تنحنح أبو العريف، ومسح نخامتَه الداكنةَ بطرفِ كمِّه كعادته، وقد لحق بشاربِه المتدلي تحت أنفِه بعضٌ منها. فقبل بضعةَ أيام قرأ عن نفسه ما لم يسرّه، حتى غلى الدمُ في رأسِه، فامتطى صهوةَ غضبِه، وانتزع لوحةَ المفاتيحِ من غمدِها، وامتشقَ أزرارَها، وأخذ يطعنُ خصمَه بنصالِ الحروف، ويرميه بكلاليبِ الكلمات، وهو في ثورةٍ ما بعدها ثورة، حتى أن أم العريف حين دخلت عليه -وهو في قمةِ سخطٍه وحُنْقِه، ورأت الزَّبَدَ يندفعُ من فمِه ويسيلُ على جانبيه- رمقتْه بنظرةٍ كانت كفيلةً بأن تزيدَ من سحنتِه خبالاً -لو أنه انتبه إليها-، ومصمصتْ شفتيها، وتمتمت بكلمتين حرصت ألا تصلا إلى سمعِه، حتى لا يباغتها برشاش رذاذِه الذي اختلط بطعم الشيح فأصبحتْ تعافُ رائحتَه، ثم انصرفت وهي تقول: "سأحضرُ لك الشيحَ؛ عسى أن يخفَّ نباحُك، ويذهبَ عنك سُعارُك، ولا أظنُّه يفعل".
أخذ أبو العريف يصولُ ويجول، ويرغي ويزبد، ويضغطُ على المفاتيح في عنفٍ بادٍ، وهو يكيلُ لخصمِه ما ذلَّ وعاب من رجيع الكلام. وبلغ من عصبيته أن شاشةَ حاسوبه أصابها من ضبابِ أنفاسِه ما أصابها، ولم يتبين أبو العريف ذلك، وظن أن المشكلةَ في نظارته، وكان كلما خلعها ليمسح عدساتِها بطرف قميصِه ازدادت الرؤيةُ عسراً. وانتهى به الأمرُ أن ألقى بنظارته وراء ظهره. وتنبه أبو العريف وهو يُفلِت النظارة من يده إلى أن ما فعله لن ينتهي على خير وخاصة بعد أن تراءت له صورةُ أم العريف وقد دخلت عليه ثانيةً وفي يدها كوب الشيح. فقفز من على كرسيه كأشعبَ على فخذِ ضأنٍ بين جماعةِ عميان. ولكن سبقَ السيفُ العذلَ؛ إذ سقطت النظارةُ على محبرةٍ فانكسرتْ إحدى عدستيها، وابنعج ذراعٌ من ذراعيها، وانسكب الحبرُ الشيني الأسودُ على الأرض، وزلَّت قدمُ أبو العريف في الحبر، فانزلق ساقطاً على مؤخرتِه، وارتطمت رأسُه بالباب بشدةٍ، فأصاب أمَّ العريف في أنفِها وهي تستعدُ للدخول. وبينما هو يصيحُ من الألمِ إذ سقطت فوق رأسِه شاشةُ حاسوبِه، فَسَرَتْ في جسدِه رعدةٌ من تيارِ الكهرباء، تلاها صوتُ فرقعةٍ شديدةٍ، ثم دخانٌ أزرقُ وأسودُ. ونظرت إليه أمُّ العريف والدمُ يسيل من أنفِها بينما هو نصفُ جالسٍ ونصفُ ممددٍّ على الأرض، وقد انغرست رأسُه في شاشةِ الحاسوب، فسكبتْ فوقه ما تبقى من كوبِ الشيحِ المغلي، وانصرفتْ، وهي لا تلوي على شيء. وصدرت من أبي العريف صرخةٌ أخيرةٌ سقط بعدها نصفُه الثاني على الأرض لتنفلقَ الشاشةُ وتكشفَ عن عينين زائغتين، ووجهٍ ذاهل، لا يتبين الناظرُ ملامحَه من فَرْطِ ما لحق به. حتى شعره الكثيف انفرط عقدُه، وأضحى أثراً بعد عين.
حدث هذا قبل بضعة أيام، وهو يرد على خصمه، ووقعت تلك الحوادث كلها -التي لم تستغرق نصف دقيقة- قبل أن يتمكن من ضغط زر الإرسال لينشر مداخلته العنيفة. واليوم -بعد أن ضمَّد جراحه، وأخذ من شاربه على طريقة "مكرهٌ أخاك لا بطل"، فأصبح وهتلرَ كمن وُلِدا في بطنٍ واحدة، وربط رأسه بعصابة غريبة الشكل - بعد أن أنفق في طوارئ المستشفى ثلاث ساعات، وتبدَّل عليه طبيبان وثلاث ممرضات لنزع الزجاج من "صلعته" وقفاه- اليوم عاد ليجلس أمام حاسوبه من جديد. ولا غرو أن يكون قد عقد العزم على أن يردَّ الصاعَ بفائدة لم تعرفها أعتى المصارف المالية في تاريخها.
أوصلَ أبو العريف حاسوبَه بشاشةٍ قديمةٍ أقرضَه إياها جارُه "رشيق الفهلوي"، وهو يوصيه بها: "هذه الشاشة هي أعزُّ ما أمتلك، أوصيك بها خيراً. فهي عندي منذ سبع سنوات، وبيني وبينها عشرة طويلة ..." أخذ أبو العريف الشاشةَ، وهو يلعنُ رشيقاً، والشاشة، وأم العريف، وأنفَها المكسورَ الذي أصبح اليوم مساوياً لخديها، فازدادت سحنتها تفرداً وتميُّزا.
وللحديث بقيــة ... إن كان في العمر شويـَّـة ...
تعليق