أخبار الحمقى والمغفلين في ملتقى المبدعين_الحلقة الرابعة

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • ahmed_allaithy
    رئيس الجمعية
    • May 2006
    • 4026

    أخبار الحمقى والمغفلين في ملتقى المبدعين_الحلقة الرابعة

    تنحنح أبو العريف، ومسح نخامتَه الداكنةَ بطرفِ كمِّه كعادته، وقد لحق بشاربِه المتدلي تحت أنفِه بعضٌ منها. فقبل بضعةَ أيام قرأ عن نفسه ما لم يسرّه، حتى غلى الدمُ في رأسِه، فامتطى صهوةَ غضبِه، وانتزع لوحةَ المفاتيحِ من غمدِها، وامتشقَ أزرارَها، وأخذ يطعنُ خصمَه بنصالِ الحروف، ويرميه بكلاليبِ الكلمات، وهو في ثورةٍ ما بعدها ثورة، حتى أن أم العريف حين دخلت عليه -وهو في قمةِ سخطٍه وحُنْقِه، ورأت الزَّبَدَ يندفعُ من فمِه ويسيلُ على جانبيه- رمقتْه بنظرةٍ كانت كفيلةً بأن تزيدَ من سحنتِه خبالاً -لو أنه انتبه إليها-، ومصمصتْ شفتيها، وتمتمت بكلمتين حرصت ألا تصلا إلى سمعِه، حتى لا يباغتها برشاش رذاذِه الذي اختلط بطعم الشيح فأصبحتْ تعافُ رائحتَه، ثم انصرفت وهي تقول: "سأحضرُ لك الشيحَ؛ عسى أن يخفَّ نباحُك، ويذهبَ عنك سُعارُك، ولا أظنُّه يفعل".

    أخذ أبو العريف يصولُ ويجول، ويرغي ويزبد، ويضغطُ على المفاتيح في عنفٍ بادٍ، وهو يكيلُ لخصمِه ما ذلَّ وعاب من رجيع الكلام. وبلغ من عصبيته أن شاشةَ حاسوبه أصابها من ضبابِ أنفاسِه ما أصابها، ولم يتبين أبو العريف ذلك، وظن أن المشكلةَ في نظارته، وكان كلما خلعها ليمسح عدساتِها بطرف قميصِه ازدادت الرؤيةُ عسراً. وانتهى به الأمرُ أن ألقى بنظارته وراء ظهره. وتنبه أبو العريف وهو يُفلِت النظارة من يده إلى أن ما فعله لن ينتهي على خير وخاصة بعد أن تراءت له صورةُ أم العريف وقد دخلت عليه ثانيةً وفي يدها كوب الشيح. فقفز من على كرسيه كأشعبَ على فخذِ ضأنٍ بين جماعةِ عميان. ولكن سبقَ السيفُ العذلَ؛ إذ سقطت النظارةُ على محبرةٍ فانكسرتْ إحدى عدستيها، وابنعج ذراعٌ من ذراعيها، وانسكب الحبرُ الشيني الأسودُ على الأرض، وزلَّت قدمُ أبو العريف في الحبر، فانزلق ساقطاً على مؤخرتِه، وارتطمت رأسُه بالباب بشدةٍ، فأصاب أمَّ العريف في أنفِها وهي تستعدُ للدخول. وبينما هو يصيحُ من الألمِ إذ سقطت فوق رأسِه شاشةُ حاسوبِه، فَسَرَتْ في جسدِه رعدةٌ من تيارِ الكهرباء، تلاها صوتُ فرقعةٍ شديدةٍ، ثم دخانٌ أزرقُ وأسودُ. ونظرت إليه أمُّ العريف والدمُ يسيل من أنفِها بينما هو نصفُ جالسٍ ونصفُ ممددٍّ على الأرض، وقد انغرست رأسُه في شاشةِ الحاسوب، فسكبتْ فوقه ما تبقى من كوبِ الشيحِ المغلي، وانصرفتْ، وهي لا تلوي على شيء. وصدرت من أبي العريف صرخةٌ أخيرةٌ سقط بعدها نصفُه الثاني على الأرض لتنفلقَ الشاشةُ وتكشفَ عن عينين زائغتين، ووجهٍ ذاهل، لا يتبين الناظرُ ملامحَه من فَرْطِ ما لحق به. حتى شعره الكثيف انفرط عقدُه، وأضحى أثراً بعد عين.

    حدث هذا قبل بضعة أيام، وهو يرد على خصمه، ووقعت تلك الحوادث كلها -التي لم تستغرق نصف دقيقة- قبل أن يتمكن من ضغط زر الإرسال لينشر مداخلته العنيفة. واليوم -بعد أن ضمَّد جراحه، وأخذ من شاربه على طريقة "مكرهٌ أخاك لا بطل"، فأصبح وهتلرَ كمن وُلِدا في بطنٍ واحدة، وربط رأسه بعصابة غريبة الشكل - بعد أن أنفق في طوارئ المستشفى ثلاث ساعات، وتبدَّل عليه طبيبان وثلاث ممرضات لنزع الزجاج من "صلعته" وقفاه- اليوم عاد ليجلس أمام حاسوبه من جديد. ولا غرو أن يكون قد عقد العزم على أن يردَّ الصاعَ بفائدة لم تعرفها أعتى المصارف المالية في تاريخها.

    أوصلَ أبو العريف حاسوبَه بشاشةٍ قديمةٍ أقرضَه إياها جارُه "رشيق الفهلوي"، وهو يوصيه بها: "هذه الشاشة هي أعزُّ ما أمتلك، أوصيك بها خيراً. فهي عندي منذ سبع سنوات، وبيني وبينها عشرة طويلة ..." أخذ أبو العريف الشاشةَ، وهو يلعنُ رشيقاً، والشاشة، وأم العريف، وأنفَها المكسورَ الذي أصبح اليوم مساوياً لخديها، فازدادت سحنتها تفرداً وتميُّزا.


    وللحديث بقيــة ... إن كان في العمر شويـَّـة ...
    د. أحـمـد اللَّيثـي
    رئيس الجمعية الدولية لمترجمي العربية
    تلك الدَّارُ الآخرةُ نجعلُها للذين لا يُريدون عُلُوًّا فى الأَرضِ ولا فَسادا والعاقبةُ للمتقين.

    فَعِشْ لِلْخَيْرِ، إِنَّ الْخَيْرَ أَبْقَى ... وَذِكْرُ اللهِ أَدْعَى بِانْشِغَالِـي

  • ahmed_allaithy
    رئيس الجمعية
    • May 2006
    • 4026

    #2
    أوصلَ أبو العريف حاسوبَه بشاشةٍ قديمةٍ أقرضَه إياها جارُه "رشيق الفهلوي"، وهو يوصيه بها، ويمسح دمعةً مجبورةً: "هذه الشاشة هي أعزُّ ما أمتلك، أوصيك بها خيراً. فهي عندي منذ سبع سنوات، وبيني وبينها عشرة طويلة ..." أخذ أبو العريف الشاشةَ، وهو يلعنُ رشيقاً، والشاشة، وأم العريف، وأنفَها المكسورَ الذي أصبح اليوم مساوياً لخديها، فازدادت سحنتها تفرداً وتميُّزا.
    - "الآن لن يمكن لأحد أن يفرِّق بينك وبين سائبات غابات الأمازون".
    - "أخزاك الله يا متعوس. أنا سائبة يا عرة الرجال، يا هلفوت؟ رحم الله أيام كنت تتمنى نظرة أو ابتسامة مني ...
    - "نعم، كان هذا قبل أن يخلق الله النظارات. أما اليوم فأنا أعرفك من رائحتك على بعد سنة ضوئية".
    - "رائحتي أنا يا أنتن من جيفة؟ ألا تعلم حتى الآن لماذا يرش السكان البيت بالفنيك والمبيدات كلما دخلتَ أو خرجت؟ أبَعْدَ صبري على شقاوتك وتعسك وانحلال صواميل عقلك ...
    - اصمتي يا مرضعة إبليس. رحمَ اللهُ سقراط ...
    - سقرطك الله وبقرطك ...
    ثم مدَّت يدها فصادفت كيساً من محلول ملح فألقته به، فأصابته في رأسه، وانفجر الكيس، فسال على دماغه، فازداد رأسه اشتعالاً. وعبثاً حاول الأطباء والممرضات فض الاشتباك، وانتهت الجولة بأن طُردا معا من المستشفى بعد أن فشلت جميع الحلول السلمية، والمفاوضات الفردية والزوجية، واللقاءات المشتركة بين مبعوثي العناية الصحية، بل وبعد بناء جدار فاصل بينهما؛ فقد كان صوتهما يعلو فوق صوت المعركة.
    نعم، كانت هذه الجولة الانتقالية وهُما بين يدي الأطباء. أما ما حدث بينهما في الطريق إلى البيت فكان عجباً؛ إذ لم ينبس أيٌّ منهما للآخر ببنت شفة. فقد التهت أم العريف بأنفها الأفطس الذي بدا بضماداته كحبة من حبات البطاطس، وأخذت تحاول إخفاءه تحت طرحتها حتى لا يراها أحد على هذه الحال. أما أبو العريف فكان يصارع آلامَ رأسه وجسده، وآثارَ الشيح المغلي على أجزاء متفرقة من جسمه. وكان من الضعف حتى أنه لم يملك أن يتحكم في تلك الرعشة التي لازمته حتى وصل إلى عتبة البيت. وهناك انهارت أم العريف على كرسيٍّ، بينما سقط أبو العريف على الأرض مغشياً عليه دون حراك. وبعد قليل وخزته أم العريف بأصبع قدمها، فأحست فيه حياةً. فقامت على مضض منها، ووضعت تحت رأسه "فردة" حذائه القديم، وهي تتمتم: "نم، لا فتح الله لك عيناً"، ثم ذهبت إلى سريرها لتنام بعد أن داست على أصابع يده بحدوة نعلها.

    وللحديث بقيــة ... إن كان في العمر شويَّــة ...
    د. أحـمـد اللَّيثـي
    رئيس الجمعية الدولية لمترجمي العربية
    تلك الدَّارُ الآخرةُ نجعلُها للذين لا يُريدون عُلُوًّا فى الأَرضِ ولا فَسادا والعاقبةُ للمتقين.

    فَعِشْ لِلْخَيْرِ، إِنَّ الْخَيْرَ أَبْقَى ... وَذِكْرُ اللهِ أَدْعَى بِانْشِغَالِـي

    تعليق

    يعمل...