأة أخرى من أثينا. أنت الطليانية الوحيدةُ التي أعرفها ... لم أقصد، بل قصدتُ التي أحبُّها وأعشقُها وتملكُ عليَّ حياتي وعقلي وكياني كلَّه، ولا تري عينِي ولا قلبِي غيرها. ماذا؟ لا، لستُ بعينٍ واحدة يا حبيبتي، لستُ المسيحَ الدجال. قصدت ُكلتيْهما. لا، لم تُصَبْ عيناي بشيء. نعم، عيناي الاثنتان سليمتان.
يا للغباء! لو كانتْ أمامي الآن لأَطْبَقْتُ بيديَّ ورجليَّ وجميع غضاريفي وأمعائي على زمارة رقبتِها!
- لِيلِي، أنت تختبرين صبري الآن. مَنْ؟ مايكل أنجلو؟ هو نحاتٌ من بلدك، نعم من إيطاليا. تقولين أين يقيم؟ كان يعيش في فلورنسا، سافر إليها وهو صغير... لا، لن نسافرَ نحن إلى فلورنسا للقائه.... أعلم أنها مكانٌ جميل، لكن لن نذهبَ إلى هناك... وأعلم أنك مخلصةٌ لي وأنك لستِ على علاقة بمايكل أنجلو، ولا بسلاحف النينجا. أنا متأكدٌ من ذلك. هوِّني عليكِ. آسف، أقسمُ بكل ما يُحلَفُ به إني آسف. ما كان ينبغي أن أذكره ولا أن أذكر أفروديتي. سامحيني. الخطأ خطئي. سأظلُّ أعتذرُ لك طولَ العمر.
لِيُطْلِقْ عليَّ أحدٌ الرصاصَ أو شلالًا من الأحذية القديمة أو بيادات العسكر إنْ ذكرتُ لهذه الحمقاءَ بارعةِ الجمالِ أيَّ شيءٍ له علاقةٌ بالثقافة أو التاريخ.
- نعم، تضحكين الآن. آهٍ، يا ربِّي! ما أسعدَ أذنيَّ بسماعِ رنين ضحكتِكِ التي ينخلعُ لها قلبي طربًا. أقسم لكِ إنَّ رُوحِيَ ترقصُ من الفرح.... لا، لم أقل "روحيَّة"، بل قلتُ روحي، نعم روحي، تلك المنحةُ الربانيةُ التي تسري في جسدي فتمنحني الحياة. نعم، أنتِ كذلك روحي. لا بأس، بدون كذلك، أنتِ روحي. تشبيهٌ بليغ! سبقتِ عبدَ القاهر الجرجاني بحسِّك البلاغيِّ الأُنثويِّ. بل أنتِ أهمُّ من روحي. لا، ليس لديَّ روحان، بل روحٌ واحدةٌ، هي أنتِ. سعيدةٌ الآن؟ دعيني إذنْ أعودُ لموضوع روحيَّة لمدة خمس ثوان لا غير. استمعي لي: هل كانت روحيَّة معك اليوم في الرابعة؟
- لا يا حبيبتي، لا أقصد الرابعة العدوية.
آهٍ يا ربي! تتعلمين "الألش" فيَّ يا بنتَ الْمُعْوَجَّة!
- نعم، أعلمُ أنك لم تذهبي إلى هناك. نعم، كانت منطقةً محظورة محاصرة. ربما كان ينبغي أن تذهبي يوم الفضِّ، ما كان أكثرَ الرصاصِ الطائش يومها! أنا متأكد أنهم كانواسيُعَجِّلون بفضِّها لو أنكِ كنتِ هناك؛ فالشرطة عيونها زائغة ولم تكن لتصبر علي وجودكِ هناك خاصة أن المعتصمين كانوا من أهلِ الله ولا مأربَ لهم فيكِ. كانت الشرطة ستهبطُ عليكِ بالبراشوت لينتشلوكِ نشلاً؛ فهم نشَّالون بالفطرة. بل لو كان ذلك مستحيلًا عليهم، فلا أشكُّ أنهم كانوا سينضمون للمعتصمين، لا لسببٍ إلا ليلتفوا حولكِ. نعم، هم بلا مبدأ ولا ضمير. لكن لا تبالي بكلامي، ليست الشرطةُ موضوعَنا. كنتُ أقصدُ الرابعة مسا... لا، لا، لا. لستُ على علاقة برابعة، ولا بثالثة، ولا بأيِّ امرأةٍ أخرى. أنتِ فقط، أنتِ لحالكِ، أنت بمفردكِ، أنتِ لا ثاني معكِ، أنتِ لا شريكَ لكِ...
خَرَّبَ اللهُ بيتَك وبيتَ أهلِك أجمعين في ليلةٍ نسجَ الظلامُ خيوطَهَا! خبيرةٌ أنتِ في جَرِّي للكفر! أقسم بالله لو كنتِ زوجتي لكنتُ طلقتُك بالثلاثة الآن، بينونة كبرى. روحيَّة لا تفعل بي عُشْرَ مِعْشَارِ ما تفعلينه أنتِ.
- يا لِيلِي! يا حبَّةَ قلبي! أريحيني، أراحَ اللهُ شفتيْكِ على شفتيَّ ... أعجبتْكِ هذه؟ جميل، المهم، الوقتُ ينفدُ وأسمعُ صوتَ روحيَّة في الصالة وبابَ الشقةِ يُفْتَح ويُغْلَق عشرات المرات. ولا أدري ماذا يحدث في الخارج. لعلها تُدَبِّرُ لقتلي وشحنِ جثتي بعد تقطيعِها إلى حديقةِ حيواناتِ زيمبابوي. ماذا؟ لماذا أَهْمِسُ؟ أهمس حتى لا تسمعني روحيَّة، قلتُ لكِ هي في الخارج. لا، لستُ خائفًا منها ... لا، ولا خائفًا عليها؛ هي مثلُ الجملُ، لا يُخشَى عليها. نعم، تحمَّلتني كل هذه السنوات. نعم، يا لِيلِي، وأعطتني كُلْيَتَها اليمنى. وربما تتبرع لي بالمرارة والطحال بعد هذه المكالمة. ماذا؟ لا تعرفين المرارة ولا الطحال؟ صحيح، كيف ستعرفينهما؟ وأنت معجونةٌ بسكر النبات وماء الورد؟ لا بأس، سآخذُكِ إلى مَسْمَطٍ في حيِّ الأزهر، وأقدِّمُك لهما كي تتعرفوا جميعًا على بعضكم بعضًا، أقصد أقدمُهما لكِ. سأجعلُك تشاهدين الكوارعَ بالمرة حتى لا تحتاجي لسؤالي عنها في المستقبل. نعم، يا حبيبتي، كوارع. ما أجمل َكوارعَك بالثَّوْمِ والحبَّهانِ يا بنتَ الكريم، أظافرُ حافريْكِ مثل الحليِّ، صنعة يدي أبيكِ وأمكِ. نضَّر الله كوارعَك! المهم يا لِيلِي، دعينا من هذا، أخبريني عن روحيَّة، هل رأيتِها اليوم؟
- سأشرح لك الثومَ والحبهانَ فيما بعد. تقولين نعم، رأيتِها. الحمدُ لله. الله أكبر كبيرا. هَل هلالك شهر مبارك! أخيرًا، فهمتِ. متى؟ ... ماذا؟ لم تتقابلا؟ أرجوكِ ركِّزي -لَعَنَ اللهُ شيطانَكِ- استعيذي من الخُبْثِ والخبائثِ، هل تقابلتُما أم لا؟
- لا؟ لكنها اتصلتْ بكِ وقالتْ لكِ إنْ أنا سألتُكِ عنها أنْ تخبريني أنها كانتْ معكِ!
يا لخبثِ النساءِ ودهائهن! فأين كانت هذه الخائنة إِذَنْ؟ أَفْسَدَتْ لقائي بلِيلْيَانا، وذهبتْ تسرحُ على حلِّ شعرها! أين كانتْ؟ لا بد أن أعرفَ الحقيقة مهما كان الثمن! لستُ طرطورًا يا هانم!
أسرعتُ وكلِّي غضبٌ تجاه الباب، وفتحتُه بكل ما لديَّ من قوة والشررُ يتطاير من عينيَّ، والدخانُ يتصاعد من أذنيَّ كموتور شفط المياه من رشَّاح بولاق الدكرور وقد أَوْشَكَ على العطب.
كانت روحيَّة تقف أمامي وخلفها الأولادُ في جمعٍ من أفراد أسرتي وأسرتها وأصدقائنا. كانت تحملُ على يديْها تورتة بها شمعةٌ مشتعلة، وفي نَفَسٍ واحد صاحَ الجميعُ: سنة حلوة يا جميــــــــــــــــــــــــــــــل.