الحلقةُ الخامسةُ:انْتِفَاخُ الذَّاتِ
"إِلَى الإِدَارَةِ الْمُحَقَّرَةِ صاحبةِ القراراتِ المُنْكَرَةِ
سَيَكُونُ هَذَا يَوْمًا أَسْوَدَ كَلَوْنِ الْخَرُّوبِ فَوْقَ رُؤُوسِكُمُ الصَّلْعَاءِ جَمِيعًا. وَسَتَلْعَنُونَ الْيَوْمُ الْبَئِيسِ الَّذِي وُلِدْتُمْ فِيهِ يَا "بَلاَبِيصَ" الأَخْلاَقِ. لقد هَزُلَتْ حتي بانَ هُزالُها، وسَادَ جُهَّالُها. كيف تتجرؤون يا أقزامَ الفكرِ، وَمَضْغُوطِي الأحلامِ على ارتكاب فِعْلَتِكُمُ تلك النكراءَ، وَجَرِيمَتِكُمُ الشَّنْعَاءِ؟ هل انتهيتُم من فَرْضِ سيطرتِكم على سَطْحِيِّي التفكيرِ، ومُسِيئِي التدبير، وجَلاَوِزَةِ الفكر، وعَتَاوِلَةِ الإِقْصَاءَ، والانْبِطَاحِيِّينَ، وأعداءِ الْمِلَّةِ والدينِ، والجالسينَ والواقفينَ؛ وهل فَضَضْتُمْ أيديَكم من كُتَّابِ قصائدِ النَّثْرِ والْبَشْرِ، وموضوعاتِ السخريةِ والْفَشْرِ؛ وهل قَضَيْتُمْ على دُعَاةِ العَلْمَانِيَّةِ والْبَلْمَانِيَّةِ، والحزبيةِ والشلليةِ والنسبيةِ وكَفْرِ بَهَاتِي والشَّرَابِيَّةِ؛ وهل فَتَكْتُم بِمُدَّعِيِّ العلم ومُصَدِّرِي الْفَتَاوَى، والمتنطعينَ ممن يَسُبُّونَ العلماءَ والفقهاءَ، والشعراءَ والْبُلَغَاءَ؟ وهل أَطَحْتُمُ بِكُتَّابِ الْغُوَايَةِ والرِّوَايَةِ، والقصةِ القصيرةِ بأحجامِها: الميني جيب، والمايكروجيب، والنَّانُوجِيبْ، والحكايةِ البِكيني والتانكيني والمنكيني؟ وهل تَخَلَّصْتُمْ من أَدْعِيَاءِ الفضيلةِ، ومُرْتَكِبِي الرذيلةِ، وآكِلِي الْبِلِيلَةِ، والْمَصْبُوغِينَ بِالنِّيلَةِ؟ وفوقَ ذلكَ خَدَعَتْكُمْ أنفسُكم حتى سَوَّلَتْ لكم -في دناءةٍ ووضاعةٍ- التَّحَوُّلَ إلى دُرَرِ كلامِي، المنحوتِ في نُخَاعِ عظامِي لِتَتَعَدَّوْا عليَّ هذا التعدِي السافرِ، وأنتم من ذواتِ الْحَوَافِرِ؟ هل لَدَيْكُمْ -يا قصارَ الذيولِ- أدنى فكرةٍ عن الجهدِ الذي أبذلُهُ، والوقتِ الذي أنفقُهُ؟ فَكَمْ أسهرُ الليالي، وأقضي الساعاتِ أستلهمُ المعنى العميقَ، وأنتشلُ اللفظَ الغريقَ، وأطاردُ شواردَ الأوابدِ، وجوامَع الدلالاتِ، وأعاني الويلاتِ حتى يأتيني مخاضُ الكلماتِ، فتخرجُ العباراتُ بعد لأيٍ وعناءٍ، كالجراحةِ القيصريةِ التي تحتاجُ إلى مِبْضَعِ خبيرٍ، لا يدٍ شَلاَّءَ. وَلَكِنَّكُمْ لا تَعْرِفُونَ لِلْوَقْتِ قِيمَةً، ولا تُقَدِّرُونَ تَعَبَ عِمْلاقٍ مِثْلِي فِي اسْتِحْضَارِ الْمَعَانِي، وَاسْتِقْصَاءِ الأَلْفَاظِ، وَتَحْبِيرِ الْكَلاَمِ. فَلْيَلْحَقْ بِكُمُ الْعَارُ، وتُلْقَوْنَ في زَنَازَينِ الشَّنَارِ! فما أقبحَ جهلكم، وأبغضَ فعلكم! لقد فَجَرْتُم وافترَيْتُم وعَتَوْتُم، ولكنكم لم تَحْسِبُوا لِقَلَمِيَ الْبَتَّارِ حِسَابًا. فَلَتَتَجَرَّعُنَّ الموتَ بِسِنِّهِ حِمَمًا، وَلأَجْدَعَنَّ بِهِ أُنُوفَكَمْ تَمْثِيلاً بكم، وَلَتَلُوكَنَّ عِبَارَاتِي أَكْبَادَكُم وَلَيَكُونَنَّ غَضَبِي طُوفَانًا يُغْرِقُكُم، وَبَأْسِي حُسَامًا يَفْرطُ عِقْدَكُم. ألا بِئْسَتْ فعلتكم! أنتم عصابةٌ من محاربِي حريةِ الفكرِ والتفكيرِ، وأعداءِ النورِ والتنويرِ، وأتباعُكم جوقةُ التطبيلِ والتزميرِ، والتصفيقِ والتهليلِ. ترتعشونَ على كراسيكم حين يَخُطُّ قلمِي حرفاً، وتَرْتَعِبُون فِي جلودِكم حين يسيلُ مِدَادُ يَرَاعَتِي على الصفحاتِ حَرْقًا. إنني أحملُ مشاعلَ الحريةِ الحمراءَ، وأنتم لا تزالونَ تعيشونَ في مجاهلِ الظلمةِ، ودهاليزَ الْعَتْمَةِ، وَغَيَاهِبَ الْجَهْلِ. أراكُم تَتَسَلَّلُونَ فِي فَرَقِ الرِّعْدِيدِ لِتُرَاقِبُوا تحركاتِي، وتَرْصُدُوا سبيلَ كلماتِي، وَلِتُلْقُوا عليها شباكَ حُمْقِكُم، وَلِتُجْهِضُوا كلَّ محاولاتِ الْبَعْثِ والنهضةِ والصحوةِ التي يَبُثُّهَا قلمِي الْجَهْبَذُ في النفوسِ الغافلةِ الغافيةِ فتوقِظُها من سُبَاتِها، وفي الأرضِ الْمَوَاتِ فتُحييها بعدَ سكونِها. إنَّ قَلَمِي سَيْفِي، وَأَلْفَاظِي جُعْبَةُ سِهَامِي، وعباراتِي رُمْحِي، وعَبْقَرِيَّتِي صَهْوَةُ جَوَادِي، وأفكارِي مشاعلُ النورِ في أَنْفَاقِ عقولِكم المُدْلَهِمَّةِ، وربوعِ أرواحِكم الْمُدْرَهِمَّةِ.
أكادُ لا أصدقُ عَيْنَيَّ رغمَ البرهانِ الساطعِ. أنا في ذهولٍ تامٍّ. أَحَقًّا ذلكَ؟
أريدُ تفسيراً فوريًا، وتبريرًا آنِيًا، في الحالِ والتَّوِّ، وفي هذهِ اللحظةِ والْبَحْظَةِ، وأطالبُ بشرحٍ وافٍ لأسبابِ عملِكم العقيمِ، وتصرفِكم اللئيمِ.
أين مجلسُ الشورى النائمُ في العسلِ؟ أَبْدَلَ اللهُ عَسَلَهُ سُعَالاً، وَقَرَارَهُ أَرَقًا، وَسُكُونَهُ نَكْسَةً. يضعُ أعضاؤُهُ الدَّالَ قبل أسمائِهم كِبْرًا وبَطَرًا. أَلاَ إِنَّ دَالَكُم سَتَدُولُ عليكم، وتكونُ عليكم حسرةً وندامةَ، ودليلَ وهنِكم وعجزِكم. بل أرى أَنْ تجتمعُوا في صعيدٍ واحدٍ وتنتحرُوا؛ لتذهبَ رِيحُكُمْ وتُرِيحُونَنَا بعدما سَمَحْتُم بهذهِ الْفِعْلَةِ الشنيعةِ، والبِدْعَةِ الفظيعةِ، أيها الْغَاطُّونَ فِي حُقُولِ الأُرْزِ حيثُ تغيبُ الملائكةُ، وتعيثُ الشياطينَ فسادًا."
-توقيع: أَبُو الْعُرِّيف-
<أضف الرد> ...< اضغط>
ظَلَّ أبو العريف بعدها يُرْغِي ويُزْبِدُ، ويَقُومُ ويَقْعُدُ، ويَسُبُّ ويَشْتِمُ، ويُفْصِحُ ويُبَرْطِمُ، ولم يَسْتَقِرْ له قرارٌ حتى دَخَلَتْ عليه "أُمُّ العريف" بكوبِ الشِّيِحِ، فنظرَ إليها شَزَرًا،
وقالَ: ماذا تُرِيدِينَ يا وجهَ السَّعْدَ..انِ، وَأَنْكَدَ من الْغِرْبَانِ ؟
فقالتْ: هَاكَ شِيحُكَ يا أَسْعَدَ مِنْ عَجَائِزِ الْفَرَحِ. اشْرَبْهُ زُعَافًا. رَفَعَ اللهُ كَعْبَيْكَ عنِ الأرضِ، فِي يَوْمٍ قَائِظٍ.
ثم انصرفتْ، بعدَ أَنْ تركتِ الكوبَ أمامَهُ. فنظرَ إليهِ وقد تَغَيَّرَ لونُهُ وَرِيحُهُ، وَثَخُنَ قَوَامُهُ. فَحَدَّثَتْهُ نفسُه أَنَّ أمَّ الْعُرِّيفِ وضعتْ له في الشِّيِحِ شيئًا هذهِ الْمَرَّةِ.
"أَوَ فَعَلَتْهَا اللئيمةُ؟ أَتُرَاهَا مَزَجَتْهُ بِسُمِّ فِئْرَانَ؟ معقولٌ؟ هل أشربُهُ أم لا؟"
وَحِينَ هَمَّ بِأَخْذِهِ غَيْرَ مُتَيَقِّنٍ مِنْ خُطْوَتِهَ التَّالِيَةِ دَخَلَتْ عليهِ أمُّ العريفِ وفي يدِها كوبٌ آخرُ فاستبدلَتْ هذا بذاكَ.
فقالَ لها بنبرةٍ مُتَشَكِّكَةٍ: "ما هذا يا امرأة؟ بَدَّلَ اللهُ رَغَدَ حَالِكِ تَعْسَـ..."
فقاطعتْه قائلةً: "هذا كوبُ شِيحِكَ يا نِحْرِيرُ عَصْرِكَ. أَمَّا الأولُ فكوبٌ من الزَّيْتِ أحضرتُه بالخطأِ. كان الأَوْلَى بي أن أتركَك تَطْفَحُهُ، فأنا أعلمُ طفاستَك، وقلةَ عقلِك. ولكني قلتُ إذا كنتَ تشربُ الشيحَ بسببِ انتفاخاتِك، وآبارِ غازاتِكَ، فماذا سيحدثُ لو شربتَ كوبًا من الزيتِ، وحَمَّامُ الْبَيْتِ مَسْدُودٌ؟!."
- "بالخطأِ؟ وهل فعلْتِ شيئًا صوابًا في حياتِكِ قط؟ وَلَكِنَّ هذا لا يُشُبِهُ زيتَ الطعامِ يا أَبْلَة نَظِيرَة؟"
- "لأَنَّهُ زيتُ ديزلَ يا واسعَ الْمِنْخَرَيْنِ."
عَقَدَ أبو العريف حاجِبَيْهِ، ثم قَهْقَهَ في خُبْثٍ ظَاهِرٍ وقَالَ: وماذا تفعلينَ بِزَيْتِ الدِّيزِلَ؟ هل تُدَلِّكِينَ بِهِ بَشْرَتَكِ، أَمْ مِفْصَلاَتِ رِكْبَتَيْكِ الصَّدِئَتَيْنِ؟
- "هذا هو ما أطبخُ به طعامَك منذُ زواجِنا المشئومِ، يا واسعَ الْكِرْشِ، وَضَيِّقَ الْعَقْلِ".
- "أذهبي عَنِّي يا حَيْزَبُون، أَسْعَدَ اللهُ حالَ شَانِئِكِ."
- سأذهبُ، نَصَرَ اللهُ عَدُوَّكَ، وَزَادَ سَخَطَكَ، وَحَلَقَ عُمْرَكَ، يا بعيد.
- اغْرُبِي، لا حَلَقَ الشَّيْطَانُ لَكِ شَارِبًا.
قالَها وهي تنصرفُ؛ ثم عادَ إلى موضوعِه، فوجدَ ردًا عليهِ يقولُ:
"الأستاذ أبو العريف، ما الذي حدثَ بالضبطِ كي تنفعلَ بهذه الطريقةِ الغريبةِ، وتنطحَنا بقرونِك "الثوريةِ"؟ نرجو التوضيحَ."
فكتبَ أبو العريف: "تسألونَ كَمَا لَوْ كنتُم لا تعلمونَ؟ تَلْبَسُونَ مُسُوحَ الْحِمْلاَنِ وَقُلُوبُكُم قُلُوبُ الثَّعَالِبِ! هلْ تَرْتَكِبُون جَرَائِمَكُم وأنتم نَائِمُونَ تَائِهُونَ مُغَيَّبُون؟ إِنْ كنتَ لا تعلمْ فتلك فجيعةٌ *** وإِنْ كنتَ تعلمُ فالفجيعةُ أفْدَحُ
لقد حُذِفَتْ لي مداخلةٌ، وجاءتْني رسالةٌ بالبريدِ تخبرني بالحذفِ دونِ استئذانٍ ولا مبرراتٍ. مَنْ أنتم حتى تحكمونَ على كلامِي، وتُقَرِّرُون تَرْكَهُ أو حذفَهُ، وتفرضونَ وصايتَكم على فَرَائِدِي؟ كيف تَتَجَرَّؤُونَ عَلَى حَذْفِ مُداخلاتِي؟ ألا تعرفون مَنْ أنا؟ هل تجهلون قَدْرِي بين العالمينَ؟ أنا أَعْلَمُ مِنْ إِقْلِيدِسَ، وَأَفْصَحُ من هُومَرَ، وَأَشْعَرُ من الْمُتَنَبِّي، وَأَبْلَغُ مِنَ ابْنِ كِنْدِسَةَ، وأشجعُ من الإِسْكَنَدَرَ الْمَقْدُونِسِيِّ، أنا القائلُ:
سَيَكُونُ هَذَا يَوْمًا أَسْوَدَ كَلَوْنِ الْخَرُّوبِ فَوْقَ رُؤُوسِكُمُ الصَّلْعَاءِ جَمِيعًا. وَسَتَلْعَنُونَ الْيَوْمُ الْبَئِيسِ الَّذِي وُلِدْتُمْ فِيهِ يَا "بَلاَبِيصَ" الأَخْلاَقِ. لقد هَزُلَتْ حتي بانَ هُزالُها، وسَادَ جُهَّالُها. كيف تتجرؤون يا أقزامَ الفكرِ، وَمَضْغُوطِي الأحلامِ على ارتكاب فِعْلَتِكُمُ تلك النكراءَ، وَجَرِيمَتِكُمُ الشَّنْعَاءِ؟ هل انتهيتُم من فَرْضِ سيطرتِكم على سَطْحِيِّي التفكيرِ، ومُسِيئِي التدبير، وجَلاَوِزَةِ الفكر، وعَتَاوِلَةِ الإِقْصَاءَ، والانْبِطَاحِيِّينَ، وأعداءِ الْمِلَّةِ والدينِ، والجالسينَ والواقفينَ؛ وهل فَضَضْتُمْ أيديَكم من كُتَّابِ قصائدِ النَّثْرِ والْبَشْرِ، وموضوعاتِ السخريةِ والْفَشْرِ؛ وهل قَضَيْتُمْ على دُعَاةِ العَلْمَانِيَّةِ والْبَلْمَانِيَّةِ، والحزبيةِ والشلليةِ والنسبيةِ وكَفْرِ بَهَاتِي والشَّرَابِيَّةِ؛ وهل فَتَكْتُم بِمُدَّعِيِّ العلم ومُصَدِّرِي الْفَتَاوَى، والمتنطعينَ ممن يَسُبُّونَ العلماءَ والفقهاءَ، والشعراءَ والْبُلَغَاءَ؟ وهل أَطَحْتُمُ بِكُتَّابِ الْغُوَايَةِ والرِّوَايَةِ، والقصةِ القصيرةِ بأحجامِها: الميني جيب، والمايكروجيب، والنَّانُوجِيبْ، والحكايةِ البِكيني والتانكيني والمنكيني؟ وهل تَخَلَّصْتُمْ من أَدْعِيَاءِ الفضيلةِ، ومُرْتَكِبِي الرذيلةِ، وآكِلِي الْبِلِيلَةِ، والْمَصْبُوغِينَ بِالنِّيلَةِ؟ وفوقَ ذلكَ خَدَعَتْكُمْ أنفسُكم حتى سَوَّلَتْ لكم -في دناءةٍ ووضاعةٍ- التَّحَوُّلَ إلى دُرَرِ كلامِي، المنحوتِ في نُخَاعِ عظامِي لِتَتَعَدَّوْا عليَّ هذا التعدِي السافرِ، وأنتم من ذواتِ الْحَوَافِرِ؟ هل لَدَيْكُمْ -يا قصارَ الذيولِ- أدنى فكرةٍ عن الجهدِ الذي أبذلُهُ، والوقتِ الذي أنفقُهُ؟ فَكَمْ أسهرُ الليالي، وأقضي الساعاتِ أستلهمُ المعنى العميقَ، وأنتشلُ اللفظَ الغريقَ، وأطاردُ شواردَ الأوابدِ، وجوامَع الدلالاتِ، وأعاني الويلاتِ حتى يأتيني مخاضُ الكلماتِ، فتخرجُ العباراتُ بعد لأيٍ وعناءٍ، كالجراحةِ القيصريةِ التي تحتاجُ إلى مِبْضَعِ خبيرٍ، لا يدٍ شَلاَّءَ. وَلَكِنَّكُمْ لا تَعْرِفُونَ لِلْوَقْتِ قِيمَةً، ولا تُقَدِّرُونَ تَعَبَ عِمْلاقٍ مِثْلِي فِي اسْتِحْضَارِ الْمَعَانِي، وَاسْتِقْصَاءِ الأَلْفَاظِ، وَتَحْبِيرِ الْكَلاَمِ. فَلْيَلْحَقْ بِكُمُ الْعَارُ، وتُلْقَوْنَ في زَنَازَينِ الشَّنَارِ! فما أقبحَ جهلكم، وأبغضَ فعلكم! لقد فَجَرْتُم وافترَيْتُم وعَتَوْتُم، ولكنكم لم تَحْسِبُوا لِقَلَمِيَ الْبَتَّارِ حِسَابًا. فَلَتَتَجَرَّعُنَّ الموتَ بِسِنِّهِ حِمَمًا، وَلأَجْدَعَنَّ بِهِ أُنُوفَكَمْ تَمْثِيلاً بكم، وَلَتَلُوكَنَّ عِبَارَاتِي أَكْبَادَكُم وَلَيَكُونَنَّ غَضَبِي طُوفَانًا يُغْرِقُكُم، وَبَأْسِي حُسَامًا يَفْرطُ عِقْدَكُم. ألا بِئْسَتْ فعلتكم! أنتم عصابةٌ من محاربِي حريةِ الفكرِ والتفكيرِ، وأعداءِ النورِ والتنويرِ، وأتباعُكم جوقةُ التطبيلِ والتزميرِ، والتصفيقِ والتهليلِ. ترتعشونَ على كراسيكم حين يَخُطُّ قلمِي حرفاً، وتَرْتَعِبُون فِي جلودِكم حين يسيلُ مِدَادُ يَرَاعَتِي على الصفحاتِ حَرْقًا. إنني أحملُ مشاعلَ الحريةِ الحمراءَ، وأنتم لا تزالونَ تعيشونَ في مجاهلِ الظلمةِ، ودهاليزَ الْعَتْمَةِ، وَغَيَاهِبَ الْجَهْلِ. أراكُم تَتَسَلَّلُونَ فِي فَرَقِ الرِّعْدِيدِ لِتُرَاقِبُوا تحركاتِي، وتَرْصُدُوا سبيلَ كلماتِي، وَلِتُلْقُوا عليها شباكَ حُمْقِكُم، وَلِتُجْهِضُوا كلَّ محاولاتِ الْبَعْثِ والنهضةِ والصحوةِ التي يَبُثُّهَا قلمِي الْجَهْبَذُ في النفوسِ الغافلةِ الغافيةِ فتوقِظُها من سُبَاتِها، وفي الأرضِ الْمَوَاتِ فتُحييها بعدَ سكونِها. إنَّ قَلَمِي سَيْفِي، وَأَلْفَاظِي جُعْبَةُ سِهَامِي، وعباراتِي رُمْحِي، وعَبْقَرِيَّتِي صَهْوَةُ جَوَادِي، وأفكارِي مشاعلُ النورِ في أَنْفَاقِ عقولِكم المُدْلَهِمَّةِ، وربوعِ أرواحِكم الْمُدْرَهِمَّةِ.
أكادُ لا أصدقُ عَيْنَيَّ رغمَ البرهانِ الساطعِ. أنا في ذهولٍ تامٍّ. أَحَقًّا ذلكَ؟
أريدُ تفسيراً فوريًا، وتبريرًا آنِيًا، في الحالِ والتَّوِّ، وفي هذهِ اللحظةِ والْبَحْظَةِ، وأطالبُ بشرحٍ وافٍ لأسبابِ عملِكم العقيمِ، وتصرفِكم اللئيمِ.
أين مجلسُ الشورى النائمُ في العسلِ؟ أَبْدَلَ اللهُ عَسَلَهُ سُعَالاً، وَقَرَارَهُ أَرَقًا، وَسُكُونَهُ نَكْسَةً. يضعُ أعضاؤُهُ الدَّالَ قبل أسمائِهم كِبْرًا وبَطَرًا. أَلاَ إِنَّ دَالَكُم سَتَدُولُ عليكم، وتكونُ عليكم حسرةً وندامةَ، ودليلَ وهنِكم وعجزِكم. بل أرى أَنْ تجتمعُوا في صعيدٍ واحدٍ وتنتحرُوا؛ لتذهبَ رِيحُكُمْ وتُرِيحُونَنَا بعدما سَمَحْتُم بهذهِ الْفِعْلَةِ الشنيعةِ، والبِدْعَةِ الفظيعةِ، أيها الْغَاطُّونَ فِي حُقُولِ الأُرْزِ حيثُ تغيبُ الملائكةُ، وتعيثُ الشياطينَ فسادًا."
-توقيع: أَبُو الْعُرِّيف-
<أضف الرد> ...< اضغط>
ظَلَّ أبو العريف بعدها يُرْغِي ويُزْبِدُ، ويَقُومُ ويَقْعُدُ، ويَسُبُّ ويَشْتِمُ، ويُفْصِحُ ويُبَرْطِمُ، ولم يَسْتَقِرْ له قرارٌ حتى دَخَلَتْ عليه "أُمُّ العريف" بكوبِ الشِّيِحِ، فنظرَ إليها شَزَرًا،
وقالَ: ماذا تُرِيدِينَ يا وجهَ السَّعْدَ..انِ، وَأَنْكَدَ من الْغِرْبَانِ ؟
فقالتْ: هَاكَ شِيحُكَ يا أَسْعَدَ مِنْ عَجَائِزِ الْفَرَحِ. اشْرَبْهُ زُعَافًا. رَفَعَ اللهُ كَعْبَيْكَ عنِ الأرضِ، فِي يَوْمٍ قَائِظٍ.
ثم انصرفتْ، بعدَ أَنْ تركتِ الكوبَ أمامَهُ. فنظرَ إليهِ وقد تَغَيَّرَ لونُهُ وَرِيحُهُ، وَثَخُنَ قَوَامُهُ. فَحَدَّثَتْهُ نفسُه أَنَّ أمَّ الْعُرِّيفِ وضعتْ له في الشِّيِحِ شيئًا هذهِ الْمَرَّةِ.
"أَوَ فَعَلَتْهَا اللئيمةُ؟ أَتُرَاهَا مَزَجَتْهُ بِسُمِّ فِئْرَانَ؟ معقولٌ؟ هل أشربُهُ أم لا؟"
وَحِينَ هَمَّ بِأَخْذِهِ غَيْرَ مُتَيَقِّنٍ مِنْ خُطْوَتِهَ التَّالِيَةِ دَخَلَتْ عليهِ أمُّ العريفِ وفي يدِها كوبٌ آخرُ فاستبدلَتْ هذا بذاكَ.
فقالَ لها بنبرةٍ مُتَشَكِّكَةٍ: "ما هذا يا امرأة؟ بَدَّلَ اللهُ رَغَدَ حَالِكِ تَعْسَـ..."
فقاطعتْه قائلةً: "هذا كوبُ شِيحِكَ يا نِحْرِيرُ عَصْرِكَ. أَمَّا الأولُ فكوبٌ من الزَّيْتِ أحضرتُه بالخطأِ. كان الأَوْلَى بي أن أتركَك تَطْفَحُهُ، فأنا أعلمُ طفاستَك، وقلةَ عقلِك. ولكني قلتُ إذا كنتَ تشربُ الشيحَ بسببِ انتفاخاتِك، وآبارِ غازاتِكَ، فماذا سيحدثُ لو شربتَ كوبًا من الزيتِ، وحَمَّامُ الْبَيْتِ مَسْدُودٌ؟!."
- "بالخطأِ؟ وهل فعلْتِ شيئًا صوابًا في حياتِكِ قط؟ وَلَكِنَّ هذا لا يُشُبِهُ زيتَ الطعامِ يا أَبْلَة نَظِيرَة؟"
- "لأَنَّهُ زيتُ ديزلَ يا واسعَ الْمِنْخَرَيْنِ."
عَقَدَ أبو العريف حاجِبَيْهِ، ثم قَهْقَهَ في خُبْثٍ ظَاهِرٍ وقَالَ: وماذا تفعلينَ بِزَيْتِ الدِّيزِلَ؟ هل تُدَلِّكِينَ بِهِ بَشْرَتَكِ، أَمْ مِفْصَلاَتِ رِكْبَتَيْكِ الصَّدِئَتَيْنِ؟
- "هذا هو ما أطبخُ به طعامَك منذُ زواجِنا المشئومِ، يا واسعَ الْكِرْشِ، وَضَيِّقَ الْعَقْلِ".
- "أذهبي عَنِّي يا حَيْزَبُون، أَسْعَدَ اللهُ حالَ شَانِئِكِ."
- سأذهبُ، نَصَرَ اللهُ عَدُوَّكَ، وَزَادَ سَخَطَكَ، وَحَلَقَ عُمْرَكَ، يا بعيد.
- اغْرُبِي، لا حَلَقَ الشَّيْطَانُ لَكِ شَارِبًا.
قالَها وهي تنصرفُ؛ ثم عادَ إلى موضوعِه، فوجدَ ردًا عليهِ يقولُ:
"الأستاذ أبو العريف، ما الذي حدثَ بالضبطِ كي تنفعلَ بهذه الطريقةِ الغريبةِ، وتنطحَنا بقرونِك "الثوريةِ"؟ نرجو التوضيحَ."
فكتبَ أبو العريف: "تسألونَ كَمَا لَوْ كنتُم لا تعلمونَ؟ تَلْبَسُونَ مُسُوحَ الْحِمْلاَنِ وَقُلُوبُكُم قُلُوبُ الثَّعَالِبِ! هلْ تَرْتَكِبُون جَرَائِمَكُم وأنتم نَائِمُونَ تَائِهُونَ مُغَيَّبُون؟ إِنْ كنتَ لا تعلمْ فتلك فجيعةٌ *** وإِنْ كنتَ تعلمُ فالفجيعةُ أفْدَحُ
لقد حُذِفَتْ لي مداخلةٌ، وجاءتْني رسالةٌ بالبريدِ تخبرني بالحذفِ دونِ استئذانٍ ولا مبرراتٍ. مَنْ أنتم حتى تحكمونَ على كلامِي، وتُقَرِّرُون تَرْكَهُ أو حذفَهُ، وتفرضونَ وصايتَكم على فَرَائِدِي؟ كيف تَتَجَرَّؤُونَ عَلَى حَذْفِ مُداخلاتِي؟ ألا تعرفون مَنْ أنا؟ هل تجهلون قَدْرِي بين العالمينَ؟ أنا أَعْلَمُ مِنْ إِقْلِيدِسَ، وَأَفْصَحُ من هُومَرَ، وَأَشْعَرُ من الْمُتَنَبِّي، وَأَبْلَغُ مِنَ ابْنِ كِنْدِسَةَ، وأشجعُ من الإِسْكَنَدَرَ الْمَقْدُونِسِيِّ، أنا القائلُ:
أَنَا الْبَحْرُ في حَشَوَاتِهِ الْبُرُّ غَارِقٌ *** فَهَلْ سَاءَلُوا الصَّيَّادَ عَنْ غَطَسَاتِهِ
وأنا الذي يَصْدُقُ فيَّ شعرِي عن عظيمِ نفسِي:
الخَيْل والْفَيْلُ والْعَنْقَاءُ تَعْرفُني *** والسّيْفُ والتَّيْسُ والْبِصْطَارُ والقَلَمُ
وداهيةُ الدواهِي أنَّ هذيْن البَيْتَيْنِ هُمَا ما حذفتُموه لي. ألا تُقَدِّرُونَ جواهرَ الْكَلِمِ؟ ألا تَفْهَمُونَ نَوَابِغَ الحكمةِ؟
فجاءَه الردُّ: "الأستاذ أبو العريف: مداخلتُك المذكورةُ لم تُحْذَفْ، وهي موجودةٌ حيث كتبتَها؛ وإنما نُسِخَ الموضوعُ إلى مكانٍ آخرَ، وحُذِفَ المنسوخُ فقط. ولو عُدْتَ إلى دُرَرِكَ وَبُرَرِكَ، وَفَرَائِدِكَ وَأَوَابِدِكَ، وَجَوَاهِرِكَ وَقَوَاهِرِكَ، وَتُيُوسِكَ وَبِصْطَارِكَ، فستجدُها جميعًا كَمَا هِيَ يَنْطِحُ بَعْضُهَا بَعْضًا. يُرْجَى قبلَ توجيهِ كلامٍ لا طعمَ له ولا لونَ، ولا رائحةً طيبةً، التأكدَ من الْحَذْفِ."
- آآآآآآ!! مممم!! الْعَتَبُ عَلَى الانْتِفَاخَاتِ.
- صَدَقْتَ.
فجاءَه الردُّ: "الأستاذ أبو العريف: مداخلتُك المذكورةُ لم تُحْذَفْ، وهي موجودةٌ حيث كتبتَها؛ وإنما نُسِخَ الموضوعُ إلى مكانٍ آخرَ، وحُذِفَ المنسوخُ فقط. ولو عُدْتَ إلى دُرَرِكَ وَبُرَرِكَ، وَفَرَائِدِكَ وَأَوَابِدِكَ، وَجَوَاهِرِكَ وَقَوَاهِرِكَ، وَتُيُوسِكَ وَبِصْطَارِكَ، فستجدُها جميعًا كَمَا هِيَ يَنْطِحُ بَعْضُهَا بَعْضًا. يُرْجَى قبلَ توجيهِ كلامٍ لا طعمَ له ولا لونَ، ولا رائحةً طيبةً، التأكدَ من الْحَذْفِ."
- آآآآآآ!! مممم!! الْعَتَبُ عَلَى الانْتِفَاخَاتِ.
- صَدَقْتَ.