أتى رجل إلى قطعة أرض فأحاطها بسور ونادى في الناس:
- أيها الناس! أيها الناس!
فاجتمع إليه عدد منهم غير قليل.
فقال:
- من يساعدني في إصلاح هذه الأرض وشق قنواتها وزرعها وتشجيرها وغرس بذورها، وله أن يستظل بظلها، ويشرب من مائها، ويأوي إليها متى شاء؟
فانصرف عن ندائه بعضهم، واجتمع حوله آخرون. ووقف غيرهم يتفرجون، وعلى شيء لا يلوون.
أما من اجتمعوا حوله فصرف منهم -في غلظة- من صرف، ثم ذهب منهم بعد ذلك من ذهب. وبقي معه عصبة شمروا عن سواعد الجد، وعقدوا العزم ألا يهِنوا أو يتوانوا عن العمل، وتعاهدوا على البقاء معاً في السراء والضراء، ولم يطلب أحد منهم من أجر أو جزاء. وقبلوا بصاحب الأرض أميرا، يذلل الصعب، ويُسَيِّر الأمورَ.
ثم قاموا جميعاً: هذا يسوي الأرض ويحرثها، وهذا يصلح السور ويقويه، وهذا يشق الترع والمصارف، وهذا يبذر الحب ويغرس الشجر، وهذا يروي الزروع وينزع الأعشاب الضارة، وهذا يذهب للسوق يشتري السماد والالآت. وهم جميعاً يحرسون المكان ليل نهار ألا تصل إليه يد عابث أو يلقي فيه أحد بقاذورات. وأعجب العمل بعض المارة فساهم منهم من أراد بغرس بذرة أو ري شجرة أو غير ذلك مما تصلح به الأرض.
ومرت الأيام كجميع أيام الله، بين ارتفاع وانخفاض، وسعة وضيق، وأفراح وأتراح. ولكنهم جميعاً لم يتفرقوا شيعاً وإنما اعتصموا بحبل الله المتين. وكان أميرهم يشتد حيناً وحيناً يلين. مرة يقول قولاً حكيما، وأخرى يجعل الصحيح سقيما. لا يستقر على أمر حتى يقول بغيره، وإن استشاره أحد في أمر، أو استفسر منه عن خبر، شكا من التعب وقلة النوم، والعمل طيلة الليل وطيلة اليوم. وقال "أنتم أدرى بشئونكم، فانصرفوا لأعمالكم، ودعوني أدبر شئوني، وعن شيء لا تسألوني."
واستمر على هذه الوتيرة الحال، بين إدبار وإقبال، ولمسات عقل ولوثات جنون، وعلامات شك وشطحات ظنون. ولم يدر أحد سبباً لتقلب الأمير، وعرقلته للكثير من وسائل الإصلاح ودواعي الحزم والفلاح. ولم يعد يفرق بين اليقظة والأحلام، والحقيقة والأوهام. فيرى نفسه مرة فارساً مغوارا، يحمل صارماً قاطعاً بتّاراً، يحوَّل الليل نهارا، وتهطل السماء بأمره مدرارا. وأخرى زعيماً أوحداً لا يشق غباره، وقائداً أمجداً طيب جواره، ومفوَّهاً بالبلاغة منمق حواره. تارة ينهى ويأمر، وتارة يبني ويكسر. من داهنه ارتفع، ومن صَدَقه وقع، وصراخه لا ينقطع.
ولم تهتم العصبة كثيراً بهذه الشطحات، فالعمل أول الأولويات. وكانوا يدعون الله له بالهداية، ويمتنعون عن الشكاية، لما في ذلك في العدو من نكاية.
ثم أتى يوم قال فيه:
- توشك أن تجف أنهارنا فأعينوني حتى لا تموت زروعنا وأشجارنا، وتذبل ورودنا وأزهارنا. فمصلحة المياه تهددنا بمنع الماء عنا إن لم ندفع لهم عن سابق الأيام، وهو كثير كثير يفوق طاقة الأمير.
فاجتمعت العصبة تفكر في طريقة لحل المشكلة والخروج بسلام من المعضلة. فساهم منهم بماله من استطاع، وجاء من أهل البلدة أمراء وأتباع، دفع هذا فلساً وهذا دينارا. واجتمع من المال ما دفعوه وإلى مصلحة المياه أرسلوه.
وكان قد بدأ الشجر يكبر، والشجرة القائمة تسند المائلة، والعشب الأخضر يغطي الأرض القاحلة، والماء يجري في جنبات الأرض يبشر بنماء عجيب في الأفق القريب، وأوشكت الثمار على النضوج، وازهرت الورود. وظن الجميع أن أعمالهم ستؤتي ثمارها ويعم نفعها على البلدة كلها، بل ومن أسعده حظه بجوارها.
وعلى هذه الحال أتي رجل من بين المتفرجين كان يعمل بمصلحة المياه ويقف صامتاً طيلة الوقت فقال:
- هذه الأرض وما عليها لي فيها ما يقرب من الثلث. فقد عمل فيها ابن عم لي عند بناء السور الأول ومدَّ بعض أنابيب المياه للجانب الأقحل، ثم باع سهمه فيها لي. وهذا صك ملكيتي. أما جاري الذي يدَّعي الملكية للأرض بأسرها ومنحكم ظلها وظلالها، والشرب من مائها فما هو إلا صاحب نصفها. وأخته تملك ما بقي من خمسها. وإني بائع لسهمي فلا أريد عناءها. فمن يريد شراءها؟
فتعجب القوم من دعواه، وبلغ الذهول منهم منتهاه. فلم يبرز الرجل ولا ابن عمه صك ملكيتهم من قبل، ولم ينبس أحد منهم ببنت شفة وهم يرون العصبة يعملون ويكِدّون، وفي الأرض يفلحون، وللفرج من الله ينتظرون. فاتجهت أبصارهم "لصاحب النصف" الأمير وأخته "صاحبة الخمس" في حيرة وتساؤل.
قال صاحب النصف:
- صدق الرجل وابن عمه.
وقالت صاحبة الخمس:
- صدق الرجل وابن عمه.
فطرح القوم على صاحب النصف سؤالاً بعد سؤال، وهو صامت عن المقال. مرة يشيح بوجهه، ومرة ينهرهم بكفه. ومرة يقول كلاماً لا علاقة له بالموضوع، ويأمرهم بالطاعة والخضوع، ثم يعيد ويزيد فيما لا ينفع ولا يفيد.
فقال القوم في نهاية الأمر بعد أن أعياهم فهم تفكيره وسوء تدبيره:
- كيف لم تخبرانا منذ البداية أن الأرض هذا حالها وقد وعدتما البلدة بأسرها بالتفيئ في ظلالها، والأكل من ثمارها؟
قال صاحب النصف وأخته:
- هذه الأرض ليست لكم. ولا يخفى هذا على أحد، ولا بد مما منه بد.
قال القوم:
- ليست الأرض هي المشكلة، وما عملنا لانتزاعها بل لِمَا عاهدت عليه البلدة بأسرها. فكيف حين يينع الثمر ويدنو القطاف يحصده من الشركاء ثلاثة؟ إن للبلدة كلها حق عليك أن تؤديه.
فقال صاحب النصف:
- أنتم غشاشون محتالون، ضعاف العقل لا تعون ما تقولون. لبذور الفتنة تزرعون، وللعهود تخونون. هذا حقي ومالي، تعبت فيه أياماً وسهرت فيه الليالي. أما صاحب الثلث فلي معه وابن عمه حساب فهو خائن كذاب. اذهبوا عني فلا حاجة لي بكم. اذهبوا فافلحوا في أرض غير هذه، فأنتم كحمير الأرض تعملون ولا تفهمون. ولا يخاطبني أحد منكم فيما أملك، فقد مضى وقت الكلام وحان وقت الفعال. اذهبوا، تصحبكم اللعنات من رب السماوات.
فازداد من القوم الذهول. يقول كلاماً ثم ينفيه ولا يأتِ بدليل، يطفئ غلة الظامي ويشفي العليل. يحور في الكلام ويدور، ويرغي مزبداً ويثور. لا يستقر له قرار، ويشعل بكلامه ناراً فوقها نار.
فقال له رجل منهم:
- غفر الله لنا ولكم. ثم انصرف.
وصمت آخر فلم يرد، ثم انصرف.
وقال ثالث:
- كنت أشْتَمُّ منك رائحة الغدر. ثم انصرف.
وقال رابع:
- والله لا أتركك وقد خدعتنا، وبناب الغدر أسلت دماءنا. انظر لأهل هذه البلدة كم منهم كان لك مؤتمنا، وكم منهم كان للأرض محسنا؟ أيكون لنا منك الشتم والسب، والإهانة وسوء الأدب. فاعلم يا خفيف الفكر والدين إن الله لا يضيع أجر المحسنين. وإنما يملي للظالمين ويحاسب المسيئين. ثم انصرفوا جميعا.
- أيها الناس! أيها الناس!
فاجتمع إليه عدد منهم غير قليل.
فقال:
- من يساعدني في إصلاح هذه الأرض وشق قنواتها وزرعها وتشجيرها وغرس بذورها، وله أن يستظل بظلها، ويشرب من مائها، ويأوي إليها متى شاء؟
فانصرف عن ندائه بعضهم، واجتمع حوله آخرون. ووقف غيرهم يتفرجون، وعلى شيء لا يلوون.
أما من اجتمعوا حوله فصرف منهم -في غلظة- من صرف، ثم ذهب منهم بعد ذلك من ذهب. وبقي معه عصبة شمروا عن سواعد الجد، وعقدوا العزم ألا يهِنوا أو يتوانوا عن العمل، وتعاهدوا على البقاء معاً في السراء والضراء، ولم يطلب أحد منهم من أجر أو جزاء. وقبلوا بصاحب الأرض أميرا، يذلل الصعب، ويُسَيِّر الأمورَ.
ثم قاموا جميعاً: هذا يسوي الأرض ويحرثها، وهذا يصلح السور ويقويه، وهذا يشق الترع والمصارف، وهذا يبذر الحب ويغرس الشجر، وهذا يروي الزروع وينزع الأعشاب الضارة، وهذا يذهب للسوق يشتري السماد والالآت. وهم جميعاً يحرسون المكان ليل نهار ألا تصل إليه يد عابث أو يلقي فيه أحد بقاذورات. وأعجب العمل بعض المارة فساهم منهم من أراد بغرس بذرة أو ري شجرة أو غير ذلك مما تصلح به الأرض.
ومرت الأيام كجميع أيام الله، بين ارتفاع وانخفاض، وسعة وضيق، وأفراح وأتراح. ولكنهم جميعاً لم يتفرقوا شيعاً وإنما اعتصموا بحبل الله المتين. وكان أميرهم يشتد حيناً وحيناً يلين. مرة يقول قولاً حكيما، وأخرى يجعل الصحيح سقيما. لا يستقر على أمر حتى يقول بغيره، وإن استشاره أحد في أمر، أو استفسر منه عن خبر، شكا من التعب وقلة النوم، والعمل طيلة الليل وطيلة اليوم. وقال "أنتم أدرى بشئونكم، فانصرفوا لأعمالكم، ودعوني أدبر شئوني، وعن شيء لا تسألوني."
واستمر على هذه الوتيرة الحال، بين إدبار وإقبال، ولمسات عقل ولوثات جنون، وعلامات شك وشطحات ظنون. ولم يدر أحد سبباً لتقلب الأمير، وعرقلته للكثير من وسائل الإصلاح ودواعي الحزم والفلاح. ولم يعد يفرق بين اليقظة والأحلام، والحقيقة والأوهام. فيرى نفسه مرة فارساً مغوارا، يحمل صارماً قاطعاً بتّاراً، يحوَّل الليل نهارا، وتهطل السماء بأمره مدرارا. وأخرى زعيماً أوحداً لا يشق غباره، وقائداً أمجداً طيب جواره، ومفوَّهاً بالبلاغة منمق حواره. تارة ينهى ويأمر، وتارة يبني ويكسر. من داهنه ارتفع، ومن صَدَقه وقع، وصراخه لا ينقطع.
ولم تهتم العصبة كثيراً بهذه الشطحات، فالعمل أول الأولويات. وكانوا يدعون الله له بالهداية، ويمتنعون عن الشكاية، لما في ذلك في العدو من نكاية.
ثم أتى يوم قال فيه:
- توشك أن تجف أنهارنا فأعينوني حتى لا تموت زروعنا وأشجارنا، وتذبل ورودنا وأزهارنا. فمصلحة المياه تهددنا بمنع الماء عنا إن لم ندفع لهم عن سابق الأيام، وهو كثير كثير يفوق طاقة الأمير.
فاجتمعت العصبة تفكر في طريقة لحل المشكلة والخروج بسلام من المعضلة. فساهم منهم بماله من استطاع، وجاء من أهل البلدة أمراء وأتباع، دفع هذا فلساً وهذا دينارا. واجتمع من المال ما دفعوه وإلى مصلحة المياه أرسلوه.
وكان قد بدأ الشجر يكبر، والشجرة القائمة تسند المائلة، والعشب الأخضر يغطي الأرض القاحلة، والماء يجري في جنبات الأرض يبشر بنماء عجيب في الأفق القريب، وأوشكت الثمار على النضوج، وازهرت الورود. وظن الجميع أن أعمالهم ستؤتي ثمارها ويعم نفعها على البلدة كلها، بل ومن أسعده حظه بجوارها.
وعلى هذه الحال أتي رجل من بين المتفرجين كان يعمل بمصلحة المياه ويقف صامتاً طيلة الوقت فقال:
- هذه الأرض وما عليها لي فيها ما يقرب من الثلث. فقد عمل فيها ابن عم لي عند بناء السور الأول ومدَّ بعض أنابيب المياه للجانب الأقحل، ثم باع سهمه فيها لي. وهذا صك ملكيتي. أما جاري الذي يدَّعي الملكية للأرض بأسرها ومنحكم ظلها وظلالها، والشرب من مائها فما هو إلا صاحب نصفها. وأخته تملك ما بقي من خمسها. وإني بائع لسهمي فلا أريد عناءها. فمن يريد شراءها؟
فتعجب القوم من دعواه، وبلغ الذهول منهم منتهاه. فلم يبرز الرجل ولا ابن عمه صك ملكيتهم من قبل، ولم ينبس أحد منهم ببنت شفة وهم يرون العصبة يعملون ويكِدّون، وفي الأرض يفلحون، وللفرج من الله ينتظرون. فاتجهت أبصارهم "لصاحب النصف" الأمير وأخته "صاحبة الخمس" في حيرة وتساؤل.
قال صاحب النصف:
- صدق الرجل وابن عمه.
وقالت صاحبة الخمس:
- صدق الرجل وابن عمه.
فطرح القوم على صاحب النصف سؤالاً بعد سؤال، وهو صامت عن المقال. مرة يشيح بوجهه، ومرة ينهرهم بكفه. ومرة يقول كلاماً لا علاقة له بالموضوع، ويأمرهم بالطاعة والخضوع، ثم يعيد ويزيد فيما لا ينفع ولا يفيد.
فقال القوم في نهاية الأمر بعد أن أعياهم فهم تفكيره وسوء تدبيره:
- كيف لم تخبرانا منذ البداية أن الأرض هذا حالها وقد وعدتما البلدة بأسرها بالتفيئ في ظلالها، والأكل من ثمارها؟
قال صاحب النصف وأخته:
- هذه الأرض ليست لكم. ولا يخفى هذا على أحد، ولا بد مما منه بد.
قال القوم:
- ليست الأرض هي المشكلة، وما عملنا لانتزاعها بل لِمَا عاهدت عليه البلدة بأسرها. فكيف حين يينع الثمر ويدنو القطاف يحصده من الشركاء ثلاثة؟ إن للبلدة كلها حق عليك أن تؤديه.
فقال صاحب النصف:
- أنتم غشاشون محتالون، ضعاف العقل لا تعون ما تقولون. لبذور الفتنة تزرعون، وللعهود تخونون. هذا حقي ومالي، تعبت فيه أياماً وسهرت فيه الليالي. أما صاحب الثلث فلي معه وابن عمه حساب فهو خائن كذاب. اذهبوا عني فلا حاجة لي بكم. اذهبوا فافلحوا في أرض غير هذه، فأنتم كحمير الأرض تعملون ولا تفهمون. ولا يخاطبني أحد منكم فيما أملك، فقد مضى وقت الكلام وحان وقت الفعال. اذهبوا، تصحبكم اللعنات من رب السماوات.
فازداد من القوم الذهول. يقول كلاماً ثم ينفيه ولا يأتِ بدليل، يطفئ غلة الظامي ويشفي العليل. يحور في الكلام ويدور، ويرغي مزبداً ويثور. لا يستقر له قرار، ويشعل بكلامه ناراً فوقها نار.
فقال له رجل منهم:
- غفر الله لنا ولكم. ثم انصرف.
وصمت آخر فلم يرد، ثم انصرف.
وقال ثالث:
- كنت أشْتَمُّ منك رائحة الغدر. ثم انصرف.
وقال رابع:
- والله لا أتركك وقد خدعتنا، وبناب الغدر أسلت دماءنا. انظر لأهل هذه البلدة كم منهم كان لك مؤتمنا، وكم منهم كان للأرض محسنا؟ أيكون لنا منك الشتم والسب، والإهانة وسوء الأدب. فاعلم يا خفيف الفكر والدين إن الله لا يضيع أجر المحسنين. وإنما يملي للظالمين ويحاسب المسيئين. ثم انصرفوا جميعا.
تعليق