اليهود في شمال إفريقيا في العصور الوسطي، لمحة تاريخية
د. حسنات عوض ساتي
د. حسنات عوض ساتي
هذه الورقة تتحدث عن الوجود اليهودي لشمال إفريقيا في فترة استعمار الإمبراطوريات السابقة للميلاد للمنطقة ثم استمرار وجودهم في ظل الاستعمار بعد الميلاد إلى أن فتح المسلمون شمال إفريقيا، وقف الحديث حتى عهد دويلات المرابطين والموحدين وتناولت الورقة أوضاعهم الدينية، الثقافية، الاجتماعية، والسياسية.
هجرة اليهود إلى شمال إفريقيا (قبل الإسلام)
يصعب تحديد دخول اليهود إلى شمال إفريقيا تحديداً قاطعاً لأنه جاء على فترات وحقب زمانية متباينة وموغلة في القدم . فهناك نظرية تقول أن بداية الاستقرار اليهودي بشمال إفريقيا يرجع إلى العهد الفينيقي والقرطاجنى حوالي 9 قرون قبل الميلاد ونظرية أخرى تقول أن البداية كانت مع العهد الروماني(1) وعلى كل حال كانت هناك حوداث تاريخية كبرى كان لها دور كبير في عملية الحراك الاستيطاني لليهود.
والصحيح من القول حسب الرواية القرآنية إن بداية هجرة اليهود لشمال إفريقيا وكانوا يعرفون في ذلك الوقت ببني إسرائيل- كانت لمصر لحاقاً بأخيهم يوسف عليه السلام، وعاشوا في مصر مئات السنين إلى أن خرجوا منها مع موسى عليه السلام حين عبر بهم البحر واستقروا في الصحراء ثم خرجوا من إفريقيا ودخلوا الأرض المقدسة في عهد يوشع بن نون حسب ما جاء في سفر يوشع من كتب العهد القديم(2) وبقى اليهود هناك مئات السنين وأصبحت لهم دولة ومملكة وصلت قمة مجدها في عهد النبي داود ومن بعده النبي سليمان عليهما السلام والذي جمعت له السلطة الدينية والدنيوية وبعد موت سليمان ضعفت المملكة بسبب النزاعات الداخلية وتفككت وحدة اليهود وانقسمت المملكة وسهل غزوهم فغزا الفرعون شيشق القدس سنة 930 قبل الميلاد ونهب البلد ونفى اعداداً كبيرة من اليهود إلى مصر وزحفت جماعات منهم نحو شمال وغرب إفريقيا تدريجياً وعلى مر السنين. ثم غزا فلسطين بعد ذلك الآشوريون وذلك عام 722 قبل الميلاد ولكن الغزو الأشهر والذي يعتبر نقطة تحول هامة في تاريخ اليهود ويعتبر البداية الحقيقية لشتات اليهود هو الغزو البابلي عام 586 ق.م. حين دخل البابليون القدس وخربوها وحطموا هيكل سليمان (ع) واخذوا اعداداً كبيرة من اليهود أسرى إلى بابل وفر عدد آخر إلى أصقاع الدنيا المختلفة منها شمال إفريقيا .ثم عادت إلى فلسطين أعداد منهم بعد هزيمة البابليين على يد الفرس الذين سمحوا لهم بناء المعبد مرة أخرى.
حين اعتلى البطالمة عرش مصر استولى بطليموس الأول فلسطين عام 301 ق.م. وتم تهجير أعداد من اليهود إلى مصر واستقر معظمهم في الإسكندرية واشتغلوا بالعلم ونهلوا من علوم الإغريق خاصة الفلسفة والتصوف وظهر من بينهم علماء مشهورين إلى اليوم مثل فيلون الاسكندرى.
حدثت هجرة كبرى أخرى لليهود وذلك بعد أن آلت سيادة المنطقة للإمبراطورية الرومانية في روما دخل الرومان فلسطين وحطم قائدهم تيطس هيكل سليمان (ع) للمرة الثانية وكان ذلك عام 70 للميلاد بل أن الرومان شيدوا تمثال جوبيتر إله الحرب عندهم في مدينة القدس اضطهاداً لليهود وتحقيراً لدينهم ونتيجة لهذا الغزو رحل عدد كبير من اليهود نحو شمال إفريقيا فراراً من البطش الروماني .
وحينما غزا الوندال شمال إفريقيا سنة429 للميلاد طردوا الرومان وانتشروا في جميع مدن الشمال الإفريقي والتي كانت خاضعة بدورها للإمبراطورية الرومانية. وقد طبق الرومان عام 212م قانون "كركلا" Iédite de Caracalla" الذي منح حق المواطنة Drait de Cié لجميع الناس وأعطى بالتالي الفرصة لليهود لتقوية أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والدينية(3). حرص اليهود على علاقاتهم مع البربر يحاولون الاندماج معهم وكسب عطفهم بحجة أنهم مضطهدون مثلهم من قبل الرومان، الرومان عدو مشترك ومن جانب آخر كان اليهود يظهرون ولاء للرومان في مساعدتهم على مراقبة البربر اللذين كانوا دائمي الثورة والتمرد والتذمر ضد الرومان المحتلين وحينما غزا الوندال شمال إفريقيا عام 429م ساعدهم اليهود المحتلين الجدد على التخلص من الرومان مع الإبقاء على تحالفاتهم مع البربر، وهذا يدل على العقلية لليهودية فيما يتعلق بعلاقاتهم مع الحكومات والشعوب. ولكن بعد انتصار الإمبراطور الروماني (جستيان) على الوندال واستعادته لشمال إفريقيا سنة 533 للميلاد، أمر اليهود باعتناق المسيحية التي أصبحت الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية ولكن تمسك اليهود بدينهم فاضطروا للفرار غرباً وجنوباً داخل إفريقيا وسكنوا الصحراء والجبال والأودية واحتموا بالبربر واختلطوا بهم(4). ومن الهجرات التاريخية لليهود نحو شمال إفريقيا حدثت أثناء حكم القوط لأسبانيا خلال القرن السادس والسابع للميلاد في عهد الملك ريكاردو الأول الذي اضطهد اليهود واعتبرهم زنادقة وأصدر مراسيم ملكية عام 694 للميلاد تنص على طرد اليهود من أسبانيا وقد حدث واستقر اليهود في عدة قرى مغربية وجزائرية في شمال وجنوب البلاد(5)، وبعد الفتح الاسلامى انضمت أعداد من اليهود إلى جيوش المسلمين وعادوا للأندلس ولكنهم خرجوا منها مرة أخرى بعد سقوط دولة الأندلس وجاءوا ثانية لشمال إفريقيا(6).
وفى القرن السادس الميلادي جاء الإسلام وتغير الوجه الحضاري للعالم ، فكان دخول المسلمين لمصر بقيادة عمرو بن العاص في عهد عمر بن الخطاب وكان في مصر في الفترة ما بين 18-21هـ وانشأ مدينة الفسطاط واتخذها عاصمة له ثم اتجه غرباً متعقباً القوات البزينطية، وبعده فتح عقبه بن نافع بقية دول شمال إفريقيا واستقر في تونس وبنى مدينة القيروان، وتوالى الزحف الاسلامى بعد ذلك وعم المنطقة كلها ونعم اليهود ولأول مرة بالأمن والطمأنينة والاستقرار لأن الدين الإسلامي به تشريع يخص غير المسلمين يحفظ لهم حقوقهم ويكفل لهم حرية العبادة ولا يعاملهم كالعبيد بل مواطنين من أهل الذمة(7).
وخلاصة القول أن اليهود هاجروا إلى شمال إفريقيا من قبل الميلاد وبعده وبعد الفتح الإسلامي، وقد عاش اليهود منذ عهد موسى (ع) على هامش الحضارات الفرعونية والفينيقية ثم البابلية والفارسية والإغريقية والرومانية والإسلامية التي دانت لها معظم أجزاء العالم بما فيها القدس وشمال إفريقيا إلى اليوم. وكان اليهود في شمال إفريقيا قبل الفتح الاسلامى يعيشون حياة خوف وقلق من المستعمرين ولكنهم بعد الفتح الاسلامى هدأت أحوالهم وسكنت نفوسهم واستقرت معيشتهم وازدهرت حياتهم الاقتصادية والاجتماعية بسبب تسامح المسلمين وتشريع الدين الإسلامي المنصف.
أماكن استيطان اليهود
شمال إفريقيا مصطلح أطلقه الجغرافيون على البلاد الإسلامية الممتدة من حدود مصر الغربية حتى ساحل المحيط الاطلسى وتنتشر بمحاذاة البحر المتوسط في الشمال وتتوغل حتى عمق الصحراء الكبرى كما قسم الجغرافيون شمال إفريقيا إلى ثلاث مناطق: المغرب الأدنى، المغرب الأوسط والمغرب الأقصى، فكان المغرب الأدنى يضم حدود مصر الغربية ومدينة برقة والمعروفة حالياً باسم بنغازي في ليبيا إلى الحدود التونسية. والمغرب الأوسط من مدينة بجاية في تونس حتى مدينة وهران في الجزائر. إما المغرب الأقصى وهو امتداد للأوسط فيضم من مدينة سبتة شمالاً حتى مدينة سجليماسة جنوباً وكل ما يعرف اليوم بدولة المغرب(8). سكن اليهود كل مدن شمال إفريقيا خاصة المناطق الساحلية لأهميتها التجارية مثل إقليم طرابلس وهو ميناء تجارى هام منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، كما سكنوا مدينة سرت على الساحل ومدينة (لبده) وجبل نفوسة وبه قبائل متعددة، كما استقر اليهود في مدينة جربه في تونس وهى جزيرة وفى مدينة قابس وهى مدينة تجارية اشتهرت بصناعة الحرير وبوجود الفنادق لكثرة التجار، أما مدن المغرب الأوسط فسكنوا مدينة تفزاوة ومدينة صفاقس الساحلية التي اشتهرت بزراعة الزيتون وتجارة الأسماك. كما استقر اليهود أيضاً بمدينة القيروان التي أسسها عقبة بن نافع عام 54 للهجرة الموافق 674 للميلاد في خلافة معاوية بن أبى سفيان. وبقى بها عدد كبير من اليهود بعد أن تركها العرب بعد استشهاد عقبة بن نافع وأصبحت فيما بعد عاصمة للأغالبة في القرن الثالث الهجري الموافق والتاسع الميلادي وتعاقبت عليها الأمارات الإسلامية المختلفة واليهود باقون فيها وقد قويت شوكتهم ورسخت أقدامهم فكانت بالقيروان أحياء اغلب سكانها من اليهود مثل حارة خيبر التي ورد ذكرها في مخطوط بالمكتبة العتيقة بالقيروان وبها مدرسة دينية لتعليم التوراة خاصة باليهود وبها حركة علمية نتاج توثيق العلاقة بين مدارس العراق والمجتمع اليهودي في القيروان فكانت القيروان تمثل حلقة وصل بين يهود العراق والأندلس والقدس. وقد سمح لهم المسلمون بإقامة معابد وممارسة الشعائر الدينية(9) وأنشأ الحبر يعقوب بن نسيم المتوفى عام 398 للهجرة الموافق 1007 للميلاد مدرسة دينية لها اتصال بالمدارس اليهودية في العراق. واستقر اليهود كذلك بمدينة سوسه التي اشتهرت بصناعة وتجارة الغزل والحياكة، وبمدينة تونس الساحلية وهى قريبة من مدينة قرطاج التي وجدت بها آثار يهودية قديمة وهناك مدينة ( أشير ) وكذلك مدينة تاهرت والتي أسسها بنورستم وهم خوراج إباضية عام 144 للهجرة - 782 للميلاد وكانت عاصمة لهم وهى مدينة تجارية ومحطة للرحلات التجارية بين المدن الساحلية والمناطق الداخلية جنوباً، وخلفهم الفاطميون عام 296 للهجرة 908 للميلاد وكانوا أكثر تسامحاً مع اليهود وسمحوا لهم بالاشتغال بالتجارة ومن اشهر العلماء اليهود بالمدينة صمويل بن أبراهام ويهوذا بن قريش عالم اللغويات في القرن الرابع الهجري. كما سكنوا اليهود مدينة المهدية عاصمة المهدي الفاطمي عام 308 هجرية الموافق 920 للميلاد وهى ميناء تجارى بين الأندلس ودول شمال إفريقيا وسكن اليهود مدينة ( تنسى) و(قلعة بنى حماد) التي بناها حماد بن بلكين عام 398 للهجرة – 1007 للميلاد وهى مدينة تجارية بها عالم يهودي مشهور اسمه اسحق القاسي وآخر يدعى إبراهيم القلعى. أما مدينة و(ارجلان) من الصحراء الكبرى جنوب المغرب، اشتهرت بتجارة الرقيق. من اشهر المدن التي استقر بها اليهود مدينة تلمسان وهى معبر للمغرب الأقصى وبها من اليهود علماء وأثرياء، وكذلك مدينة نكور وهى ميناء بحري اشتهر بالتبادل التجاري بين يهود الأندلس ويهود شمال إفريقيا(10).
أما المغرب الأقصى فقد اشتهرت أقاليمه بخصوبة الأرض وكثرة الأنهار، ولقربه من الأندلس فهو محطة للدخول والخروج من وإلى أوربا وقد استقر به اليهود فراراً من اضطهاد الأروبين. كما سكنوا مدن فندلاوة ومديونة وبهلولة وغياته وبنوفازاز(11).أما مدينة سبتة وهى أقرب نقطة للأندلس استقر بها اليهود قبل الفتح الاسلامى فراراً من الاضطهاد القوطى وهى من أهم المدن التي سكنها اليهود في تلك المنطقة. أما مدينة فاس فهي أكثر بلاد المغرب يهوداً وقد كانت عاصمة للادارسة بعد الفتح الاسلامى وجاء إليها اليهود من قرطبة. وقد سمح لهم السلطان إدريس الثاني عام 172هـ للهجرة– 788 للميلاد بالعمل فكان لهم نشاط تجارى بارز وظهرت بينهم طبقة أثرياء وانداحوا في كل أحياء المدينة خاصة شمال غربها فكان هناك ما يعرف ب (سوق اليهود) و(فندق اليهود) وكان لهم حضور اجتماعي وسط المسلمين كما سكنوا مدينة سلجماسة التي أنشأها الخوراج الصفرية عام 140للهجرة 751 للميلاد على حدود الصحراء مع بلاد السودان القديم وتقع على خط تجارة الذهب وانتشر اليهود كذلك في مدينة اغمات ومنطقة درعة وإقليم تادلا وجبال فازاز ومنطقة قمنورية وهى ما يعرف اليوم بموريتانيا وكلها اشتهرت بكثافة يهودية واشتغل اليهود بها بالتجارة والسمسرة والخدمات السريعة لوجود المحطات التجارية واشتغلوا كذلك بصناعة الذهب وسك العملة وكانوا يطمعون في الوصول لمنابع الذهب وتمتعوا بحرية دينية(12).
وخلاصة القول أن اليهود سكنوا في المدن الساحلية وتوغلوا جنوباً وسكنوا الهضاب والجبال مع البربر وانتشروا في كل مدن شمال المغرب العربي الافريقى من الغرب إلى الشرق في شريط متصل إلى العراق وتركيا وقد حرص اليهود على السكن في المدن الساحلية والمدن ذات الخطوط التجارية والنقل الاقتصادي ونجحوا في تكوين الثروة والسيطرة على السوق وقد تم لهم ذلك في ظل تسامح خلفاء المسلمين بعد الفتح الاسلامى ولم يتم لهم من قبل.
تهويد أم اندماج
نشأ اليهود على مفهوم أنهم شعب الله المختار فكانت اليهودية دين مغلق في محاولة منهم الحفاظ على النقاء العرقي. ولكن ظروف الاضطهاد التي ألمت بهم عبر العصور اضطرتهم إلى الهجرة من ديارهم فوجدوا أنفسهم أقليات في أقاليم المغرب العربي وشمال إفريقيا. " وتعزيزاً لأوضاعهم الاجتماعية والسياسية رأوا الانفتاح على بعض القبائل خاصة البربر والاندماج فيهم وقالوا أن قبائل البربر يهودية وأصولها ترجع إلى قبائل فلسطينية يهودية هاجرت إلى شمال إفريقيا منذ القدم مثل قبيلة جراوة. وحتى لوكان هذا صحيحاً لايمكن الجزم بأن هذه القبيلة بعد هجرتها قد حافظت على النقاء العرقي عبر القرون فالمنطق لا يقبل هذا إنما الاندماج والانصهار هو الأمر الطبيعي(13). وقد استشهد معظم المؤرخين اليهود على موضوع اليهودية البربر على ما ذكره بن خلدون حيث قال: " أنه ربما كان بعض البربر يدين بدين اليهود، أخذوه عن بنى إسرائيل عند استفحال ملكهم لقرب الشام وسلطانه منهم، كما كان حال جراوة أهل جبل أوراس وهى قبيلة الكاهنة مفتولة العرب لأول الفتح ، كما كانت نفوسة من برابرة افريقية وفندلاوة ومديونه وبهلولة وغياته وبنوفازاز من برابرة المغرب الأقصى"(14). واستفاد اليهود من هذا النص مؤكدين أن كل هذه القبائل دانت باليهودية وزادوا عليها تلسمان وسجلماسة على الرغم من أن بن خلدون استعمل كلمة ( ربما) و(بعض)، ومن اللذين ترجموا هذا النص لإبن خلدون البارون الفرنسي De Slane وترجمته كالاتى :-
" Une Parteé des bérbéres professait le judaisme , religion qu'ils avaient reçue de leurs puissants voisins………………"
هذه الترجمة غير دقيقة لأنها لا تستعمل مصطلح ( ربما) و(بعض) وعليه فالنص المترجم أعلاه يقول أن قبائل بربرية تهودت. ولو تحرى المترجم الدقة لكانت ترجمته كالاتى :-
"……..de même, peut être certains bérbéres avaient – ils même proféssé le judaisme……."(15)
وقد حرص اليهود على تقوية روابطهم مع البربر من أجل الاحتفاظ بمواقعهم الاقتصادية لأنهم كانوا يشتغلون بالتجارة وبالفعل ازدهرت تجارتهم وانعكس ذلك على استقرارهم ونموهم الديمغرافى. ومن جانب آخر لأنهم والبربر كانوا يشتركوا في العدواة للرومان خاصة بعد أن تبنت الإمبراطورية الرومانية الدين المسيحي وأصبحت العداوة والكره بين الرومان واليهود على أشدها وبالتالي لم تعد هناك عوامل جاذبة تدعو البربر للتهود حتى اليهود أنفسهم لم يكونوا ليظهروا يهود يتهم خوفاً من بطش الرومان فكان الاختلاط والتزاوج والانصهار في البربر أمر وارد وطبيعي بحكم أنهم كانوا أقلية معرضون للذوبان والانصهار داخل الأغلبية(16) واليهود بهذا الاندماج إنما عبروا عن فهم ووعى بالواقع المحيط بهم حيث نجحوا في كسب تعاطف البربر والاندماج معهم بدلاً عن الدخول في صراع خاسر مع الرومان بسبب نظرة عرقية شعب الله المختار تجد لا مؤيداً حتى وسط البربر نهياً عن الرومان.
ذكر بن خلدون أيضا " أن إدريس الأكبر زحف على القبائل اللذين كانوا على دين المجوسية واليهودية والنصرانية مثل فندلاوة وبهلولة ومديونه وفتح تامسنا عاصمة برغواطة ......" وهذا يعنى أن تلك القبائل لم تكن تدين فقط باليهودية(17).
عندما فتح عمرو بن العاص جبل نفوسة وجد بعضاً من أهلها يدينون باليهودية والنصرانية ثم دخل بعضهم الإسلام. وأما قبيلة جراوة بجبل أوراس تقول عنها الأساطير اليهودية أن اليهود قلدوا إمراة إفريقية من البربر من جبل أوراس تسمى دهية بنت تابتت بن تيفان قلدوها الملك وقالوا أنها ذات أصول فلسطينية ودخلت القبيلة في صراع مع العرب الفاتحين بقيادة حسان بن النعمان الذي هزم الكاهنة وقبيلتها في الجولة الثانية من المعركة ثم دخلت أعداد كبيرة من أفراد القبيلة في الإسلام. وقد اتفقت معظم المصادر التاريخية على أن الكاهنة وثنية وأنها قتلت في تلك المعارك وهى تحمل صنماً من خشب كانت تعبده(18). ومما هو محسوب على اليهود في شمال إفريقيا إمارة برغواطة التي ظهرت عام 124هـ - 742م بزعامة طريف بن شمعون بن يعقوب بن اسحق في إقليم تامسا بالمغرب الأقصى على ساحل المحيط الأطلسي ثم خلف طريف أبنه صالح الذي أدعى النبوة وشرع ديانه خاصة لبرغواطة. واستمرت هذه الإمارة لمدة أربعة قرون حتى عصر الموحدين عام 543هـ - 1148م وقد أكد بن خلدون يهودية مؤسسها طريف بن شمعون وأما المفكر "شلوش N.Slousch" فيرى أن دولة برغواطة إسلامية في شكلها، بربرية طقوسها وعاداتها ويهودية في أساسها واتجاهاتها(19).
وعلى كل حال فقد درج بعض المؤرخين اليهود على تضخيم العلاقة بين اليهود وقبائل البربر فطرحوا افكاراً مثل" التاريخ المشترك" " المعاناة المشتركة " التقاليد والعادات المشتركة " اللغة العبرية البربرية" وأصبحت هذه الأفكار مواد تدرس في مراكز الدراسات العبرية في العالم مثل معهد بن زفيّ Be evi في إسرائيل وغيرها من المراكز في باريس ونيويورك(20). هذا ما كان من أمر اليهود مع البربر أما مع المسلمين فقد حاول اليهود تهويدهم وعلى مستوى الخلفاء. بعد الفتح الإسلامي وفى ظل الدولة الإسلامية، نعم اليهود بالأمن والسلام والحرية العامة والحرية الدينية، وكانوا فقط يدفعون الجزية وهى مقدار من المال يدفعونه للدولة مقابل حماية الدولة لهم ولأملاكهم وأموالهم وقد ارتقى عدد من اليهود في ظل الدولة الإسلامية مناصب إدارية ومهنية الأمر الذي ساعدهم على تقوية نفوذهم الاقتصادي والسياسي وحظوا باحترام وتقدير الخلفاء المسلمين وقد ساعدهم هذا الوضع على الاستقرار والتنمية واندمجوا في المجتمع الاسلامى وتحدثوا اللغة العربية بطلاقة وتشربوا بالثقافة الإسلامية وقد كانت لهم في هذا الاندماج مآرب منها التقرب للسلطان وتقوية نفوذهم السياسي والاقتصادي حتى أن بعضهم تقلد الوزارة منهم يعقوب بن يوسف بن كلس الذي تولى الوزارة في عهد المعز لدين الله الفاطمي، ومنهم أيضاً اسحق الإسرائيلي وأبو منصور صدقه بن يوسف الفلاحى. وأما أبوسعيد التسترى فقد تولى ديوان والدة الخليفة المنتصر بالله الفاطمي(21) واتخذ الفاطميون من اليهود أطباء أمثال أبراهام بن عطاء الذي كان طبيباً للمعز بن باديس الصنهاجى وفي عهد الأغالبة اشتهر الحبر يعقوب بن نسيم. وفي عهد الحماديين إبراهيم القلعى واسحق بن يعقوب الفاسى الذي أسس مدرسة تلمود(22). في قلعة بنى حماد سليمان بن ريان بن فرمان وتلاه على رئاستها المؤرخون اليهود هذه الوقائع التاريخية وبنوا عليها ادعاءات خاصة بنسب الفاطميين فقال بعضهم أن أبي عبدالله المهدي الفاطمي كانت أصوله يهودية لأن أمه يهودية. أما علماء المسلمين ومنهم بن كثير فقد ذكر في " البداية والنهاية" عن نسب الفاطميين قوله " ...... يلقب أميرهم بالمهدي وهو أبو محمد عبدالله بن ميمون القراح وقد كان صياغاً بسلمية وكان يهودياً فأدعى أنه مسلم ثم سافر من سليمة فدخل بلاد إفريقيا فادعى أنه شريف فصدقه كثير من البربر وغيرهم من الجهلة وصارت لهم دولة ... "(23). وقد ذكر مثل قوله بن خلكان في (الوفيات). ورأىّ بن كثير هذا يقوم على موقف سياسي وعلى النقل من مصادر لم تجزم بيهودية الفاطميين بل نقلت فقط ما قيل عنهم وكذلك قول بن فلكان في الوفيات فقد اكتفى بعرض الآراء التي تقول بنسب الفاطميين وفي النهاية يعبر عن ميله للآراء المعاكسة(24). ويقول مسعود كواتى في رسالته " أن أول من اختلق النسب اليهودي للفاطميين بن مالك صاحب كتاب " كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة " الذي عاصر المستنصر بالله حينما بلغ النفوذ اليهودي أقصاه حيث كتب يقول (والدليل على أنهم من ولد يهود استعمالهم اليهود في الوزارة والرياسة وتفويضهم إليهم في تدبير السياسة)(25).
الادعاءات اليهودية هذه لم نجد لها اى سند وثائقي تاريخي حتى من المستشرقين أنفسهم وأشهرهم المستشرق اليهودي برنارد لويس الذي رفضها رفضاً قاطعاً. وقد عزى المؤرخون ادعاء اليهود هذا لفترة الصراع السياسي بين الفاطميين والعباسين(26) الذين كانوا يعارضون قيام الدولة الفاطمية فكانوا يروجون مثل هذه الاطروحات لضرب وتقويض الدولة الفاطمية(27).
وخلاصة القول أن البربر كانوا قبل الإسلام يدينون بالوثنية واليهودية والنصرانية، وأن اليهودية هي الأضعف والأقل انتشاراً أولاً لأن اليهودية بطبعها دين مغلق ثانياً لأن قبائل البربر كانت تدين بالوثنية منذ القدم ثالثاً انتشار المسيحية وهيمنتها على المنطقة بعد أن تبناها الرومان كدين رسمي للبلاد. بعد الفتح الاسلامى دخل أهل شمال إفريقيا في الإسلام بصورة واسعة ومن بقى من اليهود على يهوديته تشرب بالثقافة الإسلامية وتحدث العربية بطلاقة وكانت لهم رؤية استراتيجية في هذا الاندماج مع البربر حتى قبل الإسلام لكسب عطفهم بعده لأجل التقرب من السلطات والمواطنين والعمل على تقوية الروابط الاجتماعية لأجل تمكين نفوذهم الاقتصادي والسياسي وقد كان ولازال.
العمل والنشاط اليهودي في شمال إفريقيا
1- الاقتصاد والتجارة
كان لليهود أنشطة متعددة في الشمال الإفريقي، أشهرها كان في المجال الاقتصادي بكل أفرعه. فمنذ بداية دخولهم شمال إفريقيا في عهد الحضارات السابقة للإسلام التي استعمرت المنطقة، اشتعل اليهود بالزراعة والرعي والإنتاج الحيواني وشيئاً فشيئاً وعبر السنوات امتلك اليهود المزارع والضباع والمواشي وكونوا ثروات هائلة(28). أما الصناعة فعلى الرغم من أنها كانت بدائية إلاّ أنهم احتكروا بعض الحرف الصناعية مثل صياغة الذهب والفضة والنحاس وتعتبر من أهم الصناعات في مدينة فاس حتى اليوم. كما اشتغلوا بالحدادة والصياغة وصناعة الحرير في مدينة قابس والقيروان واشتغلوا بدباغة الجلود في مدن برقة وتلمسان والنحمات واشتهروا بصناعة الخمور والدواء(29).
وحينما جاء النظام الإسلامي العالمي الجديد ودخل شمال إفريقيا، اتاح فرصة لليهود بسبب سماحة التشريع الإسلامي تجاه أهل الذمة، فعاشوا في سلام مع المسلمين واشتعلوا بكل أنواع التجارة فقد كان لهم فيها باع طويل وخبرة توارثوها عبر الأجيال منذ القدم واشتغلوا لا حيثما كانوا وحيثما حلّوا، فكانت لهم مساهمة مقدرة في الحركة التجارية بين العالم الإسلامي وغيره من دول العالم "ولا توجد تقريباً سلعة في أسواق المغرب الإسلامي وفي حوض البحر المتوسط لم تمر على أيدي اليهود" بما فيها تجارة الرقيق(30). عمل اليهود فيما يعرف بـ (الوكالة) أي أنهم وكلاء لتوزيع البضائع على العملاء في المدن المختلفة، وقد اشتهر منهم أبو يعقوب يوسف بن عوكل المتوفى عام 430هـ - 1038م والذي قدم من تونس إلى مصر وأصبح زعيماً للطائفة اليهودية في مصر وله شهرة واسعة في الوسط التجاري المصري، واشتهر بتجارة الكتان بين مصر ودول المغرب العربي.
اشتغل اليهود أيضاً بالمعاملات المالية خاصة نظام المقايضة في البضائع، كما عملوا على إنشاء الشركات التجارية العائلية من أشهرها عائلة (التاهرتى) في مجال الفندقة لأنها نزل للتجار من كل الجهات وبها حركة تجارية رائجة.
وفي القرن الثاني عشر الميلادي اشتهر من التجار وعلى سبيل المثال جودة بن يوسف واسحق ليفى ونيال الدمياطى وهؤلاء كان لهم دوراً بارزاً في التجارة بين المغرب والمشرق وبعضهم امتدت تجارته حتى الهند وفي القرن الثالث عشر الميلادي اشتهر من التجار بن النجار وبن هارون بكرى وبن زكى وكانوا يملكون بواخر تجارية وشركات عالمية. واشتغل اليهود كذلك في النقل البري والنقل البحري(31) وكان هناك ما يعرف بالتجارة عابرة الصحراء بواسطة القوافل وكانت تجارة رائجة فارسها اليهود من قبل دخول الإسلام للمنطقة، إذ أنهم توغلّوا جنوباً نحو الصحراء فراراً من الاضطهاد والبطش الروماني، وقد بلغت هذه التجارة قمة ازدهارها بعد القرن الثامن الميلادي وأصبحت لها شبكة طرق ومحطات تصل مدن جنوب أروبا والبحر المتوسط مثل صقلية وجنوه والبندقية وجزر اليونان وحتى تركياٍ وتتصل بمدن شمال إفريقيا مثل فاس والقيروان وبجاية وطرابلس وتتوغل جنوب الصحراء داخل القارة الإفريقية حتى مالى والنيجر وتمبكتو. وقد شكل اليهود حضوراً فاعلاً في هذه المدن واحكموا قبضتهم على الحركة الاقتصادية في كل هذه المناطق وقد اشتهر من التجار في فترة القرن الثاني عشر الميلادي أبو زكريا لوهين حتى أصبح وكيل التجار بكل منطقة شمال إفريقيا وكان يقيم بالقاهرة(32).
استمرت الحركة الاقتصادية والتجارية لليهود في رواج وازدهار حتى سقطت الأندلس وتبدلت موازين القوى وأصبح اليهود مثل المسلمين مطاردون من قبل الأسبان، كما كان لحركة محمد بن عبدالكريم المغيلى(33) أثر كبير في تحجيم حركة اليهود في المنطقة الصحراوية خاصة مدينة نوات وما جاورها، فقد شنّ حملة قوية لطرد اليهود من المنطقة لماّ طغى نفوذهم على المسلمين اللذين فشي فيهم الانحلال والتدهور الأخلاقي فعمل هو وأعوانه على تحطيم معابد اليهود وطردهم من بعض المدن وكان ذلك عام 1488م وفي عام 1492م سقطت الأندلس وأتم الأسبان ما بدأه المغيلى من طرد وتشريد لليهود في كل مكان.
2- النشاط الديني والثقافي والاجتماعي
آثر اليهود الحفاظ على عاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية وممارساتهم الدينية إبان وجودهم في كنف الحضارات السابقة للإسلام مما عرضهم دائماً لمطاردة الرومان والتنكيل بهم. بعد الفتح الإسلامي لشمال إفريقيا وجد اليهود تسامحاً من المسلمين فأقام اليهود معابدهم ومارسوا عباداتهم وشعائرهم الدينية، ولكن مع ذلك فالواقع التاريخي يعكس أن الحركة الثقافية الدينية لليهود كانت متأثرة الحركة الثقافية العربية الإسلامية وذلك يرجع لعدة أسباب منها أن شمال إفريقيا أصبح دولة إسلامية ولم يعد مستعمرة كما كان أيام الرومان وغيرهم واللذين كانوا ينظرون إلى سكان شمال إفريقيا على أنهم أخلاط بشرية غير متحضرة وكان وجودهم في المنطقة وجود عسكري استعماري. أما بعد الفتح الإسلامي فأصبحت المنطقة دولة ثم دول إسلامية ذات حضارة ومنهج حياة وثقافة وعلم استوعب العناصر البشرية التي كانت بالمنطقة من يهود وبربر وغيرهم. ثانياً قوة الدولة وفاعلية أجهزتها المتعددة كان لها أثر واضح على اليهود اللذين وجدوا في الدين الإسلامي متنفساً وراحة وقد أنعكس ذلك إيجابياً على نموهم الديمغرافي كما أنعكس إيجابياً أيضاً على أوضاعهم الاقتصادية والسياسية والعلمية. وقد كان التعامل معهم من قبل الدولة يتم على أساس أنهم (أهل الذمة).
على مستوى التعليم فقد كان أساسه تعليماً دينياً، حيث أنشأ اليهود مدارس دينية في معظم مدن شمال إفريقيا فمدينة القيروان مثلاً انشأ بها الحبر يعقوب بن تسيم المتوفى عام 398هـ مدرسة دينية بها اتصال بالمدارس اليهودية في العراق وبها مدرسة أخرى أنشأها حانان بن حوشيل ت 403هـ والذي أشتهر بالقيروان فقد تولى رئاسة المحكمة اليهودية لأنه من أوائل المفسرين للتلمود بشمال إفريقيا(34). وفي عام 404هـ عيّن اسحق بن يعقوب الفاسي 403هـ - 497هـ رئيساً للدراسات التلمودية بالقيروان، وبعد فترة استقر بمدينة فاس وإليها انتسب وأسس مركزاً للدراسات الدينية ثم هاجر إلى الأندلس(35). وتعتبر المدارس الدينية بالقيروان أقوى المدارس بشمال إفريقيا. وبالمدينة عدد من المعابد والحمام الخاص بالطقوس الدينية وهو الذي تتم فيه عملية الطهارة والغسيل قبل الصلاة لعامة اليهود وللفتاة قبل يوم زفافها. تأسست كذلك مدارس دينية في مدينة تلمسان وسجلماسة في القرن الرابع الهجري ومن أشهر علماء الدين بتلك المنطقة "ريباش" 1310 – 1408م الذي ولد ببرشلونة وجاء إلى شمال إفريقيا وأصبح كبير الحاخامات، وخلفه على رئاسة الحاخامية صديقة (راشباش) وأصله فرنسي ولد ومات بالجزائر 1391 – 1442م. ومن الشخصيات الدينية المشهورة بتلمسان "إفرايم إنقاوة" 1359 – 1442م جاء إلى المدينة فاراً من القمع الأسباني الذي تعرض له اليهود عام 1391م. واليهود يقدسون هؤلاء الأحبار والحاخامات ويزورون قبورهم حاجّين ويقدمون عندها القرابين في الأعياد الدينية. زيارة قبور القديسين وتقديم القرابين عندها من الطقوس والشعائر الدينية عند اليهود وحتى اليوم. ومن الممارسات الدينية التي يقوم بها رجال الدين اليهودي عموماً وحيثما كانوا ممارسة السحر والكهانة والعرافة على الرغم من أنها محرمة في التوراة. كما كان رجال الدين اليهود يكتبون التعاويذ والرقى والتمائم للحماية ولطرد الأرواح الشريرة ودرج اليهود على عزف الموسيقى كجزء من الطقوس التعبدية بما فيها الصلاة(36).
أما في مجال القضاء فقد كانت هناك المحكمة العليا في القيروان ورئيسها يلقب بـ "أب بيت الدين" AB Bet – Bin Haggadol. كما نشأت محاكم محلية في المدن الأخرى مثل فاس وسجلماسة وكان القضاة اليهود يفصلون في أمور اليهود ويصدرون الأحكام. أما القضايا التي يكون أحد طرفيها مسلماً والآخر يهودياً فأمرها ينظر ويفصل فيه القضاء الإسلامي(37). وكان هناك ما يعرف "بالناجد" وهو لفظ توراتى يعني أمير أو قائد وهو الزعيم الروحي للطائفة والناطق باسمها لدى السلطات ويقود الطقوس والشعائر ويقوم بإجراءات الأحوال الشخصية مثل الزواج والطلاق(38) ويتمتع بسلطات قضائية وإدارية عليا وهو الذي يعين القضاة والموظفين في القرى والأرياف ومسئولاً عن الأمور المالية للجماعة، ومن اللذين اشتهروا بتولى مهمة الناجد يهودي يدعى (ماروكبة Maruqba) في عصر الأغالبة و(بالتيل Palteil) في عصر الخلافة الفاطمية وخلفه أبنه صمويل أما في المغرب الأقصى حيث النفوذ الأموي فأشتهر الناجد يعقوب بن جو Jacob Ibn Jau(39).
وأما القيروان فكان الناجد اليهودي المشهور أبراهام بن عطاء الذي عمل طبيباً للخليفة المعز بن باديس الفاطمي في النصف الأول من القرن الخامس الهجري وكانت مؤسسة القيروان من أهم المؤسسات الدينية التي أوكل إليها رعاية شؤون اليهود في شمال إفريقيا.
أما في مجال الثقافة فالحاصل أن اليهود كانوا يتحدثون باللغات المحلية للمجتمعات التي يعيشون بها واهتموا باللغة العربية فتعلموها واستخدموها حتى قبل الإسلام في المجتمع العربي(40) وبعد دخول الإسلام لشمال إفريقيا لأنها أصبحت اللغة الرسمية للدولة والإلمام بها يتيح فرص العمل والاندماج في المجتمع، خاصة في مجال العقود التجارية والمعاملات المالية وكذلك الوثائق القانونية في المحاكم(41)، وقد كان لليهود نتاج أدبي باللغة العربية فتمت ترجمة التوراة وشرحها باللغة العربية وكذلك مؤلفات بالعربية في علوم التصوف اليهودي والفلسفة وعلم اللاهوت، بل أبعد من ذلك فهناك دراسات في النحو العبري كتبت باللغة العربية، وأصبحت العربية لغة تخاطب وأدخلوا عليها بعض المصطلحات العبرية خاصة فيما يرتبط بالأمور الدينية(42). من أشهر اليهود الملمين باللغة العربية الفيلسوف سعاديا بن يوسف الفيومي ولد بمصر عام 269هـ وهو أول من ترجم التوراة وكتب العهد القديم إلى اللغة العربية وتنقل ما بين حلب وبغداد ودرس المناظرات النحوية بين مدرستي البصرة والكوفة وله بالعربية كتاب "الأمانات والاعتقادات" ترجم بعدها إلى العبرية(43) وأيضاً من مشاهير علماء اللاهوت والفلاسفة اليهود "موسى بن ميمون القرطبي" 1135 – 1204م ولد بقرطبة وخرج من الأندلس وجاء إلى شمال إفريقيا متنقلاً بين المدن وسكن الفسطاط، ثقافته إسلامية وتأثر بإبن رشد والفارابى وأبن سينا وأشهر كتبه "دلالة الحائرين" الذي حاول فيه أن يوفق بين العقل والدين(44). وهناك يهوذا هاليفي 1085 -1148م له كتاب بعنوان "الحجة والدليل في نصرة الدين الذليل"(45) وعالم اللغويات يهوذا بن قريش التاهرتى نسبه إلى مدينة تاهرت عاش في القرن الثالث الهجري(46) وكذلك اشتهرت مدينة فاس بالدراسات الصوفية ومن علمائها دوناش بن لبرات 308هـ - 380هـ كتب شعراً عبرياً بأسلوب الشعر العربي مقفى وموزون وفيه موضوعات الشعر العربي من مدح وهجاء ووصف وخمريات(47) كما كتب شعراً دينياً وشعراً غنائياً. وعموماً فقد كان التعليم بالمدارس والمراكز اليهودية تعليماً دينياً يصاحبه تدريس النحو العبري وتعليم اللغة العربية.
كما كانت الحركة الثقافية اليهودية في شمال إفريقيا منذ الفتح الإسلامي وحتى الغزو الأروبي كانت جزءاً من الحركة الثقافية الإسلامية، نشأت وترعت في الوسط الإسلامي. وقد حاول بعض اليهود من خلال الرابطة الإسرائيلية العالمية ومع ظهور الحركة الصهيونية العالمية في أواخر القرن التاسع عشر اثبات وجود قومية عبرية في المنطقة إلاّ أن من اليهود من أعترف بفضل العروبة والإسلام منهم اندرى شوارقى وهو يهودي جزائري الأصل وكان رئيساً للرابطة الإسرائيلية العالمية وله عدة مؤلفات حول تاريخ يهود شمال إفريقيا، ذكر "أن اللغة العربية فرضت بصماتها العميقة في روح اليهودية بشمال إفريقيا .. وظاهرة تعرب اليهود تظهر في استعمالهم اللغة العربية حتى في الأعياد والطقوس الدينية ... ولا يتردد رجال الدين واللغويون وحتى القراء في استخدام العربية لتعليم حقائق عقيدة إسرائيل"(48).
وعلى صعيد الحياة الاجتماعية فقد كانت مصلحة اليهود تقتضي التواصل والإندماج مع المسلمين عرب وبربر. كما ذكرنا آنفاً – لإيجاد فرص عمل ولتحقيق أوضاع اجتماعية لائقة وقد ظهر أثر التقاليد الإسلامية في بعض عاداتهم وأمورهم الاجتماعية، فكان هناك تشابه في الأزياء والمظهر العام مع الاحتفاظ ببعض الخصوصية التي تميزهم. وقد ظهر الأثر الإسلامي العربي جلياً وسط النساء في اللباس الفضفاض وخمار الرأس، حتى (الحناء) اتخذتها المرأة اليهودية زينة لها. كما كان هناك تعدد الزوجات في بعض المدن، والديانة اليهودية تبيح التعدد إلاّ أنه مرفوض عرفاً. كما كانت احتفالات الزواج تشبه كثيراً احتفالات المسلمين في مراسيمها وطقوسها. كما كانوا يشاركون المسلمين في مناسباتهم الاجتماعية وقد حرص اليهود على التقيد بالسلوك الاجتماعي الإسلامي حتى يجدوا الاحترام من الطرف الآخر ويحظوا بثقتهم وقد نجحوا في ذلك(49). وكان اليهود يعيشون نظام الحماية أو الجوار في ظل الحكومات الإسلامية. وكانوا يعاملون معاملة أهل الذمة ويدفعون الجزية(50) وكانت تعرف في بعض المصادر التاريخية باسم الجوالي للتمييز بينها وبين ما يدفعه النصارى من جزية وجوالى جمع جالية وهم اللذين جلوا عن أوطانهم وهم اليهود(51). وقد ورد الحديث عن الأدوار السياسية التي لعبها اليهود فى ظل الدول الإسلامية فىثنايا البحث مما يغنى عن اعادته ولكن باختصار تقول ان اليهود وجدوا اليهود تسامحاً ومعاملة طيبة من الحكام المسلمين واكتسبوا ثقتهم حتى أنهم تقلدوا وظائف عليا في دواوين الحكومة وكانوا بالتالي حلقة وصل بين أبناء جلدتهم وبين السلطة الحاكمة. وأتخذ الأمراء المسلمون منهم أطباء ومستشارين بل ابعد من ذلك اخترقوا أجهزة الأمن وتحكموا في الاقتصاد والتجارة وساعدهم على ذلك ضعف الأمراء في عهد الانقسام والشقاق في عهد المرابطين والموحدين. وقد كان هذا دافعاً لبعض المسلمين للانتفاضة في محاولة كبح جماح اليهود ومنهم محمد بن الكريم المغيلي الذي قاد حملة شرسة ضد اليهود وقد ذكرت في فقرة سابقة من البحث.
خاتمة القول أن اليهود كان لهم تاريخ حافل في شمال إفريقيا بدأ من قبل الميلاد وعاصروا كل الأمبراطوريات التي استعمرت المنطقة قبل الإسلام واستمر وجودهم في شمال إفريقيا بعد الفتح الإسلامي وقد وجدوا حينها حرية في الحياة وسعة في العيش ولا أدل على ذلك مما ذكره أبا ايبان وزير خارجية إسرائيل السابق في كتابه شعبي "My People" عام 1968م قال "شهدت الطوائف اليهودية في أسبانيا في شمال إفريقيا أزدهاراً في ظل الوصايا العربية برغم التذمر من أستعلاء العرب. وهذا الازدهار لم يتحقق من قبل على مدار تاريخ الشتات الذي تعرض له اليهود ولم يكن له نظير بعد ذلك إلا تجربة القرن التاسع عشر في ألمانيا والنمسا وتجربة القرن العشرين في أمريكيا" (52).
المراجع
(1) فوزي سعدالله، " يهود الجزائر هؤلاء المجهولون"، ص 24، شركة دار الأمة للطباعة والترجمة والنشر والتوزيع، الجزائر 1995م .
(2) سفر يوشع، 5 - 141.
(3) فوزي سعدالله، " يهود الجزائر"، مصدر سابق، صفحة 27.
(4) د عبدالرحمن بشير، " اليهود في المغرب العربى"، 22-462 هـ -642- 1070م، الناشر عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، الطبعة الأولى 2001م، ص 56-57.
(5) فوزي سعدالله، " يهود الجزائر"، مصدر سابق، صفحة 28.
(6) د عبدالرحمن بشير، " اليهود في المغرب العربى"، مصد سابق، ص 59.
(7) حسن احمد محمود، "الاسلام والثقافة العربية في إفريقيا"، ص 91، القاهرة 1957م.
(8) "موسوعة تاريخ المغرب العربى"، الجزء الأول، ص 16، الناشر مكتبة مدبولى، القاهرة، الطبعة الأولى 1414هـ- 1994م.
(9) Chouraqui, "A History of The Jews in North Africa", p.79, Translated for French to English by Michale Bernet, New York 1973.
(10) المصدر السابق، ص72 - 75.
(11) بن خلدون عبدالرحمن بن محمد، " العبر وديوان المبتدأ والخبر أيام العجم والبربر ومن عاصرهم من ذوى السلطان الأكبر"، الجزء (6)، ص 107، بيروت 1975.
(12) د.عبدالرحمن بشير، " اليهود فى المغرب العربى ........."، مصدر سابق، ص75.
جاء في موسوعة تاريخ المغرب العربي، مصدر سابق، ص 29 أن البربر لفظ أطلقه الإغريق على الشعوب الناطقة بلغة غير لغتهم لا علاقة له بلون البشرة أما الرومان فقد أعطوا الاسم مفهوم سياسي حضاري وأصبح البربر هم الشعوب الأدنى حضارة ويعيشون بمعزل عن الحضارة الرومانية، ص 28 – 29.
(13) د.عبدالرحمن بشير، "اليهود المغرب العربى ........"، مصدر سابق، ص 66.
(14) بن خلدون عبدالرحمن، " العبر وديوان المبتدأ والخبر " ، مصدر سابق، الجزء (6)، ص 212.
(15) فوزى سعدالله، " يهود الجزائر ...."، مصدر سابق، ص 36.
(16) المصدر السابق، ص 29.
(17) بن خلدون، " العبر وديوان المبتدأ والخبر"، مصدر سابق.
(18) عبدالعزيز الثعالبي، " تاريخ شمال إفريقيا"، ص 60 – 83، جمع وتحقيق الدكتور أحمد بن ميلاد محمد إدريس – دار الغرب الإسلامي، الطبع الأولى 1407هـ - 1987م، بيروت.
(19) فوزي سعدالله، "يهود الجزائر ...."، مصدر سابق، ص 91.
(20) المصدر السابق، ص 34.
(21) المصدر السابق، ص 44.
(22) د.عبدالرحمن بشير، "اليهود في المغرب العربى ........"، مصدر سابق، ص 72.
(23) بن كثير، " البداية والنهاية .."، الجزء (11)، ص 345-347، منشورات مكتبة المعارف بيروت، الطبعة (6)، 1985.
(24) مسعود كواتى، " اليهود في المغرب الإسلامي "، ص 9، 1995.
(25) المصدر السابق، ص 100.
(26) فوزي سعدالله، "يهود الجزائر ...."، مصدر سابق، ص 44.
(27) المصدر السابق، ص 45.
(28) د.عبدالرحمن بشير، "اليهود في المغرب العربى ......."، مصدر سابق، ص 104.
(29) فوزي سعدالله، "يهود الجزائر ...."، مصدر سابق، ص 30، 2000.
(30) مسعود كواتى، " اليهود في المغرب الإسلامي "، مصدر سابق، ص 99.
(31) فوزي سعدالله، "يهود الجزائر ...."، مصدر سابق، ص 69.
(32) المصدر السابق، ص 70.
(33) محمد بن عبدالكريم المغيلى، داعية إسلامي جزائري ولد بمدينة تلمسان في أواخر القرن الخامس عشر وتلقى تعليمه الديني هناك وتنقل في عدة مدن ومن أساتذته الشيخ عبدالرحمن الثعالبى.
(34) حسن ظاظا، "الفكر الديني اليهودي، أطواره ومذاهبه"، ص 104، دمشق، بيروت 1987م.
(35) الهادي روجى إدريس، "الدولة الصنهاجية"، الجزء(2)، ص 462، ترجمة حمادى الساحلي، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1992.
(36) شفيق مقار، "السحر في التوراة والعهد القديم"، ص 349، رياض الريس للكتب والنشر، لندن، الطبعة الأولى 1990.
(37) محمد عبدالوهاب خلاف، "وثائق في أحكام قضاء أهل الذمة في الأندلس"، ص 12، القاهرة 1980م.
(38) د.عبدالرحمن بشير، "يهود المغرب العربي ......."، ص 129.
(39) المصدرالسابق، ص 135.
(40) Beard Lewis, "The Jews of Islam", Prenceton University", New Jersy, 1984.
(41) الهادي روجى إدريس، "الدولة الصنهاجية"، مصدر سابق، الجزء (2)، ص 283.
(42) Goitein, S.D. "Jews and Arabs, Their Contact Through Ages", p.132, New York 1955.
(43) عبدالرازق أحمد قنديل، "الأثر الإسلامي في الفكر الديني اليهودي"، ص 187، دار التراث، 1984م.
(44) مقدمة لكتاب "دلالة الحائرين"، كتبها د. حسين آثاى، أستاذ علوم الإلهيات بتركيا، الناشر مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة 1953.
(45) مسعود كواتي، "اليهود في المغرب الإسلامي ......"، مصدر سابق، ص 175.
(46) د.عبدالرحمن بشير، "اليهود في المغرب العربي ......."، مصدر سابق، ص 144.
(47) إسرائيل ولفنسون، "تاريخ اللغات السامية"، ص 98، القاهرة 1929.
(48) فوزي سعدالله، "يهود الجزائر ...."، مصدر سابق، ص 134.
(49) فوزي سعدالله، "يهود الجزائر ...."، مصدر سابق، ص 85.
(50) أبو الحسن أحمد بن يحي بن جابر البلاذرى، "فتوح البلدان"، ص 222، بيروت 1983م.
(51) بن منظور، "لسان العرب"، جزء (1)، ص 62، طبعة بولاق، 1882م.
(52) بن خلدون، " العبر وديوان المبتدأ والخبر"، مصدر سابق، ص 156.
(53) Abba Ebam, "My People", p.162, Weidenpeld and Nicoeson, London, 1968. [/align]